شكر وتقدير
تمهيد
1 - الجذور الروحانية والميثولوجية
2 - المقطرات، وبوتقات فصل المعادن، والأسلحة
3 - الأدوية والمطهرات والمراهم
4 - علم وليد
5 - الثورتان الفرنسيتان
6 - دولة ناشئة ونظرية ناشئة
7 - التخصص والتنظيم
8 - بعض المرح
الخاتمة
شكر وتقدير
تمهيد
1 - الجذور الروحانية والميثولوجية
2 - المقطرات، وبوتقات فصل المعادن، والأسلحة
3 - الأدوية والمطهرات والمراهم
4 - علم وليد
5 - الثورتان الفرنسيتان
6 - دولة ناشئة ونظرية ناشئة
7 - التخصص والتنظيم
8 - بعض المرح
الخاتمة
فن الكيمياء
فن الكيمياء
ما بين الخرافات والعلاجات
والمواد
تأليف
آرثر جرينبرج
ترجمة
سارة عادل
زينب عاطف
مراجعة
شيماء طه الريدي
بادئ ذي بدء، أهدي هذا الكتاب إلى زوجتي سوزان وابنينا ديفيد وراشيل، الذين قابلوا جوانب ضعفي البشري العديدة بالحب والدعم والتفهم.
كذلك أهدي هذا الكتاب إلى والدي موراي وبيلا وإخوتي الثلاثة دي دي (إلين)، وكيني، وروبرتا، الذين شملوني بحبهم ودعمهم أيضا.
شكر وتقدير
هذا الكتاب تتمة لكتاب «جولة عبر تاريخ الكيمياء» الذي نشرته دار جون وايلي آند سانز في عام 2000. ولا أزال حتى اليوم أشعر بالامتنان للأستاذ رولد هوفمان، الذي أمدني بدعمه في الكتاب السابق، ود. باربارا جولدمان، التي وافقت على المشروع وشجعته، ود. دارلا هندرسون، والسيدة آمي روماني، التي ساعدت في إنجاز هذا الكتاب ونشره في وايلي. إنني محظوظ، في الواقع، لاستمرار دعم د. هوفمان والسيدة آمي روماني لي، واستمرار روح المرح التي يتسم بها العمل معهما خلال المشروع التالي.
إن من دواعي سروري البالغ أن أقام قراء هذه المخطوطة بإدراج اسم أبي البيولوجي السيد موراي جرينبرج، وأبي «في الكيمياء» الأستاذ بيبر لاسلو، وأقرب أصدقائي في الكيمياء إلي، الأستاذ جويل إف ليبمان، وزوجتي السيدة سوزان جيه جرينبرج، وصديقي في جنون الكتب، الدكتور روي جي نيفل، وهم جميعا حاصلون على درجات علمية في الكيمياء. وكالعادة، قدم جويل عدة مقترحات وألف مقالا واحدا على الأقل. لقد أتاحت لي تلك الفرصة السعيدة التي واتتني لقراءة مسودات مسرحية «أكسجين» للأساتذة كارل جيراسيورولد هوفمان، رؤية مستنيرة ودافعا لإعادة التفكر في الثورة الكيميائية. كما أمدني الأستاذ دودلي هيرشباك ببعض المعلومات والرؤى الرائعة التي كانت بمثابة البذرة لمقالي عن بنجامين فرانكلين . قبل عقد تقريبا، أخبرني الأستاذ روبرت فراينهوك بالاستنتاجات المختلفة عن علم التصنيف التي ينتهى إليها عادة عند مقارنة تقنيات علم المورفولوجيا وعلم الكيمياء (الجينوم)، وقد أمدني بالصور، وأمتعني بمناقشات مفيدة كثيرا في أحد مقالاتي. كذلك أشكر المساعدة التي قدمها لي د. أرنولد ثاكري والسيدة إليزابيث سوان بمؤسسة التراث الكيميائي بفيلادلفيا. ومن دواعي سروري أيضا أن أعبر عن خالص تقديري للمناقشات المحفزة التي خضتها مع د. روي جي نيفل. وقد قدمت مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء في كاليفورنيا نسخا من الأشكال والصور النادرة للغاية من مجموعتها الضخمة. ثمة كثيرون آخرون ساهموا في هذا الكتاب، وأعبر لهم عن خالص شكري وعرفاني كلما كان ذلك مناسبا. أود كذلك التعبير عن خالص امتناني للسيدة أليس جرينليف (وكذلك للسيدة نان كولينز)، بجامعة نيوهامبشير؛ لدقتهما الشديدة في مسح وتحرير الأشكال العديدة من مجموعة كتبي الخاصة، والتي استعنت بها في هذا الكتاب. وقد استعنت بهذه الأشكال كذلك في عدد من الفصول والمحاضرات التي دعيت إلى إلقائها خلال فترة تأليف هذا الكتاب.
تمهيد
كتب الفيزيائي والمؤلف أوليفر ساكس يقول: «ربما كان تاريخ الكيمياء هو الأكثر تعقيدا وروعة، بل والأكثر رومانسية - بما لا يدع مجالا للشك - من بين كل العلوم.»
1
كيف تنقل مشاعر الدهشة والسعادة، والإثارة التي صاحبت الاكتشافات خلال بدايات علم الكيمياء إلى الطالب الجامعي أو طالب المدرسة العليا، وكذا إلى المعلم؟ علاوة على وجود جمهور متفتح من العامة يتمنون في الواقع معرفة المزيد عن العلوم. فلم نثقل كاهلهم بذكر بعض النظريات التي عفا عليها الزمن إلى جانب تلك النظريات الجارية؟ والإجابة هي: إنه لمن الضروري مساعدة غير العلماء في فهم الآلية التي يعمل بها العلم. بداية، إن ممارسة العلم مسعى بشري جاد. وعلى الرغم من أن معظم الأشخاص (غير المنتمين إلى حركة «العصر الجديد») يعاملون الخيمياء اليوم على أنها ممارسة «للسذاجة» إن لم تكن احتيالا صرفا؛ فقد كانت الخيمياء في الأساس مسعى بشريا لفهم وحدة الطبيعة ومحاولة التعبير عنها مجازيا. وتحول هذه الخرافات والأساطير والتطبيقات على الفنون والطب إلى العلم الحديث الذي نراه اليوم هو القوة المحركة لهذا الكتاب. لكن الفكرة المتكررة هنا هي حاجة البشر إلى تخيل الطبيعة الجوهرية للمادة ومحاولة فهمها. ثمة هدف آخر من أهداف هذا الكتاب يتمثل في فهم الكيمياء التجريبية المبكرة في وقت كانت فيه أجزاء الأدوات المستخدمة ظاهرة تماما، على عكس تلك «الصناديق السوداء» المستخدمة اليوم على نطاق واسع. (في الواقع، باتت فكرة ما إذا كان هؤلاء الأشخاص الذين يجرون عملية تحديد تسلسل الحمض النووي بالاستعانة بتلك الصناديق السوداء الآلية - التي ترسل تسلسلات النيوكليوتيدات في ترتيب أبجدي - قد نسوا أنهم في الواقع يمارسون الكيمياء، فكرة محل جدل.)
إن هذا الكتاب قريب الشبه في أسلوبه بكتابي السابق «جولة عبر تاريخ الكيمياء» والمنشور عام 2000. يقوم هذا الكتاب على مجموعة الرسوم الفنية الرائعة التي وظفت على مدار السنين لتوضيح الأدوات الكيميائية، إلى جانب رموزنا المختلفة المستخدمة للإشارة إلى طبيعة المادة وتركيبها. ويهدف الكتاب إلى الإمتاع إلى جانب الإمداد بالمعلومات. ويضم الكتاب 188 شكلا موظفة لشرح 72 مقالا. وقد حاولت أن أجعل هذه المقالات يسيرة الفهم لجمهور عريض من الكيميائيين، ومعلمي الكيمياء، والعلماء والمدرسين في مجالات أخرى، والمهندسين، والفيزيائيين، بالإضافة إلى غير العلماء المهتمين بالعلوم والذين يستمتعون بالأعمال الفنية. لا يمثل هذا الكتاب استعراضا منهجيا لتاريخ الكيمياء، وإنما هو رحلة أخرى من نوع خاص تتضمن كثيرا من الموضوعات التي لم نتطرق لها في رحلتنا الأولى، علاوة على التطرق مرة أخرى إلى موضوعات سبق أن تطرقنا لها للكشف عن رؤى جديدة لها. تنتظم المقالات في ثمانية أجزاء مرتبة ترتيبا زمنيا تقريبيا. يركز الجزء الأول على صور الجذور الروحانية والميثولوجية للكيمياء؛ الآلهة، والتنانين المجنحة، والساحرات، بالطبع (هل كان الأيقونة السينمائية اليابانية «رودان» طائر عنقاء؟) والطيور الجارحة الغاضبة، والباسيليسك المخيف (أهو أفعى كوبرا تنفث سمها أم وحش جودزيلا؟) والأوروبروس؛ تلك الصورة المجازية لبقاء المادة، وربما كانت أيضا الملهم الحقيقي الذي استوحى منه كيكوله بنية البنزين الكيميائية. ويتناول الجزءان الثاني والثالث من الكتاب الجوانب التكنولوجية لبدايات علم الكيمياء. بالإضافة إلى الصور الملونة الجميلة لأدوات التقطير والأدوات الكيميائية الأخرى التي كانت تستخدم في القرنين السادس عشر والسابع عشر، ثمة صورة بيانية تفصيلية لقوة الأنتيمون (الإثمد) بوصفه ملينا؛ دواء باعثا على القيء ومسببا للإسهال في الوقت ذاته. أما الجزء الرابع، فيركز على الفترة ما بين منتصف القرن السابع عشر ومنتصف القرن الثامن عشر، حين بدأت الكيمياء تبرز إلى الوجود كعلم. بالإضافة إلى بويل وهوك ومايو، الذين حلوا لغز الاحتراق والتنفس، نتناول أيضا الحيل والمكائد التجارية التي أحاطت باكتشاف الفوسفور، والتي قامت على أساس السيطرة على السوق أولا، ثم اكتشاف ما قد يفيد فيه العنصر الجديد. إننا نعتبر بيشر مؤسس أول نظرية حقيقية للكيمياء، وهي نظرية الفلوجستون. ومع ذلك، كان بيشر على الأرجح أهم رواد حركة التجارية في عصره، علاوة على كونه المستشار الاقتصادي لليبوبولد الأول، إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة. أما الجزء الأكبر من هذا الكتاب، فهو مخصص للثورة الكيميائية التي قامت خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر. لا يعرف كثيرون أن لافوازييه، الذي كان أبا الكيمياء الحديثة بلا شك، كان كذلك أحد أكثر علماء الاقتصاد تأثيرا في القرن الثامن عشر. وفي نفس هذا الجزء نتطرق بإيجاز إلى إسهامات بنجامين فرانكلين المبكرة في للكيمياء. وفي الجزء السادس، نتعرف على نظرية دالتون الذرية بوصفها ذروة الثورة الكيميائية. ويضم هذا الجزء خمسة مقالات ترصد الكيمياء في أمريكا في بداية القرن التاسع عشر. لعل أحد الأشكال المفضلة لدي في هذا الكتاب هو شكل لجهاز معملي أمريكي قديم (من حوالي عام 1790) كان يستخدم في تركيب حمض الكبريتيك، كان يجمع بين عناصر من المزارع (الأواني الفخارية) ودكان الحداد (الكير). أما الأفكار الرئيسة في الجزء السابع، فتشمل تطور تخصصات الكيمياء، مثل الكيمياء العضوية، والتأصيل الذي قدمه القانون الدوري. وعلى غرار كتاب «جولة عبر تاريخ الكيمياء»، تخف التغطية خلال أواخر القرن التاسع عشر، لتصبح نادرة للغاية خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين؛ فالنمو المطرد والضخم للأدبيات الكيميائية كان من شأنه أن يجعل التغطية المتوازنة والمقيمة على نحو ملائم أمرا مستحيلا ، علاوة على أننا غارقون وسط بحر من الكتب الدراسية والدراسات الأحادية الموضوع التي تتناول هذه المادة العلمية الحديثة؛ لذلك فإن الجزء الأخير (الجزء الثامن) يتناول بعض الموضوعات الحديثة بأسلوب خفيف جدا، لكنه يحاول أن يمد القارئ برؤية للمستقبل؛ تكنولوجيا النانو والتنظيم الذاتي، وكلاهما يعد انتصارا لقدرتنا على فهم البنية الكيميائية للمادة في أبسط مستوياتها.
وقد اختتمت هذا الكتاب بخاتمة قوامها مقالان شخصيان وجيزان؛ أحدهما عن صديق من سنوات المراهقة، وهو روبرت سيلبرجليد، جامع الفراشات العبقري الغريب الأطوار المشاغب، والذي أصبح فيما بعد أستاذا في علم الحشرات في جامعة هارفارد ملأت شهرته الآفاق حتى وفاته في سن مبكرة إثر حادث تحطم طائرة. أما الثاني فهو مقال وجيز، يتطرق بشكل عابر إلى أصولي الكيميائية. وعلى الرغم من أن هذين المقالين قد يبدوان تدليلا مفرطا وتفخيما للذات، فإن الغرض منهما ليس كذلك على الإطلاق؛ إن الغرض منهما هو إمداد القارئ بلمحة عن ثقافتنا العلمية؛ العلامات الأولى التي تلفت أنظار أي «عالم طبيعة»، والاهتمام بجذورنا العلمية الشخصية، والرغبة في الاتصال بالماضي.
لكن إلى جانب هذه الصور الفنية، حاولت أن أضمن مقتطفات من مسرحيات وروايات، بل وأتجول في عوالم غامضة؛ ومن ثم سنستمتع بإحدى حكايات كانتربري لتشوسر. لقد قام كل من ديمتري مندلييف والملحن العظيم ألكسندر بورودين - وكانا عالمي كيمياء في أواسط العشرينيات من عمريهما - برحلة ترفيهية لحضور أول مؤتمر للكيمياء يعقد على مستوى العالم في كارلسروه في عام 1860، متوقفين أكثر من مرة ليمتعا حواسهما الموسيقية؛ يا لها من فكرة مثيرة لفيلم! إن كثيرا من القراء على علم بكتاب بريمو ليفي الذي يعرض فيه لسيرته الذاتية، «الجدول الدوري»، لكن كم عدد من يعرفون كتاب إدوين هربرت لويس «البرق الأبيض» (1923)، وهي رواية تأتي أحداثها في 354 صفحة مقسمة إلى 92 فصلا بأسماء العناصر الكيميائية مرتبة وفقا للعدد الذري لكل عنصر؟ أما الرؤية الثقافية الأشمل للكيمياء، فقد عبرت عنها جيدا مسرحية «أكسجين»، من تأليف عالمي الكيمياء المتميزين كارل جيراسي ورولد هوفمان. بالإضافة إلى إدراج مقتطف موجز للغاية من هذه المسرحية، أدرجت كذلك مقتطفا موجزا من مسرحية بيتر فايس «مارا صاد» التي ألفها عام 1966. بل إن ثمة قصة قصيرة محاكية لقصص لثوربر مستوحاة من رسوم عبثية لطالب في المدرسة العليا على صفحة العنوان لأحد كتبها الدراسية الذي يعود إلى نهايات القرن التاسع عشر. وفي حين احتفظت ببعض الفظاظة الفكاهية التي تميز بها عصر النهضة، وأضفت شيئا من السخرية، فإن الغرض النهائي من هذا الكتاب غرض جاد؛ وهو إتاحة العلم والمتعة.
هوامش
الجزء الأول
الجذور الروحانية والميثولوجية
(1) رموز باطنية من الشرق والغرب
كيف نفهم حيواتنا القصيرة للغاية، ومجالنا الدنيوي، والكون المحيط بنا؟ نحن البشر لدينا نزعة فطرية إلى الرمزية، تحثنا على تمثيل الأمور الملموسة وغير الملموسة بالأفكار والكلمات والصور والموسيقى؛ فالرسومات على جدران الكهوف تسبق عصرنا الحالي بعشرات الآلاف من السنين. وكان ابني ديفيد يطلق على الآيس كريم، ولم يكن قد جاوز عمره العامين، لفظة «أم-يام»، وكانت كلمة رمزية مناسبة من طفل حديث المشي لا يزال يجهل أن هذا الشيء كريمة مثلجة لكنه بالتأكيد يميز الأشياء ذات المذاق الطيب. وكذلك خلقنا بغرائز جنسية لازمة لبقاء نوعنا، وندرك بالفطرة ازدواجية المتضادات، ونصدر ردود أفعال إزاء الرمزية الجنسية.
1 ،
2
وقد أدت هذه الغرائز إلى ظهور مجازات واستعارات لفهم الطبيعة وتحولات المادة قبل 2500 عام على الأقل في آسيا الوسطى، وشرقي آسيا، والأراضي التوراتية في الشرق الأوسط، وفي بلاد الإغريق.
3
شكل 1-1: ماندالا تبتية ملونة تعود إلى القرن الخامس عشر تمثل فيها الآلهة من الذكور والإناث الثنائيات التي نشأت منها العناصر الأربعة القديمة (المربع)، أما الدائرة، فتمثل الاكتمال (ودورة الحياة)، (بل) وبقاء المادة. انظر قائمة اللوحات الملونة (بإذن من معرض من روسي آند روسي، لندن، وموقع
Asianart.com ).
يظهر الشكل
1-1
رمزا من رموز الماندالا رسم في إقليم التبت الأوسط خلال القرن الخامس عشر.
4
تعود أصول الماندالات إلى الهندوسية التنترية والبوذية، وهي تمثيلات لتأمل الكون. والرهبان البوذيون هم من يشكلون الماندالات في الغالب من الرمال الملونة على مدار أيام، ثم يتأملونها، ليعيدوها إلى البحر بعد ذلك، في فعل رمزي يعبر عن إثراء حياة المرء الدنيوية بالفكر بدلا من مراكمة الثروات المادية الخادعة والزائلة. تتمثل إحدى العناصر المحورية للماندالا الشرقية في الدائرة التي تمثل الوحدة والاكتمال. كذلك تفصل الدوائر مجالات مثل السماء والأرض. ويمكن أيضا تشبيه صور الدائرة بالأفكار البالغة القدم عن بقاء المادة. وفي موضع لاحق من هذا الكتاب، سنقابل الأوروبوروس، وهي أفعى تشكل دائرة بجسدها من خلال التهام ذيلها، حتى وهي تعيد توليد نفسها. وفعل إلقاء الرمال التي تشكل منها الماندالات إلى البحر مرة أخرى يشير ضمنا إلى كل من بقاء المادة ودورة الحياة. وبطبيعة الحال، تحمل دائرة الماندالا بداخلها مربعا محاطا بأربع بوابات تمثل الاتجاهات الأصلية (الشمال - الذي يقع ناحية اليمين في هذه الصورة - والجنوب، والشرق، والغرب). وتقود هذه البوابات الأربع إلى دائرة داخلية تقطنها أربعة آلهة. على الجانب الخارجي لهذه الدائرة، توجد أربع إلهات منتظمة في مصفوفة رباعية متكاملة (شمال شرق، جنوب شرق، جنوب غرب، وشمال غرب). وهذه الازدواجية الذكورية الأنثوية ممثلة كذلك بجسدي ذكر وأنثى (أم وأب) خارج الدوائر الأكبر في أوضاع عناق جنسي. أما العناصر الأربعة، التي يرمز إليها شيوعا بمربع، فتمثل في الواقع أزواج الخواص المتضادة؛ السخونة في مقابل البرودة، والجفاف في مقابل الرطوبة. وعليه فإن النار ساخنة وجافة، والمياه باردة ورطبة. ويصور مركز هذه الماندالا البوداسف (أي «الكائن المستنير») فاجراباني ممسكا بالصاعقة في يد وقابضا على أفعى في اليد الأخرى.
4
ويمكن تشبيه مركز الماندالا بالعنصر الخامس القديم، وهو الأثير.
شكل 1-2: رسم بالقلم الرصاص، بأسلوب الماندالا، للفنانة السيدة ريتا إل شوميكر، يصور الثنائيات (تنانين متشابكة، وحمائم داكنة وفاتحة)، بالإضافة إلى العناصر الأربعة القديمة (الماء والهواء والنار التراب).
يملك آدم ماكلين رؤية مثيرة للاهتمام فيما يتعلق بالماندالات الخيميائية الغربية.
5
يحلل ماكلين 30 صورة من الخيمياء الباطنية في نصوص أوروبية تعود في الأغلب إلى القرن السابع عشر. ورغم أن كثيرا من هذه الرسومات تضم الأشكال الدائرية والمربعة كما في الشكل
1-1 ، فإن ثمة أشكالا أخرى لا تشبه الماندالات الشرقية إلا في الجوهر، ولكنها لا تشبهها في الشكل . على سبيل المثال، يعتبر ماكلين الشعار المدرج في كتاب ليبافيوس «الخيمياء» الذي يعود إلى عام 1606 (انظر الشكل
1-22
في مقال لاحق) ماندالا.
6
وبناء على ذلك، فإن الشكل
1-2 ، للفنانة ريتا إل شوميكر،
7
يحوي كذلك العناصر الجوهرية الأساسية المميزة للماندالا. فنجد التراب والماء والهواء مصورة بوضوح بمجالات دائرية بينما تخترق النار هذه المجالات. وأما الثنائيات، فمصورة بحمائم داكنة وفاتحة وتنانين أيضا. وتشير البذور النامية في الأرض إلى تكاثر المعادن. وفي المقال التالي، سنعرض لمزيد من الاستعارات الملموسة للعناصر الأربعة القديمة. (2) العناصر الأربعة القديمة
شكل 1-3: لوحة تعود إلى القرن الثامن عشر بريشة يوهان فينكلر، تبرز تأثيرات معتقدات أخوية الصليب الوردي، حيث يظهر في اللوحة أربعة رهبان يمثلون الماء والهواء والنار والتراب، في مربع منظم تنظيما صحيحا. وتجسد الصبغة الحمراء (انظر الصور الملونة) الموجودة بين يدي كل من الرهبان الأربعة حجر الفيلسوف؛ ذلك العامل الغامض الذي يسقط ويحول المعادن الرخيصة إلى ذهب.
توظف لوحة مرسومة بالألوان الزيتية على الخشب عام 1747 موقعة باسم يوهان فينكلر
8 (الشكل
1-3 )، بحس مبهج، رموزا خيميائية وروحانية ودينية مميزة لعقائد جماعة الصليب الوردي. يتصدر اللوحة أربعة رؤساء لأديرة رهبان ترمز أنشطتهم إلى التراب والنار والهواء والماء. وهم منظمون بالترتيب المناسب للخواص المتضادة؛ البرودة مقابل السخونة، والرطوبة مقابل الجفاف؛ ومن ثم فالماء رطب وبارد، والنار جافة وساخنة، والهواء (مع اعتبار البخار) ساخن ورطب، والتراب بارد وجاف:
أما صورة كيوبيد (أو ميركوريوس)، فيقول عنها عالم النفس كارل يونج إنها تمثل «رامي السهام الذي يذيب الذهب كيميائيا، ويخترق الروح بسهم الحب معنويا.»
9
في كتاب «الاقتران الكيميائي»، يصور كريستيان روزنكروتس وقد أصابه سهم كيوبيد بعد تعثره في فينوس العارية.»
9
ويحوز كل من فينوس ورؤساء الأديرة الأربعة وعاء يحوي الصبغة الحمراء، التي تمثل عامل التحويل، أو حجر الفلاسفة،
10
أو مرحلة أولية من الحجر.
11
وربما لا تمثل القلاع شيئا سوى القلاع، أو ربما ترمز إلى فرن التنور أو فرن الفلاسفة الذي يحمل بيضة الفلاسفة المحكمة الغلق.
12
ويمثل زوج الحمائم «البياض» أو اللون الأبيض الذي يتبع مرحلة «السواد»، أو ذلك اللون الأسود الأولي الناتج من العمل العظيم؛ فبداية تسخن المعادن والمواد الأخرى لتكوين كتلة سوداء. وقد يؤدي الاستمرار في التسخين عقب ذلك إلى تكليس هذه الكتلة فتنتج كلسا أبيض. والآن، إذا كان ذلك الطائر الطويل الذيل المربوط بحبل في يد أحد رؤساء الأديرة طاوسا، فإننا نعتقد أنه يمثل المرحلة الثالثة من تغير لون العمل العظيم، ألوان قوس قزح. أما اللون الرابع والأخير، فهو اللون الأحمر الداكن للصبغة الحمراء، والذي تمثله في هذه اللوحة الأنابيق الأربعة الممتلئة، والتي يساوي حجمها ملء قدح. كذلك يرمز طائر العقاب إلى هذا اللون الأحمر الداكن الأخير من العمل العظيم، إلا أننا لا نرى طائر عقاب يرتفع (أو نافق) في هذه اللوحة. كذلك لا يوجد أثر لأي غربان، لذا دعونا نفترض أن الفحم أو الرماد المتصاعد من فرن التنور يرمز إلى «السواد».
يجمع أتباع أخوية الصليب الوردي بين المعتقدات الدينية والباطنية والخيميائية.
13
وعلى الرغم من أن تاريخ أولى كتاباتهم يعود إلى بدايات القرن السابع عشر، فإن أصول عقيدة أخوية الصليب الوردي تنسب عموما إلى كريستيان روزنكروتس (مشتق من كلمة «روزي كروس» أو الصليب الوردي)، الذي يزعم أنه ولد عام 1378، فيما يعتبر البعض الطبيب والخيميائي باراسيلسوس الذي عاش في أوائل القرن السادس عشر هو المؤسس الحقيقي لهذه الجماعة. ويبدو أن الخيميائي مايكل ماير كان أحد أعضاء أخوية الصليب الوردي.
14
وقد تترجم الإشارات الموجودة في أسفل يمين اللوحة السابقة كالتالي: (1)
إنني أبحث هنا في الماء. (2)
لا بد للهواء أن يمنحني. (3)
إنني أبحث في التراب. (4)
لا بد للنار أن تسخر لي. (5)
شيء ما هنا أيها الحمقى، هنا في الماء والهواء والتراب. ألا بحثتم في النار بهمة؟ (6)
فيظهر كل ما هو كامن بداخلها فجأة. (3) أعداد ذات دلالات باطنية ومقدسة
ثمة أرقام معينة بسيطة ظلت لقرون ينسب إليها دلالة
15
رمزية عظيمة في الخيمياء؛
16
فالرقم واحد يشير إلى الرب أو الله في الديانات التوحيدية، وكذا إلى المادة الأساسية - أصل كل المواد. وأما العدد اثنان، فيدل على جوهري الذكر والأنثى (الأضداد؛ الزئبق والكبريت) اللذين يدخلان في تكوين كل الأشياء. أما العدد ثلاثة، فيرمز إلى المواد الثلاث الأساسية (الزئبق، والكبريت، والملح؛ الروح، والنفس، والجسد)، والتي تمثل بدورها الجوهر الثالث الذي زاده باراسيلسوس (1493-1541) على جوهري الذكورة والأنوثة، ويمثل أيضا الثالوث المقدس (الأب، والابن، والروح القدس). وأما الرقم أربعة، فكما ذكرنا في المقالين السابقين، فيشير إلى عدد العناصر القديمة (التراب، والماء، والهواء، والنار)، والتي ينطوي كل منها على سمتين أو خاصتين متضادتين؛ السخونة والبرودة، والجفاف والرطوبة. كذلك يرمز إلى الفصول الأربعة والاتجاهات الأصلية الأربعة وقد أدخل أرسطو عنصرا «خامسا»، وهو الأثير، ويمثل السماوات أو الأثير السماوي. وتوجد المعادن السبعة التي عرفها القدماء (الفضة، والذهب، والحديد، والنحاس، والزئبق، والقصدير، والرصاص) يوافقها في العدد «الكواكب» المرئية (القمر، والشمس، والمريخ، والزهرة، وعطارد، والمشتري، وزحل)، وكذا أيام الأسبوع. وثمة الأبراج الفلكية الاثنا عشر توافقها عدة شهور السنة، والتي أقرن الخيميائي الإنجليزي جورج ريبلي، كاهن بريدلينجتون، كلا منها ب «البوابات» أو العمليات الاثنتي عشرة القائمة على الطريق نحو تكوين حجر الفلاسفة.
16
وقد كانت هذه المراحل كالتالي:
16 ،
17 (1) التكليس (تفاعل النار مع المعادن في الهواء).
برج الحمل. (2) التخثر (زيادة الكثافة بالتبريد).
برج الثور. (3) التثبيت (تحويل مادة طيارة إلى الحالة الصلبة أو السائلة).
برج الجوزاء. (4) الإذابة (تذويب المواد أو تفاعلها).
برج السرطان. (5) التهضيم (تعريض المادة لحرارة مستمرة؛ دون غليان).
برج الأسد. (6) التقطير (ارتقاء المادة السائلة وهبوطها).
برج العذراء. (7) التسامي (ارتقاء المادة الصلبة وهبوطها).
برج الميزان. (8) الفصل (عزل السوائل غير القابلة للذوبان).
برج العقرب. (9) التشميع (تحويل مادة صلبة إلى حالة لينة).
برج القوس. (10) التخمير (تنشيط مادة ما بالهواء).
برج الجدي. (11) المضاعفة (زيادة فاعلية حجر الفلاسفة).
برج الدلو. (12) الإسقاط (نشاط حجر الفلاسفة الغامض).
برج الحوت.
يضرب بازيل فالانتاين (بمعنى «الملك الشجاع»)، والذي يفترض أنه ولد في عام 1394، مثلا محيرا في التزييف الأدبي.
18
فيبدو أن ثمة اتفاقا عاما إلى حد ما على أن الشخص الذي «حرر» أعمال بازيل فالانتاين هو في الحقيقة شخص يعمل في مجال النشر وفي إنتاج الملح من غلي الماء المالح، ويدعى يوهان ثولده، عاش بين القرنين السادس عشر والسابع عشر.
18
وأيا من كان بازيل فالانتاين؛ فقد كان ضليعا في كيمياء عصره،
18
وقام بوصف اثني عشر مفتاحا أو عملية تحدد ملامح العمل العظيم. (انظر الشكلين
1-4
و
1-5 ) المأخوذين من كتاب «مكتبة علم الكيمياء المثيرة»
19
لماجنيت، الذي نشر عام 1702.
شكل 1-4: والعدد السحري هو 12! تلك هي المفاتيح الستة الأولى التي وضعها بازيل فالانتاين (الملك الشجاع)، تلك الشخصية المعروفة والخيالية على حد سواء. تمثل المفاتيح الاثنا عشر 12 عملية خيميائية تؤدي إلى تكوين حجر الفلاسفة (بالإضافة إلى الأبراج الاثني عشر وشهور السنة). (هذا الشكل مأخوذ من كتاب «مكتبة علم الكيمياء المثيرة» لماجنيت المنشور عام 1702 بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي.)
شكل 1-5: المفاتيح الستة الأخيرة لبازيل فالانتاين في كتاب ماجنيت «مكتبة علم الكيمياء المثيرة» (1702) (بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي). انظر النص أعلاه للاطلاع على مناقشة للرمزية في المفاتيح الاثني عشر.
يشير المفتاح الأول إلى الاقتران الكيميائي؛ إذ يرمز إلى إنتاج المواد الأولية لإعداد حجر الفلاسفة.
20 ،
21 ،
22
يمثل الذئب كبريتيد الأنتيمون، وهو مركب يفيد في فصل الذهب عن المعادن الأخرى. [ثمة شكل متعلق بهذه العملية ورد في كتاب مايكل ماير المنشور عام 1618 «مقطوعات أتلانتا» (انظر الشكل
1-17 ) وسنتعرض له بالشرح لاحقا.] وأما الرجل العجوز، فربما يمثل كوكب زحل (معدن الرصاص)، والذي يساعد على فصل الكبريت. يمثل المفتاح الثاني الفصل المائي، فيما يصور المفتاح الثالث التنين بوصفه «المادة الأولية»، ويشير إلى دورة تبخير وتثبيت دائرية.
22
ويرمز المفتاح الرابع إلى الانحلال، وهو عملية تسخين بالنار، نعرفها الآن بأنها تحميص للمعادن الخام، ينتج عنه أكسدة مختلطة وفوضوية للكبريتيد الخام ليتحول إلى كتلة سوداء. ويعتبر المفتاح الخامس رمزا لعملية الإذابة (لكن هذا بطبيعة الحالة يمكن أن يدل على وجود تفاعلات كيميائية). ويمثل المفتاح السادس الارتباط؛ ذلك الاقتران الكيميائي بين الكبريت الفلسفي (الملك) والزئبق الفلسفي (الملكة). ويمثل المفتاح السابع نوعا من الماندالا الكيميائية،
23
وترمز إلى العناصر الأرضية الأربعة، والأثير، والمواد الجوهرية الثلاثة التي صنفها باراسيلسوس. وأما المفتاح الثامن فهو مشهد بعث يرمز إليه بغرس بذرة. وحسبما أشار جون ريد،
16
إذا كان الانحلال (المفتاح الرابع) يقترن بالأكسدة، فإن العملية العكسية لإعادة تخليق الفلزات أو بعثها تتطابق مع عملية الاسترجاع (الإعادة، أو الاسترداد) وعودة أرواحها. يشير المفتاح التاسع إلى المواد الجوهرية الثلاث، والعناصر الأربعة القديمة، والألوان الأربعة المتتالية في العمل العظيم بترتيب تصاعدي؛ الغراب (اللون الأسود، عملية الانحلال)، البجعة (الأبيض، عمليات التكليس)، الطاوس (الأصفر أو ألوان قوس قزح)، والعنقاء الحمراء (وترمز إلى الصبغة الحمراء أو حجر الفلاسفة). ويمثل المفتاح العاشر «المواد الثلاث الأساسية»، وقد تناولناها بالشرح فيما سبق.
