انحت وابرد وشكل حتى يستقر حلمك الطافي في الصخرة الصلبة.
ولقد أثبتت التجارب الشعرية لأصحاب هذا المذهب أنه لا يستقيم إلا في فن الوصف الشعري الذي يقوم على نحت صور لغوية تجسد المرئيات، وهذا هو الاتجاه الذي استقر عليه الجيل التالي لجوتييه، وهو الجيل المعروف باسم «البارناسيين» نسبة إلى جبل «البارناس» الذي كانت تستقر فوقه آلهة الشعر في بلاد اليونان الأقدمين حسبما تحكي أساطيرهم، وقد تزعم هذا الجيل في فرنسا الشاعر «ليكونت ديليل» الذي كان يرى أن الشعر تجسيم بواسطة الصور اللغوية ووصف شعري جمالي للمرئيات، وهذا هو الاتجاه نفسه الذي غلب تلقائيا على فن الوصف عند شعراء العرب الأقدمين وبخاصة في عصر الجاهلية وصدر الإسلام وهو الاتجاه الذي يسميه نقادنا ودارسو أدبنا القديم بالوصف الحسي، كما أنه الاتجاه الذي بنى على أساسه رواد التجديد في شعرنا العربي المعاصر حملتهم على الشعر التقليدي والشعراء المقلدين بزعامة أحمد شوقي؛ حيث نرى الأستاذ عباس محمود العقاد يوجه النقد العنيف إلى أحمد شوقي في كتاب «الديوان» الذي اشترك العقاد في تأليفه مع المازني قائلا:
اعلم أيها الشاعر العظيم أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء، لا من يعددها ويحصي أشكالها وألوانها، وأن ليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه، وإنما مزيته أن يقول ما هو ويكشف عن لبابه وصلته بالحياة، وليس هم الناس من القصيد أن يتسابقوا في أشواط البصر والسمع، وإنما همهم أن يتعاطفوا، ويودع أحسهم وأطبعهم في نفس إخوانه زبدة ما رآه وسمعه، وخلاصة ما استطابه أو كرهه، وإذا كان وكدك من التشبيه أن تذكر شيئا أحمر ثم تذكر شيئين أو أشياء مثله في الاحمرار فما زدت أن ذكرت أربعة أو خمسة أشياء حمراء بدل شيء واحد، ولكن التشبيه أن تطبع في وجدان سامعك وفكره صورة واضحة مما انطبع في ذات نفسك، وما ابتدع التشبيه لرسم الأشكال والألوان، فإن الناس جميعا يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما تراها، وإنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس، وبقوة الشعور وتيقظه وعمقه واتساع مداه ونفاذه إلى صميم الأشياء يمتاز الشاعر على سواه؛ لهذا لا لغيره كان كلامه مطربا مؤثرا، وكانت النفوس تواقة إلى سماعه واستيعابه؛ لأنه يزيد الحياة كما تزيد المرآة النور نورا، فالمرآة تعكس على البصر ما يضيء عليها من الشعاع فتضاعف سطوعه، والشاعر يعكس على الوجدان ما يصفه فيزيد الموصوف وجودا إن صح هذا التعبير، ويزيد الوجدان إحساسا بوجوده.
وصفوة القول أن المحك الذي لا يخطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره، فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس فذلك شعر القشور والطلاء، وإن كنت تلمح وراء الحواس شعورا حيا ووجدانا تعود إليه المحسوسات كما تعود الأغذية إلى الدم ونفحات الزهر إلى عنصر العطر فذلك شعر القشور والطلاء، وهو شعر الحواس الضالة والمدارك الزائفة، وما أخال غيره كلاما أشرف منه بكم الحيوان الأعجم.
ولسنا ندري هل كان الأستاذ العقاد يهدف إلى وسائل التعبير الرمزي وطرائقه عندما كتب هذه الفقرة وأمثالها أم لا؟ ولكننا نعرف اليوم على ضوء المذاهب الأدبية المعروفة في الغرب أن مثل هذه الفقرة كان من الممكن أن تجري على لسان أي ناقد أو شاعر رمزي ضد جماعة «البارناس» أنصار الوصف والتجسم الحسيين اللذين يغلبان - كما قلنا - على منهج الوصف في الشعر العربي القديم، وعلى فلسفة المجازات والاستعارات والتشبيهات في علم البيان العربي.
والواقع أن الشعراء لم يلبثوا أن أحسوا بأن مذهب الفن للفن ومذهب البارناسيين اللذين يستهدفان نحت الصور الجمالية الحسية من اللغة لم يعودا يكفيان حاجات الروح الشاعرة، فإحساساتنا الجمالية هي وحدها التي يمكن أن تطرب لهذا النوع من الشعر، وأما حاجاتنا العاطفية والانفعالية فإنها تظل ظمأى؛ ولذلك لم يلبث أن ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر المذهب الرمزي، وهو مذهب يعتبر وجدانيا خالصا، وإن اختلف عن المذهب الرومانسي في أنه يفضل أن يعبر الشاعر عن حالاته الوجدانية وتجارب حياته بواسطة الصور التي ترمز لتلك الحالات، وتوحي بها وتنقل العدوى من نفس الشاعر إلى غيره من النفوس المتلقية، وعلى الأساس نفسه نراهم يطلبون إلى التشبيه والمجاز أن يعين على نقل العدوى من نفس إلى نفس بأن يكون الجامع فيه وحدة الأثر النفسي بين المشبه والمشبه به، ولو كان من عالمين مختلفين من عوالم الحس الظاهري.
وإنه لمن الخير أن نشير هنا إلى أن هذا الاتجاه الجمالي المحدد والقائم على أساس فلسفي معين قد وقع عليه أيضا عدد من شعراء العرب الأقدمين بطريق تلقائي، فنجد شاعرا قديما كذي الرمة يلجأ أحيانا إلى التعبير عن تجربته العاطفية، وحالته الوجدانية إلى طريق الصورة بدلا من التعبير المباشر؛ فقد يأتي يوما إلى ديار الحبيبة، فيجد الأهل قد رحلوا عن الديار وتركوها قاعا صفصفا فلا يصرخ ولا يولول ولا يبكي ولا يستبكي، بل يكتفي في التعبير عن وجدانه بصورة ربما تكون قد وقعت له فعلا، وربما يكون قد استمدها من طاقته التصويرية، ولكنها في الحالتين قوية الدلالة شديدة الإيحاء، كما أنها تجمع بين عمق التعبير الفني وبين التصوير الجمالي، وبذلك تشبع حاجتنا العاطفية وإحساسنا الجمالي معا؛ حيث يقول:
عشية ما لي حيلة غير أنني
بلقط الحصى والخط في الترب مولع
أخط وأمحو الخط ثم أعيده
Bog aan la aqoon