ومنه شعر الأيامب اللذين يتميزان بالتركيب الموسيقي لا بالغرض الشعري كما نجد تقسيما آخر يقوم على الأغراض، فهناك أناشيد النصر وأغاني الزواج والأفراح وأغاني الرعاة والريفيات وما إليها.
ولكن ظهور علم الجمال وفلسفته في العصور الحديثة أخذ يربط بين الشعر وغيره من الفنون الجمالية، ويخضعها كلها لفلسفات جمالية مختلفة، ويحاول أن يرسم لكل فن مجالات خاصة حينا آخر، كما يبحث في مضمون كل فن وصوره.
ففي العصور القديمة كان الاعتقاد السائد أن الأشياء الجميلة وحدها هي التي تصلح لأن تكون مصدرا للإلهام الشعري، بل ومصدرا للفنون الجميلة جميعها، ولكن التفكير الحديث أخذ يخلخل هذه النظرية فيرى أن الأشياء القبيحة قد تصلح هي الأخرى لأن تكون موضوعا للفن الجميل، وأننا قد نطرب لرؤية هذه الأشياء القبيحة مصورة أو معبرا عنها بأحد تلك الفنون مع أننا لا نطرب، بل ولا نرتاح لرؤيتها في الطبيعة على نحو ما نطرب مثلا لرؤية لوحة زيتية تصور رجلا فقيرا مريضا ملقى على قارعة الطريق؛ فنطرب باللوحة وإن كنا ننفر من مشاهدة موضوعها على الطبيعة، وفي تفسير ذلك يختلف المفكرون؛ فمنهم من يرجع طربنا إلى مهارة المصور، ومنهم من يرجعه إلى ما يضفيه المصور على موضوعه من ذات نفسه ومن قوة التعبير المثير، ومنهم من يجمع بين الأمرين، ولعلنا نجد أمثلة كثيرة على ذلك في شعر الهجاء الذي ازدهر عند الشعراء القدامى من عرب وغير عرب، فهو شعر يصور القبيح ومع ذلك نطرب له ونعجب به، وعند شعراء النقائض وكبار الهجائين العرب من أمثال الحطيئة وابن الرومي شواهد لا تنفد لهذا الشعر الجميل الذي يصور القبائح.
مجالات الفنون
ونمر من هذه القضية التي يلوح أنها قد حلت، واستقر الرأي فيها على أن الفنون الجميلة قد تصور الجمال والقبح على السواء إلى قضية أخرى تبدو أكثر جدة وطرافة، وهي القضية التي أثارها الناقد الألماني الكبير لسنج
Lessing
في القرن الماضي، ونعني بها نظرية المجالات الفنية، وهل يحسن أن يقتصر كل فن جميل على إحداها خضوعا لطبيعته ووسائل تعبيره، أم أن المجالات جميعها مفتوحة، ويحسن أن تظل مفتوحة للفنون كلها ولوسائل تعبيرها المتباينة؟
ولقد اختار لسنج لبحثه هذا مجالا مواتيا هو مجال الوصف؛ لينظر إلى أي مدى تستطيع الفنون المختلفة أن تتسابق في مجاله، وقد أثار هذا البحث في نفسه قراءته لوصف الشاعر فرجيل في إينيادة الرومان للعذاب الذي أنزلته الآلهة بالكاهن لاوكون الذي خان أسرارها، فأرسلت إليه أسرابا من الأفاعي التي طوقته هو وأولاده وعصرتهم عصرا أنزل بهم أقصى العذاب. ورأى لسنج إلى جوار هذا الوصف الشعري المثير لمأساة لاوكون عدة تماثيل تجسم هذا الكاهن وأولاده بين أحضانه والأفاعي تلتف بهم وتعتصرهم، وقد ارتسمت على ملامحهم آلام عذابها المميت؛ فأخذ هذا الناقد الكبير يعقد المقارنات بين قوة تعبير الوصف الشعري والفن التشكيلي ليستطرد بعد ذلك إلى البحث في مجالات الفنون عامة، وهل يحسن أن يتخير كل منها مجاله أم يدلف إلى كل المجالات، وقد دون كل هذه المقارنات في كتابه النقدي الشهير المسمى «لاوكون».
والنتيجة الصلبة التي نخرج بها من مطالعة كتاب «لاوكون» ل «لسنج» وتحليله: هي قوله إن للفن التشكيلي لمحة في المكان، وأما الفن الشعري فله لمحات في الزمن بمعنى أن المصور أو النحات لا يستطيع أن يلتقط بفنه غير وضع واحد لموضوعه أي لمحة واحدة في المكان، أما الشاعر فيستطيع أن يصور بفنه عدة أوضاع متلاحقة للموصوف؛ أي عدة لمحات في الزمن على نحو ما نشاهد مصورا أو نحاتا مثلا يرسم صورة أو ينحت تمثالا لحصان في وضع معين بينما نرى شاعرا مثل امرئ القيس يقدم لنا في بيت شعر واحد عدة أوضاع للحصان؛ حيث يقول:
مكر، مفر، مقبل مدبر معا
Bog aan la aqoon