20-22
وقد تمثل الكتابة العبرية آية في سفر المزامير، لكن ربما مع إحلال بعض حروف الكابالا محل الحروف الأصلية.
24
ويرمز المفتاح الحادي عشر إلى عملية المضاعفة، وأما المفتاح الثاني عشر والأخير، فيشير إلى عمليات التكليس، من خلال النيران الغامضة في برميل الخمر، فيما يرمز إلى عملية تثبيت المواد الطيارة بأسد (الكبريت) يلتهم ثعبانا (الزئبق).
20-22 (4) السحر الطبيعي: تحولات المستذئبين والفلزات
في دراسة إثنوجرافية أيرلندية تعود إلى القرن الثاني عشر من تأليف جيرالد الويلزي، نجد وصفا لمحادثة دارت بين كاهن وذئب متكلم في البرية، يتوسل للكاهن أن يمنح المناولة المقدسة لزوجته المحتضرة.
25
فيستجيب الكاهن لتوسلات المستذئب، ويعتمد النقاش حول ما إذا كان هذا الفعل تدنيسيا من عدمه على طبيعة الكائن - هل هو هجين بحق (مثل كائن الجريفين)، أم إنسان في هيئة ذئب، أم أنه متحول الهوية تماما؟ كيف لبشر أن يتحول ليصبح ذئبا؟ ما مقدار الإنسانية المتبقية لديه؟ هل كان الرجل «مذءوبا» قبل أن يتعرض لأي تغيير؟
26
تتناول المؤرخة كارولين ووكر باينوم مفهومي «الهوية» و«التغير»، وتفترض أنه في العقود الأخيرة من القرن الثاني عشر، سيطر على الثقافة الأوروبية تصور مفاهيمي مفاده أن التحول الشكلي يحدث تدريجيا وليس فجائيا.
25
على سبيل المثال، تقارن باينوم بين رواية العهد الجديد عن تحول شاول المفاجئ من مضطهد للمسيحيين إلى القديس بولس الرسول - حواري المسيح - بتلك الرواية التي تعود إلى القرن الثاني عشر والتي تصور تحوله التطوري البطيء والمبرر وهو في طريقه إلى دمشق.
25
ويمثل التحول الشكلي عملية أكثر ديناميكية وتعقيدا من ذلك التغير الإعجازي المفاجئ، أو مجرد اتخاذ مظهر هجين ثابت. كذلك اتخذت قصص التحول القديمة، بما فيها القصص الفلكلورية عن المستذئبين، معاني جديدة نحو نهاية القرن الثاني عشر.
25
فكانت حالات التحول الشكلي توجد في كل مكان في الطبيعة من حولنا؛ فالمادة الغذائية في البذرة تصبح شجرة، والطعام «يتحول» إلى دم وعصارة. ومن الثقافات الشرق أوسطية أتت عمليات معقدة، ذات طابع روحاني في الغالب، من أجل تغيير تدريجي للمادة، صارت فيما بعد تشكل مجمل الخيمياء.
كان التلاقح الفكري ناتجا ثانويا محمودا لسلسلة من الحروب الصليبية المروعة بدأها البابا أوربان الثاني في عام 1095 ميلاديا لتخليص كنيسة القبر المقدس في القدس من قبضة المسلمين.
27
وسقطت القدس في أيدي الصليبيين في عام 1099، الذين هموا بذبح سكانها من المسلمين واليهود. استمرت سيطرة الصليبيين على الأراضي المقدسة تتزايد حتى مجيء حاكم مسلم قوي، وهو عماد الدين بن زنكي، الذي استعاد مدينة إديسا (في مقدونيا). وانهزم الصليبيون في حملتهم الثانية في عام 1154 على يد نور الدين خليفة عماد الدين بن زنكي. ومع حلول عام 1187 وقعت القدس في قبضة صلاح الدين الأيوبي ابن أخي نور الدين، وسقطت معها كل معاقل المسيحيين في الأرض المقدسة تقريبا. وشنت حملة صليبية ثالثة في العام 1189، وحققت نجاحات عسكرية كبيرة. وعلى الرغم من أن الملك ريتشارد الأول (ريتشارد قلب الأسد) فشل في بلوغ القدس، فقد وقع معاهدة سلام في عام 1192 مع صلاح الدين الأيوبي. غير أن هذه الاتفاقية سرعان ما انهارت وشن المزيد من الحملات الصليبية، بما فيها حملة الأطفال الصليبية المحزنة التي شنت في العام 1212، واستمرت هذه الحملات حتى حوالي عام 1270 مع خسارة لويس ملك فرنسا للحملة الثامنة والأخيرة.
شكل 1-6: صورة للطبيب والخيميائي جابر بن حيان الذي عاش في القرن الثامن عشر (جابر)، وولد في الجزيرة العربية وتلقى تعليمه في العراق. الرسم من كتاب توفيه «حياة المشاهير» (1584). نسب كثير من كتابات القرنين السادس عشر والسابع عشر في الكيمياء والطب خطأ إلى «جابر». وللحد من الالتباس، نسب المؤرخون المعاصرون هذه الأعمال إلى «جابر الزائف».
شكل 1-7: لوحة من مخطوطة تعود إلى القرن الخامس عشر تصور الطبيب الفارسي ابن سينا (أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا 980-1037)، الذي عاش في القرن الحادي عشر، في صيدلية. انظر الصور الملونة ( © Archivo iconografico, S. A./CORPIS ).
ومن آثار العمل الإنساني التي جلبتها الحملات الصليبية إلى أوروبا الممارسات الطبية لجابر بن حيان، والرازي، وابن سينا، وتصديق الدوائر الثقافية في ظاهرة التحول الشكلي - أو تحول الفلزات - الخيميائية. و«جابر» هو اسم يعود إلى القرن الرابع عشر، ونسب إليه عدد من الأعمال، يمكن نسب أجزاء منها إلى عالم الفيزياء والخيميائي جابر بن حيان الذي عاش في القرن الثامن الميلادي (721-815 تقريبا)، والذي ولد في الجزيرة وتلقى تعليمه في العراق كما نعرفها اليوم. وينسب البعض مبدأ أن الفلزات كافة تتكون من مزيج من الزئبق والكبريت إلى جابر بن حيان.
28
ويقال إن كتاب «نهاية الإتقان»، الذي كان من الأعمال المؤثرة في القرن الثالث عشر، والذي ينسب إلى «جابر» (أو من يشير إليه مؤرخو علم الكيمياء ب «جابر الزائف» تجنبا للالتباس) قد وصف إجراءات لتمييز الفلزات وتنقيتها.
29
الشكل
1-6
مأخوذ من أوائل الكتب المطبوعة التي استعانت بالأشكال المصنوعة من الصفائح النحاسية ويزعم أنه صورة جابر (جابر الزائف أم جابر بن حيان؟) في المعمل.
30
أما ابن سينا (أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا، 980-1037)، فكان طبيبا فارسيا عرف بسعة المعرفة والتبحر في العلم. وقد نسب إليه أيضا أعمال تعود إلى أوائل عصر النهضة، ويشير مؤرخو الكيمياء إلى مؤلف هذه الأعمال بابن سينا الزائف.
29
الشكل
1-7
مأخوذ من مخطوطة تعود إلى القرن الحادي عشر، ويزعم أنه يظهر ابن سينا وهو في خضم تحضيراته الطبية.
ينطوي التحول - بحسب الأستاذة باينوم - على التغير من شكل إلى آخر، مع الإبقاء على سمة أو جانب مشتركين.
25
على سبيل المثال، تروي باينوم
26
رواية الشاعر أوفيد عن عقاب الإله زيوس للملك لايكون، الذي كان يمارس الاستبداد والظلم على رعاياه، وحاول أيضا قتل زيوس. وعلى الرغم أن لايكون قد تحول إلى ذئب شكلا وموضوعا
26 ،
31 (الكلمة اليونانية «لايكوس» تعني «ذئب»):
إنه يتحول إلى ذئب، ولكنه يحتفظ ببعض من آثار شكله السابق، فله نفس الشعر الرمادي، ونفس الوجه الحاد الملامح، ونفس العينين المتلألئتين، ونفس المظهر البربري المتوحش.
تذكر باينوم أن «التعطش للدماء والتلذذ بالقتل»
26 - ما يمكن القول بأنهما «جوهر شخصية الذئاب» - كانتا سمتين مشتركتين بين الملك لايكون والذئب.
إن فكرة أن الفلزات يمكن أن تتحول فيأخذ بعضها أشكال بعض فكرة غريبة علينا تماما في عصرنا هذا. ومع ذلك، من المهم أن نتذكر أنه منذ مئات السنين، لم يكن يوجد مفهوم حقيقي للعناصر، وكانت الفلزات توجد بوجه عام في حالات مختلفة من النقاء. فكانت السبائك، كالبرونز (الذي يتكون من النحاس والقصدير)، ومركب البيوتر (الذي يتكون في إحدى تركيباته من الرصاص والقصدير) تحتفظ على نحو سلس بالخواص الفلزية؛ فيما يعد شكلا من التحول أو التغير بإيقاف الحركة. وقد دللت الطبيعة الجوهرية للفلزات - اللمعان، وقابلية الطرق، والقدرة على التوصيل الحراري - على وجود جانب مشترك (أو مادة مشتركة)؛ ألا وهو «ماهية الفلزية». وعليه، فلدينا يوهان يواكيم بيشر - الذي عاش في القرن السابع عشر - الذي كان يعتقد أن كل الفلزات تحتوي على الزئبق،
32
فيما ذكر كيميائي آخر مهم من نفس الحقبة، وهو يوهان كونكل، أنه قد استخلص الزئبق من كل الفلزات.
33
ويا لسحر ذلك الزئبق، بجوهره الفلزي المتطاير الخارق لأي معدن؛ فالزئبق يذيب الذهب وفلزات أخرى، بحيث تتغير طبيعتها ومظهرها تماما عند التملغم. ويعمل تسخين الملغمة على تقطير الزئبق وإعادة الفلز إلى حالته السليمة، إن لم يكن أكثر نقاء. ولك أن تتخيل أن كثيرا من عينات الفلزات «النقية» تحتوي على بعض من شوائب الزئبق نتيجة لتاريخها؛ ومن ثم يكون استخراج بقايا زئبق من عينة مختلطة غير نقية من الذهب أمرا معقولا إلى حد ما.
شكل 1-8: صفحة العنوان من الطبعة الإنجليزية الأولى (الصادرة عام 1658) من رائعة جيامباتيستا ديلا بورتا «السحر الطبيعي» (الذي نشر بداية في 4 مجلدات في عام 1558 ثم زادت إلى 20 مجلدا في عام 1589). كان بورتا واسع المعرفة بالعمليات الكيميائية في القرن السادس عشر ، وغالبا ما كان ينسب إليه الفضل في اختراع الكاميرا المظلمة، علاوة على كونه كاتبا مسرحيا معروفا. تحوي الصورة إيحاء بأن بورتا هو التجسيد الحقيقي للنظام والمنطق، المقابلين للفوضى (بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
يبين الشكل
1-8
الصورة الجميلة الرائعة التي زينت صدر الطبعة الإنجليزية الأولى - التي نشرت عام 1658 - من كتاب «السحر الطبيعي» لجيامباتيستا ديلا بورتا.
34
نشر الكتاب بداية باللغة اللاتينية في أربعة «مجلدات» عام 1558، زادت إلى عشرين مجلدا عام 1589، ونشرت منه طبعات عديدة باللغات الإيطالية والفرنسية والهولندية، بالإضافة إلى الترجمة الإنجليزية. بل يزعم بورتا نفسه وجود ترجمتين بالإسبانية والعربية من الكتاب.
35
أما كتابه «التقطير» (1608)، فيبدأ بعبارات تقدير وعرفان له باللغات العبرية، واليونانية، ولغة الكلدو، والفارسية، والإيرلية، والأرمنية، بالإضافة إلى لوحة مرسومة رائعة للمؤلف.
36
بالمثل، تمجد الصورة الموضحة في الشكل
1-8
في ذات بورتا؛ إذ تضعه، فيما يبدو، جنبا إلى جنب مع العناصر الأربعة القديمة، وعلم الأكوان الفلكي، وروحي الفن والطبيعة اللذين يشكلان أساس «السحر الطبيعي». في الواقع، كانت لبورتا (من 1535-1615 تقريبا) اهتمامات علمية واسعة النطاق، لا سيما بالفيزياء. وغالبا ما ينسب إليه تصميم «الكاميرا المظلمة»، ووضع تصميم لمحرك بخاري. علاوة على ذلك، ألف بورتا «بعضا من أفضل الأعمال الكوميدية الإيطالية في عصره.»
36
ومع ذلك، فإن قدرا كبيرا من محتوى كتاب «السحر الطبيعي» مستقى من كتاب «التاريخ الطبيعي» للكاتب الروماني القديم بليني، الذي كان لديه إيمان شبه تام هو الآخر ب «السحر الطبيعي».
35
وفيما يلي مقتطفان مقتضبان من «المجلد الخامس من كتاب السحر الطبيعي»، الذي يتناول علم الخيمياء، موضحا كيفية تبدل الفلزات فيما بينها وتحول أحدها إلى الآخر»:
37
عن الرصاص وكيفية تحويله إلى معدن آخر
اعتاد الكتاب القدماء الملمون بطبيعة الفلزات تسمية القصدير بالرصاص الأبيض، وتسمية الرصاص بالقصدير الأسود، مما يشير ضمنا إلى تآلف الخواص الطبيعية لهذين المعدنين، وأنهما يتشابهان كثيرا؛ ومن ثم قد يسهل تحول أحدهما إلى الآخر. ولذلك فليس من الصعب إطلاقا أن تغير القصدير إلى الرصاص.
تحويل الرصاص إلى قصدير
يمكن تحقيق ذلك فقط من خلال غسل الرصاص؛ فإنك إذا غسلت الرصاص بالماء عدة مرات؛ أي إنك إذا صهرته، بحيث تزول منه المادة الأرضية الغليظة، فإنه سيتحول إلى قصدير بكل سهولة؛ إذ إن نفس الزئبق الذي جعل منه الرصاص مادة نقية رقيقة أول مرة، قبل أن يلتقط هذه المادة الأرضية التي تجعله ثقيلا للغاية، يظل موجودا في الرصاص - حسبما لاحظ جيبروس؛ وهذا هو السبب وراء أصوات الصرير والطقطقة التي عادة ما تصدر عن القصدير، والتي تميزه على نحو خاص عن الرصاص؛ ومن ثم حين يفقد الرصاص تلك الغلظة الناتجة عن المادة الأرضية، التي غالبا ما تزول بالانصهار، وحين يصدر الرصاص صوت القصدير، الذي يستطيع الزئبق أن يتفاعل معه بسهولة، لا يمكن حينئذ التفرقة بين الرصاص والقصدير؛ إذ يتحول الرصاص إلى قصدير.
لاحظ بعض النقاط المثيرة هنا؛ فالزئبق مشترك ما بين القصدير والرصاص، وإزالة الشوائب الأرضية من الرصاص هو سلسلة من العمليات المؤدية إلى التحول؛ ومن ثم فإن عملية تحول الرصاص إلى قصدير تحوي الجوانب الأساسية لعملية التحول الشكلي ما بين المستذئبين والبشر، مع الاحتفاظ بسمة مشتركة بينهما؛ ألا وهي «ماهية الفلزية» التي يضفيها الزئبق على الفلز. والنقطة المثيرة هنا هي أن إثبات هوية المعدن ليس في الكثافة، أو نقطة الانصهار، أو التفاعلية الكيميائية، وإنما في الأصوات الصادرة عنها خلال عملها الميكانيكي! (5) ألبرت الكبير و«ألبرت الصالح»
نحو نهاية العصور الوسطى (حوالي 500-1450)، جمع المفكرون الأوروبيون مجموع المعارف التي كتبها القدماء، ودمجوها مع المعارف التي اكتسبوها من الحضارات الإسلامية إبان الحملات الصليبية، وبدءوا في تطوير طرق للبحث كان من شأنها البدء في تحديد ملامح العلم الحديث. وكان أحد أبرز الشخصيات التي شاركت في هذا الأمر ألبرتوس ماجنوس (حوالي 1200-1280 ميلاديا).
38
ولد ماجنوس في شوابيا (الواقعة في جنوبي غرب ألمانيا)، وتلقى تعليمه في جامعة بادوا، وهناك تعرض لأول مرة للمعتقدات الدومينيكية واعتنقها. وبعد ترسيمه أسقفا، أرسل ألبرت إلى الدير الدومينيكاني في جامعة باريس في وقت ما قبل عام 1245. وهناك تعمقت قراءاته في النصوص العربية وكتابات أرسطو، وبدأ في شرح علم الفيزياء القديمة وغيرها من العلوم، وكتابة ملخص للمعرفة الإنسانية. وكان معروفا أيضا بلقب «ألبرت الكبير» حتى في حياته.
38
أعلن ألبرتوس قديسا في عام 1931، وأعلن قديسا شفيعا للعلوم الطبيعية بموجب مرسوم بابوي في عام 1941. وكان القديس توما الأكويني أحد طلاب ألبرت في جامعة باريس.
38
شكل 1-9: عالم كيمياء أمام جهاز التقطير من «كتاب المعادن لألبرتو ماجنوس»، وهو نص يعود إلى عام 1518 منسوب إلى ألبرت الكبير، لاحظ تلك القصيدة المبينة أعلى الرسم (بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
شكل 1-10: لاحظ القصيدة المكونة من ستة أبيات أسفل هذا الرسم. هذا الرسم من «كتاب المعادن لألبرتوس ماجنوس»، أوبنهايم، 1518 (بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
شكل 1-11: (
a ) صفحة العنوان من نسخة أعيد طباعتها عام 1668 من كتاب «الأسرار المذهلة» من تأليف «ألبرت الصغير» [«ألبرت الصالح»]، بالإضافة إلى الصور، (
b ) الإلهة فينوس (رمز النحاس)، و(
c ) جوبيتر (رمز القصدير) في عربتي النصر خاصتهما.
شكل 1-12: عربات النصر الخاصة بالإله (
a ) ساتورن (الرصاص)، (
b ) ميركوري (الزئبق)، (
c ) لونا (الفضة)، (
d ) مارس (الحديد) من «ألبرت الصغير» (انظر الشكل
1-11 ).
نسب العديد من الكتب خطأ إلى ألبرت الكبير، والقليل جدا من هذه الأعمال يبدو أنها مستقاة فعليا من كتاباته الأصلية.
39
الشكلان
1-9
و
1-10
من الطبعة المصورة الصادرة عام 1518 من أحد أعماله الأصلية القليلة عن الخيمياء وعلم الفلزات.
40 ،
41
يصور الشكل
1-9
خيميائيا يجري عملية تقطير. والشكل
1-10
من آخر صفحة في الكتاب - وهي مفقودة في أغلب النسخ - وتتضمن قصيدة عن الخيمياء من ستة أبيات.
41
كان استدعاء اسم ألبرتوس ماجنوس أو حتى ذكر إشارات مثيرة للاهتمام تدل ضمنيا على وجود صلة بذلك العبقري المبجل الذي عاش في القرون الوسطى وسيلة فعالة لبيع الكتب. وفي الشكل
1-11 (
a )، نرى صفحة عنوان من نسخة معادة طباعتها في القرن التاسع عشر من «كتاب السحر الطبيعي المذهل» الذي كتبه «ألبرت الصغير» أو «ألبرت بارفوس»، والذي نشر للمرة الأولى في عام 1668.
42 ،
43 (لقد استخدمت اسم «ألبرت الصالح»؛ لتجنب أي خلط محتمل بألبرت الكبير، ولأن ذلك قد يكون أقل إهانة من «ألبرت الصغير»). ورغم ما يقال عن أن هذا الكتاب «مجموعة معروفة من الغرائب والمستحيلات المتعلقة بالسحر»،
43
فإن حقيقة أن الكتاب أعيدت طباعته على مدى قرنين ليست بالشيء المنتقد بالتأكيد. كم دار نشر سواء، كانت جامعية أو تجارية، يمكنها أن تطالب بإصدار كتاب حقق أعلى مبيعات كهذا؟ الأشكال
1-11 (
b )،
1-11 (
c )،
1-12 (
a-d ) تصور الآلهة في عربات النصر، ممثلين المعادن الستة القديمة إلى جانب الذهب: فينوس (النحاس)، جوبيتر (القصدير)، ساتورن (الرصاص)، ميركوري، لونا (الفضة)، ومارس (الحديد).
وفيما يلي وصفة ألبرت بارفوس لصناعة معجون الأسنان:
44
خذ دم تنين وثلاث أونصات من القرفة، وأونصتين من الألومنيوم المكلسن؛ اسحق كل ذلك ليصبح مسحوقا ناعما للغاية، ونظف به أسنانك مرتين يوميا.
إنها لنصيحة سليمة وتركيبة جيدة؛ لكن من أين لك بذاك المكون الأول؟ (6) من حكايات كانتربري عن الخيمياء
هل كان أعظم شعراء إنجلترا جهبذا حقيقيا، أم أنه كان مجرد بارع في كتابة الأبيات المقفاة؟ تتضمن «حكاية خادم القمص» لجيفري تشوسر (1340-1400 تقريبا) معرفة مفصلة بالعمليات الخيميائية،
45
حتى إن إلياس أشمول
46
أدرج هذا العمل في كتابه «أدب الكيمياء الإنجليزي» - الذي نشر عام 1652 - بين أعمال أخرى لآخرين من «أشهر الفلاسفة الإنجليز الذين كتبوا «طقوس الهرمسية» في لغتهم القديمة الخاصة.»
47
ويظهر كل من الشكلين
1-13
و
1-14
رسوما من كتاب «أدب الكيمياء الإنجليزي». في الشكل الأول، يناول الخبير الأعظم أسرارا متعلقة بالخيمياء للخيميائي الشاب قائلا: «تناول منحة الرب مختومة بالخاتم المقدس.»
48
أما الشكل التالي، فيظهر معملا ممولا تمويلا جيدا يجري فيه العمل على قدم وساق، في إشارة إلى أن الخبير الشاب قد أولى اهتمامه بالفعل للحصول على مشورة أكاديمية جيدة. وقد بات ناجحا بعد سنوات في الحصول على المعونات والمنح، ويتقدم بخطى وئيدة نحو الترقي واعتلاء المناصب.
شكل 1-13: يقول الخبير الأعظم للخيميائي الشاب «تناول منحة الرب مختومة بالخاتم المقدس» (من كتاب أشمول، «أدب الكيمياء الإنجليزي»، 1652، بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
شكل 1-14: في هذه الصورة، يظهر معمل أبحاث ممول تمويلا جيدا في عصر النهضة. تمر السنوات، ويصبح ذلك الخيميائي الشاب الذي يظهر في الشكل
1-13
قادرا على تعيين عالم أبحاث لبرنامج «اكتشاف الذهب من الرصاص » (جولد)، الذي تموله الخزانة الوطنية (أشمول، «أدب الكيمياء الإنجليزي»، بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
بحسب ما أشار خبير بحجم جون ريد، فقد «عاش تشوسر ذاته حياة مكرسة لعمل لا جدوى منه بسرائها وضرائها.»
49
ونضيف إلى هذه الأدلة المفصلة ذلك الدليل القاطع، ألا وهو مجموعة من المخطوطات يرجع تاريخها إلى القرن السادس عشر في مكتبة كلية ترينيتي بجامعة دبلن بعنوان «جيفري تشوسر وأعماله»، والذي يصف إجراءين خيميائيين للحصول على حجر الفلاسفة متبوعين بقصيدة في وصف الإكسير.
45
ومع ذلك، تشير أبحاث جاريث دونليفي الدقيقة إلى أن هذه المخطوطات منحولة نسبت إلى تشوسر خطأ.
45
فقد كانت الأعمال المنسوبة خطأ لجابر بن حيان، وألبرت الكبير، وأرنولد دي فيلانوفا، وهرمس نفسه أساليب شائعة لجذب الانتباه خلال عصر النهضة. يشير دونليفي إلى أنه في حين أن تشوسر ربما كان ملما بجوانب عامة من الخيمياء، فإن التفاصيل الواردة في «حكاية خادم القمص» قريبة الشبه بكتابات أرنولد دي فيلانوفا.
45 ؛ ومن ثم فإنه متشكك بشأن اشتغال تشوسر بالخيمياء، لكنه يشير إلى أن المخطوطة نفسها ربما كانت مملوكة في فترة ما لمكتبة جون دي، الذي كان منجما، وعالم رياضيات، وخيميائيا خاصا للملكة إليزابيث الأولى.
45
والآن، عودة إلى «حكايات كانتربري». تهيئ مقدمة «حكاية خادم القمص» المشهد. القمص، عالم دين، وفي هذه الحكاية يشتغل كذلك بالخيمياء، يكون مسافرا بصحبة خادمه أو مساعده حين يلتقيان جماعة من المسافرين على الطريق. يقوم مضيف مجموعة المسافرين بطرد القمص، ويحكي الخادم المملوك ذو الوجه الرمادي الداكن من شدة الفقر، والذي يتعرض لأسوأ استغلال من سيده، قصة مريرة وساخرة عن الخدع الخيميائية. ويبدو القمص شبه «مدع» (فقد كان باحثا جادا عن الحجر، لكنه ضل الطريق)، ونصف دجال.
عرض القمص أن يحول مادة الزئبق الخاصة بأحد القساوسة إلى معدن الفضة الثمين باستخدام مسحوق إسقاط غامض. وكان القمص، في الواقع، قد وضع أونصة من الفضة الخالصة في ثقب في قلب كتلة من الفحم، وسد الثقب بالشمع المسود. ويصف الخادم إغواء القمص للقسيس كالتالي:
ستشهد الآن بعين رأسك
أنني سأحول هذا الزئبق إلى فضة.
حقا لن تلبث أن ترى ذلك على مرأى عينك.
سأصنع منه فضة نقية جيدة،
لا تختلف عما في كيس نقودك أو كيسي.
يخرج القمص مسحوقه الغامض:
لدي مسحوق كلفني كل غال ونفيس،
سوف يأتي بالخير كله، فهو أساس
حيلتي، التي سأريك إياها الآن.
يقف القسيس الجشع والساذج مراقبا، بينما يخرج القمص بوتقته ويضعها في النار. فيصب القسيس فيها الزئبق الذي يحمله ويضيف القمص بعضا من مسحوقه، ويقول الخادم بكلمات مريرة:
نزولا على مشيئة ذلك القمص اللعين
وضع القسيس مادته تلك على النار،
ثم نفخ في اللهب، وجلس منتبها إليها كل الانتباه،
ليلقي القسيس في هذه البوتقة
مسحوقا، لا أعلم إن كان مصنوعا من
الطباشير، أم التراب، أم الزجاج،
أو ربما من شيء آخر، لا قيمة له.
وها هي خدعة القمص:
هذا القسيس المخادع؛ تخطفته الشياطين:
أخرج من جعبته قطعة من فحم الزان،
كانت مثقوبة ببراعة شديدة،
وفي الثقب وضع أونصة من برادة الفضة،
50
ثم سد الثقب بحرفية
بالشمع، لئلا تنفرط منه برادة الفضة.
أخذ القسيس يراقب النار بجدية، فيما يصرف القمص انتباهه إلى ما يحدث بالإشارة إلى أن قطع الفحم المحترقة بحاجة إلى إعادة ترتيب على الموقد، ثم قدم له قطعة من القماش ليمسح وجهه المبلل بالعرق. وما إن أضيفت كتلة الفحم المثقوبة الوسط، حتى توهجت النيران توهجا شديدا؛ لينضم القمص بعد ذلك إلى القسيس ليجرعا شرابا. وحين يعود إلى النيران، يجد القمص قطعة الفضة قد تكونت فيخرجها ويقدمها للقسيس الفرح.
ثم تقع واقعة أخرى؛ إذ يترك القمص المحتال القسيس فعليا يجري عملية التحويل بنفسه. فيعطي للقسيس عصا تقليب مجوفة، ولك أن تخمن أنها كانت محشوة بأونصة من الفضة المغلفة بالشمع المسود. والآن، كان مسحوق الإسقاط يعمل تأثيره، دون أي تدخل من جانب القمص، لصالح القسيس نفسه. ثم يأتي القمص بعملية أخيرة؛ إذ يحول النحاس إلى فضة، تاركا القسيس في نشوة من فرط الجشع المشوب بالفرح:
من كان أشد فرحا من ذلك القسيس الأحمق؟
كان أكثر فرحا من طائر فرح بطلوع النهار،
وأشد بهجة من بلبل مبتهج بموسم الربيع؛
لم يكن أحد أشد لهفة منه للغناء والطرب،
بل كان أكثر حماسا من امرأة تنشد أناشيد الربيع.
دفع القسيس للقمص أربعين جنيها، وهو مبلغ ضخم، مقابل أن يعطيه سره (بما في ذلك المسحوق على حد اعتقادي). لاحظ انعدام ثقة تشوسر في رجال الدين الذين كانوا يعتبرون شيوعا فاسدين خلال عصر النهضة؛ ففي هذه الحكاية، يوجد رجلا دين، أحدهما فقير عديم الأمانة، والآخر ساذج فاحش الثراء.
يمكننا أن نسمع القمص وهو يقول للقسيس مودعا إياه: «أعطيك ضمانا باستعادة كل ما دفعت لي من مال! وإذا جئت إلى كانتربري في أي وقت ... حاول أن تعثر علي.» (7) سفينة الحمقى
في عام 1494؛ أي قبل حوالي 20 عاما من الإصلاح البروتستانتي، نشر سيباستيان برانت،
51 ،
52
الشاعر الألماني وعالم الإنسانيات، كتاب هجاء شعري طويلا بعنوان «سفينة الحمقى». وقد وصف بأنه «رجل ذو قناعات دينية راسخة وأخلاقيات صارمة، تصل إلى حد الاحتشام.»
53
يتخيل الكتاب مجموعة من «الحمقى» يظهرون أعرافا وتجاوزات تروق لقراء ذلك العصر من خلال التقليل من شأن أنماط شخصيات يسهل تمييزها. كانت السفينة المحملة بهؤلاء الحمقى متجهة إلى «ناراجونيا»، أرض الحمقى. كانت لغة الكتاب سهلة الفهم، وكانت الرسوم المطبوعة بالقوالب الخشبية (بعضها يحتمل أن يكون لألبريخت دورر)
54
ممتعة وجذابة. وقد نشر من الكتاب ست طبعات في حياة برانت (وكانت أول طبعة باللغة الإنجليزية في عام 1509)، مع ظهور عديد من الطبعات الإضافية منها الأصلي ومنها المزيف خلال عام 1629.
55
وقد «أعيد اكتشاف» الكتاب مرة أخرى بعد قرنين ونشرت منه طبعة في عام 1839، وتوالت الطبعات على مدار القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين.
لم يكن برانت الذي اتسم بالتشدد يحمل تقديرا كبيرا للمتع الحسية التي كانت يسيرة المنال في شوارع بازل، وقد عبرت مقدمته لقصيدته الخمسين «عن المتعة الحسية» عن احتقاره الذي يعكس استقامته:
56
فالأغبياء بالشهوات نفوسهم ممتلئة،
ولا يملكون قدرة على الإبداع ولا مهارة،
وبالنسبة لكثير منهم، فإن نهايتهم باتت محتومة.
وكانت «الموسيقى الليلية» الرومانسية ممنوعة كذلك - بحسب مقدمة القصيدة رقم 62 «عن الغناء للمحبوب في الليل»:
57
وذاك الرجل الذي يغازل محبوبته،
ويغني أغنية في الليل،
يستدعي بذلك قضم الصقيع ولسعاته.
شكل 1-15: «الخيميائي المخادع» من «سفينة الحمقى». (هذا الشكل من طبعة عام 1506 البازلية، بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء.)
هكذا، لا متع حسية ولا أغان في الليل في شوارع بازل! وليس من المتوقع أن يكون برانت متفتح العقل، أو يتمتع بحس الفكاهة حين يتعلق الأمر بممارسة الخيمياء كذلك، وهو كذلك بالفعل. ومن ثم، نجد في الشكل
1-15
58
الخيميائيين يرتدون قبعات الأغبياء (يا للعار!) ومقتطفا من القصيدة 102:
59 «عن الزيف والخداع» (ها هو مكنون صدر برانت يتكشف!):
وليتنا لا ننسى الحديث
عن خيميائنا الخادعة،
تغدق بثمار من الذهب والفضة الخالصين،
لكنهما في المغارف مختبئين.
ها هي حيلة قمص كانتربيري العتيدة المتمثلة في «إخفاء الذهب في المغرفة أو عصا التقليب». وإني لأتساءل عما إذا كان برانت يتحدث عن خبرة ودراية، أم أنه شهد فقط الاحتيال على القساوسة الأثرياء وهؤلاء الآخرين ممن يسهل خداعهم. (8) أول موسوعة حديثة
ظهر ذلك الرسم التوضيحي المتسم ببساطة لا تخلو من التأنق، والذي يظهر خيميائيا يقوم على أتونه، فيما يظهر وراءه جهاز التقطير، والذي يظهر في الشكل
1-16 ، في الطبعة الأولى من كتاب «اللؤلؤة الفلسفية» الذي نشر عام 1503.
60 ،
61
يمثل هذا الكتاب «أول موسوعة حديثة ذات أهمية»،
62
وقد طبع بعد أقل من خمسة عشر عاما من طباعة يوهان جوتنبرج أول كتبه في عام 1455. يعكس كتاب «اللؤلؤة الفلسفية» المنهج الجامعي في نهاية القرن الخامس عشر. ويغطي الكتاب القواعد اللغوية، والمنطق، والبلاغة، والموضوعات الرياضية، والفلك، والموسيقى، والولادة، والتنجيم، والجحيم.
