وهكذا نخلص إلى أنه وإن تكن قد نهضت مذاهب جديدة تعارض الرومانسية، إلا أن هذه المذاهب مجتمعة ومتفرقة لم تستطع أن تنزع عن الشعر الغنائي طابعه الوجداني الذي يعتبر من صميم جوهره؛ فالشعر لا بد أن يظل وجدانيا، وإن تكن الرمزية قد نجحت نجاحا نهائيا في أن تغير من طرائق التعبير الشعري وأن تحل الرمز والإيحاء محل التقرير والإفصاح.
وأما الوجدان الذي يصدر عنه الشعر الغنائي فقد نجحت معارك الحياة والتيارات الوطنية والقومية والفلسفات الواقعية الاشتراكية في أن تحوله من وجدان ذاتي كما قلنا إلى وجدان جماعي، ولا نريد أن نتعقب هذا التحول في الآداب العالمية بل نكتفي بأن نتعقبه في شعرنا العربي المعاصر الذي أخذ يتأثر منذ مطلع هذا القرن أبلغ التأثر بتيارات الفكر ومذاهب الأدب والفن العالمية من الوجدان الذاتي إلى الوجدان الجماعي.
لقد كان شعراؤنا التقليديون ينظمون بلا ريب عن أحداثنا الوطنية والاجتماعية الكبرى، ولكننا قلما كنا نحس في شعرهم بارتباط وجدانهم بتلك الأحداث وانفعاله بها على نحو يميز شاعرا عن آخر بحكم أن هذا الانفعال يتخذ ألوانا متباينة بتباين الأمزجة الفردية، بل لا نحسن بموقف خاص يتخذه الشاعر من تلك الأحداث أو رأي يلتزم به إزاءها؛ فكان شعرهم أقرب إلى الصحافة المجردة منه إلى الأدب المنفعل الدائم الحياة، وكانت هذه الحقيقة الغامضة من بين الأسباب الرئيسية التي حملت مدارس التجديد المتعاقبة على نقد الشعر التقليدي الذي لا يحسون فيه بشخصية الشاعر المتميزة ولون روحه وطريقة انفعاله، ومن هنا نشأت الدعوة إلى شعر الوجدان، ولكنه لما كان الوعي السياسي والاجتماعي لم يستيقظ بعد اليقظة الكاملة، ويتغلغل في النفوس حتى ينزل منها منزلة الإيمان المحرك، وكانت ظروف الحياة العامة لا تسمح بظهور الوجدان الجماعي الذي يربط الفرد بالمجتمع، ويرد جانبا من شقائه إلى فساد هذا المجتمع أو صلاحه، لأن مثل هذا الاتجاه لم يكن يرضى عنه أو يجيزه الحكم وذوو السلطان باعتبارهم مسئولين عن هذا المجتمع؛ فقد اتخذت الدعوة إلى شعر الوجدان وجهة الوجدان الذاتي الذي يتغنى فيه الشاعر بآلامه وآماله أو يهرب منها إلى مباهج الطبيعة مرجعا سعادته أو شقاءه إلى ذاته وإلى ظروف حياته الخاصة أو إلى القضاء والقدر الذي يكني له الشاعر باسم الزمان، غير مدرك أنه لا ينفرد بهذا الشقاء؛ لأنه عام يكاد يشمل المجتمع كله أو على الأقل أن جانبا كبيرا من أسبابه يرجع إلى الأوضاع الفاسدة في هذا المجتمع.
وعلى أية حال فقد أحدثت دعوات التجديد أثرها، وغيرت الاتجاه العام أو الاتجاه الغالب في شعرنا المعاصر؛ فظهرت شخصية الشاعر في شعره، وظهر لون روحه وطريقة انفعاله المتميزة بأحداث حياته الخاصة، وعلى هذا النحو رأينا شعر الروح المرحة المقبلة على الحياة عند علي محمود طه، والروح النارية المتفجرة عند إبراهيم ناجي، والانطوائية المتأملة عند حسن كامل الصيرفي، والثائرة المتمردة عند أبي القاسم الشابي.
ومع ذلك استطاعت بعض الأحداث الكبرى في مصر وفي العالم العربي كله أن تهز الوجدان الجماعي عند بعض الشعراء، وأن تثير هذا الوجدان؛ فأخذوا يتحدثون عن أفراحهم أو أتراحهم الناجمة عن تلك الأحداث الجسام.
ولقد كانت خيبة الأمل التي أصابت العالم العربي في أعقاب الحرب العالمية الأولى عندما رأوا الحلفاء يغدرون بهم بعد أن ضللوهم وحملوهم على الاشتراك معهم في الحرب والاكتواء بنارها؛ على أمل أن يمنحوا الاستقلال عند انتهائها. وإذا بالحلفاء يتنكرون لكل وعودهم، ويقررون اقتسام العالم العربي فيما بينهم؛ فكانت خيبة الأمل هذه مصدرا لقصيدة رائعة عبر فيها الشاعر ميخائيل نعيمة عن مبلغ الحزن والأسى الذي أصابه كفرد من أبناء الشعب العربي، وكانت هذه القصيدة من أروع شعر الوجدان الجماعي في أدبنا العربي المعاصر، وهي قصيدة «أخي» التي يقول فيها:
أخي إن ضج بعد الحرب غربي بأعماله،
وقدس ذكر من ماتوا وعظم بطش أبطاله،
فلا تهزج لمن سادوا ولا تشمت بمن دانا،
بل اركع صامتا مثلي بقلب خاشع دامي،
Bog aan la aqoon