63
فيما يغطي المجلدان 8 و9 موضوعات كيميائية، من ضمنها عملية التحويل.
62
كان جريجوريوس رايش - مؤلف ذلك الكتاب - رئيسا لدير الرهبان الكرتوزيين في فرايبرج وكاهن اعتراف لماكسيمليان الأول،
63
الإمبراطور الروماني المقدس (1493-1519)، الذي رسخ هيمنة أسرة هابسبرج الحاكمة في أوروبا.
64
شكل 1-16: صورة لخيميائي يرجع إلى أوائل القرن السادس عشر من «أول موسوعة حديثة ذات أهمية» (رايش، كتاب «اللؤلؤة الفلسفية »، 1503، بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء). (9) دلالات الحيوانات في الخيمياء
تتيح لنا الرموز والاستعارات تمثيل الظواهر التي لا نفهمها فهما كاملا والأفكار التي لا نجد لها ترجمات عقلانية. قبل أربعة قرون مضت، كان الذئب يمثل السلوك «الأكال» للأنتيمون (أو كبريتيد الأنتيمون) على الفلزات «الخسيسة». وبالانتقال إلى مستوى أعمق، حيث العقل الباطن، قد نوظف اللغة المجازية الجنسية لتوصيل المفاهيم المتعلقة بالطبيعة المذكرة والمؤنثة للأشياء. ولآلاف السنين، كانت هذه الثنائيات تشرح خواص المادة التي لا يمكن فهمها إلا من خلال الرموز. ولا عجب في أن عالم النفس كارل يونج قد أسهب في كتاباته عن الرمزية في الخيمياء.
65 (9-1) الذئب والملك الميت
في العام 1617، ألف مايكل ماير كتابا مصورا برسوم رائعة بعنوان «مقطوعات أتلانتا»، والذي ألف له 50 مقطوعة فوغا موسيقية لتصاحب 50 رسما (رمزا) يوضح كل منها عملية خيميائية.
66
وقد ألف ماير كل مقطوعة فوغا على شكل قصيدة قصيرة في ثلاثة أبيات لثلاثة أصوات، حيث يشير كل صوت إلى العناصر الخيميائية الثلاثة الأساسية؛ الكبريت والزئبق والملح (في بروكلين، يترجم ذلك إلى «ثلاثة أصوات لثلاثة أبيات»).
شكل 1-17: إليك سؤالا جيدا لاختبار نهاية العام في مادة مبادئ الكيمياء: اكتب وصفا للتفاعلين الكيميائيين البسيطين اللذين يجسدهما هذا الشكل (إشارة: فكر في تنقية الذهب.) هل ما زلت «في حيرة»؟ إذن انظر النص المصاحب (الشكل من كتاب «مقطوعات أتلانتا» لماير (1617) بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
في الشكل
1-17 ، الذي يصور الرمز 24 في كتاب «مقطوعات أتلانتا»، يظهر رسم كيميائي بارع لعملية تنقية الذهب.
67
يرمز الملك الميت إلى الذهب غير النقي - لنقل الذهب المختلط بالنحاس والفلزات الخسيسة الأخرى. ويرمز الذئب - الذي غالبا ما يمثل الأنتيمون الفلزي - هنا إلى خام الأنتيمون أو كبريتيد الأنتيمون. يوجد الأنتيمون على نحو شبه دائم في حالة مختلطة (أي «لا يكون منفردا») - ونادرا ما يكون «ذئبا منفردا». يلتهم الذئب الملك الميت؛ وهذا يعني أنه باستخدام الحرارة، يفقد الأنتيمون الكبريت الذي يدخل في رابطة مع النحاس والفلزات الخسيسة الأخرى، فيما يتحد الأنتيمون مع الذهب مكونين سبيكة منصهرة. أما كبريتيدات النحاس والفلزات الخسيسة الأخرى، فتكون زبدا يسهل فصله من السبيكة المنصهرة. بعد ذلك، توضع السبيكة في النار، حيث يشكل الأنتيمون المتفاعل كيميائيا أكسيدا يتصاعد، تاركا عنصر الذهب المنصهر والخامل كيميائيا (الملك المبعوث). وقد أثبت بيير لازلو أن اليابسة والنهر في هذه الصورة (وصور أخرى في كتاب «مقطوعات أتلانتا») تشير ضمنا إلى الاختلاف بين الطرق الجافة والرطبة لإجراء العمليات الكيميائية.
68
لا أعرف كيف لهذه الصورة أن تكون سؤالا في امتحانات نهاية العام الدراسي في مادة مبادئ الكيمياء؟ (9-2) الأسود والتنانين والثعابين، يا إلهي!
شكل 1-18: الصراع المتقد بين الأسد الأخضر المجنح (عنصر الأنوثة المتطايرة؛ الزئبق «الفلسفي») والأسد الأحمر (عنصر الذكورة الثابتة؛ «الكبريت الفلسفي») (من كتاب «مقطوعات أتلانتا». بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
تمثل الكيانات المترابطة، سواء كان ذلك الترابط في شكل صراع أو عناق حار (أو كليهما) ترابط العناصر المتقابلة [الذكورة والأنوثة؛ الكبريت الفلسفي والزئبق الفلسفي] التي يعتقد أنها تشكل كل المادة. فيجسد الشكل
1-18 ، (الرمز 16 من كتاب «مقطوعات أتلانتا») شجارا بين أسدين. الكائن المجنح على اليسار هو الأسد الأخضر، الذي يمثل الزئبق الفلسفي المتطاير (لذلك فهو مجنح): وهو العنصر الأنثوي. أما الذكر فهو الأسد الأحمر، ويرمز إلى الكبريت الفلسفي، وهو نفسه رمز للثبات وقابلية الاحتراق.
67 (9-3) دم التنين
شكل 1-19: صفحة العنوان من كتاب «دليل المسافر» لماير (الطبعة الثانية، 1651؛ صدرت الطبعة الأولى عام 1618) التي تمثل فيها المعادن السبعة القديمة (من القمة إلى اليمين في اتجاه عقارب الساعة): الذهب، الفضة، الحديد، النحاس، القصدير، الرصاص، الزئبق. الشخص المصور في منتصف أعلى الشكل هو المؤلف الكونت مايكل ماير، الذي لقبه المؤرخ الكيميائي جون ريد ب «الخيميائي الموسيقي».
شكل 1-20: وصفة «دم التنين» (حجر الفلاسفة): (1) يتخم الفيل نفسه بالماء. (2) تتربص بالفيل المتخم أفعى تنقض عليه وتحكم الالتفاف حوله وتشرب دماء فريستها. (3) ينهار الفيل خائر القوى و«يسحق» الأفعى تماما؛ هكذا يسير الأمر. (4) يفيد «دم التنين» في عملية الإسقاط الخيميائية (من كتاب «دليل المسافر» لماير، الطبعة الثانية، 1651).
في كتاب ماير «دليل المسافر» الصادر عام 1618، (الشكل
1-19 )،
69
يشرح ماير كيفية تكوين دم التنين، وهو رمز آخر لحجر الفلاسفة. يتخم فيل نفسه بالماء، فيما تقبع حية تشبه التنين متربصة له، فتنقض عليه وتحكم الالتفاف حول جسده وتشرب دماءه (كما في الشكل
1-20 ). لكن الفيل الذي خارت قواه ينقلب على الأفعى ويسحقها محولا إياها إلى قطعة لحم دامية. إن دماء التنين هذه، المشبعة بالمادة الجوهرية للفيل، هي في الواقع صبغة حمراء أو حجر الفلاسفة. ولا يمكن للصورة المجازية الجنسية الكامنة وراء هذه القصة الرمزية أن تخفى عن إدراك أي ذي عقل. (9-4) السلمندر روح النار
يستخدم السلمندر لتصوير «بذرة الذكورة المتقدة» التي تبقى مشتعلة وتتغذى على النار.
70
كثيرا ما يشبه حجر الفلاسفة بالبذرة التي قد تضاعف المعادن. وأحيانا ما يمثل السلمندر النار أو روح النار.
71
ويفيد الرمز 29 من «مقطوعات أتلانتا» (الشكل
1-21 ) وقصيدته القصيرة في شرح هذه العلاقة الغامضة (وغير الواضحة لي على الإطلاق): «يطفئ السلمندر اللهب ثم يمضي.»
66
شكل 1-21: السلمندر (من كتاب «مقطوعات أتلانتا»، بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء)، الذي يمثل خاصية مقاومة النار التي يتميز بها حجر الفلاسفة. حين زار بنجامين سيليمان أستاذ الكيمياء في جامعة ييل معمل جيمس وودهاوس قائظ الحرارة (115 درجة فهرنهايت) في فيلادلفيا في صيف عام 1802، أشار إلى المكان بأنه «بيت السلمندر» (انظر صفحة 222). (9-5) العنقاء الوحيدة المعروفة والرائعة
لا يمكن أن يوجد في عالمنا هذا سوى طائر عنقاء
72
واحد. هذا الطائر الرائع ينشأ من رماد طائر العنقاء الذي سبقه، الذي يضحي بنفسه بعد 500 عام من عيشه وحيدا محروما من ممارسة الجنس. ونظرا للارتباط الوثيق لذكر العنقاء بالأساطير المصرية القديمة، يبدو أن هذا الطائر ذو أصول شرقية قديمة. أما على المستوى الثقافي، فالعنقاء رمز للميلاد مرة أخرى والحياة بعد الموت. وفي اللغة المجازية الخيميائية، يمثل العنقاء الأخير بين أربعة طيور تمثل التغيرات اللونية المتتابعة خلال العمل العظيم (انظر الشكل
1-22 ): (1)
الغراب، الأسود، الانحلال. (2)
البجعة، الأبيض، التكلس. (3)
الطاوس، اللون الأصفر، أو ألوان قوس قزح الدالة على التغير. (4)
العنقاء، اللون الأحمر، الصبغة الحمراء، أو حجر الفلاسفة.
شكل 1-22: هل ترى العنقاء جاثمة أعلى «مزهرية هرمس» (والتي شبهها آدم ماكلين - الخبير بتفسير النصوص والرموز الخيميائية - بنوع من الماندالا الغربية)؟ (من كتاب ليبافيوس «الخيمياء» 1606.) تمثل العنقاء المرحلة الأخيرة من التغيرات اللونية الأربعة التي تحدث خلال العمل العظيم. يبدأ العمل العظيم من مرحلة دنيا مظلمة (يرمز إليها بالغراب الأسود)؛ ثم تبيض الكتلة الكيميائية خلال عملية التكليس (التي يرمز إليها بالبجعة)؛ ثم تمر بتغيرات لونية مبهجة (الطاوس)، لتنتهي بنشوء العنقاء الحمراء.
شكل 1-23: رسم ياباني يعود إلى القرن التاسع عشر بالألوان المائية على ورق الأرز يصور طائر العنقاء. هل كان الأيقونة السينمائية في خمسينيات القرن العشرين «رودان» عنقاء نشأت من رماد القنبلة النووية؟
شكل 1-24: شعار الجمعية الكيميائية الأمريكية، الذي يتضمن طائر العنقاء وجهاز تحليل الكربون الذي ابتكره يوستوس ليبيج في أوائل القرن العشرين، والذي أحدث ثورة في تحليل المركبات العضوية. وفي هذا الشعار استحضار رائع لكل من الجذور الغامضة والعقلانية لعلم الكيمياء (بإذن من الجمعية الكيميائية الأمريكية).
شكل 1-25: «احذر الطيور الجارحة المتحابة ...» تمثل الطيور الجارحة المتحابة تزاوج الذكر والأنثى (سول ولونا؛ الكبريت والزئبق). (هذه الصورة من كتاب «جوهر الحكمة في الطب والكيمياء والخيمياء» (1755).)
شكل 1-26: «واجتنب الباسيليسك الغاضب.» الباسيليسك (أو الأفعى الديك) هي رمز لعملية «الإسقاط»، تلك القوة الغامضة لحجر الفلاسفة لتحويل المعادن عن بعد. أحيانا ما تصور في شكل سحلية، وفي بعض الأحيان، تصور كمزيج ما بين السحلية والديك، وأحيانا كأفعى (كوبرا باصقة). إن نظرة الباسيليسك وحدها قاتلة. (من «كتاب السموم» لجريفان 1568، 1567.) (بإذن من أكاديمية نيويورك للطب وبي آند إس جفنتر: «للنشر» - فكل منهما قدم نسخا من هذه الصورة.) هل كان جودزيلا الأيقونة السينمائية اليابانية باسيليسك؟
يبين الشكل
1-23
مروحة يد يابانية تعود إلى القرن التاسع عشر (بالأبيض والأسود وليس بلونها الفعلي) مزينة برسم بالألوان المائية لطائر العنقاء. يحمل هذا الرسم شبها مثيرا للدهشة بذلك الرمز الثقافي الذي يعود إلى القرن العشرين؛ الوحش رودان، الذي تدور حوله أحداث مجموعة من الأفلام اليابانية التي أطلق عليها اسم
73 (والذي يعني بالعربية «الوحوش الاصطناعية»). في الواقع، ينشأ «رودان » من رماد الاختبارات النووية ليهدد الأرض، ويعلمنا جميعا درسا جيدا. إنه طائر عنقاء ولد على محرقة جثث القنبلة الذرية.
تتخذ الجمعية الكيميائية الأمريكية (انظر الشكل
1-24 ) - ذلك الكيان العلمي المهيب - لنفسها شعارا يظهر فيه طائر عنقاء يعلو جهاز تحليل الكربون في المركبات، والتي اخترعها يوستوس ليبيج في القرن التاسع عشر.
74
ما فائدة «ذلك» الجهاز؟ كان هذا الجهاز يقوم بقياس ثاني أكسيد الكربون (
CO2 ) المنبعث من احتراق المركبات العضوية على نحو دقيق، مما أفاد في وضع صيغ دقيقة، وفهم الآلية العلمية وراء «غابة» الكيمياء العضوية البدائية الشاسعة.
75
على النقيض التام، يمثل طائر العنقاء ذروة العملية الخيميائية. يبدو لي أن زملائي الكيميائيين يحاولون تأمين أنفسهم من الفشل - بحيث يلجئون أولا إلى الكيمياء المنطقية، فإن لم تفلح فهناك السحر. (9-6) احذر الطيور الجارحة المتحابة
76
يمثل التزاوج موضوعا رئيسيا في اللغة المجازية الخيميائية؛ فالثعبانان المتشابكان كجديلة حول قضيب الزئبق يشكلان عصا هرمس، شعار مهنة الطب (انظر الشكل
1-25 ).
77
تشكل هاتان الأفعيان المتحابتان ثلاث دوائر تمثل ثلاث دورات انفصال وارتباط بين جوهري الذكورة والأنوثة.
78
يعلو الأفعيان طائران جارحان متحابان
79
متلاصقان كذلك، يلتهم كل منهما الآخر في خضم تزاوجهما، ما يمثل عملية الانحلال/الارتباط الكيميائية وفقدان الهوية الفردية. واللياقة العامة تمنع تجسيد التزاوج الكيميائي بين الرجل والمرأة (سول ولونا أو الشمس والقمر).
80 (9-7) واجتنب الباسيليسك الغاضبة
76
إن تحول «الفلزات الخسيسة» إلى فضة أو ذهب يتحقق في النهاية من خلال عملية «الإسقاط» - وهي عملية غير قابلة للشرح يمكن أن تحدث عن بعد - حيث «تسقط الصبغة الحمراء من قلب «الملك الأحمر» (الحجر الأحمر) لتغمر رعاياه، الذين يمثلون المعادن الخسيسة.»
81
والباسيليسك أو (الأفعى الديك) (الشكل
1-26 )
82
هي أفعى تنتمي إلى عالم الأساطير الرومانية.
83
تقول بعض الروايات إن الباسيليسك تخرج من بيضة ديك بعد رقود أفعى عليها. فيما ترى روايات أخرى أنها «هجين سام بين ديك وعلجوم».
84
ومجرد النظر إلى الباسيليسك (أو التعرض لانبعاثاتها من بعيد) كفيل بأن يؤدي إلى الوفاة.
85
ما من موت أسرع من موت إنسان بسم الأفعى الديك؛ فإنها تقتله بالنظر إليه ؛ إذ إن الأشعة المنبعثة من عيني الأفعى الديك تفسد الروح الظاهرة للإنسان، وحين تفسد هذه الروح الظاهرة، تفسد معها كل الأرواح الأخرى التي تأتي من المخ وحياة القلب، وبفساد هذه الأرواح، يموت الإنسان.
بل يزداد الأمر رعبا:
85
ولا تقتل الأفعى الديك فقط عن طريق فحيحها ونظراتها، (كما قيل في الجورجونات)، وإنما تقتل أيضا باللمس، سواء اللمس المباشر أو عن طريق وسيط؛ وهذا يعني أنها لا تقتل فقط حين يمس إنسان جسدها نفسه، ولكن كذلك عند لمس السلاح الذي قتل به الجسد نفسه، أو الذي قصد قتل أي حيوان آخر، وثمة قصة شهيرة عن الأفعى الديك تحكي أن فارسا تلقى حربة في يده، سددت له عبر الأفعى الديك، فإذا بجسده يمتص السم فيموت، ويقتل معه فرسه كذلك.
من الواضح أنها رمز للإسقاط الخيميائي عن بعد. فكر في الأمر، يقدم لنا اللون السينمائي الجديد الذي يسمى الوحوش الاصطناعية بازيليسك
73
يبلغ طولها 400 قدم وتسمى جودزيلا، تدمر أنفاسها طائرات القوات الجوية النفاثة والدبابات الحربية التي تقع على بعد مئات الأمتار.
في الواقع، من السهل أن نتوقع أن تكون الكوبرا هي الأساس الذي قامت عليه أسطورة الباسيليسك؛ فهي من أكثر الثعابين سمية في العالم؛ فالكوبرا الباصقة يمكن أن تسبب العمى عن بعد، والحجم الهائل لملك الكوبرا (الذي ذكر أن أحدها يبلغ طوله 18 قدما)،
86
مقترنا بوضعية هذه الأفعى الرأسية المرتفعة ومظهرها المقنع، هما «جوهر» الأسطورة. (9-8) الأوروبورس (أم حلم كيكوله الذي تحقق؟)
الأوروبوروس هي أفعى لا تنفك عن التهام نفسها بينما تنشأ من جديد. ولا شك أن هذا المبدأ ينبع من فكرة السقوط الدوري لجلد الثعبان كي يكون جلدا جديدا تماما. تمثل الدائرة الوحدة والاستمرار. تستحضر الأوروبوروس إلى الأذهان عملية التقطير المرتد الدائرية باستخدام تقنية إعادة السريان التي تحدث في جهاز قديم كان يستخدم في التقطير (أو حتى في أجهزة إعادة السريان الحديثة). هل حلم أوجست كيكوله بالأوروبوروس فيما كان يتخيل حلقة البنزين؟
87 ،
88
يظهر الشكل
1-27 ، وهو للشعار 14 من «مقطوعات أتلانتا»،
66
نسخة أخرى من فكرة الأوروبوروس. وتقول القصيدة القصيرة المرتبطة بهذا الشعار:
66
تقرض هذه السلائل الجائعة أذيالها،
وقد علم الجوع الإنسان أكل أخيه،
يعض التنين ذيله ويبتلعه
آكلا جزءا كبيرا من جسده؛
غلبه الجوع والحبس والحديد حتى
أكل نفسه، ولفظها، ومات لينشأ من جديد.
شكل 1-27: الأوروبوروس - شعار الاكتمال، ودورة الحياة، بل وبقاء المادة. لا ينفك الأوروبوروس عن التهام نفسه، بينما ينشأ من جديد. هل حلم أوجست كيكوله بالفعل بالأوروبوروس حين افترض أن البنزين مركب ذو بناء حلقي؟ (من كتاب «مقطوعات أتلانتا»، بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء.)
شكل 1-28: الوحدة الفلكية بين الكون الأصغر والكون الأكبر في كتاب أثانسيوس كيرشر «الكون الخفي» (1665). تمثل الشمس قلب الإنسان، بينما المخ البشري يمثله القمر (بإذن من دار جيه إف بوتاك ساينس بوكس للنشر).
شكل 1-29: رسم لأتون مذهل خاص بالوصفات العشبية الخيميائية من كتاب كيرشر «الكون الخفي». فماذا كان الغرض الحقيقي من هذا الأتون الذي يقال إنه موجود في كلية اليسوعيين في روما؟ (بإذن من دار جيه إف بوتاك ساينس بوكس للنشر).
شكل 1-30: يبدو أن معمل كلية اليسوعيين في روما كان مجهزا لإجراء كل أنواع التقطير. يستدعي الجهاز
E
إلى الأذهان ذلك الذئب المذكور في أسطورة رومولوس وريموس، وذلك الجهاز الطويل ذو الشكل البجعي
M (العمود الأيسر، الشكل الثاني من الأسفل) أشبه برجل دين صارم يقف على منصة ويعظ جموعه (من كتاب كيرشر «الكون الخفي»، بإذن من دار جيه إف بوتاك ساينس بوكس للنشر).
هل يمكن أن يكون الأوروبوروس كذلك رمزا لقانون بقاء المادة، قبل وقت طويل من مجيء لافوازييه؟ لعل كيكوله وحده هو من كان سيعرف الإجابة عن هذا السؤال بالتأكيد. (10) من هو أثانسيوس كيرشر؟ وما السبب وراء تلك الفظائع التي تقال عنه؟
الأشكال من
1-28
إلى
1-30
من كتاب «الكون الخفي»
89 (1665) من تأليف أثانسيوس كيرشر (1602-1680)، الراهب اليسوعي الذي بدأ حياته المهنية في فورتسبورج لتنتهي في كلية اليسوعيين في روما.
90
لقد كان شخصا على درجة عظيمة من العلم ودرجة مذهلة من السذاجة في الوقت ذاته. ويجدر بنا أن نذكر القارئ بأن العالمين البارزين بويل ونيوتن ، اللذين عاشا في القرن السابع عشر، كانا يصدقان في الخيمياء إلى حد السذاجة. كما يروق لي أن أرى في شخصية يوهان بابتيست فان هيلمونت الذي ولد في منتصف القرن السابع عشر نصف عالم ونصف عالم زائف.
91
وقد ألف كيرشر مجلدات؛ إلا أن المؤرخ العلمي جون فيرجسون يقول عنه:
92
كان كيرشر رجلا واسع - بل غزير - المعرفة، وغزير السذاجة والمعتقدات الخرافية والثقة في آرائه أيضا. وما من أحد في هذا المجال المعرفي بأسره قد تفوق عليه في عدد الأعمال وضخامتها، وانعدام الفائدة منها.
يضم كتاب «الكون الخفي» مجموعة ضخمة من المعلومات التي تصف كيمياء التعدين، وكيمياء الفلزات، والكيمياء الدوائية، بالإضافة إلى الكيمياء المفيدة للفنانين والحرفيين.
90
أما الشيء الأبرز - من وجهة النظر التاريخية - فهو عدم إيمانه بالخيمياء المشروحة في كتاب «الكون الخفي». ربما لا عجب في أن بويل قد «اعترض على دفع 40 شلنا مقابله.»
90 ،
93
يبين الشكل
1-28
تصويرا فلكيا صرفا لوصف الجسم البشري من منظور الكون الأكبر (الماكروكوزم) والكون الأصغر (المايكروكوزم)، وعملياته التي تمثل الكون الأكبر. وفيما يلي العلاقات
94
التي يطرحها في الكتاب: الشمس تعني القلب، والقمر يعني المخ، والمشتري يعني الكبد، وزحل يعني الطحال، والزهرة يعني الكليتين، وعطارد يعني الرئتين، والأرض تعني البطن، والأوردة تعني الأنهار، والمثانة تعني البحر، فيما تمثل الأطراف السبعة الرئيسية المعادن السبعة القديمة.
أما الشكل
1-29 ، فيقال إنه ل «أتون لصناعة الأدوية» في كلية اليسوعيين في روما، رغم أن بارتينجتون يؤكد أنه قد «أطلق عليه هذا الاسم كذبا لإخفاء وظيفته الحقيقية.»
90
وإن المرء ليتساءل ما إذا كان ذلك الجهاز، الأشبه بكائن فضائي محمل بصغاره التي تخرج من بيضها للتو، له وجود حقيقي من الأساس أم لا. وأعترف أن أحد أجهزة التقطير المبينة في الشكل
1-30
تذكرني بالذئب الذي أرضع رومولوس وريموس؛ جزء من أساطير روما القديمة. (11) سحر غير طبيعي: الساحرات وعصي التقليب العظمية
تعود أساطير الساحرات إلى آلاف السنين، وهي حاضرة في جميع الحضارات تقريبا في أشكال مختلفة اختلافا بالغا.
95
وقد ازدادت أساطير الحضارة الغربية المتعلقة بالسحر تطورا مع انتهاء الحملات الصليبية واستجلاب كل الأمور المتعلقة بالكيمياء، والفلك، وكل المعتقدات الباطنية الأخرى من بلاد المسلمين. وفي السنوات الأولى من أوروبا النهضة، كانت الساحرة على الأرجح شخصا لم يتواءم داخل النظام الراسخ في قرية صغيرة؛ ومن ثم كانت يعتقد أنها تسبب حالة من عدم التناغم.
95
قد ترفض عائلة من عائلات القرية ذلك الشخص المنبوذ، الذي كان في بعض الأحيان رجلا أو امرأة عجوزا في حاجة إلى المساعدة في جمع الحطب على سبيل المثال؛ ذلك النوع من المساعدة المتوقع الحصول عليه في أي مجتمع ذي نسيج مترابط. وبعد أسبوع، قد يمرض أكبر أبناء هذه العائلة فجأة وتولد ساحرة. ويمكن أن يكون انتقام الساحرة أكثر هولا؛ كأن يتدفق فيضان طبيعي يستمر «خمسين عاما». غير أنه في وقت ما خلال القرن الخامس عشر، كانت الساحرات يتهمن بأنهن قرينات الشيطان،
95
وأن ممارساتهن ما هي إلا مظاهر للشر الصرف؛ ولذا كانت المحاكمات والإعدامات هي العلاج الوحيد. انتقلت هذه المعتقدات إلى العالم الجديد مع أتباع المذهب البيوريتاني وكان لها أبلغ الأثر في مدينة سالم في ماساتشوستس، حيث أقنعت حكايات السحر الأسود، التي كانت ترويها جارية من الهند الغربية تدعى تيتوبا، ثلاث فتيات يافعات بأن بهن مسا من الشيطان.
96
وقد أسفرت حالة الهستيريا التي تسببت بها هذه الواقعة عن إقامة «محاكمات الساحرات» التي عقدت لنحو 30 امرأة بين شهري مايو وأكتوبر من عام 1692. وكان التعذيب أسلوبا منطقيا خلال «حالة الطوارئ» تلك، فيما حكم بالإعدام شنقا على تسع عشرة امرأة اتهمن ب «ممارسة السحر».
كان «سبت الساحرات»
97
طقسا ليليا صاخبا حافلا بالسلوكيات الماجنة المحرمة. ويدور حول هذا الطقس مشهد «ليلة فالبورج» في مسرحية «فاوست»، ومقطوعة «ليلة على سفح الجبل الأجرد» لموسورسكي. ويوضح الشكل
1-31
مقطعا صغيرا من منحوتة جاك دو غين الثاني بعنوان «سبت الساحرات» والتي تعود إلى أوائل القرن السابع عشر. ورغم أن النسخ الحديثة من صور الساحرات التي تظهر في عيد القديسين (الهالويين) تكون في المعتاد لسيدات عجائز نحيلات، فإن الجسد الأنثوي القوي الذي تبدو عليه الصحة في تلك المنحوتة لا يبدو أنه احتاج إلى مساعدة في جمع الحطب. وهي تستخدم عظمة بشرية ضخمة، ربما لتقليب مكونات دهان «للطيران إلى القمر»؛ فقد كان من الشائع أن الساحرات كن يجهزن زيوتا للجسم تمنحهن القدرة على الطيران (فعلى كل حال، لم تكن المكنسة القشية هي التي تساعدهن على الطيران). ولكن كيف أساءت ساحرة دي غين إلى قريتها؟ لربما كانت ببساطة أكثر براعة في الكيمياء من عطار القرية، الذي تصادف أيضا أن كان شقيقا لعمدة القرية.
شكل 1-31: مقطع صغير من منحوتة «سبت الساحرات» لجاك دو غين الثاني. تستخدم الساحرة ذات الجسد القوي الموفور الصحة التي في المقدمة ملاطا ومدقة لطحن المكونات اللازمة لصنع زيت الجسم الذي يمكنها من الطيران. (الصورة بتصريح من مكتبة كراون وسبيلمان، كولفر سيتي، كاليفورنيا.)
من المذهل أن تدرك أن جوزيف جلانفيل (1636-1680)،
98
الذي لعب دورا حيويا في الدفاع عن المناهج التجريبية الحديثة في العلوم، كان يؤمن بالساحرات؛ فقد كان يذهب، وهو الكاهن المرسم، إلى أن العلم لا يتعارض مع الدين، وأن الدراسات التجريبية للعالم الطبيعي من شأنها إضفاء مزيد من التمجيد على أعمال الرب. وقد كان زميلا منتخبا لجمعية لندن الملكية في عام 1664، لكنه كان يؤمن بأن أرواحا شريرة تسكن العالم، ودافع عن هذه الآراء في أعماله «تأملات فلسفية في شأن السحر والساحرات» (1666)، وكتاب «الأدلة الكاملة والقاطعة عن الساحرات والعفاريت»، وقد نشر هذا الكتاب الأخير بعد وفاته.
على النقيض، كان جون ويبستر (1610-1682)،
99
وهو كاهن مرسم آخر، وداعم للجمعية الملكية، أكثر عملية وأقل سذاجة من جلانفيل. وقد انتقد ويبستر آراء جلانفيل في كتابه «مظاهر السحر المزعوم» (1677). مارس ويبستر الطب والكيمياء، وفي كتابه «تاريخ المعادن» (1671)، وجه ويبستر النقد اللاذع الموضح أدناه لمؤلفين آخرين لأعمال عن علم الفلزات:
100
لو كان المؤلفون الذين كتبوا عن مملكة المعادن سيقدرون وفقا لأعدادهم ووفرتهم، لظن المرء أن هذا النوع من العلم قد بلغ بالفعل قمته وذروته. غير أننا إذا ما وزناهم بجوهر ما كتبوا وثقله، لوجدنا أن معظم عملهم لا ثقل له، وأن كتاباتهم لا تحمل الكثير من القيمة.
هوامش
الجزء الثاني
المقطرات، وبوتقات فصل المعادن، والأسلحة
(1) سحر التقطير
إن معظم من أسعده الحظ منا بما يكفي ليجري عملية تقطير يعرف الإثارة التي ينطوي عليها الحصول على «روح» صافية من محلول داكن عكر، واستخلاص زيت نقي من راسب كدر، بل وحتى مشاهدة التصلب المفاجئ لنواتج التقطير المجمعة لتتحول إلى إبر بلورية بيضاء؛ فعند تقطير خليط تخمير خام، سنحصل على «كحول» مسكر. ولعل مما يثير التعجب قليلا أن التقطير يرادفه «التصحيح»؛ أي وضع الأشياء في حالتها الصحيحة. في الواقع، قد يعتبر التقطير في حد ذاته ممارسة دينية للارتقاء والانحدار:
1
ارتق بأقصى درجات الاعتدال من الأرض إلى السماء، ثم عودة مرة أخرى من السماء إلى الأرض، ووحد معا قوى الأشياء العظيمة والأشياء الوضيعة. هكذا تحصل على مجد العالم أجمع، ولا تعود أبدا خامل الذكر.
تشير الأدلة الأثرية إلى أن التقطير كان يمارس ربما قبل 5000 عام؛
2
فكلنا يعلم أن الغطاء الموضوع على إناء حساء يغلي سوف يكثف بخار الماء. وليس من الصعب تخيل تصنيع أغطية الأواني برفع حوافها لأعلى لصنع مجرى لتجميع السوائل المكثفة.
2 ،
3
وقد كشفت الأبحاث الأثرية في المناطق المماثلة لبلاد الرافدين القديمة عن دلائل على وجود «أداة» على هذا النحو تعود إلى ما قبل 3500 عام قبل الميلاد تقريبا.
2
وقد قدم المؤرخ الكيميائي آرون إيد مادة مصورة بعنوان «تطور إنبيق التقطير»، وكان أهم تطور هو تطوير رأس إنبيق التقطير - ربما قبل ألفي عام - الذي ينقل ناتج التكثيف عبر أنبوب «يشبه المنقار» إلى إنبيق استقبال منفصل.
3
وقد كانت الأدوية حتى زمن باراسيلسوس تستخلص من النباتات والحيوانات، بالإضافة إلى المواد المقطرة من هذه المصادر الطبيعية.
يوضح الشكل
2-1
الصورة المواجهة لصفحة العنوان من طبعة عام 1513 من الكتاب المذهل «كتاب فن التقطير» لهيرونيموس برونشفيك.
4
يصور الشكل إنبيق تقطير مزدوجا يتيح إجراء عمليتين منفصلتين هما على الأرجح عمليتا «تصحيح» للخمر. تمثل الوحدة الوسطى أنبوبا طويلا يحتوي على ماء بارد يمر عبره «ثعبانان» أو أنبوبان مكثفان. وتذكرنا الصورة على نحو غريب برمز عصا هرمس حيث يتشابك ثعبانان أحدهما ذكر والآخر أنثى حول عصا صولجان هرمس، فيما مثلت الحلقات الأربع أربع عمليات «تزاوج». تسخن أبخرة الكحول الساخن المحلول المبرد في الأنبوب الطويل، فتهبط المياه الدافئة الناتجة عن ذلك إلى قاع الأنبوب ويتم سحبها، بينما يضاف الماء البارد من أعلى الأنبوب الطويل. يقارن العامل مشغل جهاز التقطير على يسار الصورة بين درجة الحرارة في الوعاء خاصته وفي حلقة المكثف الأولى.
5
بالنسبة للأشكال من
2-2 ،
2-7 ، فهي من كتاب برونشفيك كذلك. يصور الشكل
2-2
مجموعة المواد المقطرة من مستخلصات الورد باستخدام أربع «قبعات وردية» يتصل كل منها بمستقبل عن طريق أنبوب معوج. كانت القبعة الوردية شكلا من المكثفات المبردة الهواء. ويظهر الشكل
2-3
أتونا فعالا يتصل به ثلاثة عشر إنبيقا يستخدم لما يبدو أنه عملية تجارية مربحة للغاية.
إن تأثيرات التنجيم حاضرة بقوة في كتاب برونشفيك؛ فالشكل
2-4
يظهر أن ثمة عملية تقطير بعينها تجرى تحت تأثير الحمل، الذي يوافق وجود الشمس في برج الحمل (21 مارس-19 أبريل)، وبالتبعية يتطلب الأمر التسخين في درجة حرارة معتدلة.
6 ،
7
أما عمليات التقطير في الشكل
2-5 (التوءم، الجوزاء من 21 مايو-21 يونيو)، والشكل
2-6 (السرطان، 22 يونيو-22 يوليو)، فتجرى في ظروف تزداد دفئا بالتدريج حتى وصولها إلى أقصى درجة حرارة تحت تأثير برج الأسد (23 يوليو-22 أغسطس).
6 ،
7
كانت الكتب التي تتناول التقطير تتمتع بشهرة عظيمة خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر.
5
الشكل
2-8
من طبعة عام 1528 من كتاب «جنة الفلاسفة» لفيليب أولستد.
8
أما مجموعتا أدوات التقطير التي تظهر في الشكل
2-9 ، فهي من «كتاب التقطير» لوالتر إتش ريف.
9
شكل 2-1: صفحة العنوان (ملونة يدويا؛ انظر الصور الملونة) من «كتاب فن التقطير» (تأليف هيرونيموس برونشفيك، 1512)، وتصور جهاز تقطير مزدوجا يحتوي الأنبوب المرتفع المركزي منه على ماء للتبريد يعاد ملؤه باستمرار. فكر في الأمر، ألا يستحضر هذا الجهاز لديك صورة شعار عصا هرمس: الثعبانان المتشابكان حول عصا هرمس، حيث الحلقات ترمز إلى «عمليات التزاوج» (بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي).
شكل 2-2: عملية تقطير باستخدام «القبعات الوردية» (رءوس التقطير مبردة الهواء) في كتاب برونشفيك 1512 «كتاب فن التقطير» (بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي).
شكل 2-3: ثلاثة عشر إنبيقا وأتون (من «كتاب فن التقطير» لبرونشفيك (1512)، بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي).
شكل 2-4: التقطير باستخدام حرارة هادئة جدا تحت تأثير برج الحمل (21 مارس-19 أبريل) من كتاب برونشفيك «كتاب فن التقطير» (1512) (بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي).
شكل 2-5: التقطير باستخدام حرارة معتدلة تحت تأثير الجوزاء (21 مايو-21 يونيو) من «كتاب فن التقطير» (1512) لبرونشفيك (بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي).
شكل 2-6: التقطير باستخدام درجة حرارة مرتفعة نوعا تحت تأثير السرطان (22 يونيو-22 يوليو) من «كتاب فن التقطير» (1512) لبرونشفيك (بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي).
شكل 2-7: التقطير في أعلى درجة حرارة تحت تأثير الأسد (22 يوليو-22 أغسطس) من «كتاب فن التقطير» (1512) لبرونفشيك (بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي).
شكل 2-8: صفحة العنوان من كتاب فيليب أولستد «جنة الفلاسفة»، نورمبرج، 1528 (بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
يمثل الشكل
2-10
صفحة صدر كتاب يعود إلى عام 1576 من تأليف كونراد جسنر بعنوان «المستوى الجديد من العافية ...» (العنوان الأصلي مكون من 109 كلمة!)
10
وبالرغم من أنه من الممتع أن تفكر فيما إذا كانت المرأة التي تظهر في الصورة خيميائية أم كيميائية؛ فإنها على الأرجح مجرد عاملة مسئولة عن تشغيل جهاز التقطير؛ إذ كان هذا ممارسة شائعة في القرن السادس عشر.
شكل 2-9: جهازا تقطير من كتاب ريف (1545) «كتاب فن التقطير» (بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي).
فماذا أثمرت عمليات التقطير اللانهائية تلك؟ دعونا نلق نظرة فاحصة على بضع وصفات. هذه الوصفة من كتاب جسنر (1599) «ممارسة الفيزياء الحديثة والقديمة»:
11
زيت أو مرهم لشحذ الذكاء، وتقوية الذاكرة
أحضر بعض نبات الضرم المكور، وزهور الروزماري، وزهور لسان الثور المخزني، وزهور الحمحم المخزني، وزهور الكاموميل، والبردقوش، والمريمية، والبلسم، وزهور البنفسج، وأوراق ورد الجوري، وأوراق الغارورق، وخذ من كل منها ما يعادل أونصة ونصف أونصة، وتوضع المكونات في زجاجة محكمة الغلق، مع وضع لترين من النبيذ الأبيض، أو النبيذ الأحمر، أو ماء الحياة، واترك الخليط هكذا لمدة خمسة أيام حتى تمتزج مكوناته بعضها ببعض، ويقطر، ثم أضف إلى المزيج أجود أنواع زيت التربنتين، رطلا ونصفا، وأضف من اللبان العشبي، ومن نبات المرة المنتقى، والمصطكى، أو صمغ النبات، ومن صمغ الجوت قدر أونصتين من كل منها، ومقدار أونصة من الطلاء الجبني الجنيني، وثلاث أونصات من عسل الكاجو؛ تحول هذه المكونات إلى مسحوق، وتمزج معا لخمسة أيام مع التقطير المذكور مسبقا، في زجاجة بغطاء محكم الغلق، ثم تقطر مرة أخرى، ثم تضاف إلى هذه المكونات أونصة واحدة من كل من القرفة، والقرنفل، ومسحوق قشور جوزة الطيب، وجوزة الطيب، والهال، وحبوب الجنة، والفلفل الطويل والرومي المستدير، والزنجبيل، وخشب الصبار، والكبابة، ثم تطحن كل هذه المكونات لتصير مسحوقا. ويضاف إلى هذه المكونات من المسك والعنبر مقدار درامتين؛ ثم يقطر كل ذلك معا (بعدما تمضي خمسة أيام على المزيج الذي أضيف ووضع في عملية التقطير السابقة)؛ تكون النار هادئة في البداية، ثم تزداد قليلا بقليل إلى نهاية العمل. ويستخدم كالتالي: قبل غسيل الرأس، يدهن به الصدغان ومؤخرة العنق. ويدهن في فصل الشتاء مرة واحدة في الأسبوع، بينما في الصيف يستخدم مرة واحدة في الشهر.
شكل 2-10: صفحة صدر الكتاب من كتاب كونراد جسنر 1576 «مستوى جديد من العافية» (بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء). كان من الشائع أن تعمل النساء في تشغيل أجهزة التقطير.
والآن، أتمنى لو أنني أستطيع تذكر ذلك!
من كتاب جون فرينش «فن التقطير»، المنشور عام 1653:
12
كيفية تحويل الزئبق إلى ماء دون خلطه بأي شيء؛ ومن ثم إعداد دواء مطهر ومسبب للتعرق
خذ أونصة من الزئبق، غير المنقى، وضعه في دورق زجاجي، ويجب عليك أن تبقيه في وضع معتدل، وضعه على نار قوية لمدة شهرين، وسوف يتحول الزئبق إلى راسب أحمر براق. خذ ذلك المسحوق الأحمر، وانثره في طبقة رقيقة على قطعة من الرخام وضعها في سرداب لمدة شهرين؛ سيتحول المسحوق إلى ماء، قد يكون صالحا للشرب، وسيكون تأثيره لأعلى ولأسفل قليلا، لكنه يعمل بالأساس من خلال التعرق.
بتأمل الأمر قليلا، بإمكاني فهم تكلس الزئبق إلى أكسيد الزئبق الأحمر. أما بقية الوصفة فهي غامضة قليلا بالنسبة لي. ولكن دعونا نر وصفة أخرى من كتاب السيد فرينش، «الطبيب البشري»:
13
روح معروف معد من الجماجم البشرية
أحضر ما تشاء من الجماجم البشرية، وكسرها إلى قطع صغيرة وضع القطع في إنبيق تقطير زجاجي معوج مغطى جيدا، على أن يكون موصلا بإنبيق استقبال محكم الغلق. ضع كل هذا على نار قوية مع زيادة درجة الحرارة حتى تعجز عن رؤية انبعاث مزيد من البخار؛ ستجد روحا مائلا إلى الصفرة وزيتا أحمر اللون، وملحا متطايرا.
خذ هذا الملح المتطاير والروح المائل إلى الصفرة وضعهما على نار هادئة بالتناوب على مدار شهرين أو ثلاثة في مغطس، وستحصل على روح من النوع الممتاز.
يفيد ذلك الروح في حالات الصرع، والنقرس، والاستسقاء، واضطراب المعدة، وتقوية كل الأجزاء الواهنة، وفتح كل الانسدادات، ويعد دواء شافيا من كل داء.
من الواضح أن الجماجم البشرية كانت متوافرة بلا قيود. يحيرني التساؤل عن هوية المورد. كما أنني مندهش بعض الشيء من عدم الاستعانة بالجماجم البشرية في مرهم جسنر الخاص بالذاكرة وشحذ الذكاء.
وعلى ذكر جسنر، دعونا نجرب علاجا آخر، يصنع من سحق الذباب الإسباني وليس من التقطير:
14
تكمن فائدتها في حرق أجسادها، لتكون قشرة، أو ... تتآكل، مما يسبب تقرحا، ويولد حرارة؛ ولهذا السبب تستخدم بعد مزجها مع أدوية الهدف منها تسخين البقع المصابة بالبرص، أو القوباء، أو القروح السرطانية.
لكن على الرغم من سمية هذه الذبابة الإسبانية، فإن خواصها الفريدة «مفيدة لهؤلاء الذين يريدون تقوية الانتصاب، وتعزيز العلاقة الحميمية.» وفيما يلي هذه الملاحظة الخاصة التي أوردها جسنر:
14
في عام 1579، وخلال إقامتي في بازل، استشار رجل متزوج بعينه (ذلك الصيدلاني الملتحي الصفيق، الذي كان يقطن في الصيدلية)، وكان يشكو من أن عضوه كان أضعف من أن يفض بكارة امرأته في ليلة زفافهما، أحد الأطباء البشريين الكبار، وكان ذائع الصيت، فيما إذا كان بإمكانه إعداد دواء شامل يمكنه من إتمام واجباته.
تحتم علينا اللياقة أن نتوقف عند هذا الحد، لكن النتيجة كانت مؤلمة وعقيمة على حد سواء. (2) كيمياء المعادن العملية
يقوم تطور الكيمياء على ثلاثة قوائم قديمة. يتشكل أحد هذه القوائم من الجذور الروحانية والباطنية والمفاهيمية للكيمياء، والتي بدأت بالثنائي المتقابل، والعناصر الأربعة، ثم تطورت إلى المواد الثلاث الأصلية (الزئبق والكبريت والملح) والتي انبثقت منها نظرية بيشر عن العنصر الذي يعطي خواص زيتية كبريتية وقابلة للاحتراق، أصبحت بدورها نظرية الفلوجستون لشتال. أما القائم الثاني، فيتشكل من الخبرة الكيميائية الطبية العملية، والتقنيات والأجهزة المستوحاة من عمليات الاستخلاص والتقطير التي كانت تجرى باستخدام أعضاء الحيوانات والنباتات التي كانت توفر الأدوية. وقد آل الحال بتلك الكيمياء القائمة على الحيوانات والنباتات إلى أن أصبحت الكيمياء العضوية والكيمياء الحيوية الحديثة التي نعرفها اليوم. أما القائم الثالث، فهو كيمياء المعادن التي انبثقت من التعدين وفنون المعادن القديمة. وبعيدا عن التقنيات المكتسبة والأجهزة المطورة، فقد كان ذلك الفرع من الكيمياء، كيمياء الفلزات والمعادن، هو أول فرع من الكيمياء يربط بين التجربة والنظرية الكيميائية على نحو فعلي، وقد تطورت هذه الكيمياء في النهاية لتصبح الكيمياء اللاعضوية.
يستعين جون ويبستر في كتابه «تاريخ المعادن»،
15
المنشور عام 1671، باقتباس من الكتاب المقدس يرجع كيمياء المعادن إلى عهد النبي موسى، الذي أشار فيه بدوره إلى «توبال قايين» (سفر التكوين، الإصحاح 4، الآية 22)، «ثامن بشري من نسل آدم»،
16
الذي ذكر الكتاب المقدس أنه كان يعمل في الحديد والنحاس. وفيما يلي الكيفية التي ربما اكتشف بها توبال قايين كيمياء المعادن:
17
عبر الغابات توبال ممسكا بقوسه
ومخلته، في مطاردة مجهدة
يجد جبلا يحترق، ومن فوهته التي تندلع منها ألسنة اللهب
يجري نهر من الحديد عبر السهل
يفكر الصياد الفطن، ويجد الخطى إلى هناك،
ومن التأمل مليا أمكنه الوصول.
وأدرك للمرة الأولى أن هذا المعدن الساخن المنساب
إذ تبرد حرارته، يمكن أن يتشكل في أي هيئة،
وتزداد حدته كثيرا، حتى إن على حافته المدببة
تنقسم أكثر المواد صلابة.
درس جورج باور (1449-1555)، الذي يدعى باللاتينية جورجيوس أجريكولا (كلمة باور في الألمانية، وأجريكولا في اللاتينية تعنينان «الفلاح») الطب، وربما حصل على شهادة الطب في إيطاليا، وفي عام 1526، عاد إلى ألمانيا، حيث استقر في منطقة تعدينية في بوهيميا.
18
وقد عمل أجريكولا طبيبا لعمال المناجم، ونما لديه اهتمام بالتعدين وكيمياء المعادن. ورغم أنه ألف عملا في قواعد اللغة اللاتينية، وأعمالا دينية، إلى جانب عمل طبي عن الطاعون، فإن أعماله عن كيمياء المعادن هي التي خلدت. ويظهر الشكل
2-11
صفحة العنوان لأول كتاب لأجريكولا عن كيمياء المعادن، «الطبيب جورجي أجريكولا، محاورات حول التعدين» الذي نشر في بازل عام 1530 بواسطة دار فروبن للنشر.
19 ،
20
كان كتاب «محاورات حول المعادن» هو أول كتاب عن علم المعادن ينشر في أوروبا، وهو نادر إلى حد بالغ.
21
أما الكتاب الذي كان أشمل فعليا عن كيمياء المعادن، فهو كتاب فانوتشو بيرينجوتشو «عن التقنية النارية» (فينيسيا، 1540)، وسنعود إليه عما قريب.
شكل 2-11: صفحة العنوان من كتاب أجريكولا الأول عن كيمياء المعادن؛ «المحاورات» الذي نشر عام 1530. وقد خلت مجموعة الكتب الشاملة عن التعدين وعلم المعادن التي كانت مملوكة للرئيس هربرت هوفر وزوجته لو هنري من هذا الكتاب البالغ الندرة (بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
شكل 2-12: مسح لإحداثيات منجم (هل كان ذلك في يوم صيفي قائظ؟) من أشهر كتب أجريكولا، «كتاب المعادن الثاني عشر» (1556) (بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي).
توفي أجريكولا بعد ربع قرن من نشر كتابه «المحاورات» عام 1530، وفي العام التالي نشر كتابه الأشهر «كتاب المعادن الثاني عشر»
22
في بازل. ورغم أن أجزاء كبيرة من الكتاب مقتبسة من عمل بيرينجوتشو ومن أطروحات أخرى معاصرة، فإن كتاب أجريكولا لخص حياة كاملة قضاها في التجارب والمشاهدات والتعلم. وقد بدأ كتابه بطرق مسح الجبال، والعروق المعدنية التي تحوي في باطنها المواد الخام، وتخطيط أماكن حفر فتحات المناجم. ويصور الشكل
2-12 ، وهو من «كتاب المعادن الثاني عشر»، استخدام شبه دائرة (منقلة) مثبتة بعناية لمسح المناجم وتخطيطها.
22 ،
23
كل ما يسع المرء أن يتصوره هو أنه كان لشركة التنقيب عن المعادن مديرون تقدميون يشجعون مساحيهم على عدم تقييد أنفسهم سواء على المستوى الفكري أو على مستوى ملابسهم. ويصور الشكل
2-13
آلة يجرها حصان لإخراج المياه من المناجم. وكانت الحجرة الجوفية تدعم بالألواح الخشبية للحيلولة دون سقوطها على عمال المنجم وموتهم. وكان مكبس الفراغ يحتوي على حقيبة جلدية محكمة الغلق في أسفله، كانت تدفع الهواء إلى الخارج في حركتها إلى أسفل وتسحب مياه التصريف في حركتها إلى أعلى.
شكل 2-13: جهاز يجره حصان لضخ الماء خارج المناجم (من «كتاب المعادن» 1556 لأجريكولا، بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي). كان أجريكولا يعتقد بوجود جن في المناجم تصدر انبعاثات (لا أعرف إن كان يقصد بذلك أول أكسيد الكربون) تقتل عمال المناجم.
شكل 2-14: عملية تقطير «الماء القوي»، وهو مصطلح عام استخدمه أجريكولا لوصف الأحماض القوية مثل ماء النار (حمض النيتريك)، والماء الملكي (وهو مزيج حمض الهيدروكلوريك وحمض النيتريك بنسبة 1:3)، مصورة في كتاب أجريكولا «كتاب المعادن» الصادر عام 1556 (بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي).
يوضح الشكل
2-14
معملا يحوي أجهزة تقطير لتركيب «الماء القوي» وتنقيته.
22 ،
23
والماء القوي هو مصطلح كان أجريكولا يطلقه على العوامل الحمضية القوية، بما في ذلك ماء الحياة (أكسيد النيتريك)، والماء الملكي (مزيج من حمض الهيدروكلوريك وحمض النيتريك بنسبة 1:3). (ويرتبط أصل لفظ
valens (بمعنى القوي) بالمصطلح الكيميائي الحديث (
valence ) الذي يشير إلى «القدرة على الاتحاد»، على سبيل المثال، اتحاد ذرة بذرة هيدروجين، أو بذرتي هيدروجين ... إلخ.) ويوضح الشكل
2-14
عملية تقطير عادية للماء القوي. وتتضمن عملية التقطير أمبولة (أو إنبيق تقطير،
K ) تحتوي على مزيج من النتر أو نترات البوتاسيوم (
KNO3 )، وحمض الكبريتيك، والماء، بالإضافة إلى بعض الألومنيوم (كبريتات الألومنيوم، وكبريتات البوتاسيوم)، وتوصل بالإنبيق
H . يسخن هذا الإنبيق بالفحم (المخزن في مخزن في باطن الأرض،
F ) في أتون
A ، ويلاحظ تصاعد أدخنة حمراء ويجمع حمض النيتريك السائل قطرة بقطرة. وتضاف كميات ضئيلة من الفضة عادة للحمض المقطر لترسيب كميات قليلة من الكلوريد الذي تقطر هو الآخر بسبب شوائب ملح البحر الموجودة في المواد الأولى.
يستخدم حمض النيتريك المنقى «لفصل» الذهب عن الفضة والمعادن الخسيسة الأخرى؛ لأن الذهب يفقد خواصه التفاعلية تحت هذه الظروف. أولا: يضاف الرصاص وتسخن السبيكة غير النقية في بوتقة من العظام إلى أن يذوب المعدنان الأقل تفاعلية - الذهب والفضة في هذه الحالة - فيما تتأكسد المعادن الخسيسة وتتحد مع البوتقة العظمية. بعد ذلك تخلط سبيكة الذهب والفضة بحمض النيتريك - فتذوب الفضة، ويترسب الذهب في القاع، ثم يرشح، ثم يغسل.
لا بد أن نضيف إلى هذه المعلومة العلمية المفيدة اعتقاد أجريكولا في وجود «جن» المناجم التي كانت انبعاثاتها ذات تأثير مميت على عمال المناجم.
18
وقد نشر أجريكولا كتابا في عام 1549 تضمن وصفا للسلمندر الذي لا يتأثر بالنار
18 (ربما كان يأخذ استعارة السلمندر، المبينة في الشكل
1-21 ، بجدية مبالغ فيها قليلا). ومع ذلك، أوضح ويبستر - الذي لم يكن يوما رءوفا في نقده - قيمة كتاب أجريكولا الشهير جيدا في عام 1671، أي بعد أكثر من قرن تقريبا من صدور «كتاب المعادن»:
24
أما عن دق المعادن الخام وطحنها وغربلتها وغسلها لإزالة ما علق بها من شوائب وعوالق من الأرض، فقد أفاض جورجيوس أجريكولا بإسهاب واستنارة أكثر مما فعل أي مؤلف آخر أعرفه. وأتمنى أن يكون هناك شخص يملك من القدرة والتفرغ ما يمكنه من ترجمة كتاب أجريكولا إلى الإنجليزية؛ فقد يحمل فائدة كبيرة لعمال مناجمنا، الذين لا يملكون من المعرفة ما يمكنهم الاسترشاد به، إلا ما يعرفونه بعضهم من بعض.
تحققت أمنية ويبستر أخيرا بعد ذلك بنحو 241 عاما على يد شخصين لهما من القدرة أعظمها ومن التفرغ أشحه هما: هربرت هوفر - الذي أصبح لاحقا رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية - وزوجته لو هنري هوفر، أول جيولوجية تتخرج في جامعة ستانفورد (انظر المقال التالي).
أما فانوتشو بيرينجوتشو (1480-1539)، فقد كان حظه من الشهرة أقل كثيرا من أجريكولا.
18
ومع ذلك، فإن كتابه «علم المعادن» (الذي نشر عام 1540 في فينيسيا)
25
كان أول كتاب شامل عن التعدين وعلم المعادن علاوة على فخامة الصور الواردة به.
18
وقد ظهرت أول ترجمة إنجليزية له بعد أكثر من أربعة قرون من نشره؛ أي في عام 1942، وهو الأمر المثير للدهشة!
26
كان بيرينجوتشو منخرطا للغاية في الشأن السياسي في عصره، وكان يتمتع بالمعرفة والخبرة العسكريتين، وكان يدير ترسانة البابا
18 (تماما مثلما أدار لافوازييه - من بعده بحوالي أكثر من القرنين - ترسانة لويس السادس عشر ). لم يكن بيرينجوتشو يؤمن بعملية التحويل، وكان من أوائل من لاحظوا زيادة وزن الرصاص لدى تكلسه:
27
يبدو لي تكلس الرصاص في الفرن العاكس أمرا رائعا ومهما، حتى إنني لا أستطيع أن أمر عليه مرور الكرام؛ إذ اكتشف في الواقع أن وزن جسم المعدن يزداد 8 أو ربما 10 بالمائة عما كان عليه قبل التكلس. وتتجلى غرابة هذا الأمر عند النظر إلى أن طبيعة النار هي التهام كل شيء مما يصاحبه تضاؤل في المادة، ولهذا السبب فإن المفترض أن تقل قيمة الوزن، لكننا اكتشفنا أن الوزن يزداد في الواقع.
وقد بتنا نعلم الآن أن أكسدة الرصاص لتكوين أكسيد الرصاص الثنائي (
) لا بد وأن تتضمن زيادة نسبية في وزن المعدن تقدر ب 7,7 بالمائة.
يصور الشكلان
2-15
و
2-16
المأخوذان من كتاب «التقنية النارية» المنشور عام 1540 خمسة أنواع مختلفة من بوتقات فصل المعادن الضخمة. في المعتاد نعتبر البوتقات أكوابا صغيرة مقولبة مصنوعة، على سبيل المثال، من العظام؛ حيث تسحق العظام المتكلسة وتطحن مع شراب الشعير حتى تصبح معجونا، ثم توضع في قالب، وتجفف، وتحرق.
27
يمكن تسخين الفضة الخام إلى درجات حرارة مرتفعة في هذه البوتقات، بحيث تتأكسد المعادن الأكثر تفاعلية، ويمتص جسد البوتقة تكلساتها فعليا، ثم تترك الفضة المنصهرة لتبرد وتشكل فضة صلبة خالصة. تلك البوتقات الضخمة المبينة في الشكلين
2-15
و
2-16
كانت مصنوعة من رماد الخشب، والقرميد المسحوق، والحجر الجيري، وزلال البيض، وكانت تستخدم في تنقية كميات ضخمة من الفضة.
28
ويوضح الشكل
2-15
في الصفحة اليسرى عاملا يصنع موقد بوتقة صهر ضخمة.
28
أما الصورتان العليا والسفلى في الصفحة اليمنى من الشكل
2-15 ، فتبينان بوتقتي صهر ضخمتين للأولى قبة قرميدية وللثانية غطاء حديدي على التوالي. أما في الشكل
2-16 ، فتظهر الصورة العليا في الصفحة اليسرى من الشكل موقد بوتقة مغطى بصحائف من الفخار، فيما توضح الصورة السفلى جذوعا خشبية تغطي فرن بوتقة صهر.
28
شكل 2-15: أفران البوتقة الضخمة المصورة في كتاب فينوتشو بيرينجوتشو «التقنية النارية» (1540). بوتقات هذه الأفران عبارة عن أكواب مصنوعة من عظام مسحوقة تطحن مع مشروب الشعير لتصبح معجونا ثم تشكل في قوالب وتجفف وتحرق. عند وضع المعادن في هذه البوتقات تمتص البوتقة تكلسات المعادن الخسيسة (مثل أكسيد الحديد) دون امتصاص الذهب المنصهر الذي يصبح قابلا للانفصال بسهولة (بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
شكل 2-16: مواقد أفران البوتقة الضخمة المصورة في كتاب بيرينجوتشو «التقنية النارية» (1540) (بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
شكل 2-17: معمل فاحص معادن في القرن السادس عشر من الطبعة الثانية من أطروحة لازاروس إركر حول التعدين وعلم المعادن (1580)، وقد حفظ قالب الطباعة الخشبي الذي استخدم في الطبعتين الأولى (1574) والثانية ليستخدم على مدار المائة والستين عاما التالية حتى الطبعة الأخيرة عام 1736 (بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
يعتبر كتاب أجريكولا «محاورات حول المعادن» وكتاب بيرينجوتشو «التقنية النارية» ضمن «مقدمات العلوم؛ وهي عبارة عن مائتي كتاب ونشرة تأريخية في مكتبة ديبنر، في معهد سميثسونيان.»
29
ثمة كتاب آخر عن التعدين وعلم المعادن ضمن هذه القائمة النادرة أيضا بعنوان «أطروحة في وصف أهم أنواع المعادن الخام والفلزات» (1574، براغ) لمؤلفه لازاروس إركر. والشكل
2-17
من صفحة العنوان من الطبعة الثانية من هذا الكتاب الجميل نصفية القطع.
30 ،
31
يصور هذا الشكل مجموعة كاملة من العمليات في معمل فاحص معادن في القرن السادس عشر. وقد صدر من هذا الكتاب الفاخر ثماني طبعات في مدينة فرانكفورت كانت أولاها في عام 1574 والأخيرة في عام 1736.
31 ،
32
وقد حفظت القوالب الخشبية الرائعة التي استخدمت في طباعة الرسومات في طبعة عام 1574 وأعيد استخدامها على مدار المائة والاثنين والستين عاما التالية التي صدرت إبانها الطبعات الثماني من الكتاب
31 ،
32 ، وقد صدرت طبعة هولندية منه في عام 1745.
من المثير للاهتمام أن أول كتابين من كتب التعدين وفحص المعادن وعلم المعادن الثلاثة العظيمة التي صدرت في القرن السادس عشر قد ترجمت إلى اللغة الإنجليزية بعد أربعة قرون تقريبا من تاريخ نشرها الأصلي، وهي: كتاب بيرينجوتشو «التقنية النارية» (فينيسيا، 1540؛ شيكاجو، 1942)، وكتاب أجريكولا «عن المعادن» (بازل، 1556؛ لندن، 1912)، إلا كتاب إركر «أطروحة في وصف أهم أنواع المعادن الخام والفلزات» (فرانكفورت، 1574)؛ فقد ترجمه سير جون بيتوس
33
بعد قرن واحد (لندن، 1683) من تاريخ نشر أول طبعة له في فرانكفورت. ويعتقد كل من أناليسا جرونهالت سيسكو، وسيريل ستانلي سميث أن السبب وراء الترجمة الإنجليزية المبكرة لكتاب إركر في القرن السابع عشر ربما يكون أن ذلك الكتاب كان الأحدث، من بين الكتب الثلاثة العظيمة؛ ومن ثم لا يزال محتواه ساريا. لعب بيتوس (1613-1690) دورا عسكريا بارزا في حرب إنجلترا الأهلية، وفي وقت ما وقع أسيرا في يد أوليفر كرومويل على مدار 14 شهرا. وبعد الاسترداد، خدم بيتوس كمفوض لاسترداد الأسرى لنائب الأميرال، وقد أصيب إصابة بالغة في ساقه خلال معركة بحرية مع الهولنديين.
33
شكل 2-18: تصوير لفاحص معادن في ترجمة بيتوس الصادرة عام 1683 لأطروحة إركر عن التعدين وعلم المعادن، والتي أضافت إلى الكتاب كذلك. يبدأ عنوان كتاب بيتوس بكلمة «فليت ماينور» في إشارة إلى «سجن فليت» الذي كان محتجزا فيه خلال تأليفه لهذا الكتاب؛ فقد زج ببيتوس إلى السجن «بناء على اتهامات وجهتها له امرأة عديمة الضمير» تصادف أن تكون زوجته (بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي).
من الجوانب المثيرة للاهتمام في ترجمة بيتوس لإركر «فليتا ماينور»، أو (قوانين الفن والطبيعة، في معرفة أجسام المعادن الصغيرة، وتحديدها، وفحصها، وتصفيتها، وتنقيتها، وتكبير حجمها) هو إبدال رسوم إركر المطبوعة بالقوالب الخشبية التي تعود إلى القرن السادس عشر برسوم لأشخاص إنجليز يرتدون أزياء تنتمي إلى نهايات القرن السابع عشر منحوتة على صفائح نحاسية. ويصور الشكل
2-18
المأخوذ من ذلك الكتاب فاحص معادن إنجليزيا معاصرا. وتتضمن الأشكال من
2-18
إلى
2-22
شروحا جزئية مصاحبة للصور النحاسية. فيصف الشكل
2-19
عملية صنع البوتقات المصنوعة من معجون العظام المسحوقة وقولبتها. ويمثل الشكل
2-20
مشهدا في معمل لفحص الذهب؛ الوعاء مخروطي الشكل على يمين الصورة هو قنينة فصل، لفحص الذهب، موضوعة على حاملها. والقطعة الخشبية المعلقة إلى يمين الفاحص في خلفية هذا الشكل تحتوي على شق لرؤية الفرن من خلاله مع حماية عينك من الحرارة. وأما الشخص المتصدر الصورة، فإنه يختبر كثافة الفضة «المحتوية على الذهب» في الماء. ويدل «ماء النار» المشار إليه في الشكل
2-21
على حمض النيتريك. ويصور الشكل
2-22
صهر البزموت في الهواء الطلق. من الممتع أن تقارن الأشكال
2-19 ، و
2-21 ، و
2-22
بنظيرتها الواردة في الكتاب الألماني الصادر في القرن السادس عشر.
32
شكل 2-19: تصنيع بوتقات صهر المعادن (باستخدام العظام المسحوقة وطحنها بمشروب الشعير لتكون معجونا) من كتاب بيتوس (1683) «فليتا ماينور» (بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي).
شكل 2-20: فحص خام الذهب كما صوره كتاب بيتوس (1683) «فليتا ماينور» (بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي).
استوحي عنوان كتاب بيتوس المثير للانتباه هذا، «فليتا ماينور»، من آخر سنوات حياته التي قضاها في سجن فليت، حيث ألف عمله. يخبر بيتوس قراءه قائلا: «يبدو من عجائب القدر أن إنسانا قدم كثيرا لمليكه ووطنه يقاسي بسبب اتهامات وجهتها له امرأة معدومة الضمير، تصادف أن تكون زوجته، ليقضي آخر سنوات حياته متفجرة النشاط التي أفناها في إفادة البشرية حبيسا في سجن فليت.»
33
شكل 2-21: تقطير ماء النار (حمض النيتريك) في كتاب بيتوس (1683) «فليتا ماينور». قارن هذا الشكل بنفس الصورة الملونة الواردة في طبعة عام 1736 (الطبعة الأصلية من الكتاب التي صدرت عام 1574، انظر كتاب إيه جرينبرج، «جولة عبر تاريخ الكيمياء»، وايلي، نيويورك، 2000، ص16)، وستلاحظ أن ملابس الأشخاص المصورين في الأشكال قد حدثت لتواكب ملابس القرن السابع عشر، فيما ظلت الأدوات المستخدمة كما هي؛ فالأزياء تسبق التكنولوجيا إلى التغيير (بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي).
شكل 2-22: صهر خام البزموت في الهواء الطلق كما صوره كتاب بيتوس «فليت ماينور» 1683 (بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي). (3) الرئيس الواعد
نشرت أول ترجمة إنجليزية لكتاب أجريكولا (1556) «محاورات حول المعادن»
34 (الشكل
2-23 ) في عام 1912، وكان من ترجمة هربرت سي هوفر (1874-1964)
35 - الذي تولى لاحقا رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية - وزوجته لو هنري هوفر. من الصعب تخيل رئيس مستقبلي واعد أكثر من هوفر. ولد هوفر في الجزء الريفي من ولاية آيوا لأبوين من جماعة الكويكرز كانت ظروفهما المعيشية بالغة التواضع. وعند بلوغ هوفر التاسعة، كان والداه قد توفيا؛ فنمت لديه روح الاستقلال في وقت مبكر جدا - رغم حيائه - ورفض جميع اقتراحات أقاربه له بالالتحاق بإحدى كليات الكويكرز، واختار الالتحاق بجامعة حديثة تماما، هي جامعة ستانفورد. تخصص هوفر في الجيولوجيا، والتقى لو هنري، الفتاة الوحيدة في قسم الجيولوجيا في جامعة ستانفورد. وتزوجا في عام 1899، وظلت السعادة ترفرف على زواجهما حتى وفاتها عام 1944. كانت امرأة ذكية، مستقلة، وقوية، ونشأت فتاة بطبائع وسمات الرجال، وبرعت في ركوب الخيل؛ لتصبح لاحقا مناصرة قوية لحق التصويت للنساء.
35
ما لبث هربرت هوفر بعد تخرجه من جامعة ستانفورد عام 1895 أن بدأ مسيرته المهنية بالعمل في هندسة التعدين وإدارة المناجم مما جعله ثريا، وربما أشهر مهندس في العالم بعد فترة وجيزة. وفي العقود التالية كان مسافرا خارج البلاد معظم الوقت، وكان في الصين إبان ثورة الملاكمين (التي اندلعت عام 1900)، حيث وجه مساعدات إلى الأجانب.
35
شكل 2-23: صفحة العنوان من أول ترجمة إنجليزية صدرت لكتاب أجريكولا (1556) «عن المعادن»، والتي كتبها وراجع دقتها العلمية المهندس هربرت هوفر، الذي تولى لاحقا رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، بالمشاركة مع زوجته لو هنري هوفر؛ أول فتاة تتخرج في قسم الجيولوجيا من جامعة ستانفورد (بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي).
جمع الزوجان هوفر مجموعة ضخمة وشهيرة من كتب التعدين، وفي خضم كتابة ترجمتهما، كانا يجريان تجارب من حين إلى آخر لاختبار صحة كلام أجريكولا.
36
لم يكن التحدي الذي انطوت عليه ترجمة الزوجين هوفر لكتاب أجريكولا يقتصر على إتقان اللغة اللاتينية فحسب، وإنما كذلك ضرورة الفهم العميق للكيمياء والهندسة، وهو ما أتاح لهما استخدام مئات المصطلحات والمفاهيم التي باتت في ذلك الحين عتيقة، وإكسابها معنى يفهمه القارئ الحديث. ولم تمض سنوات كثيرة بعد ذلك الانتصار الفكري، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، حتى عين وعين هربرت هوفر رئيسا لإدارة إغاثة الحلفاء. وبعد دخول أمريكا الحرب في عام 1917، عين مديرا لإدارة الغذاء القومي. وقد نجحت جهود هوفر في زيادة الإنتاج الغذائي، وحفظ المخزون الغذائي، وتخفيف المجاعة في أوروبا؛ نجاحا ساحقا، حتى إن مصطلح
hooverize
37
دخل المرادفات الإنجليزية كتعبير يرمز إلى غزارة المخزون الغذائي والتعامل الاقتصادي والسخي معه، وبات فيما بعد بوجه أعم مصطلحا يعبر عن الكفاءة، والفاعلية، والعطف.
لكم من الغرابة إذن ألا يذكر التاريخ هربرت كلارك هوفر - الرئيس الحادي والثلاثين للولايات المتحدة الأمريكية (1928-1932) - الآن إلا بفشله في التخفيف من عسرات الكساد العظيم. كانت القيم الأخلاقية الشديدة الصرامة التي غرست فيه منذ نعومة أظافره، والتي عززها اعتماده على نفسه في مرحلة مبكرة جدا من حياته (ونجاحه اللاحق)، هو ما جعل المساعدات الفيدرالية المنتشرة على نطاق واسع، وخاصة للعاطلين عن العمل من أهل الحضر، أمرا كريها بالنسبة إليه.
35
لذا كانت قاعدة عريضة من الناس تعتبره منفصلا عن معاناة الشعب.
35
وهكذا باتت كلمة «هوفرفيل»
37 (
Hooverville )، وهي بلدة جميع مبانيها من الأكواخ يقطنها الفقراء العاطلون عن العمل، للأسف كلمة أحدث وأكثر حضورا في الأذهان من كلمة
hooverize . (4) بعض مما في جعبتنا من البغائض
لا يوجد خلاف - عموما - على أن البارود (أو المسحوق الأسود) قد اخترع في الصين منذ أكثر من 1000 سنة.
38
إنه مزيج يتكون من 75 بالمائة نترات بوتاسيوم، بينما تحتوي الخمسة والعشرون بالمائة المتبقية منها على كميات متماثلة من الفحم والكبريت. كان الحصول على نترات البوتاسيوم متاحا بسهولة عن طريق أكوام الروث القديمة؛ أما الفحم فكان يعد بسهولة من خلال تسخين النباتات أو الخشب في ظروف ينقص فيها الأكسجين (
O2 ) ؛ أما الكبريت، فكان يوجد في الترسبات البلورية، ويمكن كذلك الحصول عليه من خلال تسخين كثير من المعادن الخام. لكن ويليام بروك يعتقد أن الصينيين قد اكتشفوا البارود بالصدفة من خلال السعي للحصول على إكسير للحياة - وهي مفارقة في رأيي الشخصي - وذلك بمزج «نترات البوتاسيوم الزاخرة بطاقة الين الأنثوية بالكبريت الزاخر بطاقة اليانغ الذكورية».
38
ثمة مفارقة أخرى فيما يتعلق بهذا الأمر، وهي أن البارود كان يحمل مفاتيح فهم نشأة النار والتنفس الذي يمثل دعامة الحياة. ومع ذلك ظلت هذه المفاتيح خفية لما يقرب من الألف عام. وجاءت باكورة الإشارات من بويل وهوك ومايور في أواسط القرن السابع عشر إلى أن حل لافوازييه اللغز برمته بعد ذلك بأكثر من قرن.
أدخل البارود في وقت مبكر جدا إلى ساحات الحروب الغربية. الشكل
2-24
من الطبعة الأولى لستينر من كتاب فلافيوس فيجيتيوس ريناتوس القديم عن تكنولوجيا الحرب.
39
تضم هذه الطبعة البالغة القدم، والتي نشرت في عام 1529، أول نص مطبوع عن صناعة البارود، بالإضافة إلى إرشادات بشأن تنقية مكوناته.
40
أما الشكل
2-25
فهو من الكتاب الصادر عام 1598 حول العمل على المدفعية والمفرقعات بقلم ألساندرو كابو بيانكو؛
41
قائد جنود المدفعية في مدينة كريما في إقليم فينيتو. يصور الشكل طاحونة تعود إلى القرن السابع عشر لطحن مكونات البارود.
40
في الكتاب العاشر من مجلد «التقنية النارية» (1540)،
41
يقدم بيرينجوتشو إرشادات تفصيلية لصناعة البارود. يمكن الحصول على نترات البوتاسيوم من تربة الحظائر «الغنية بالسماد»، ومن أرضيات وجدران الكهوف (الغنية بفضلات الخفافيش وبقاياها العضوية)، والتي تحتوي على نترات الكالسيوم الذي ينتج عن التحلل. عند تذوق التربة الغنية بالسماد العضوي - بمجرد جفافها - إذا وجد أنها «لاذعة بالقدر الكافي»، فإنها تكون صالحة للاستخدام.
42
تضاف هذه التربة إلى الماء المغلي، ورماد الخشب (الغني بكربونات البوتاسيوم) وتقلب المكونات معا. بعد ذلك، يصفى المحلول الساخن ويترك ليبرد، ثم تصفى نترات البوتاسيوم المتبلورة الناتجة عن هذه العملية وتبلور مرة أخرى بالماء وقليل من حمض النيتريك.
42
تفضل صناعة الفحم من أغصان الصفصاف بتسخينها على النار في وعاء خزفي ضخم مغطى بإحكام. يجب أن ترطب مكونات البارود قبل طحنها معا؛ لتجنب الاشتعال، وينصح بيرينجوتشو بإضافة الكبريت المطحون جيدا ببطء إلى معجون رطب من الفحم ونترات البوتاسيوم.
42
يبدأ بيرينجوتشو الفصل الذي خصصه للبارود على النحو التالي:
42
ثمة تأمل عظيم وفريد حول ما إذا كان اكتشاف تركيب المسحوق المستخدم في الأسلحة قد خطر لمخترعه الأول من وحي الشياطين أم عن طريق الصدفة.
شكل 2-24: شكل من الطبعة الأولى لستينر (أوجسبرج، 1529) لعمل فلافيوس فيجيتيوس ريناتوس القديم عن تكنولوجيا الحرب (بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
شكل 2-25: طاحونة لطحن مكونات البارود (الذي يتكون تقريبا من 75 بالمائة من نترات البوتاسيوم، والباقي مقادير متساوية من الفحم والكبريت) كما صورها كتاب بيانكو 1598 عن المدفعية والمفرقعات (بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
ويأسف بيرينجوتشو في كثير من المواضع من كتابه العاشر للمفارقة الكامنة في قيام الرجال المتعلمين والمحترمين باكتشاف واختراع المتفجرات التي تشوه وتقتل، ثم راح يصف بدافع من الالتزام والواجب كيفية تصنيع المتفجرات بالتفصيل الدقيق. على سبيل المثال، كان عنوان الفصل الثامن من الكتاب العاشر هو: «طريقة إعداد أوعية النار وصناعة كرات ذات تركيبة حارقة تلقى باليد». ويبدأ بيرينجوتشو هذا الفصل (في طبعة عام 1559) على النحو التالي:
43
لطالما كان في هذا العالم رجال بلغوا من الذكاء مبلغا، حتى إنهم تمكنوا بفكرهم من التوصل إلى ابتكارات مختلفة لا تعد ولا تحصى، تحقق من الفائدة قدر ما تلحقه بجسد الإنسان من ضرر فوري.
بعد ذلك يصف الأوعية المصنوعة من الطين المجفف والمملوءة بالبارود الحبيبي الملمس، والقار، والكبريت والمغطاة بدهن الخنازير المتخثر المخلوط بمسحوق (انظر الشكل
2-26 ).
44
قبل استخدام الوعاء، يثقب ثقب صغير في الغطاء الدهني ثم يوضع فتيل أو مسحوق بارود في الداخل. يشعل الفتيل أو المسحوق، ثم يلقى بالوعاء يدويا، أو يطلق بمقلاع، وهنا ستلتصق تلك الكتلة النفاذة اللزجة بهدفها وتحرقه.
كان من أوائل المتفجرات والأسلحة الحارقة في التاريخ «النار الإغريقية» التي تعود إلى الحقبة الهلنستية. يصف المؤرخ الكيميائي جون هدسون «النار الإغريقية» بأنها سائل يشتعل عند ملامسته للماء، ويفترض هدسون أن المكونات النشطة لذلك السائل ربما تألفت من فوسفيد الكالسيوم (الذي يتم الحصول عليه من تسخين العظام والجير والبول معا)، المضاف إلى البترول الخام.
45
وقد وصف ليوناردو دافنشي (1452-1519) «النار الإغريقية» بأنها تتكون من الفحم، والكبريت، والقار، ونترات البوتاسيوم، وروح الخمر، واللبان الذكر، وزيت الكافور، حيث تغلى هذه المكونات معا وتوضع على صوف إثيوبي.
46
وصف الذهب المتفجر لأول مرة في بداية القرن السابع عشر.
47
كان الذهب يذاب في ماء ملكي مأخوذ من كلوريد الأمونيوم (
NH4Cl ) وحمض النيتريك، ثم تضاف كربونات البوتاسيوم إلى هذا المركب، مما يؤدي إلى تكوين راسب يمكن عند تجفيفه أن ينفجر بسهولة مع تعريضه إلى أقل حرارة. وقد تحدث يوهان رودولف جلاوبر عن المسحوق المتفجر لأول مرة في عام 1648.
47
إنه خليط من نترات البوتاسيوم، وكربونات البوتاسيوم، والكبريت الذي ينفجر بقوة مع تسخينه قليلا. كذلك تناول تيني ديفيس بالوصف خلطات مشابهة متنوعة اكتشفت على مدار قرنين من الزمان.
47
في نهايات القرن السابع عشر، صنع يوهان كونكل فلمينات الزئبق بإذابة الزئبق في ماء النار (حمض النيتريك)، ثم إضافة روح الخمر وتدفئة الخليط تدفئة خفيفة في روث حصان.
48
وفي اليوم التالي، انفجر الخليط انفجارا عنيفا.
شهد القرن التاسع عشر ابتكار نترات النشا، والنتروسيليلوز، والنتروجليسرين، والتراي نيترو تولوين (
TNT )، ورباعي نترات خماسي إريثريتول (
)، ليتوج كل ذلك باكتشاف مادة
RDX (ثلاثي نيترامين ثلاثي الميثلين الحلقي).
49
كذلك أضافت الدراسات الخاصة بالأزيدات والبيكرات الاصطناعية إلى معدات تكنولوجيا الحرب. ثمة منظور حديث يرى أن هذه التطورات في الأسلحة الحربية يبدو أنها كانت بمثابة نذير بالحرب العالمية الأولى؛ ففي عام 1867، خلط الكيميائي ورجل الصناعة السويدي ألفريد نوبل (1833-1896)، النتروجليسرين بالتراب الدياتومي، مما جعل استخدامه أكثر أمانا، وكانت التركيبة الأولى من بين كثير من تركيبات الديناميت الناجحة.
49
وكما حال الأمل دائما، يتجلى في خضم المآسي، أوصى نوبل بالجانب الأعظم من ثروته الهائلة لتأسيس سلسلة من جوائز نوبل - إحداها جائزة لدعم قضية السلام العالمي.
شكل 2-26: ذخائر بغيضة مصنوعة من أواني الفخار المملوءة بالبارود الحبيبي الملمس، والقار، والكبريت، ومغطاة تماما بدهن خنزير متخثر مخلوط بمسحوق كما صورها كتاب بيرينجوتشو «التقنية النارية»؛ صنعت هذه المتفجرات بحيث تشعل فيها النار وتلقى بشراسة باستخدام مقلاع (بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
هوامش
الجزء الثالث
الأدوية والمطهرات والمراهم
(1) بهجة الكتب ذات قطع الستة عشر
إن التباهي فرحا بشراء كتاب ذي نص «وقور» كمثل الذي بين يديك لضرب من الترف، والأنانية، وعدم اللياقة، بل الوقاحة. ومع ذلك، ما من إنكار لأن هذا النص مميز على نحو غير مألوف، وحماقة المبالغة في الترف ليست مستبعدة عليه. إن من بين أعظم متع جمع الكتب «صيد الكتب النادرة». وجامع الكتب المخلص سيكون باستمرار متيقظا للفريسة ومستعدا للانقضاض عليها والتهامها في أي لحظة مناسبة. يعرض الشكل
3-1
صفحة العنوان من الطبعة الأولى الحقيقية البالغة الندرة من النص المهم الذي يعود إلى القرن السابع عشر الذي ألفه نيكولاس لوفيفر (والمترجم في الطبعات الإنجليزية إلى نيكاسيوس لو فبور.) نشرت الطبعة الفرنسية الأصلية في باريس في عام 1660، لكن المصادر الخبيرة المعتادة لا تتحدث إلا عن طبعة إنجليزية أولى صدرت عام 1664 وطبعة ثانية صدرت عام 1670.
1 ،
2 ،
3
وبينما يدرج المتحف البريطاني
4
نسخة من طبعة عام 1662
5 (التي تشكل فعليا النصف الأول من الطبعات اللاحقة)، يبدو أن هذه الطبعة شبه مجهولة. لقد اشتريت نسختي من موقع مزادات الذائع الصيت على شبكة الإنترنت، وقد تأخرت عن موعد نومي المعتاد ثلاث ساعات للفوز بهذا الكتاب. صدرت الطبعات الإنجليزية في كتب من قطع الأربعة، بمعنى أن كل ورقة طباعة أصلية قد طويت مرتين لتنتج أربع صفحات. أما الكتب من قطع الثمانية - وهو القطع الحديث الأشيع للكتب - فيتطلب طوي ورقة الطباعة العادية ثلاث مرات، لتخرج ثماني صفحات، في حين تنتج ورقة الطباعة الأصلية في حالة قطع الستة عشر ست عشرة صفحة.
6
شكل 3-1: صفحة العنوان من الطبعة الإنجليزية البالغة الندرة الصادرة عام 1662 من كتاب لوفيفر الشهير، والتي يشاع أنها نشرت لأول مرة في عام 1664. مثل هذه الاكتشافات لا تقدر بثمن بالنسبة إلى جامعي الكتب النادرة الذين يقتلون عائلاتهم وأقاربهم وأصدقاءهم البؤساء مللا من رواياتهم التفصيلية عن رحلاتهم الناجحة لصيد الكتب.
ألقى لوفيفر عدة محاضرات عامة قيمة عن الكيمياء في القرن السابع عشر في فرنسا، وعين محاضرا للكيمياء في الحديقة الملكية في عام 1650.
3
كان منتصف القرن السابع عشر فترة أزمات في كل أنحاء أوروبا؛ حيث شاع ضعف المحاصيل، والمجاعات، وانتشر الفقر المدقع، وراحت رحى الحروب تدور بين الفينة والأخرى، وانقسمت الولاءات وتحولت بين النبلاء والملوك، كل ذلك على خلفية الصراع السائد بين الكاثوليكيين والبروتستانت.
استفحل نفوذ حركة الإصلاح البروتستانتي في فرنسا في القرن السادس عشر، وبرز ذلك واضحا عبر الحروب الدينية التي اندلعت في النصف الآخر من القرن نفسه. ولد أحد الآباء المؤسسين للفكر البروتستانتي، وهو جون كالفين، في فرنسا (عام 1509) واعتنق البروتستانتية وهاجر في عام 1534 إلى جنيف، حيث أسس كنيسة نموذجية وكتب عدة نصوص مقدسة مؤثرة . كان الملك الكاثوليكي هنري الثاني (1547-1559) يحكم بالحديد والنار، وقد كان لذلك أثر في صعود البروتستانتيين الأكثر صرامة، مثل الكالفينيين أو الهوجونت الفرنسيين. لكن الأمر الغريب أن الوصية على العرش كاترين دي ميديتشي - الملكة والدة تشارلز التاسع - حاولت أن تسلك نهجا أكثر اعتدالا، مما أثار ردود أفعال عنيفة من الكاثوليكيين أصحاب النفوذ، وردود أفعال مضادة من الهوجونت. وهكذا باتت فرنسا تواجه خطر الانقسام خلال النصف الأخير من القرن السادس عشر؛ فوقع الملك القوي هنري الرابع مرسوم نانت عام 1598، والذي كفل الحرية الدينية للهوجونت في أجزاء محددة من فرنسا، وأعطى لهم الحق في بناء القلاع (تحسبا).
خلال النصف الأول من القرن السابع عشر، وتحديدا في أوائل عهد الملك لويس الثالث عشر (1610-1643)، كانت المخاطر المهددة للاستقرار مستمرة. في أوائل هذا العهد، التفتت أنظار البيت الحاكم إلى إحدى الشخصيات العظيمة في التاريخ الفرنسي، وهو الكاردينال ريشيليو، وبحلول العام 1624، كان ريشيليو كبير وزراء الملك. كرس ريشيليو القوي نفسه لترسيخ السلطة الملكية والدينية. وقد توفي في عام 1642، وتوفي الملك لويس الثالث عشر في عام 1643. لم يكن لويس الرابع عشر (الملقب ب «الملك الشمس») قد أتم عامه الخامس عندما اعتلى العرش، وفي فترة وجيزة أصبح قائد كاثوليكي آخر بالغ التأثير، وهو الكاردينال مازارين، صاحب السلطة المطلقة في فرنسا. وفي عام 1648، اندلعت سلسلة من حركات التمرد، وقضي عليها جميعا بحلول عام 1653. ومع ازدياد حدة التعصب، انتقل لوفيفر إلى لندن في عام 1660. وهاجر آخرون - من ضمنهم الجراح مويس شاراس - كذلك خلال هذه الفترة. كان لويس الرابع عشر «يرى نفسه نائبا للرب على الأرض واعتبر كل أعمال العصيان والتمرد آثمة.»
7
وقد أعلن نفسه ملكا صاحب سلطة مطلقة في العام 1661، وفي عام 1685، ألغى مرسوم نانت، مما سبب تفككا كبيرا ومآسي عظيمة. أسس لويس الرابع عشر في حياته مبدأ عظمة فرنسا التي ربما يكون قصر فرساي الذي بناه هو أفضل ما يرمز إليها، وقد قدرت تكلفة بناء ذلك القصر بما يعادل تكلفة بناء مطار محلي حديث.
7
ولربما كان أسلوبه المسرف وخيلاؤه إنذارا بسقوط الملكية الفرنسية. مات الملك لويس في عام 1715، وحمل جثمانه في موكب أثار سخرية العامة.
7
دخل لوفيفر إنجلترا في عام 1660 مع بداية عصر استرداد الملكية الإنجليزية. كانت حمية البروتستانت الدينية قد أطاحت بالملكية الإنجليزية التي كانت متمثلة آنذاك في شخص الملك تشارلز الأول عام 1649. وكان ذلك ذروة الصراع الديني الذي بدأ مع انشقاق الملك هنري الثامن بكنيسة إنجلترا عن روما في عام 1534. وازدادت قوة البروتستانتية في ظل حكم الملك إدوارد السادس؛ إلا أنه في عهد الملكة ماري (1553-1558)، صعد الكاثوليك إلى سدة الحكم، وقتل كثير من البروتستانت وفر آخرون، بعضهم إلى جنيف حيث تأثروا بأفكار كالفين. لكن تتويج الملكة إليزابيث الأولى في عام 1558 أعاد السلطة إلى البروتستانت مرة أخرى، لكن تعاملها المعتدل أحبط الطوائف الأكثر تطرفا، والذي أطلق على البعض منهم «البيوريتانيون» أو التطهيريون. سعى البيوريتانيون إلى «تطهير» البروتستانتية من آخر آثار الكاثوليكية، ومارسوا ضغوطا متزايدة على حكام إنجلترا. هاجر بعض هذه الجماعات البيوريتانية إلى أمريكا، حيث أسسوا مجتمعات في فيرجينيا ونيو إنجلاند. زادت الضغوط خلال عهد تشارلز الأول (1625-1649) وبلغت منتهاها في انقلاب عسكري أطاح بالملكية وسلم زمام الأمور إلى القائد العسكري أوليفر كرومويل. وقد وقعت أحداث الاضطهاد العظيم نحو نهاية هذه الحقبة التي طالت لعقد من الزمان، وساعد البيوريتانيون المعتدلون أخيرا في استعادة الملكية، واعتلى تشارلز الثاني عرش إنجلترا.
بدءا من حوالي عام 1645، بدأ علماء من لندن وأكسفورد وكليات أخرى في عقد لقاءات فيما عرف ب «الكلية الخفية». تطور هذا التنظيم المفكك إلى الجمعية الملكية في لندن لتحسين المعرفة الطبيعية، والتي تأسست في عام 1660 وأصدر لها الملك تشارلز الثاني ميثاق تأسيس عام 1662. ليس واضحا مدى حماس الملك تجاه جمعيته الملكية تلك، لكن هذه الجمعية أبقت البيوريتانيين الذين هيمنوا على الجامعات وكلياتها مشغولين. وفي عام 1663، أصبح لوفيفر أحد الأعضاء الأوائل في الجمعية الملكية.
3
وباتت إنجلترا منارة لرجال العلم.
من الممتع أن تقرأ مقدمة لوفيفر التي يستعرض فيها قدم المعرفة الكيميائية، على الرغم من أن المقدمة نفسها تتناول موضوعات دينية:
8
إذن من المعروف لنا أن موسى أخذ العجل الذهبي، الذي كان يعبده بنو إسرائيل، وحرقه حتى فتته إلى مسحوق، وجعل من عبدوه يشربون هذا المسحوق تأنيبا وعقابا لهم على خطيئتهم. لكن ما من أحد عمل في أسرار هذا الفن، مهما قل شأنه، يمكن أن يمكن أن يجهل أن الذهب لا يمكن أن يتحول إلى مسحوق بالتكلس (الحرق)، إلا إذا حدث ذلك بغمره في الماء الملكي، أو بخلطه مع الزئبق أو إسقاطه، وكل عملية من هذه العمليات الثلاث ليست معروفة إلا لهؤلاء المتمرسين تماما في الجانبين العملي والنظري من الكيمياء.
فهل كلس موسى العجل الذهبي فعلا؟ يبدو ثابتا بما يتجاوز الشك المعقول أن المياه الملكية لم تكن معروفة في القرن الثالث عشر قبل الميلاد. ولم تنتشر عمليات الإسقاط الخيميائية إلا بعد ألفية أخرى تقريبا من ذلك الوقت على الأقل. كان التملغم احتمالية كيميائية واردة، لكننا نفترض أن موسى أراد عقاب قومه، لا تسميمهم. كذلك ثمة إلماح إلى احتمالية أن يكون العجل صنع من الرخام (الحجر الجيري).
9
ومن ثم، كان شراب من مسحوق العجل ليصبح علاجا ممتازا للبطون المضطربة بعد احتفال تلذذي ممتد (انظر «في الجير حقيقة» [الجزء الرابع: علم وليد، القسم التاسع]). (2) الصيدلاني المحنك
كان كتاب لوفيفر «الدليل الشامل في الكيمياء» (انظر المقال السابق) بارزا؛ نظرا لوضوحه فيما يتعلق بصناعة المعدات وتنفيذ العمليات الكيميائية. في الشكل
3-2 (
a )، نرى فرن فلاسفة أو تنورا «بالغ الفخامة» بكل ملحقاته. من الواضح أن تشارلز الثاني قد قدم دعمه الملكي إلى «أستاذه الملكي في الكيمياء» والذي كان «يمتهن الصيدلة» أمام العائلة المالكة.
10 (يمكنني تخيل المفاوضات للحصول على «أموال للبدء»، ونفقات الانتقال لإحضار هذا الأستاذ الشاب من باريس. هل كان التعيين الفوري في الوظيفة جزءا من الاتفاق؟ هل كانت هيئة التدريس مشاركة في الأمر، أم أن التعيين تم بمرسوم ملكي؟)
شكل 3-2: أجهزة تقطير متعددة الأغراض كما صورها كتاب «الدليل الشامل في الكيمياء» للوفيفر (1662).
كانت الحرارة المنبعثة من التنور يتم توصيلها حسب الحاجة إلى حمام الماء الساخن الملحق به على اليمين وكذلك إلى حمام الرمال الملحق به على اليسار في الشكل
3-2 (
a ). وكان لكل من حمام الماء الساخن وحمام الشمس أفرانهما الخاصة لإجراء العمليات المتخصصة. وكان التنور نفسه يستخدم بوجه عام لإجراء العمليات التي يستخدم فيها وعاء محكم الغلق أو بيضة الفيلسوف.
أما الشكل
3-2 (
b )، فيصور جهازا لتقطير الكحول، والأرواح (الزيوت) الطيارة الأخرى. ينزل ذلك الأنبوب الطويل المستقيم «الدودة»
h
من القارورة الشبيهة بالمخ
c
من خلال برميل مملوء بالماء البارد لتكثيف المحلول المقطر. وعند إضافة الماء، كمادة مذيبة للأعشاب، أو الأزهار، أو أعضاء الحيوانات المسحوقة، تتشكل مادة زيتية، أحيانا ما تقطر بالبخار، لتشكيل طبقة تعلو سطح الماء المتجمع في وعاء الاستقبال
i . كان الزيت يجمع بالخاصية الشعرية من خلال غمس قطعة من القطن في طبقة الزيت وتركها لتصرف ما بها من زيت في القنينة الزجاجية الصغيرة 5.
أما الفرن ذو المصباح (المصور في الشكل
3-3 (
a )) «الذي يستخدمه الفنانون محبو الاستطلاع في إجراء كثير من العمليات الكيميائية»، فكان يصنع من الطمي، ومصمم بحيث يتحكم بدقة في درجات الحرارة الأكثر انخفاضا. وكان التحكم يحدث عن طريق المقبض الملحق بالمصباح
b ، بالإضافة إلى عدد الفتائل المحترقة في الوقت نفسه في المصباح. أما الجانب الأروع في هذا الشكل فهو الأداة
n ؛ فهو «مقياس الضغط الجوي، أو ميزان الحرارة، أو المحرك الذي يستخدم لقياس شدة الحرارة أو درجاتها.» كانت فكرة قياس الحرارة لا تزال في مهدها في ذلك الوقت؛ إذ لم تكن طبيعة الحرارة مفهومة. وقد أوضح بويل أن تيار الهواء يكون أكثر برودة من الهواء الساكن؛ لأنه «يسحب «التيارات الدافئة من الجسم»، التي تحمي الجلد بطبيعة الحال من البرودة المحيطة.» ويبدو كذلك أنه يخترق مسام الجسم أكثر من الهواء الساكن.
11
كان ميزان الحرارة الخاص بلوفيفر يحتوي على بعض الماء في البصيلة السفلى (على اليمين)، وشريط من الماء المصبوغ في الحلقة السفلى، وثقب في البصيلة العليا. كانت البصيلة السفلى تركب داخل الجزء المخصص لها لتستشعر، فتنتقل حرارة الماء في البصيلة إلى الهواء الذي يحرك عمود الماء المصبوغ. وكان الغرض من ذلك هو تحسين تناتجية أو إمكانية تكرار العمليات الكيميائية. وبعد نحو 60 عاما من ذلك، جعل هيرمان بورهافا ميزان الحرارة جزءا لا غنى عنه في العمليات الكيميائية.
11 ،
12
وكان فرن التسامي (المبين في الشكل
3-3 (
b )) يحتوي على عدد من أوعية التكثيف التي تبرد بفعل الهواء المحيط؛ وعلى هذا النحو تجمع المواد الكيميائية المتسامية الأقل تطايرا جميعا في الوعاء
f ، والمواد المتسامية الأكثر تطايرا في الوعاء
k .
شكل 3-3: كان يستعان بترمومتر بدائي (
n ) في الفرن ذي المصباح في يسار الصورة لزيادة إنتاجية العمليات الكيميائية التي يستخدم فيها. وفي الصورة اليمنى، كانت المواد المتسامية التي يتم الحصول عليها في الوعاء تتكثف من خلال التبريد الهوائي (من كتاب لوفيفر «الدليل الشامل في الكيمياء»).
شكل 3-4: على يسار الصورة، فرن الرياح المستخدم للحصول على أنقى صورة من معادن مختلفة؛ أما الإنبيق في الصورة اليمنى، فيستعين بالماء البارد وليس الهواء لتكثيف «الأرواح» المقطرة (من كتاب لوفيفر «الدليل الشامل في الكيمياء»).
كان فرن الرياح (الموضح في الشكل
3-4 (
a )) يستخدم لعمليات صهر المعادن والفلزات وتزجيجها، وكان ذا فاعلية استثنائية في الحصول على شكل نقي من أي معدن. في الشكل
3-4 (
b )، يبرد الإنبيق في حمام ماء بارد لا في الهواء كما في الشكل
3-2 (
a ). ويظهر الشكل
3-5 (
a ) رفا تتراص عليه أوان زجاجية، وفيها قطعتي المفضلة، الإنبيق المزدوج، وهو الإنبيق رقم 5، والذي رمز إليه بورتا رمزا إيحائيا في عام 1608 كرجل وامرأة يتبادلان سوائلهما الجسدية.
13
أما العنصر 3 في الشكل
3-5 (
a )، فقد أطلق عليه اصطلاحا «كأس العذاب» أو «الجحيم»؛ وذلك لأنه ما من شيء يوضع فيه يمكنه التسرب، وتلك أيضا وظيفة بيضة الفيلسوف. في الواقع، يمثل العنصر 9 جهاز «بيضة داخل بيضة»، وهو أداة خاصة بلوفيفر لها نفس وظيفة الإنبيق 3. ونطلق على هذا الإنبيق على مضض «جحيم لوفيفر الصغير الخاص».
أما الأداة الموضحة في الشكل
3-5 (
b )، فتنطوي على فاعلية متأصلة متمثلة في احتوائها على وعائي تجميع. يمكن أن يكون هذا الإنبيق المزدوج أو رأس التقطير مصنوعا من الحديد في حالة تقطير النباتاتات أو في حالة تقطيرها بالبخار، لكن في حالة تقطير حمض الكبريتيك والمواد الحمضية الأخرى (انظر الشكل
3-6 )،
14
يتطلب الأمر أوعية من القصدير أو مبطنة بالقصدير. أما في حالة تقطير الزئبق، بحسب ما يذكر لوفيفر، فلا يمكن استخدام أي أوعية معدنية فيه؛ نظرا لحدوث التملغم. وقد زار كاتب اليوميات صمويل بيبس معمل لوفيفر في الخامس عشر من يناير من عام 1669، «وهناك رأى عددا مهولا من الزجاجات وغيرها من الأدوات الكيميائية، لكنه لم يدرك وظيفة أي منها.»
10
شكل 3-5: رف جميل رصت عليه أوان زجاجية تعود إلى القرن السابع عشر، وإنبيق تقطير مزدوج (رأس التقطير) يسمح برفع الأداة بالكامل عن الفرن إذا اقتضى الحال مثل هذا التدبير (من كتاب لوفيفر «الدليل الشامل في الكيمياء»).
شكل 3-6: تقطير حمض الكبريتيك في أوعية مبطنة بالقصدير (من طبعة عام 1670 من كتاب لوفيفر «الدليل الشامل في الكيمياء»). (3) الآثار النادرة للنيران السماوية الساحرة
يتحرر الأنتيمون بسهولة من الستيبنيت الخام
Sb
2
S
3
بتسخينه مع الحديد، وهو معروف منذ قرون. كذلك يمكن حرقه ثم يسخن الأكسيد المتكون على هذا النحو مع الفحم للحصول على المعدن.
15
لكنه ظل أيضا «لغزا» طوال قرون؛ ففي حين يعد الأنتيمون معدنا هشا ذا لون أبيض مائل إلى الفضي، فإن له عددا من المتآصلات (أشكال بنيوية مختلفة للذرات كما في الألماس والجرافيت - متآصلات الكربون) والتي تختلف في خواصها. ينتج التكثف السريع لبخار الأنتيمون مادة صلبة لا فلزية ذات لون أصفر فاتح تتحول تلقائيا إلى فلز ما إن تتعرض إلى أشعة الشمس. علاوة على ذلك، تظهر أكاسيد (تكلسات) الأنتيمون خواص مثيرة. فحين يحترق الأنتيمون يصدر لهبا أزرق براقا، يتصاعد منه بخار سرعان ما يتكثف إلى مسحوق أبيض
Sb
2
O
3 . يتحلل هذا الأكسيد في كل من الأحماض والقواعد؛ تذكر أن أكاسيد اللافلزات مثل الفوسفور والكبريت حمضية، بينما أكاسيد الفلزات قاعدية بطبيعة الحال.
16
والأكاسيد الفلزية، مثل «الصدأ»، ليست متطايرة، في حين أن أكسيد الأنتيمون الثلاثي
Sb
2
O
3
متطاير. هل تذكر الذئب في كتاب ماير «مقطوعات أتلانتا» (انظر الشكل
1-17 )؟ إنه يرمز إلى الستيبنيت (والأنتيمون نفسه أحيانا). تحدث التنقية الأخيرة للملك (الذهب) في النار؛ لأن الأنتيمون المختلط بالذهب يحترق ليشكل أكسيد الأنتيمون الثلاثي المتطاير، الذي يتسامى . ومما لا يحتمل الشك أن معدنا كهذا «لا بد» وأن له خواص علاجية فعالة. في الواقع، يعمل الدردي المقيئ (ملح طرطرات البوتاسيوم الأنتيمونية) كملين قوي المفعول (وكذلك الأنتيمون نفسه)، رغم ما لهذه المواد من سمية أيضا. وقد أشاد بازيل فالانتاين في كتابه «موكب الأنتيمون» بالقيمة الدوائية للأنتيمون.
17
وقد أجرى نيكولاس لوفيفر تجارب كمية متأنية، واكتشف أن التكلسات التي تدخل فيها أشعة الشمس قد زادت كتلة الأنتيمون بدرجة مذهلة:
18
لكن هؤلاء الذين يجهلون الأعمال النبيلة والآثار النادرة للنار السحرية السماوية، المستمدة من أشعة الشمس، بالاستعانة بكاسر للأشعة أو عدسة حارقة، لن يصدقوا على الأغلب ما سأقوله وأوضحه عن هذا الموضوع.
شكل 3-7: تكليس الأنتيمون باستخدام «النار السماوية» (من كتاب لوفيفر (1670) «الدليل الشامل في الكيمياء»)، كان لوفيفر من أوائل الكيميائيين الذين اكتشفوا أن الكلس يكون أثقل من المعدن النظير.
تصمم «العدسة الحارقة» بقطر يتراوح بين ثلاثة وأربعة أقدام (على الرغم من أن العدسة الحارقة المبينة في الشكل
3-7
أقل كثيرا)، ومصنوعة من قطعتين من الزجاج المقعر مملوءتين بالماء ومغطاتين بغراء السمك.
18
كان لوفيفر واعيا بأن كلس الأنتيمون يمكن أن يصنع أيضا باستخدام النتر (على سبيل المثال، من خلال إضافة المعدن إلى حمض النيتريك والتسخين).
18
وبذلك كان لوفيفر يستشرف الاكتشاف الذي توصل إليه مايو بعد عقد (انظر المقال التالي). ومع ذلك، فإن عدم اكتمال التفاعل الكيميائي، والذي يشكل الخلائط في النهاية على أي حال، والخسائر التي تحدث عند الاسترجاع كانت أقل كثيرا بالمقارنة بالنتائج التي تتحقق من أشعة الشمس المقدسة. فقد وجد أن الحرق الأولي 12 ذرة (ما يعادل 0,777 جرام) من الأنتيمون ينتج دخانا أبيض اللون (يقول عنه لوفيفر إنه ليس سوى أنتيمون «متسام») وكلسا لا يزن أكثر من 6 إلى 7 ذرات (ما يعادل 0,388 إلى 0,453 جرام). والكلس المتكون على هذا النحو يظل له نفس الخواص المقيئة لمسحوق الأنتيمون، لكنها أقل نوعا ما. على الجانب الآخر، يصدر امتصاص «النار السحرية السماوية» 15 ذرة (ما يعادل 0,971 جرام) من الكلس و12 ذرة (ما يعادل 0,777 جرام) من الأنتيمون.
18
ونعرف فعليا أن تحويل 12 ذرة (ما يعادل 0,777 جرام) ينبغي أن ينتج حوالي 14,5 ذرة (ما يعادل 0,939 جرام) من أكسيد الأنتيمون الثلاثي.
لكن الأمر الأكثر إثارة للإعجاب، والأقل معقولية، هو أن الاثنتي عشرة ذرة تلك من المسحوق الأبيض ليست مقيئة ولا ملينة، ولكنها على العكس مسببة للتعرق ومنبهة، والأمر الذي يستحق الإعجاب - لأسباب واضحة - هم الباحثون الأذكياء المحبون للاطلاع على أسرار الطبيعة، والأطباء بالغو الحكمة.
والمواد المسببة للتعرق تسبب العرق، الذي يعد مطهرا أخف من القيء.
لم يكن لوفيفر أول من اكتشف أن الكلسات أثقل من المعادن؛ فقد لاحظ بيرينجوتشو ذلك في عام 1540 ([انظر الجزء الثاني: المقطرات، وبوتقات فصل المعادة والأسحلة، القسم الثاني: كيمياء المعادن العملية])، وتوصل جون ري لهذا الاكتشاف بعد حوالي قرن. وعلى غرار بويل، الذي توصل إلى هذا الاكتشاف، افترض لوفيفر أن هذه النار (والتي كانت في لغة بويل تسمى «جسيمات النار») تدخل بشكل ما في هذا التفاعل لزيادة وزن المعدن.
19 (4) أسرار سيدة خيميائية
رغم أن ما وصلنا عن حياة ماري موردراك،
20 ،
21
قليل جدا، فقد كانت أول امرأة تؤلف كتابا مطبوعا عن الكيمياء. وقد نشر كتابها «الكيمياء سهلة وميسرة للنساء» لأول مرة في عام 1656، أعقبه طبعات عام 1674 وعام 1687.
22
الشكلان
3-8
و
3-9
23
يظهران صفحة العنوان وصورة صدر الكتاب من الطبعة الفرنسية الثالثة. كما صدر من الكتاب ست طبعات على الأقل بالألمانية وطبعة واحدة بالإيطالية.
22 ،
24
شكل 3-8: الطبعة الثالثة (1687) لأول كتاب كيمياء تنشره امرأة، وهي ماري موردراك. وقد نشرت الطبعة الأولى في عام 1656. هذا الكتاب الصادر في حجم الجيب أهدي إلى السيدة الكونتيسة دو جيش ويضم سوناتا مهداة إلى كتاب الآنسة موردراك كتبتها الآنسة دي آي.
شكل 3-9: صورة صدر الكتاب الخلابة من كتاب ماري موردراك (انظر الشكل
3-8 ) الذي يعد بإفشاء أسرار عن الكيمياء كانت خفية حتى تلك اللحظة.
يشير آل راينر كانهام إلى أن عملها كان مبنيا على المواد الخيميائية الجوهرية الثلاث: الكبريت والزئبق والملح، لكنه قدم مناقشات واضحة للعمليات الكيميائية المفيدة.
20
ويتألف الكتاب من ستة أجزاء:
20 ،
21
الجزء 1: المبادئ والعمليات.
الجزء 2: «الأدوية العشبية» - طرق التحضير والمعالجة.
الجزء 3: الحيوانات.
الجزء 4: المعادن .
الجزء 5: تحضير الأدوية المركبة.
الجزء 6: العناية بجمال السيدات وزيادته.
وقد لخصت موردراك شكوكها بشأن نشر عملها في توطئة الكتاب:
20 ،
21
حين شرعت في كتابة هذه الأطروحة، لم يكن الهدف منها سوى إرضاء نفسي والحفاظ على المعرفة التي اكتسبتها عبر وقت طويل من العمل، والتجارب المتكررة. لا أستطيع أن أخفي أنني لدى رؤيته مكتملا بأحسن مما كنت أتمنى، أغرتني فكرة نشره؛ لكن إذا كنت أملك الأسباب لإخراجه للنور، فقد كان لدي كذلك أسباب لإخفائه وعدم تعريضه للنقد العام.
إذا أخذنا واجهة صورة صدر الكتاب (الشكل
3-9 ) دلالة، يبدو واضحا أن مودراك أيضا كانت تحتفظ بأدوات الكيمياء مخفية وراء ستائرها الفاخرة. ولكن جاء في موضع لاحق من التوطئة:
20 ،
21
على الجانب الآخر، شجعت نفسي بأنني لست أول امرأة تنشر شيئا، وأن العقول لا جنس لها، وأن عقول النساء إذا تلقت من الرعاية والعناية مثل ما تتلقاه عقول الرجال، وإذا استثمر في تعليم عقول النساء نفس القدر من الوقت والطاقة المبذولين في تعليم عقول الرجال، فإنهن سيكن على قدم المساواة معهم.
وكان قد سبق هذا الاعتذار الزائف الواثق، الأبعد ما يكون عن الاعتذار، عن التجرؤ على تأليف كتاب بحوالي 140 عاما اعتذار زائف آخر بقلم العبقرية إليزابيث فولهام
25
خلال تقديمها كتابها «مقال عن الاحتراق» في عام 1794.
26 (5) «الدعاء مع العمل»
شكل 3-10: «العمل مع الدعاء»؛ نصيحة مفيدة للكيميائيين غير الملحدين واللاأدريين (من كتاب «الوحي الإلهي في الطب والكيمياء والخيمياء» المنشور عام 1755).
شكل 3-11: لغة هيروغليفية خاصة بالكيمياء من كتاب «الوحي الإلهي في الطب والكيمياء والخيمياء» الصادر عام 1755 (انظر الشكل
3-10 ).
يدرك أي كيميائي سبق له أن «جازف» المقولة الشاعرية المأثورة للقديس بينديكت النيرسي:
27 ،
28 «الدعاء مع العمل». قد تفشل سلسلة من التجارب جيدة التخطيط والعقلانية في الوصول إلى النتيجة المتوقعة، فيما تنجح «مجازفة»
29
مدروسة (مجازفة بكل شيء - كإجراء عملية تسام فراغي ... في خطوة واحدة دون حسابات منطقية، على سبيل المثال). ربما يكون ذلك الكيميائي المجسد في الشكل
3-10
يحاول «المجازفة» بينما يمجد الرب الذي تتجمع كل حكمته الشاملة في وعاء التفاعل - بيضة الفيلسوف القابعة في التنور (فرن الفيلسوف). بل إنه يجمع ضوء الشمس، الذي يشكل «النار الفلسفية» عبر عدسات مكبرة. أما الكلمات التي تمر ما بين الشمس والكيميائي، فمفادها «أنت عاجز من دوني» (ربما يكون هذا تفسيرا لكلمات الرب):
27
ومن يد الرب إلى القنينة مباشرة، نتعلم أن «جوهر الحكمة هو مخافة الله.»
27
هذه الصورة المطبوعة بقالب خشبي على صفحة كاملة مأخوذة من كتيب ألماني منشور في عام 1755.
30
يتشكل هذا الكتيب «الوحي الإلهي في الطب والكيمياء والخيمياء» من جزأين. يقال إن الجزء الثاني هو مخطوطة لم تنشر ترجع إلى القرن الرابع عشر.
31
فيما يضم الجزء الأول جدولا أفردت له 33 صفحة عن الرموز الكيميائية (لا أدرى إن كانت حروفا هيروغليفية)،
32
مع تعريفات باللغتين اللاتينية والألمانية (انظر الشكلين
3-11
و
3-12 ). على سبيل المثال، ثمة تسعة رموز جملة للماء الملكي، ذلك المحلول المكون من 1:3 من حمض الهيدروكلوريك وحمض النيتريك الذي «يذيب» الذهب (في الواقع إنه يؤكسد الذهب أو «يكلسه» ليصبح
علما بأن التفاعل لا يتضمن الأكسجين). ومعظم هذه الرموز تعد تمثيلات للماء (سواء كان مثلثا مقلوبا أو موجات) مقرونة بحرف
R . أما ماء النار (حمض النيتريك)، فله على الأقل 20 رمزا ربما تعكس اختلافات في الخواص الكيميائية (فهو حمض إلى جانب كونه مادة مؤكسدة)، والتكوين، والاستخدامات. يصور الشكل
3-11
سبعة عشر رمزا للفضة، بينما يضم الكتيب نفسه 34 رمزا متمايزا للذهب، و35 رمزا للزرنيخ، و40 للزئبق، وحوالي 54 رمزا أو أكثر للإعدادات المختلفة للأنتيمون الرائع!
شكل 3-12: رموز هيروغليفية كيميائية إضافية من كتاب «الوحي الإلهي في الطب والكيمياء والخيمياء» (1755) (انظر الشكل
3-10 ). يمكن تعريف «البازهر» بأنه «كتل صلبة تترسب حول المواد الغريبة والتي توجد في جدران معدة أو أمعاء» الحيوانات، وبخاصة الحيوانات المجترة.
شكل 3-13: رسم توضيحي لاستخدامات فلزات الأنتيمون، والزئبق، والحديد (المريخ)، والنحاس (الزهرة). من الواضح أن كلا من مركبات الأنتيمون والزئبق مقيئات فعالة، لكن نظرة إلى الصورة عن كثب من شأنها أن تشير إلى أن بعض المركبات الأنتيمونية تعمل كملينات (مطهرات) فعالة كذلك (من كتاب «المسار المنهجي والصحيح للفيزياء» لبارليه (1657)، بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
شكل 3-14: استخدامات للرصاص (زحل)، والقصدير (المشتري)، والفضة (القمر)، والذهب (الشمس) (من كتاب «المسار المنهجي والصحيح للفيزياء» لبارليه (1657)، بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
شكل 3-15: معمل لمعالجة المواد المستخلصة من الحيوانات في القرن السابع عشر (من كتاب «المسار المنهجي والصحيح للفيزياء» لبارليه (1657)، بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
شكل 3-16: معمل لمعالجة المواد المستخلصة من النباتات في القرن السابع عشر (من كتاب «المسار المنهجي والصحيح للفيزياء» لبارليه (1657)، بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
شكل 3-17: معمل لمعالجة المعادن في القرن السابع عشر (من كتاب «المسار المنهجي والصحيح للفيزياء» لبارليه (1657)، بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
شكل 3-18: معمل لمعالجة الفلزات في القرن السابع عشر (من كتاب «المسار المنهجي والصحيح للفيزياء» لبارليه (1657)، بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
يوضح الشكل
3-12
رموزا للمعادن السبعة القديمة في «أشكالها البازهرية». وقد يعرف «البازهر» بأنه «كتلة صلبة تترسب حول مادة غريبة، وتوجد في معدة أو أمعاء بعض الحيوانات، وكان يعتقد قديما أنها علاج للتسمم.»
33
من البادي أن الحيوانات المجترة كانت قيمة إلى حد استثنائي؛ بسبب عمليات الهضم المعقدة في معداتها المجوفة. أظنني لو كنت أصبت بالتسمم، كنت سأحبذ إنقاذ حياة عنزة، وأتخلى عن تلك الجرعة من الذهب البازهري - على قيمتها الثمينة - وأجرب حظي مع مطهر جيد قديم. (6) مطهر جيد قديم
أحدث باراسيلسوس ثورة في طب عصر النهضة من خلال استخدامه الأدوية الاصطناعية المستخرجة من المعادن. فقد استخدم الكالومل
Hg
2
Cl
2 ،
34
على سبيل المثال، كمطهر، ومن السهل تخيل تحرير الروح
35
بإخلاء الجسد من كل «الأمزجة الضارة» والديدان المعوية. وقد أدرج كتاب «دستور أدوية لندن»
36 - الذي أجيز ونشر لأول مرة من قبل الكلية الملكية للأطباء البشريين في لندن في عام 1618 - تركيبة من الكالومل، يذاب فيها الزئبق في ماء النار (حمض النيتريك)، مع إضافة ملح البحر، ثم يجمع الراسب ويغسل بالماء. وقد كان التطهير القوي للأمعاء وسيلة من وسائل تطهير الجسم. فيما تتمثل وسيلة أخرى من وسائل تطهير الجسم في المقيئات، تلك المواد التي تسبب القيء المتكرر. وأكرر مرة أخرى، من السهل تخيل قدر الفائدة الطبية التي سيحققها هذا الأمر في تنظيف المعدة من الأطعمة الملوثة أو السموم. ولعل أشهر تلك الأدوية كان الدردي أو الطرطير المقيئ، أو طرطرات البوتاسيوم الأنتيمونية. وقد قدم هادريان مينسيشت تركيبة من هذه المادة تضمنت غلي كريمة الدردي (تستخلص طرطرات البوتاسيوم الهيدروجينية من رواسب النبيذ) مع كربونات الأنتيمون مع إتاحة عملية البلورة في مكان بارد.
37
وقد أثار استخدام الأنتيمون في الأغراض الطبية عاصفة من الجدل في منتصف القرن السابع عشر؛ إذ كان معروفا أن مركبات الأنتيمون سامة للغاية.
38
ومع ذلك، فقد حقق كتاب «موكب الأنتيمون» نجاحا كبيرا، واستخدمت مركبات الأنتيمون كمطهرات، ومقيئات، ومسببات للتعرق.
38
كذلك أشار بعض الكتب على مدار القرنين السادس عشر والسابع عشر إلى «الذهب الصالح للشرب».
39
وكان هذا المركب يعتبر دواء لكل شيء، وهو عبارة عن صبغة الذهب، وكان مناسبا لمعالجة الحيوانات والنباتات و«المعادن» (وتحسينها). ومنطقيا، ربما كان ذلك محلولا مخففا من الذهب مذابا في ماء ملكي (حمض الهيدروكلوريد إلى حمض النيتريك، بنسبة 1:3).
الشكلان
3-13
و
3-14
من كتاب أنيبال بارليه المنشور في عام 1657 «المسار المنهجي والصحيح للفيزياء».
40
لم يترك الكثير للخيال فيما يتعلق بفاعلية المركبات الأنتيمونية كمقيئات قوية (علاوة على كونها مطهرات فعالة). كذلك يشير الشكل
3-13
إلى أن أملاح الزئبق تعد مطهرات لجميع الأغراض. أما الصور الست الأخرى في الشكلين
3-13
و
3-14 ، فتصور عمليات استخلاص وتصنيع الحديد (كوكب المريخ)، والنحاس (كوكب الزهرة)، والرصاص (كوكب زحل) والقصدير (كوكب المشتري)، والفضة (لونا، أو القمر)، والذهب (سول، أو الشمس). يبدو أن بارليه كان يدرس الكيمياء دون أن تكون له إسهامات فيها.
41
ورغم أن المعاصرين لبارليه قالوا عن الكتاب إنه محدود القيمة، فإن ما جاء فيه من رسوم للمعامل تتعامل مع مستخلصات الحيوانات (الشكل
3-15 )، ومستخلصات النباتات (الشكل
3-16 )، والكيمياء المعدنية (الشكل
3-17 )، والكيمياء التعدينية (الشكل
3-18 ) تمدنا برؤى كاشفة عن العمليات الكيميائية في القرن السابع عشر.
هوامش
الجزء الرابع
علم وليد
(1) حرب الفرسان القديمة
في عام 1604، ظهرت لأول مرة أسطورة غامضة عن معركة التقى فيها الذهب والزئبق، مدججين بالسلاح كما الفرسان، مقابل عدوهم حجر الفلاسفة في شكل مادة مطبوعة (باللغة الألمانية)، بالرغم من احتمال وجود مخطوطات لهذه الأسطورة قبل ذلك التاريخ.
1 ،
2
وقد نشرت نسخ مختلفة من هذه الخرافة على مدار القرن السابع عشر باللغتين الألمانية والفرنسية. ونشر النص النهائي (المبين في الشكل
4-1 )
3
باللغة الإنجليزية في عام 1723، ويشبه كلا المصدرين الألماني والفرنسي. ومع ذلك، تظل هوية المؤلف خفية؛ هل كان ألكسندر توسا دي ليمويون دو سان ديزدييه (اسم ظريف، لكن من الواضح أنه ليس اسم الكاتب الحقيقي)،
1
أم يوهان تولده، الناشر الأصلي، الذي ربما يكون كذلك الشخصية الأسطورية بازيل فالانتاين؟
شكل 4-1: صورة صدر الكتاب وصفحة العنوان من كتاب «انتصار حجر الفلاسفة» والذي وردت فيه قصة «حرب الفرسان القديمة». تسرد هذه الحكاية الرمزية قصة معركة بين كل من الذهب والزئبق، اللذين وقفا متأهبين لقتال حجر الفلاسفة.
وعلى الرغم من أن الجانب الممتع في هذا الكتاب هو استخدام المجاز، فإن الجانب الأروع فيه هو توظيف الاستدلال العلمي الجامد، القائم على التجريب، لدحض بعض العقائد الجوهرية للمعرفة الخيميائية. وبرغم نجاح الخيمياء في تحويل المعادن (انتصار حجر الفلاسفة)، كانت أولى إرهاصات الثورة العلمية تتردد مسموعة في الأفق.
في هذه القصة الرمزية، يمثل الذهب فارسا متغطرسا وعدوانيا، في حين يمثل الزئبق فارسا تابعا للذهب، يدعمه في خضوع. لكن دعنا نستمع إلى الذهب بصوته الرخيم وهو في مواجهته مع حجر الفلاسفة:
4
إن الرب بذاته هو من وهبني الشرف، والسمعة، واللمعة البراقة، مما جعل قيمتي ثمينة. ولهذا السبب ينقب كل الناس عني. ويتمثل أحد أعظم جوانب كمالي في أنني معدن لا يمكن أن يتبدل في النار، ولا خارج النار؛ لذلك يحبني كل العالم، ويطاردني؛ أما أنت، فلست سوى هارب ومحتال يستغل كل البشر. وهذا واضح من فرارك وهروبك من أيدي كل من يتعاملون معك.
وهنا يرد الحجر ردا موزونا رغم قوته:
4
هذا صحيح يا عزيزي الذهب، إن الرب هو من وهبك الشرف والقدرة على البقاء والجمال، وهي الأشياء التي تجعل منك معدنا نفيسا؛ ولذلك يجب عليك أن تفتأ تحمد الرب (على جوده الرباني)، لا أن تزدري الآخرين كما تفعل الآن؛ يمكنني أن أخبرك أن لست ذاك الذهب الذي كتب عنه الفلاسفة في مؤلفاتهم، وإنما أنت ذاك الذهب المخبأ في كنفي.
إن فكرة الحجر هي أن المادتين اللتين تتعانقان في «الزواج الكيميائي» الأسطوري ليسا هذين المعدنين الساذجين اللذين يواجهانه، وإنما الذهب «الفلسفي» والزئبق «الفلسفي»، وكلاهما له أصول أكثر تعقيدا إلى حد كبير. بعدها، يطرح الذهب حجته الخيميائية الأساسية، ومفادها أن «الزواج» («الاتحاد» بتعبير أدق) بين الذهب والزئبق ضروري لتكاثر الذهب، في الواقع إنها طريقة الطبيعة العامة مع التكاثر:
5
لا أجهل ما تكلم به الفلاسفة، لكن لربما كان ذلك ينطبق على أخي الزئبق الذي لم يزل معيبا، والذي رغم كونه كذلك فإنه إذا ما اتحد بي، أخذ مني صفة الكمال (التي ينشدها)؛ وذلك لأنه هو الأنثى وأنا الذكر، وهو ما يجعل الفلاسفة يقولون إن هذا الزواج مثلي. يمكنك أن ترى هنا نموذجا للتكاثر لدى الإنسان؛ إذ لا يمكن أن يكون ثمة أطفال دون اتصال حميم بين الذكر والأنثى، أي دون اتحاد بينهما. إن لدينا مثل هذا النموذج الموجود عند الحيوانات وكل الكائنات الحية الأخرى.
ولنترك التعقيدات الجنسية التي ينطوي عليها هذا القول لعلماء النفس، ولنقرأ ذلك الرد العلمي الجدير بالاحترام الذي رد به حجر الفلاسفة:
5
حقا إن أخاك الزئبق ليس كاملا، وعليه فإنه ليس زئبق الفلاسفة؛ ومن ثم رغم أنكما ينبغي أن تتحدا معا، وعلى أحدهم أن يبقيكما في النار على مدار سنوات، محاولا أن يوحد بينكما، فدائما ما سيحدث (نفس الشيء تحديدا) أن الزئبق ما إن يستشعر فعل النار، سيفصل نفسه عنك، ويتسامى، ويتطاير، ويتركك وحيدا في القاع. وهكذا إذا ما أذبت في ماء النار، أو قلصت إلى (كتلة) واحدة فقط، إذا صهرت، أو قطرت، أو خثرت، فإنك لن تنتج أي شيء إلا مسحوقا، وراسبا أحمر: وهكذا إذا ما ألقى أحدهم هذا المسحوق على معدن معيب ، فإنه لن يؤثر عليه؛ لكن المرء يجد نفس مقدار الذهب الذي وجده في البداية، بينما يتخلى عنك أخوك الزئبق ويحلق بعيدا.
بعبارة أخرى، لم يغير اتحاد فلزي الذهب والزئبق شيئا على أي نحو كيميائي عميق. سخن ملغمة ذهب وزئبقا نقيا، وسيتقطر الزئبق تاركا خلفه ذهبا نقيا. على الناحية الأخرى، إذا كان العروسان سيستحمان معا في حوض (هل سيكون على شكل قلب؟) يحتوي على ماء النار (حمض النيتريك)، سينفصل الزئبق في صورة كلس أحمر، كما يفعل في غياب الذهب. ولما شاط الذهب والزئبق غضبا من منطق حجر الفلاسفة المتفوق، هاجماه بعنف حتى أنهكا وذهب ريحهما.
يمثل كل من الذهب والفضة في هذا القصة الخرافية الخيميائيين الزائفين؛ فهم مرضى بالجهل والعجرفة على حد سواء. على النقيض من ذلك، يمثل حجر الفلاسفة الخبير الحقيقي؛ فهو فيلسوف طبيعي يسعى وراء الحقيقة ويبحث عن حكمة الرب. إنه ذلك العالم المبتدئ الذي سيؤدي منهجه التجريبي وتفكيره المنطقي يوما ما إلى علم كيميائي حقيقي؛ أم أنه كان يبشر، بشكل ما، بمولد روبرت بويل، «الكيميائي المتشكك»، موضوع مقالنا التالي؟ (2) شكوك عالم حول «الآراء الكيميائية للسوقة»
ولد روبرت بويل (1627-1691) في أيرلندا لعائلة ثرية، وتلقى تعليمه في إيتون، وحظي بمزيد من التعليم في أجزاء أخرى من قارة أوروبا، ليعود إلى إنجلترا في عام 1645.
6
بدأ دراساته العلمية خلال العقد التالي، وفي عام 1656 انتقل إلى أكسفورد، حيث ضمن مساعدة روبرت هوك. صنع هوك مضخة هوائية لبويل، استعان بها في عدة دراسات، بما في ذلك دراسة العلاقة بين حجم وضغط الغاز، والتي تحمل اسمه الآن.
7
يعتبر بويل بصفة عامة أبا الكيمياء، ويرجع جزء من ذلك إلى قانون الغاز الذي ابتكره ودراسات فيزيائية أخرى، إلى جانب كتابه الكلاسيكي «الكيميائي المتشكك»، الذي تضمن أولى المحاولات الجادة لتعريف العناصر الكيميائية والمفاهيم الذرية بالحجة التجريبية.
شكل 4-2: النسخة المهذبة من صفحة العنوان لكتاب روبرت بويل الكلاسيكي «الكيميائي المتشكك» الصادر عام 1661. ألف هذا الكتاب في صيغة مناقشة بين شخصيات خيالية، من بينها شخصية ثيميستيوس، الذي يمثل «المشائين»، المدافعين عن العناصر الأربعة القديمة، وفيلوبونيوس الذي يدافع عن مبادئ باراسيلسوس الثلاثة، إلى جانب شخصية كاميديس الذي يمثل صوت العقل والمنطق (أي بويل)، والذي يجمع أفضل الخيوط بالطبع (بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
شكل 4-3: النسخة الأقل تهذيبا من صفحة العنوان التي احتواها أيضا كتاب بويل «الكيميائي المتشكك» الصادر عام 1661 (انظر الشكل
4-2 ) (بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
حين نشر السيد المبجل روبرت بويل كتاب «الكيميائي المتشكك» في عام 1661 (انظر الشكلين
4-2
و
4-3 )
8 ،
9
كان ثمة نظريتان غير مبرهنتين عن المادة تهيمنان على علم الكيمياء البدئي. كان أول هذه «الآراء الكيميائية» السوقية (أو «العامة») يقوم على العناصر الأربعة (التراب والنار والهواء والماء) التي تنسب بطبيعة الحال إلى أرسطو. كان غالبا ما يشار إلى أتباع أرسطو ب «المشائين»؛ نظرا إلى أسلوب تدريس أستاذهم، الذي كان يتضمن المشي. أما الرأي السوقي السائد الآخر - والذي يرجع إلى عهد باراسيلسوس (1493-1541) - فكان يستند إلى المواد الثلاث الأولية (الكبريت، والزئبق، والملح). وقد أشار بويل إلى المتحمسين لهذه النظرية ب «الكيميائيين» (سنشير إليهم ب «الخيميائيين» و«الأطباء الكيميائيين»). ولم يكن شرفا كبيرا أن يكون المرء كيميائيا، برغم أن «الكيميائي المتشكك» كان على الأقل قادرا على الإفلات من هذا الوصف. وإلى جانب «الكيميائيين» و«المشائين»، كان هناك «الفلاسفة الهرمسيون»، الذين كانوا يعتقدون أن «النار ينبغي أن تعتبر الأداة الأصيلة والكونية لتحليل الأجساد المختلطة»؛ ومعنى هذا أن دور النار هو التحلل الكيميائي. ورغم أن بويل كان مؤمنا بنظرية جسيمية المادة، الشبيهة بنظرية ليوكيبوس الذرية القديمة، فقد عاب على الفلاسفة اليونانيين عدم إجراء أي تجارب:
10
ولذلك أرسلنا في دعوة ليوكيبوس الجريء الذكي ليمنحنا شيئا من المعرفة من نظريته الذرية، التي توقعنا أن تنطوي على مثل تلك الإلماعات الخصبة، لكننا وبعد عناء كبير جاءنا الخبر أخيرا بأنه لا يمكن العثور عليه.
وفي حين أن أسلوب بويل في الكتابة يدفعك إلى القراءة ببطء، فإن المقتطف الوجيز الموضح أعلاه يوضح الحس الفكاهي الموظف في كتاب «الكيميائي المتشكك». علاوة على ذلك، استخدم بويل أسلوبا مسليا ربما لا يلائم الدوريات والأبحاث العلمية الحديثة؛ فقد وضع بويل محادثات تخيلية بينه وبين «أشخاص خياليين» استطاع بسهولة أن يدحض حججهم. وبرغم أن بويل الراوي يلعب دورا مهمشا إذ يرافق «إلوثيريوس الكثير السؤال» خلال زيارته إلى «صديقه كارنيديس»، فإن الأخير هو صوت بويل الحقيقي. كان كارنيديس يجلس إلى طاولة صغيرة مستديرة في حديقة مع ثيمستيوس، الذي يجادل لصالح «المشائين»، وفيلوبونس الذي يدافع عن وجهة نظر باراسيلسوس.
ها هو «دليل إثبات» ثيمستيوس على أن الخشب الأخضر «يتحلل» إلى العناصر الأربعة عند الاحتراق:
11
تكتشف النار نفسها في اللهب بفعل ضوئها، وحين يتصاعد الدخان إلى أعلى المدخنة، ثم يتلاشى في الهواء، مثل نهر يسلم نفسه إلى ماء البحر، فإنه يظهر بما يكفي إلى أي عنصر ينتمي ويعود في سعادة. والماء في هيئته إذ يغلي ويصدر هسيسه عند أطراف الخشب المحترق إنما يكشف نفسه لأكثر من حاسة من حواسنا، وكذلك الرماد بوزنه، وقابليته للاشتعال، وجفافه، كل تلك الأشياء تزيل عنك أي شك في انتمائه إلى عنصر التراب.
يجيب بويل (أو كارنيديس) بأن ثمة التباسا هنا. أولا: يبدو أن «عنصر» النار لا بد أن يعرض على «عنصر» النار ليحرره من الخشب الأخضر. ومع ذلك فإن الفكرة الثانية هي افتراض أن مجرد التعريض للنار في حد ذاته يحرر العناصر الأربعة دون تعرضها لأي تغير. وفيما يلي حجة كارنيديس العلمية المضادة الممتازة:
12
على سبيل المثال، حين يخلط عامل تنقية بين الذهب والرصاص، ويعرض هذا الخليط في كأس لسخونة النار؛ ومن ثم يفصل الخليط إلى ذهب نقي لامع ورصاص (يندحر مع ما كان يختلط بالذهب من شوائب، ويطلق عليه حينئذ المرداسنج الذهبي)، هل يمكن لأي شخص يرى هاتين المادتين المختلفتين منفصلتين عن الكتلة الأولى أن يتصور أنهما كانتا خليطا في مركب واحد قبل أن يتعرض للنار.
الفكرة هي أن فلزي الرصاص والذهب قد ينصهران معا ليكونا سبيكة. ومع ذلك، فإن التسخين لفترة طويلة في الهواء الطلق يؤكسد الرصاص فيتحول إلى كلس - المرداسنج؛ ذلك المسحوق الأحمر المصفر، هذه الصبغة التي نعرفها اليوم بأول أكسيد الرصاص. أما الذهب المنصهر فلا يمر بأي تغيير كيميائيا، وأي شوائب (أو رغوة) بالإضافة إلى المرداسنج المتكون حديثا سيمتص داخل الكأس، تاركا الذهب النقي. من الواضح أن المرداسنج لم يكن له وجود في السبيكة الأصلية، لكنه تحرر بفعل النار. والواقع أن ذلك يكاد يتطابق مع حجة حجر الفلاسفة المذكورة في المقال السابق.
وهنا يتجلى بعض المشكلات الأخرى المتعلقة بالعناصر الأربعة.
13
يبدو مستحيلا حتى مع مساعدة النار أو أي عوامل أخرى أن تستخلص التراب، أو الهواء، أو النار، أو الماء من الذهب. في الواقع، لو كان ثمة شيء قد يبدو عنصرا حقيقيا، فهو الذهب. على الجانب الآخر، عند «تحليل» الدم باستخدام النار، فإنه يتحلل إلى خمس مواد مختلفة هي: النخامة، والروح، والزيت، والملح، والتراب.
13
ردا على فيلوبونس، الكيميائي الصيدلاني المدافع عن باراسيلسوس، يتساءل كارنيديس عما إذا كانت طبيعة النار دائما ما تقضي بأن تؤدي إلى «تحليل» المواد، أو، على الأقل، إلى عملية «تحلل» مستمر.
14
وعلى ذلك، فعند حرق خشب «الجياك»، ينتج عن الاحتراق سناج ورماد، رغم أن تقطير الجياك (بالنار) داخل مقطرة معوجة ينتج عنه «زيت، وروح، وخل، وماء، وفحم». ويذهب بويل (أقصد كارنيديس) إلى الزعم بأنه إذا أزيل هذا الفحم الناتج من المقطرة المعوجة وحرق في الهواء الطلق، فإنه يتحول إلى رماد. بالمثل، ينتج عن حرق الكافور في الهواء الطلق السناج، والذي يمكن أخذه وفحصه
14
ليتبين أنه لا يحتفظ بأي من خواص الكافور. ومع ذلك، إذا وضع الكافور في وعاء زجاجي مغلق وعرض إلى نار خفيفة، يتصاعد دخان، ثم يتكثف كراسب أبيض صلب، يحتفظ برائحة الكافور العطرية النفاذة. وندرك من هذه الحالة الثانية أن «سكين النار التحليلية» التي تعرض لها الكافور أدت إلى تساميه دون أن يتعرض إلى أي تغير.
في كتاب «الكيميائي المتشكك»، يطرح بويل أربعة افتراضات
15
تحدد آراءه بشأن تركيب المادة؛ إذ يحاول بويل وصف كل من التركيب المادي للمادة (باعتبارها جسيمات دقيقة) والتركيب الكيميائي لها (باعتبارها عناصر لا يمكن اختزالها كيميائيا ) وصفا تأصيليا:
الافتراض الأول:
يبدو طبيعيا أن ندرك عند أول إنتاج للأجسام المختلطة، أن المادة السائدة التي تتكون منها هذه الأجسام - بين أجزاء أخرى من الكون - قسمت في الواقع إلى جسيمات صغيرة بأحجام وأشكال مختلفة تتحرك في اتجاهات مختلفة.
الافتراض الثاني:
من المستحيل بمكان أن تنفصل عن هذه الجسيمات الدقيقة الجسيمات الأدق حجما المتجاورة والمنتشرة هنا وهناك، والتي تترابط معا في كتل أو تجمعات دقيقة، لتشكل بتجمعاتها هذه مخزونا هائلا من مثل هذه التكتلات الصغيرة الأولية، التي لا يمكن أن تتفكك بسهولة لترجع إلى تلك الجزيئات الصغيرة التي تألفت منها قبل التكتل.
الافتراض الثالث:
لن أنكر إنكارا قطعيا أن من بين غالبية هذه الأجسام المختلطة ما يشكل جزءا من طبيعة الحيوانات أو النباتات، وقد يكون ما ينتج منها بالاستعانة بالنار عددا محددا من المواد (إما ثلاث، أربع، أو خمس أو أقل أو أكثر) ذات تسميات مختلفة.
الافتراض الرابع:
بالمثل يمكن التسليم بأن تلك المواد المختلفة التي تنتجها تكتلات الجسيمات أو تتكون منها، يمكن دونما أي إشكاليات أن تسمى عناصر أو جواهر للعناصر.
تتعلق الفرضيتان الأوليان بالبنية الفيزيائية للمادة.
16
فثمة مستويان لبنية المادة، وهما أدق الجسيمات، أو ما يسمى ب «جسيمات بويل»، التي قد ترتبط معا في «تكتلات» تتألف من «كتل أو تجمعات دقيقة». وقد أتاحت المجاهر - التي اخترعت في مطلع القرن السابع عشر - أدلة مباشرة على «الضآلة المتناهية حتى لأجزاء التكتلات التي تستشعر بالكاد.»
15
وقد نشر هوك زميل بويل تحفته «الفحص المجهري» (انظر المقال التالي)، بعد أربع سنوات فقط من صدور كتاب «الكيميائي المتشكك». وقد ذهب بويل إلى الإشارة إلى أن الزئبق يمكن أن يقطر ويذاب في الأحماض، ثم يرشح ويحول إلى ملغمة يمكن طحنها حتى تصير مسحوقا ناعما، ولكن كل هذه الأشكال المطحونة تماما للزئبق يمكن استعادتها في النهاية في صورة سائل فلزي لامع. ولعل أحد أروع أعمال بويل هو مقال «الانبعاثات» (1673)،
17
الذي يتخيل فيه أصغر وحدة يمكن قياسها فيزيائيا للمادة، وهي ما أسماها ب «الكتل الدقيقة» (أو «الانبعاثات »). على سبيل المثال،
ذرة من الذهب يمكن أن تقسم إلى ستة مربعات مقاس كل منها
بوصات. كانت مسطرة بويل الدقيقة (100 جزء لكل بوصة) تستطيع نظريا أن تنتج 6 × (3,25 × 100)
2
أو 2535000 مربع من الذهب، التي كانت ستزن 0,000000032 جرام.
17
أما المقترحان الثالث والرابع، فيتعاملان مع مفاهيم بويل للعناصر. كان بويل يعتقد في تحويل المعادن. بل إنه في مقال مجهول صدر عام 1678، أعاد بويل - بصوت شخص يدعى أريستاندر - سرد قصة عن مشاهدته عملية «تحويل ارتكاسي» (إذ ارتكس الذهب خيميائيا ليصير معدنا أقل قيمة) أجراها شخص يدعى بيروفيلوس.
18
حين يتساءل الشاهد الآخر، ويدعى سيمبليسيوس: «ما المغزى من تحويل الذهب إلى معدن أقل قيمة؟» يرد بويل الحكيم (أقصد أريستاندر) قائلا: «إذا كنت تعلم كيف تجري عملية تحويل في اتجاه معين، إذن يمكنك أن تجري عملية تحويل في الاتجاه الآخر كذلك.» ربما كان ينبغي تسمية هذا المقال «الكيميائي الساذج». وعلى أي حال، ثمة أمران واضحان وضوح الشمس؛ ألا وهما: أن مفهوم بويل عن الذرة والعناصر اختلف اختلافا عميقا عن المفاهيم الحديثة؛ نظرا لتصديقه في عملية التحويل. وأما الثاني فهو أن تعريف بويل للعناصر لم يشر إلى قيامه بأي تجارب علمية. على النقيض، كان تعريف لافوازييه للعناصر (المواد البسيطة) الذي جاء لاحقا بأكثر من قرن قابلا للاختبار؛ إذ كانت المادة تعد عنصرا إذا لم يكن من الممكن «تبسيطها» كيميائيا:
19
ومن ثم، بينما تمضي الكيمياء نحو الكمال من خلال تحليل المواد ثم تحليل النواتج إلى مواد أبسط وهكذا، يكون من المستحيل الجزم بالموضع الذي ستنتهي عنده، وهذه الأشياء التي نفترض في الوقت الحالي أنها بسيطة، قد يكتشف عما قريب أنها غير ذلك تماما. كل ما نستطيع الجزم به عن أي مادة هو أنها يجب أن تعتبر عنصرا بحكم معرفتنا الراهنة، وحسبما يقضي ما استطاع التحليل الكيميائي التوصل إليه حتى الآن.
شكل 4-4: صفحة العنوان من الطبعة القارية الصادرة عام 1668 من كتاب «الكيميائي المتشكك». ماذا يجري هنا؟! لقد هدم بويل المتناقضات، والعناصر الأربعة، والمبادئ الثلاثة، لنرى هذه الصورة المحيرة التي تزين صفحة عنوان هذه الطبعة المترجمة. ولنا أن نتخيل رغبة الناشر أرنولد ليرز في بيع كتاب جاد بأساليب مثيرة. ولنا كذلك أن نتخيل رد بويل المستاء لدى تسلمه نسخته المجانية التي ربما قال عند تسلمها شيئا من قبيل: «إنني لست سعيدا»، ليسبق بذلك الملكة فيكتوريا التي قالت العبارة نفسها بقرنين.
في النهاية، لا يمكنني مقاومة إغراء عرض صورة صدر الكتاب (الشكل
4-4 ) من الترجمة اللاتينية الصادرة عام 1668 من كتاب «الكيميائي المتشكك» والتي نشرت في روتردام.
20
ترى فيم كان يفكر الناشر أرنولد ليرز؟ فتلك الأشكال المبينة في الصورة هي الأشكال الكلاسيكية لثنائي الشمس والقمر (الكبريت والزئبق)، والطيور الجارحة المتحابة، إلى آخره، والتي تمجد جميعا مبدأ الثنائيات الذي قوضه بويل. ونظرا لما يبدو من افتقار بويل إلى الحس الفكاهي إزاء الأمور العلمية؛
18
فقد يمكننا افتراض أن ليرز لم يستشر بويل أبدا. ترى «فيم» كان يفكر ليرز؟ إنها الأرباح ولا شك. وإني لأتساءل ما إذا كان العالم الجليل روبرت بويل قد استشاط غضبا لدى تسلمه نسخته المقدمة على سبيل الهدية. (3) تعزيز الحواس البشرية الضعيفة
يبدو أننا - الكيميائيين - قد تنازلنا عن روبرت هوك (1635-1703) للفيزيائيين والبيولوجيين، هذا إذا اعتبرنا الكتب الدراسية التمهيدية مؤشرا لأي شيء. فبداية من مرحلة الدراسة الإعدادية وما بعدها، يتعلم الجميع أن هوك هو من صاغ كلمة «خلية» لوصف البنية المجهرية للفلين. ومن يدرسون الفيزياء يعرفون أن الزنبرك، سواء كان حلزونيا أم لا، يخضع لقانون هوك. نحن نعرف أنه لم يمض وقت طويل بعد اختراع أوتو فون جيريكه المضخة الهوائية (عام 1654)،
21
حتى أنشأ هوك مضخة بويل الهوائية؛ إذ كان يعاون روبرت بويل.
21 ،
22
ومع ذلك، كان هوك يطلق على نفسه «فيلسوفا طبيعيا»، وكان مجال نشاطه العلمي يبرر ذلك اللقب بأكثر مما يكفي؛ فبعد الانتهاء من التدريب في جامعة أكسفورد، عين أمينا للتجارب في الجمعية الملكية، وحصل على زمالة الجمعية الملكية بالانتخاب في عام 1663، وفي عام 1665، عين أستاذا للهندسة في كلية جريشام.
23 ،
24
ويقال إن هوك كان «يعاني من سوء حالته الصحية وقلة النوم»؛ نظرا لإصابته بنوع من وسواس المرض، ويقال إنه «في السنوات القليلة التي سبقت وفاته لم يكن يخلد إلى فراشه أو يخلع ملابسه.»
25
ويسهل تفهم ذلك؛ نظرا لأن «تشتت جهوده كان يرجع على ما يبدو، في جزء منه على الأقل، إلى الاهتمامات المتنوعة للجمعية الملكية، والتي جعلت هوك يجري مجموعة متنوعة من التجارب دون منحه الوقت لإنهاء أي منها. وكانت الجمعية تطلب منه أيضا أن يكرر نفس التجربة مرارا، رافضة رؤية التفسير الصحيح الذي كان هوك يلحقه بها.»
25
كان أهم أعمال هوك المنشورة هو كتاب «الفحص المجهري»
26 - المنشور عام 1665 في قطع نصف فرخ - الذي يعد أحد أروع الكتب في تاريخ العلوم. يتناول الكتاب الفحص المجهري في معظمه، وإن كان المقالان الأخيران يصفان دراسات على النجوم والقمر أجريت بالاستعانة بالتلسكوب. وقد استخدمت رسوم هوك التخطيطية اللاحقة لكوكب المريخ في القرن التاسع عشر لتحديد الفترة المدارية للكوكب.
23
ويطمئننا هوك
27
عبر مرآة القرن السابع عشر البعيدة أن بإمكاننا «استرداد بعض من مظاهر الروعة الغابرة» (تلك التي فقدناها بطرد آدم وحواء من الجنة)؛ وذلك إذا:
اعتنينا بالحواس البشرية بتعزيز قصورها بالمعدات، وإذا جاز القول، إضافة أعضاء صناعية للأعضاء الطبيعية.
وفي حين أن اكتشاف المجهر العظيم الذي توصل إليه هوك كان أحدث ما توصل إليه العلم في عام 1665، فقد قال:
27
ليس مستبعدا أن تخترع وسائل مساعدة عديدة أخرى للعين، تتفوق إلى حد كبير على تلك الموجودة بالفعل؛ إذ تعمل عمل العين المجردة؛ ومن ثم ربما نستطيع من خلالها اكتشاف كائنات حية على سطح القمر، أو على الكواكب الأخرى، أو أشكال الجسيمات المركبة للمادة، والتراكيب المحددة للأجسام وأنسجتها.
يا لها من خطة طموحة، لكن دعونا نتخير بضع مقتطفات من كتاب «الفحص المجهري».
تستكشف المشاهدة الثالثة عشرة
28
الأشكال المجهرية للمواد البلورية وتطرح الفرضية العميقة بأن هذه التراكيب المنتظمة ثلاثية الأبعاد يمكن أن توضح من خلال التعبئة المتراصة (السداسية) للكرات (انظر الشكل
4-5 ). أما المشاهدة الرابعة عشرة
29 (وهي لعدة أنواع من الأشياء المجمدة)، فتصور بلورات ثلج من مصادر مختلفة (الشكل
4-6 )؛ والبلورات التي تلاحظ على سطح البول المجمد تكون في بعض الأحيان عملاقة (خاصة تلك التي شوهدت في قنوات مليئة بمياه الصرف). وهي تتخذ شكلا شبه سداسي متماثل (الصورة
i ). (ملحوظة: الأرقام الرومانية المستشهد بها في النص تشير إلى الأشكال الأصلية المعروضة في هذه الصور التجميعية الموضحة بالأسفل.) فما طبيعة بلورات البول؟ يقول هوك: «من خلال تذوق عدة قطع صافية من هذا الثلج، لم أتمكن من تمييز مذاق البول فيها، لكن تلك القطع القليلة التي تذوقتها، بدت لي بلا مذاق كالماء.»
29
شكل 4-5: بلورات من كتاب هوك «الفحص المجهري» الصادر عام 1665. وضح هوك في هذه الصورة البنى البلورية بنظام التعبئة المتراصة للكرات، في رؤية استباقية ثاقبة لشرح دالتون الذي تبع ذلك بمائة وأربعين عاما.
شكل 4-6: بلورات ثلج كما رآها هوك تحت المجهر. أدرك هوك أن هيئتها السداسية المتماثلة مبنية على التعبئة المتراصة للكرات (الشكل
4-5 ). ووجد هوك أن البلورات الثلجية للبول كانت ماء نقيا (إذ لم تحتو على مذاق «البول»).
وتجسد الصورة 2 (في الشكل
4-6 ) رقائق ثلج موضوعة على قطعة قماش سوداء، ويلاحظ أنه رغم تطابق الأذرع الست لرقاقة الثلج الواحدة، فإنها تختلف عن أذرع الرقائق الأخرى. أما الصورة 3، فهي نسخة مكبرة من رقاقة ثلج واحدة. والصورتان 4 و5 توضحان بلورات ثلج مقشوطة بسكين من سطح وعاء زجاجي كان ممتلئا بالماء ثم تم تجميده. وبالرغم من أن تماثل الشكل السداسي لا يتبين من الوهلة الأولى، فإن الزوايا التي تشكلها الأذرع مع «الجذع المركزي» في الصورة 4 هي 60 درجة و120 درجة. وتوضح الصورة 6 سطح الماء إذ يشرع في التجمد. وقد ربط هوك هذه المشاهدات بالمشاهدة الثالثة عشرة (الشكل
4-5 )، لا سيما بتعبئة الكرات المتراصة في هيئة سداسية لتشكيل بلورات. ورغم عجزه عن إعطاء معنى كيميائي لهذه الكرات، استعان جون دالتون بعده بنحو مائة وأربعين عاما بنظرية هوك الذرية لشرح البنية البلورية للثلج برسوم مشابهة توظف الكرات لتمثل جزيئات الماء.
30
من الناحية الكيميائية، تمثل المشاهدة السادسة عشرة (عن الفحم، أو النباتات «المحترقة»)
31
أكثر المقالات تشويقا في كتاب «الفحص المجهري». فتوضع المادة النباتية في بوتقة ، مع إحاطتها وتغطيتها تماما بالرمال، ثم تسخن على النار. وما إن تنتهي عملية التسخين، وتترك الرمال لتبرد، يمكنك الحصول على الفحم. ولكن، إذا كان الرمل ما زال ساخنا (أو حتى دافئا)، فإن الفحم غير المغطى سوف يتطاير في شكل لهب ويتبدد تماما. أما البيئات الأخرى التي يقل فيها الأكسجين (بما في ذلك الفراغ)، فلم تدعم عملية احتراق الفحم. غير أن الفحم الذي كان يتم تسخينه في الفراغ كان يشتعل بمجرد إدخال تيار من الهواء الجوي. بالطبع كان البارود (المكون من الفحم والكبريت ونترات البوتاسيوم) معروفا منذ قرون. وكان تسخين الفحم مع نترات البوتاسيوم ينتج احتراقا قويا وكاملا في وعاء مغلق (وتحت الماء أيضا). على النقيض من ذلك، كان إحراق الفحم في وعاء مغلق غير مفرغ من الهواء سرعان ما يتوقف تدريجيا. وقد سجل هوك مشاهدات مماثلة عند استخدام الكبريت بدلا من الفحم. فافترض أن الهواء «مذيب» قادر على «إذابة» الأجسام «الكبريتية» (أي القابلة للاحتراق). علاوة على ذلك:
31
تتم إذابة الأجساد الكبريتية من خلال مادة متوطنة، ومختلطة مع الهواء، تشبه - إن لم تكن هي نفسها - المادة التي يحتوي عليها مركب نترات البوتاسيوم، والتي أظن أنه يمكن الكشف عنها بوضوح كبير بإجراء عدد من التجارب باستخدام نترات البوتاسيوم.
سنتحدث بعد قليل عن د. جون مايو، صديق هوك ورفيقه. لم دائما ما ينسب اكتشاف أن أحد عناصر الهواء يدعم الاحتراق والتنفس إلى مايو لا إلى هوك؟ يشير بارتينجتون
32
إلى أن هوك افترض أن المادة «المختلطة» بالهواء هي «مادة ملحية» (ربما نترات بوتاسيوم متحللة ومعلقة؟) ربما «ترشحت» على نحو ما. وكان مايو هو من أثبت على نحو صحيح أن المادة الفعالة هي عنصر غازي من عناصر الهواء الجوي.
وقد عرض كتاب «الفحص المجهري» عدة صور لأشياء صغيرة تحت المجهر. على سبيل المثال، قدمت الصورة المجهرية لشوكة نحلة
33
رؤى كاشفة مفيدة للغاية بشأن آلية عملها. غير أن جامعي الكتب القديمة يرون أن ما يفوق النحل اللاسع الشرس والبراغيث الحاملة للطاعون سوءا هي عثة الكتب المخيفة (انظر الشكل
4-7 )!
34
ولنستمع إلى ما قاله هوك في هذا الشأن:
في الواقع، حين أتأمل كومة نشارة الخشب أو الرقاقات التي يحملها هذا الكائن الضئيل (الذي يمثل واحدا من أنياب الدهر) في أحشائه، لا يسعني سوى أن أذكر في إعجاب روعة ما تبدعه الطبيعة من وضع مثل هذه النار في هذه الحشرات؛ إذ تقتات هذه الحشرات وتتغذى باستمرار على هذه المواد التي تحملها في بطنها، والتي تحرقها الرئتان، وكذا أعجب من تشكيلها إحدى أروع بنى الكائنات الحية، حيث جعلت الطبيعة استهلاك هذه النار وتنفيثها شرطا أساسيا لكي تؤمن هذه الحشرات وتجمع مزيدا من المواد التي تساعدها على العيش والتنامي؛ وهذا على ما يبدو هو الغاية الأساسية من جميع الآليات الحيوية التي يمكن رصدها في كل الحيوانات.
شكل 4-7: ما من جامع كتب أو أمين مكتبة سيعترض على هذا الملصق المطلوب فيه ضبط هذه الحشرة حية أو ميتة.
وكان ذلك قبل حوالي 120 عاما من إثبات لافوازييه بالميزان والمسعر (جهاز قياس كمية الحرارة) أن التنفس عملية احتراق! (4) نشقة أكسجين عابرة؟
كان جون مايو (1641-1679)
35
قاب قوسين أو أدنى من «وأد» نظرية الفلوجستون «في مهدها» فور طرح بيشر لصيغتها الأولى في عام 1669. التحق مايو في البداية بجامعة أكسفورد في عام 1658، ثم قبل كباحث في عام 1659، وانتخب زميلا لكلية أول سولز في عام 1660. أصبح مايو «طبيبا معتمدا» حوالي عام 1670، على الرغم من أن بارتينجتون لم يستطع أن يجد أي دليل على حصول مايو على أي شهادة رسمية في الطب.
35
ليس معروفا على وجه التحديد متى التقى مايو وهوك، أو ما إذا كان مايو قد التقى بويل من الأساس. ولكن يبدو أنه قد سمح له بدخول مضخة بويل الهوائية في أكسفورد خلال ستينيات القرن السابع عشر.
36
نشر مايو عام 1668 مقالين علميين قصيرين يتناولان التنفس والكساح. وفي عام 1674، جرى تنقيح هذين المقالين ونشرا مع ثلاثة مقالات أخرى لتشكل جميعا مؤلفا بعنوان «خمسة مقالات في الفيزياء الطبية ...»
37
في هذا العمل يعرف مايو ما أسماه «الروح النترو هوائية». ومثلما فعل هوك في كتابه «الفحص المجهري» الصادر عام 1665، يحدد مايو مادة في الهواء لازمة لدعم احتراق المادة «الكبريتية» مثلما كان معروفا عن النتر أو نترات البوتاسيوم. كان يقال إن المواد السريعة الاشتعال تحتوي على «مادة كبريتية»، وكان ذلك وثيق الارتباط قطعا بنظرية الفلوجستون. في الواقع، يمكن أن تنسب هذه المفاهيم إلى المواد الجوهرية الثلاث التي صنفها باراسيلسوس: الكبريت والزئبق والملح. ومع ذلك، تمثل أعظم إسهامات مايو
35
في الكيمياء في التوصل إلى أن: (1) ثمة عنصرا في الهواء يدعم الاحتراق. (2) هذا العنصر الموجود في الهواء له نفس تأثير النتر أو نترات البوتاسيوم. (3) هذا العنصر كذلك يدعم التنفس؛ والاكتشاف الأكثر تفردا هو (4) أن هذا العنصر هو عنصر غازي معين في الهواء. وهكذا، احتوى «الهواء الجوي» على عنصر غازي قادر على دعم الاحتراق والتنفس وعنصر غازي آخر لا يستطيع ذلك. وقد تطرقنا لوصف أدوات مايو وتجاربه في موضع آخر.
38
تناول مايو ملاحظة مثيرة لبويل عن البارود بالشرح على نحو صحيح. كان معروفا أن نترات البوتاسيوم التي يحتوي عليها البارود توفر قدرا من «الروح النترو هوائية» أكبر بكثير من تلك التي كان يوفرها الهواء الجوي. علاوة على ذلك، يمكن للعناصر «القابلة للاحتراق» في البارود، والكربون، والكبريت أن يحترق كل منها في وعاء مغلق إلى درجة معينة ومن ثم تنطفئ. على النقيض، عند حرق الكربون والكبريت مع نترات البوتاسيوم في وعاء مغلق، فإنها ستحترق احتراقا كاملا مثلما يحدث للبارود في مثل هذه الظروف. لكن بويل وضع بعض البارود في دائرة على سطح تحت الفراغ.
39
وتحت عدسة حارقة لاحظ اشتعالا بطيئا وموضعيا لجزيئات البارود المعرضة مباشرة إلى الضوء الشديد. وعند إبعاد العدسة توقف الاحتراق. ومع ذلك، في حالة تركيز العدسة الحارقة على بعض بلورات البارود داخل دائرة المسحوق وكان الجهاز معرضا للهواء الجوي، يحدث احتراق كامل على الفور. وقد أصاب مايو بالتفكير في أن الجزيئات «النترو هوائية» ينبغي أن تكون متصلة اتصالا مباشرا بالفحم أو الكبريت لكي يحدث الاحتراق.
40
يعلق بارتينجتون
41
على زعم مايو بأنه قد سخن النتر وجمع حمض النيتريك الناتج؛ فيقول: «لو أنه أجرى التجربة بحق، لاستطاع اكتشاف الأكسجين.» ومع ذلك، بحسب ما يشير بارتينجتون وآخرون، لم يكن مايو يملك الوسائل اللازمة لحبس الغازات، والتحكم فيها، ودراستها. فمثل هذه التقنيات انتظرت ما أحدثه ستيفن هيلز
42
من تطورات في عام 1727، وما لحقها من تحسينات أدخلها ويليام براونريج، وجوزيف بلاك، وهنري كافنديش، وجوزيف بريستلي.
عني كتاب «خمسة مقالات في الفيزياء الطبية» بمسائل عملية أخرى تتجاوز المسائل الطبية، والفسيولوجية، والكيميائية. على سبيل المثال، ناقش مايو منشأ الأعمدة المائية وعزاها إلى الاضطرابات الجوية (انظر الشكلين
4-8 ،
4-9 ؛ وانظر كذلك دراسات بنجامين فرانكلين على هذه الظواهر في الشكل
5-22
في جزء لاحق من هذا الكتاب). إن شرح مايو للبرق والرعد يذكر بشروح باراسيلسوس،
43
ويصور الانفجارات بين الروح «النترو هوائية» والمادة «الكبريتية» في الغلاف الجوي.
شكل 4-8: عمود مائي مصور في كتاب «خمسة مقالات في الفيزياء الطبية» (من طبعة عام 1681 التي نشرت في لاهاي؛ وكانت الطبعة الأولى قد نشرت في أكسفورد في عام 1674).
شكل 4-9: عمود مائي آخر مصور في طبعة عام 1681 من كتاب مايو «خمسة مقالات في الفيزياء الطبية». كان مايو قاب قوسين أو أدنى من اكتشاف أن نترات البوتاسيوم تحتوي على الأكسجين، مما يمكنه من دعم الاحتراق. وقد درس روبرت بويل ومساعده روبرت هوك، الذي كانت تربطه علاقة ودية مع مايو أيضا، قدرة نترات البوتاسيوم على تعزيز الاحتراق. (5) عنصر لوسيفر وحبوب نوكل
استخدم البول - ذلك السائل الذهبي الذي وهب خواص حيوية وخفية - لقرون في آلاف المستحضرات الخيميائية. ولا شك أنه قد تعرض إلى التقطير حتى الجفاف مرات لا حصر لها. غير أنه في عام 1669، قام خيميائي مغمور رغم براعته - يدعى هينيج براند - بغلي البول، مركزا إياه حتى أصبح شرابا سميكا مركزا، ثم قطر منه زيتا أحمر اللون. أضيف الكربون الأسود المترسب في المقطرة المعوجة إلى هذا الزيت الأحمر ثم سخن في مقطرة معوجة فخارية. وقد تخيل جون إمزلي المشهد في كتابه الرائع «العنصر الثالث عشر».
44 «فنرى» براند يراقب سائلا متوهجا كثيفا يتحول إلى ألسنة لهب ما إن يتعرض للهواء.
45
وما إن يعزل براند السائل في وعاء الاستقبال، حتى يتصلب ولكنه لا يزال متوهجا. تخيل مدى التعجب الذي أثاره هذا المشهد - سر ملتهب وهاج مختف في أجسادنا ومفرغاتنا! لقد اكتشف براند عنصر الفوسفور (وهي تسمية تعني «جالب النور»). إن درجة انصهار الفوسفور الأبيض (44 درجة مئوية) ودرجة غليانه (280 درجة مئوية) منخفضتان تماما؛ وهذا يبرر سهولة تقطيره، وحقيقة أن الشوائب قد تقلل درجة انصهاره بما يكفي لإنتاج «فوسفور سائل».
وبدلا من أن ينشر براند رسالة عن البول وتحوله إلى الفوسفور، أبقى عمله في هامبورج سرا لحوالي ست سنوات، آملا في جمع ثروة بمجرد أن يتوصل إلى فائدة لهذا الاكتشاف.
45
ولكنه بعد أن استنزف ثروة زوجته الثانية في هذا البحث غير المثمر، انتهى به الحال إلى الإعلان عن اكتشافه الذي جذب انتباه يوهان نوكل، وكان صانع ذهب غير موفق لدى «ناخب ساكسونيا»،
46
تقاعد حديثا ليدرس في جامعة فيتنبرج. زار نوكل هامبورج لكنه لم يستطع معرفة أي تفاصيل من براند. فأخبر نوكل، بدوره، زميلا خيميائيا آخر، هو يوهان دانيال كرافت، في درسدن عن تلك المادة الجديدة. فما كان من كرافت، ما إن استشعر وجود فرصة، إلا أن أسرع من فوره إلى هامبورج واشترى كل مخزون براند من الفوسفور، بالإضافة إلى الحقوق الحصرية وتعهد بالسرية من براند. وقد مر هذا الاحتيال التجاري تحت علم نوكل، إذا جاز القول، ولم ينتفع هذا الأكاديمي المتميز بشيء من براند سوى الإشارة إلى أن البول هو مصدر الفوسفور.
45
على الرغم من أن نوكل (1630-1703)،
47
الذي ولد لأب خيميائي، لم يحصل على أي تعليم أكاديمي رسمي، فقد كان باحثا علميا متمكنا ومحترما. فبتلك الإشارة المبهمة التي أعطاه إياها براند، اكتشف نوكل بمفرده العملية، ونشر خواص ما أسماه «ضوء الليل الذي لا ينتهي»، دون طريقة تحضيره، في عام 1678. حصل روبرت بويل على عينات من كرافت ونوكل خلال هذه الفترة، وعليه نشر كتابا في عام 1680 عن تحضير الفوسفور السائل وخواصه بعنوان «روح ضوء الليل»، وكتابا آخر عام 1682 عن الفوسفور الصلب بعنوان «ضوء الليل الصلب».
47
حتى عالم الرياضيات البارز جوتفريد فيلهلم لايبنتز (1646-1716)، الذي وضع حساب التفاضل والتكامل مستقلا عن السير إسحاق نيوتن؛ فقد استمر على اهتمامه بالخيمياء طوال حياته، مثلما كان حال غريمه الأساسي نيوتن، وكتب عن دراساته التجريبية عن الفوسفور.
47 ،
48
يوضح الشكل
4-10
الصورة المجازية الساحرة المقترنة بالفوسفور؛ إذ يبين هذا الشكل صفحة صدر الكتاب الرائعة لكتاب يوهان هاينريش كوهاوزن
49
الذي نشر عام 1717 عن الفوسفور، والتي يظهر فيها كل من هرمس وتنين طائر كمصدرين للضوء والنار. ويظهر الشكل
4-11
50
فيما يبدو يوهان دانيال كرافت إذ «يقنع» ليوبولد الأول بالفوسفور في بداية عهده الطويل (1658-1705) كإمبراطور للإمبراطورية الرومانية المقدسة. في ذلك الشكل، تبين الصورة 1 الفوسفور المضيء (الصلب)؛ والصورة 2 تبين الفوسفور السائل يطلق أبخرة وهو في حالة السكون؛ وفي الصورة 3، مقياس للضغط يومض في الظلام. وتبين الصورة 5 شيئا يشبه «الإشارة الضوئية»
51
مطبوع عليها اسم الإمبراطور بخط منمق بالفوسفور الصلب - في ملمح عصري للغاية من ملامح فن البيع الذكي.
شكل 4-10: صفحة العنوان الغامضة من أطروحة يوهان هاينريش كوهاوزن المنشورة عام 1717 عن الفوسفور، وفيها يظهر هرمس والتنين الطائر كمصدرين للنار والضوء؛ في صورة مجازية لخواص الفوسفور الأبيض.
شكل 4-11: رسم توضيحي من كتاب كوهاوزن المنشور عام 1717 بعنوان «الفوسفور: نور جديد يتوهج». كيف يستطيع شخص إبرام اتفاقية لبيع الفوسفور للإمبراطورية الرومانية المقدسة؟ الأمر بسيط، اصنع لافتة واكتب عليها بالفوسفور الأبيض اسم الإمبراطور «ليوبولد»، فيضيء الاسم بقوة في الليل.
شكل 4-12: صورة فرن تصنيع الزجاج كما جاءت في كتاب «أسلوب تجريبي في صناعة الزجاج» (1679) لنوكل (بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي). تعرض نوكل للخداع من «صديقه» يوهان دانيال كرافت («البائع المتجول» في الشكل
4-11 ) الذي احتكر اكتشاف هينينج براند للفوسفور. ولكن تلك الإشارة غير المقصودة من براند إلى أن الفوسفور نتج عن البول كانت كافية لنوكل الذكي لاكتشاف كيفية إنتاجه بمفرده.
شكل 4-13: تصنيع دمى الزجاج الصغيرة بمساعدة منفاخ يدار بدواسة (من كتاب نوكل «أسلوب تجريبي في صناعة الزجاج» الصادر عام 1679، بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي).
كان نوكل بلا شك خيميائيا متحمسا، وإن لم يكن صانع ذهب ناجحا. وقد سجل نوكل ، انطلاقا من اعتقاده بأن الزئبق هو الروح ذات الخواص الفلزية التي تبقى محفوظة خلال عملية تحول المعادن، أنه استخرج الزئبق من كل المعادن.
52
ومع ذلك، فقد أشارت دراساته الكمية إلى أن الأنتيمون يزداد وزنا عند التكليس، وتضمنت أيضا قياس قوة حمض النيتريك بتشبيعه بالفضة، وتبخير المحلول حتى الجفاف، ثم قياس وزن الملح المتبقي.
53
وقد ساهم نوكل أيضا في فن صناعة الزجاج، وتضمن كتابه «أسلوب تجريبي في صناعة الزجاج» - المنشور عام 1679 - عمل أنطونيو نيري المنشور عام 1612 (في سبعة كتب)، وحدثه نوكل بضم كتب ثلاثة من تأليفه.
54
ويبين الشكل
4-12 ، من الكتاب المنشور عام 1679، فرنا لصناعة الزجاج وعمالا يصممون زجاجات. وفي الشكل
4-13 ، نرى منفاخا يدار بدواسة يستخدم في تصنيع لعب زجاجية صغيرة.
47
يتتبع كتاب إمزلي
44
تاريخ تطور الفوسفور واستخداماته، واقترح إمكانية تسمية هذا العنصر ب «عنصر الشيطان».
55
كذلك يصف الكتاب أساس التقطير الإتلافي للبول (أو العظام) لإنتاج الفوسفور؛ إذ يبين كيف أن مادة عضوية - مثل الكرياتين - في البول تتحلل تحت ظروف النقص الشديد للأكسجين إلى كربون أولي (مثل الفحم). ومع التسخين في درجة حرارة عالية، ينتزع الكربون ذرات الأكسجين من أملاح الفوسفات الموجودة أيضا في رواسب البول، مكونا غاز أول أكسيد الكربون. وفي الواقع، لا يختلف هذا الوصف كثيرا عما يحدث في العملية الصناعية لإنتاج الفوسفور الأبيض من الفوسفات الصخري في وجود فحم الكوك وثاني أكسيد السيليكون (السيليكا):
56
في أحد فصول كتاب إمزلي والذي جاء تحت عنوان
57 «المنشط السام»، يشير إمزلي إلى التسويق لحبوب مصنوعة من هذا العنصر البالغ السمية. كانت تلك الحبوب مغلفة بغلاف رقيق من الذهب أو الفضة للسلامة الجسدية، وكانت تسوق تحت اسم «حبوب نوكل»، وذلك بعد فترة قصيرة جدا من وفاة الكيميائي المشهور. وثمة ستون صفحة تغطي التاريخ الكيميائي والعملي والتجاري والاجتماعي لأعواد الكبريت، وهذا الجزء ممتع للغاية، حتى إنك يمكن أن تقرأه كرواية. (اكتشف الفوسفور الأحمر - ذلك المتآصل البولمري - في القرن التاسع عشر بتسخين الفوسفور الأبيض حتى درجة حرارة 400 درجة مئوية في وعاء مغلق. وقد ساعد في جعل صناعة أعواد الكبريت أكثر أمانا.) هنا، نتعرف لأول مرة على آني بيسنت، المصلحة الاجتماعية الإنجليزية في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، والتي شكلت اتحادا للنساء العاملات في صناعة أعواد الكبريت الخطيرة والاستنزافية. وسوف نلتقي بها في موضع لاحق من هذا الكتاب - بعد حوالي عشرين عاما من «التنبؤ» بالبنى الداخلية للذرات (انظر [الجزء الثامن: بعض المرح، القسم الأول: صور واضحة للذرات - سرد كيميائي غريب]). ويصف إمزلي مصدر توهج الفوسفور الأبيض، وهو الأمر الذي لم يوضح تماما إلا عام 1974. يحدث تفاعل على سطح الفوسفور الأبيض، وهو مادة صلبة تتكون من جزيئات
4
رباعية الأوجه، مع الأكسجين، وهو التفاعل الذي يسفر عن تكوين جزيئات
HPO
و
2
O
2
التي تتسم بدرجة بالغة من عدم الاستقرار، والتي تتلألأ بالقرب من سطح الفوسفور الأبيض الذي كونها قبيل «تلاشيها» تماما.
58 (6) الخيميائي مستشار الإمبراطور الاقتصادي
رحل يوهان يواكيم بيشر (1635-1682)
59 ،
60 ،
61
منذ أكثر من ثلاثة قرون، وعادة ما لا نراه سوى المؤسس الأول للنظرية الكيميائية الجامعة: الفلوجستون. لكن ما نغفله عامة هو أن بيشر ربما كان أعظم خبير اقتصادي في الإمبراطورية الرومانية المقدسة في القرن السابع عشر.
61
وربما يكون ذلك هو العامل المشترك الذي يجمعه بأنطوان لوران لافوازييه، الذي سيصبح خلال أواخر القرن الثامن عشر مؤسس الكيمياء الحديثة رغم كونه أحد أعظم رجال الاقتصاد في فرنسا.
62
في عام 1666، عين بيشر ذو الواحد والثلاثين عاما آنذاك مستشارا اقتصاديا للإمبراطور ليوبولد الأول، ولقب نفسه ب «المستشار التجاري لجلالة إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة.»
63
بعد ذلك بستة عشر عاما، توفي بيشر في لندن، تاركا أسرته تشكو شظف العيش، حتى إن ابنته اضطرت للعمل خادمة في المنازل.
64
بقيت الإمبراطورية الرومانية - على الأقل اسما - لألف عام ويزيد بعدما خلع البابا ليو الثالث لقب الإمبراطور على شارلمان في عام 800 ميلاديا.
65
وكانت الإمبراطورية الرومانية تشكل مملكة شاسعة في وسط أوروبا نواتها الجرمانيون الذين جاء منهم معظم الحكام الشعبيين. وقد أدت حركة الإصلاح في القرن السادس عشر إلى نشوء مراكز قوى متمردة، لا سيما بين الأمراء الجرمانيين الذين اعتنقوا البروتستانتينية وتمردوا على الإمبراطور. وعززت هذه التوترات الدينية صراعات وتحالفات إقليمية معقدة وغير مفهومة أسفرت عن بدء حرب الثلاثين عاما الكارثية (1618-1648).
66
وبعد انتهاء الحرب بتوقيع معاهدة وستفاليا في عام 1648، فقدت إسبانيا هولندا وفقدت معها تفوقها في القارة، وعلا نجم فرنسا كقوة أوروبية غربية كبرى، ودمر اقتصاد العديد من المدن الجرمانية، وصارت الإمبراطورية الرومانية إلى ضعف من بعد قوة بلا رجعة. وبعد قرن، جاء الكاتب الفرنسي الساخر الشهير فولتير ليقول ساخرا عن الإمبراطورية الرومانية المقدسة: «لم تكن مقدسة، ولا رومانية، ولا حتى إمبراطورية.»
65
وانتهت الإمبراطورية الرومانية المقدسة من الوجود تماما في ظروف مؤسفة في عام 1806، بعد عامين من إعلان نابليون نفسه إمبراطورا لفرنسا.
شكل 4-14: صفحة العنوان من طبعة عام 1660 الصادرة في فرانكفورت من كتاب «ملاحظات طبيعية عن المعادن» ليوهان يواكيم بيشر. يعرف بيشر بين الكيميائيين بأبي نظرية الفلوجستون؛ ومع ذلك فقد كان مشهورا، ولو بنفس القدر على الأقل، بعلمه بالاقتصاد ومكانته كمستشار تجاري لليوبولد الأول إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة (بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
بلغ بيشر سن الرشد في أعقاب حرب الثلاثين عاما، وكرس نفسه لرخاء ألمانيا وازدهارها، شأنه في ذلك شأن كثير من الكيميائيين البارزين في ذلك الوقت، من بينهم نوكل، ويوهان رادولف جلاوبر. تولى بيشر تعليم نفسه بنفسه، ونما لديه اهتمام مبكر بالتكنولوجيا، ونشر كتابه الأول في عام 1654 حول الخيمياء تحت الاسم المستعار سولينوس سالتزثال.
59 ،
60
ومع حلول عام 1655، رسخ بيشر مكانته كمستشار للرياضيات للإمبراطور الروماني المقدس فرديناند الثالث في فيينا، وكان يقدم له المشورة فيما يخص العمليات الخيميائية.
67
نشر أول كتاب لبيشر عن كيمياء الفلزات والطب الكيميائي - بعنوان «ملاحظات طبيعية عن المعادن» (انظر الشكل
4-14 ) - في عام 1660.
59
كان بيشر يعتقد في «النظرية الحيوية» والتي تفيد بأن المعادن، والحيوانات، والنباتات «تعيش حياة من نوع ما وتنبت من بذور في الأرض.»
59
حصل بيشر على شهادة الطب من جامعة ماينز في عام 1661، وعين في كلية الطب في الجامعة عام 1663، وأصبح طبيبا ل «ناخب ماينز». تزوج في عام 1662 امرأة من عائلة ثرية وتحظى باحترام كبير، ثم انتقل بيشر الذي لا يعرف الهدوء أبدا إلى ميونخ في عام 1664 وأصبح مستشارا طبيا ورياضيا ل «ناخب بافاريا».
59-61
في هذه الفترة اندمج إلى حد كبير في النشاط التجاري، وأسس «الشركة التجارية الشرقية»، وحاول تأسيس مستعمرة تجارية في أمريكا الجنوبية لكفيله. وكما سبق أن أشرنا، انضم في عام 1666 لرجال الإمبراطور ليوبولد الأول في فيينا.
في كتابه المنشور عام 1664 «كيمياء أوديب»،
68
يصف بيشر أولى تصوراته بشأن التركيب الأساسي للمادة.
60
أما عمله الأشهر، فهو الكتاب الذي نشر في عام 1669 والذي يعرف عموما ب «فيزياء ما تحت الأرض».
59-61 ،
69
في هذا الكتاب ذهب بيشر
59 ،
60
إلى أن الهواء، والماء، والتراب يشكلون العناصر الحقيقية، فيما يعمل الهواء كأداة للخلط.» ويقول بيشر إن المعادن والأحجار تتشكل من ثلاث فئات من التراب وهي: التراب الزجاجي (جوهر المادة تحت الأرضية)، والتراب الدهني (خاصية قابلية الاحتراق)، والتراب السائل (الرائحة، وعدم الثبات، وبعض السمات الخفية الأخرى). وخلص بيشر إلى أن كل المواد التي تحترق، بما في ذلك المعادن مثل القصدير والزنك، لا بد أن تحتوي على التراب الدهني، على الرغم مما أشار إليه بارتينجتون
59
من أن بيشر لم يحدد أبدا ما يحدث للتراب الدهني. في الواقع، كان بيشر يعلم تمام العلم أن المعادن «تزداد» وزنا عند تشكيل الكلسات. وقد عزا بيشر ذلك إلى تراكم الأبخرة الملتهبة على المعدن كما ألمح بويل من قبل.
70
اعتمد تحول بيشر
71
من «مستودع للأسرار الخيميائية» قبل عام 1654 إلى المستشار الفني الموثوق للنبلاء والأباطرة على مدار الخمسة عشر عاما التالية على براعته في الميكانيكا والعلوم، والتي ضخمتها قدرته على تسويق نفسه بوصفه الخبير الذي يجب الاتجاه إليه عند طلب المشورة في عالم مليء بالمدعين معدومي الضمير. وفيما يلي مقتطف من خطاب موجه إلى الإمبراطور ليوبولد كتب في سبعينيات القرن السابع عشر:
71
ومع ذلك، فإن الأمر الأهم، نظرا لرغبة جلالتك في إجراء بعض التجارب على هذه الأشياء، أنه سيكون من الضروري الاستعانة بشخص مخلص وأمين وواسع المعرفة، يمكن لجلالتك أن تستشيره في أمر هذه العمليات التي يخبرك بها هؤلاء الصعاليك الحقراء، ويستطيع فهم هذه العمليات في سرية وتكتم وإخلاص، ويرفع لجلالتك تقارير بشأنها. فإن لم يحدث ذلك، لن تتمكن جلالتك من فهم جذور هذه العمليات، ولا فهم طبيعتها، وستظل ضحية لخداع هؤلاء المحتالين.
والآن، من كان يرى الطبيب بيشر تعيينه خبيرا للإمبراطور؟ تشير باميلا إتش سميث، كاتبة سيرة بيشر، ساخرة إلى أن: «وصف بيشر للتاجر الأناني الذي يبحث عن الربح يشبه إلى حد لافت موقفه شخصيا قبل عشر سنوات من هذا الخطاب.»
71
أدى انخراط بيشر في مصالح الاقتصاد الألماني إلى تصميمه مصنعا للأواني والمصنوعات الزجاجية، إلى جانب معمل ومكتبة. وقد فشلت المراسيم التي أصدرها في عام 1677 بمنع دخول الواردات الفرنسية إلى جنوب ألمانيا، وأدى ذلك إلى سجنه لفترة قصيرة في عام 1678.
60
وفي عام 1678، تورط أيضا في محاولة فاشلة للاتجار بتقنية هينينج براند لتصنيع الفوسفور.
72
ومع ذلك، نجح «اتحاد» آخر يرأسه جوتفريد فيلهلم لايبنتز - عالم الرياضيات المعروف الذي كان «متواطئا» مع الجاسوس الصناعي الغامض يوهان دانيال كرافت، في جلب براند وتقنيته إلى هانوفر. ستتذكر سيدي القارئ تلك الواقعة التي سبق أن أتينا على ذكرها من استغلال كرافت السريع لإشارة نوكل له عن اكتشاف براند للفوسفور، ومحاولته «احتكار السوق و«إقصاء نوكل». حتى براند وزوجته مارجريتا لم يكونا أرقى من اللجوء إلى التهديد بالانضمام إلى بيشر للحصول على أموال إضافية من الاتحاد الذي يرأسه لايبنتز. ولم يكن خطاب السيدة براند إلى لايبنتز ينطوي على كثير من المعاني الخافية: «إن الطبيب بيشر بالغ الأمانة دائما، ومنذ أربعة أسابيع، حين كان مغادرا هامبورج إلى أمستردام، منح زوجي أربعة وتسعين رايشستالر (عملة الإمبراطورية الرومانية المقدسة) تكريما له.»
72
وتحسبا لفشل عرضه العملي الموسع المحتمل لعملية استخراج الذهب من رمال البحر التي كان بيشر قد حدد لها موعدا في مارس عام 1680 في هولندا،
60
غادر بيشر بسرعة متجها إلى لندن، دون عائلته. وعلى الرغم من أن روبرت بويل كان أحد مناصريه في إنجلترا، لم ينجح بيشر في التماساته إلى الجمعية الملكية لانتخابه عضوا فيها . ومع ذلك، باع ثلاثة من أفرانه المحمولة (انظر الشكلين
4-15
و
4-16 ) مقابل 12 جنيها لكل منها، أحدها اشتراه بويل. أعترف بأنني كنت سأستمتع بقراءة مسرحية أو قصة قصيرة تجسد ذلك التفاعل بين بويل الرجل الإنجليزي الأرستقراطي وبيشر الذي يصغره بثمانية أعوام، الذي ربما «أنهكته» المكائد التي تعرض إليها على مستوى القارة، والمآزق القانونية التي وقع فيها، وتركه لعائلته خلال العامين الأخيرين من حياته القصيرة المليئة بالمغامرات.
شكل 4-15: لم يكن بيشر أي شيء سوى صاحب رأس مال مخاطر، وهذا هو الفرن النقال الذي ابتكره وسوقه. وقد اشترى روبرت بويل أحد هذه الأفران مقابل 12 جنيها (من كتاب بيشر «ملاحظات طبيعية عن المعادن» بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
شكل 4-16: صورة لمكونات فرن بيشر النقال منفصلة (انظر الشكل
4-15 ) (من كتاب بيشر «ملاحظات طبيعية عن المعادن»؛ بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
لم تجد نظرية بيشر من يعترف بها في زمنه، حتى تبناها الطبيب الشهير جورج إرنست شتال (1660-1734) بعد نحو ثلاثة عقود.
73 ،
74 ،
75
وعلى الرغم من أنك كثيرا ما تقرأ أن شتال كان «تلميذا» أو «مريدا» لبيشر، فإن من الجدير بالملاحظة أن شتال كان قد أتم لتوه عامه الثاني والعشرين، وكان يدرس الطب في ينا بألمانيا حين توفي بيشر في لندن في عام 1682. وبالرغم من أن اهتمام شتال بالكيمياء بدأ مبكرا، فما من إشارة إلى أن شتال قد التقى بيشر أبدا. غير أن قراءة شتال لعمل بيشر وتبنيه لنظريته هو الذي دفعه إلى إعادة نشر كتاب بيشر «فيزياء ما تحت الأرض» في عام 1703. وشتال هو من صاغ مصطلح «فلوجستون»، ووضع مبدأ أن جوهر النار تبتلعه البيئة المحيطة خلال عملية الاحتراق والتكلسات.
73
يذكر بارتينجتون أن «شتال كان متكبرا، مثيرا للإزعاج؛ فقد تشاجر مع زميله هوفمان الذي كان له أقدمية عليه، والذي يدين له شتال بتعيينه في هاله، وكان نادرا ما يرد على الخطابات، ويبدي احتقاره لكل من يختلف مع آرائه، ويأتي بردات فعل عنيفة إزاء النقد. وقد عززت هذه السمات ... سمعته إلى حد كبير .»
75 (7) هبة الفحم المتواضعة
لا يمكن اعتبار الفحم مادة مثيرة للإعجاب، لكنه مع ذلك أدى دورا محوريا في التاريخ البشري. فكما أشرنا في المقال السابق، أدت قدرة الفحم على انتزاع الأكسجين من الفوسفات عند تعريضه إلى درجات حرارة مرتفعة إلى اكتشاف براند - الذي أصابته الدهشة - لعنصر الفوسفور (الأبيض) الأولي. بمصطلحات هذا العصر، ندرك أن القوى المحركة لهذا التفاعل قوى دينامية حرارية. يكون أول أكسيد الكربون أقوى رابطة تساهمية في الطبيعة.
76
وعلى مستوى الطاقة، يمثل تكوين روابط كيميائية قوية على حساب الروابط الأضعف عاملا محركا قويا للتفاعلات الكيميائية. علاوة على ذلك، نحن ندرك أن الإنتروبيا (درجة العشوائية في نظام ما) يمكن أن تكون قوة محركة قوية أيضا. وإنتاج غاز (أول أكسيد الكربون) يزيد درجة العشوائية ومن ثم درجة الإنتروبيا يعد قوة دافعة شديدة في الاختزالات التي يقوم بها الفحم.
77
ويؤدي انطلاق الغاز في الجو إلى الحيلولة دون إعادة دخول ذرة الأكسجين الوحيدة الموجودة في أول أكسيد الكربون لإعادة تشكيل المادة «الأم»، مما يدفع التفاعل الكيميائي إلى الخطوة التالية. وعبر العصور والفحم يسخن مع مختلف تكلسات المعادن (مساحيق الأكاسيد) لاختزالها إلى المعادن الصافية الأصلية.
78
أما غاز أول أكسيد الكربون - الناتج الثانوي لهذه التفاعلات - فيختفي في الجو. يا له من تأثير سحري! في الواقع، يشكل الفحم المنشط حديثا أيضا مادة ماصة قوية للغاية بإمكانها إزالة الروائح، وتجريد السوائل من ألوانها، بل وجعل النبيذ الأحمر يشبه الماء. ويا لذلك من تأثير بشع!
شكل 4-17: لوحة بالألوان الزيتية على البورسلين للفنان إل ستورم، والأرجح أنه الرسام لودفيج ستورم المعروف بالرسم على البورسلين (المصدر: د. ألفريد بادر). ورغم أن اللوحة بعنوان «الخيميائي»، فإنها تصور كيمياء عقلانية. والعنصر الرئيس في الصورة هو وعاء الفحم. ويرجح أن أكسيدا فلزيا قد اختزل إلى معدن بفعل الفحم في البوتقة شديدة السخونة. انظر الصور الملونة (أود أن أعرب عن بالغ امتناني لمتحف الفن التابع لجامعة ولاية نيويورك في بينجهامتون لمنحي الإذن باستخدام هذه الصورة).
يظهر الشكل
4-17
صورة بالألوان الزيتية على البورسلين بفرشاة فنان يدعى إل ستورم بعنوان «الخيميائي».
79
والفنان الذي رسم الصورة هو في الغالب فنان يدعى لودفيج ستورم (1844-1926)، اشتهر في بامبرج وميونخ برسمه على البورسلين.
80 «ربما» يكون عنوان اللوحة مناسبا؛ نظرا لأن الشخصية المحورية في الصورة يبدو وأنه يجري عملية خيميائية لصالح العميلين الثريين المصورين بأزياء القرن الثامن عشر. ومع ذلك، فإن الخيمياء قد بلغت قمة ازدهارها خلال منتصف القرن السابع عشر، ومع منتصف القرن الثامن عشر كانت الكيمياء تشق طريقها في ثقة نحو اتخاذ مكانتها كعلم دقيق. كذلك كان الأثرياء السذج قد أصبحوا عقلاء بحلول تلك الفترة. فماذا يجري في هذه اللوحة؟ من الواضح أن مساعد الكيميائي قد أمده ببوتقة شديدة السخونة باستخدام فرنه ومنفاخه، بينما يضيف الكيميائي مسحوقا كلسيا إلى البوتقة. والعنصر الأساسي في هذه الصورة هو وعاء الفحم المسحوق الذي يظهر أمام العميل الثري الواقف إلى اليمين. ربما نتصور إضافة الفحم إلى البوتقة قبيل إضافة الكلس مباشرة. فلو كان الكلس هو أكسيد النحاس الأسود، لكانت النتيجة مشوقة على نحو خاص؛ إذ سيتصاعد هسيس غاز من الكتلة الداكنة وتظهر قطرة ذهبية مائلة إلى الحمرة من معدن سائل سرعان ما يتصلب متحولا إلى نحاس.
لكن لو نظرنا إلى الصورة من منظور أحد أنصار نظرية الفلوجستون، لاختلف الأمر. إن الفحم غني ومحمل بالفلوجستون - جوهر النار. وكلس النحاس سيكون فعليا نحاسا مجردا من الفلوجستون. وتلك العملية الكيميائية الموضحة في الصورة من شأنها اختزال الكلس ليعود فلزا مرة أخرى بإعادة كامل محتواه من الفلوجستون له. فهل كان الشخص في وسط الصورة خيميائيا (ترى أهو مدع أم محتال؟) يغري مستثمرين ثريين كانا يأملان في مضاعفة ثروتيهما؟ أعتقد أن الأمر ليس كذلك. ربما يكون كيميائيا مبتدئا أو عالم معادن كفئا يطلب الدعم من بعض المستثمرين الأثرياء. (8) التصنيفات الكيميائية المذهلة للمعادن والرخويات
شهدت السويد في القرن الثامن عشر
81
ازدهارا كبيرا في مجال التعدين وصناعة المعادن؛ إذ أصبحت المصدر الرئيس للحديد لباقي بلدان أوروبا. إلى جانب ذلك، كانت السويد تتمتع بمورد طبيعي وفير آخر متمثل في الغابات البكر ، مما جعلها مركزا لصناعة الأخشاب وتصنيع الأثاث. وربما يفسر هذا تأسيس التصنيف العلمي المفصل لكل من مملكتي النبات والمعادن في السويد خلال هذه الفترة. على الناحية الأخرى، ربما كان ذلك التصنيف نابعا ببساطة من رغبة اللوثريين الشديدة في النظام والتناغم.
في عام 1753، نشر كارلوس لينيوس (1707-1778)
82
كتاب «الأنواع النباتية»، مقدما فيه أول تصنيف علمي ممنهج للنباتات المزهرة والسراخس. وكان التصنيف مستندا بوجه عام إلى البنى الخارجية (التكوين) لأجزاء الزهور. كذلك كان للمظهر الخارجي دور رئيس في تصنيف المعادن. على سبيل المثال، كان ذلك التصنيف يفترض أن الأحجار الكريمة والياقوت قريبا الصلة. وفي عام 1758، نشر سويدي آخر، هو أكسيل فريدريك كرونستيت [1722 (أو 1702)-1765]،
83 (دون الكشف عن هويته) كتابه «محاولات في علم المعادن». في هذا الكتاب، صنف كرونستيت كل المعادن في أربع مجموعات كيميائية: المعادن الأرضية، والمعادن الملحية، والمعادن الزفتية، والمعادن الفلزية.
83
ومع ذلك، فإن هذا التصنيف البسيط نشر بعد عامين فقط من إعلان بلاك اكتشافه «الهواء المثبت» (غاز ثاني أكسيد الكربون)، وكان ذلك قبل حوالي عقدين من الثورة الكيميائية.
لتوضيح حالة الالتباس الكيميائي التي سادت علم المعادن خلال القرن الثامن عشر، سأذكر بضعة أمثلة كافية لهذا الغرض. البلمباجو أو حجر الجرافيت هو معدن زلق ضارب إلى الرصاصي يؤدي إلى اسوداد اليدين،
84
وأطلق عليه كذلك «الرصاص الأسود»؛ نظرا لشبهه الظاهري بالفلز الناعم الضارب إلى الرصاصي أيضا. وكان الجرافيت يدخل في صناعة الأقلام الرصاص في القرن السابع عشر؛
85
ومن هنا جاءت تسميته الأحدث: الجرافيت. بالطبع ما زال استخدام الأقلام «الرصاص» شائعا.
86
وقد صنف يوهان جوتشوك فالريوس (1709-1785)، وهو سويدي أيضا، الجرافيت كأحد أنواع فلز التلك.
87
وفي عام 1779، أكسد الكيميائي السويدي العظيم كارل فيلهم شيله الجرافيت مع النتر، وجمع غاز ثاني أكسيد الكربون «الهواء المثبت» الناتج، وخلص إلى أن معدن الجرافيت يتكون من الكربون الصافي.
88
على الناحية الأخرى، يبدو مظهر الألماس مختلفا عن الجرافيت، كما يمكن أن تتخيل. فهو بلوري وشفاف وأصلب من الصخر. وبالفعل، كان الألماس يبدو أقرب إلى الأحجار الكريمة الجميلة النادرة الأخرى، بما في ذلك الياقوت الأحمر، والعقيق، والياقوت الأزرق. ومع ذلك، اكتسبت الشائعات التي انتشرت حول التجارب التي يحرق فيها الألماس مصداقية متزايدة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر.
89
وفي عام 1760، وصف فرانسوا الأول - إمبراطور النمسا - تجربة حرق فيها الألماس وأحجار الياقوت على مدار 24 ساعة في بوتقات.
89
ولدى فتح البوتقات، وجد الياقوت الأحمر كما هو دون أن يطرأ عليه أي تغيير، بينما اختفى الألماس دون أي أثر. وفي عام 1797، أكسد سيمثسون تينانت الألماس مع النتر وأثبت بالدليل القاطع أن الألماس أيضا كربون صاف.
90
شكل 4-18: طورت الأدوات المستخدمة في تحليل المعادن باستخدام الحملاج لتصبح ذات تقنية عالية في السويد في القرن الثامن عشر (من كتاب توربم بيرجمان «مقالات في الفيزياء والكيمياء» المنشور عام 1788).
كان الحملاج (أداة نفخ) أداة مبكرة فعالة لتحليل تركيب المعادن وكيميائيتها. وعلى الرغم من أن أصولها ضاربة في القدم، فقد خضعت للتعديل للتخلص من عيوبها في السويد خلال القرن الثامن عشر.
91
وكان كل من شيله وتوربرن بيرجمان يستخدمان هذه الأداة على نحو مكثف. ويصف الشكل
4-18 - من مقالات لبيرجمان - بالتفصيل تركيب حملاج فضي الصلب واستخدامه.
92
تبدأ الوحدة
A (أعلى يمين الصورة) بالبوق، التي تضيق تدريجيا إلى أن تتناسب في إحكام مع فتحة الوحدة
B ، التي تدفع الأنفاس دفعا لتنعطف بزاوية 90 درجة، وتجمع الرذاذ وقطرات الماء المختلطة بأنفاس نافخ البوق في مجرى. تتصل الوحدة
B
بالأنبوب
C ، الذي ينتهي بفتحة صغيرة مستديرة وانسيابية
g
التي توجه الأنفاس إلى لهب الشمعة. ينفخ اللهب أفقيا، وربما تركز أجزاؤه المختزلة أو المؤكسدة على عينات المعادن حسب الرغبة. قد تعرض عينات ضئيلة من المعادن للهب بوضعها في الملعقة
E ، المصنوعة من الفضة أو الذهب، وإذا كان المعدن غير قابل للاشتعال، يوضع في فتحة داخل قطعة من الفحم. تسحق المطرقة
F
القطع المعدنية داخل الحلقة المعدنية
H
على اللوح المعدني
G . وتمسك هذه القطع المعدنية باستخدام الملقط
I .
والآن يأتي الجزء الصعب؛ إذ لا بد أن يكون تدفق الأنفاس إلى اللهب سلسا ومتواصلا لدقائق في كل مرة أحيانا. جرب ذلك. ومع ذلك، يؤكد لنا بيرجمان
92
إمكانية إتقان هذا الأسلوب بالممارسة - املأ خديك بالهواء ومع الشهيق والزفير من منخريك، وأبق خديك ممتلئين بالهواء، ثم استمر في اعتصارهما بقوة بأصابع إحدى يديك، حتى يظل التنفس ثابتا ومستمرا. عزيزي القارئ، ها أنا آذن لك بالانصراف عن مواصلة القراءة وأخذ باقي اليوم إجازة للممارسة!
ثمة عديد من الخطوات يجب اتباعها. أولا: عرض عينة المعدن الصغيرة للجزء الخارجي (ناقص الوقود)، المؤكسد من اللهب. فإذا لم يطرأ أي تغيير على العينة، عرضها لحافة الجزء الأزرق المختزل والأعلى حرارة من اللهب. في حالة عدم انصهار العينة بفعل اللهب، يدخل بيرجمان ثلاثة مواد «صهيرة» لدعم انصهار العينات المعدنية، وهي: ملح الفوسفات الحمضي، وملح قلوي (هيدروكسيد الصوديوم)، وملح معتدل (بوراكس). تذاب المادة الصهيرة، ثم يضاف معدن مسحوق تماما إليها ويدخل في تفاعل مع المادة الصهيرة، ثم تسجل النتائج. وقد كانت عمليات التحليل التي أجريت بالحملاج بالغة الدقة وشديدة الحساسية.
شكل 4-19: التصنيف الكيميائي للمعادن كما وضحه رينيه أيوي في كتابه «دراسة في علم المعادن» المنشور في باريس عام 1801 (بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي).
شكل 4-20: شرح ويليام هايد ولاستون للأوجه البلورية (من كتاب «فجر الكيمياء» لسي. سينجر، شركة فوليو سوسايتي للنشر. بإذن من شركة فوليو سوسايتي للنشر).
قرب نهاية القرن الثامن عشر، اتحدت التطورات التي طرأت على عمليات تحليل المعادن مع النظرية الكيميائية لإعداد الساحة لثورة في تصنيف المعادن. والشكل
4-19
من كتاب «دراسة في علم المعادن» للأب رينيه جست أيوي (1743-1822).
93
في هذا الكتاب، يظهر كل من بلورات الكبريت الصفراء العديمة الشكل والألماس البلوري الشفاف - على اختلافهما - معا في الصورة 63 كعنصرين كيميائيين قابلين للاشتعال. كان أيوي أول من أدرك أن البلورات تنفصم عند أوجه محددة من بنيتها ترتكز على طبقات بلورية متماثلة سفلية. وربما يكون المؤسس الأول لعلم البلورات.
94
وقد قاس ويليام هايد ولاستون (1766-1828) بدقة زوايا الأوجه البلورية، موحدا بذلك فكرتي هوك (انظر الشكل
4-5 ) ودالتون
95
بشأن التعبئة المتراصة للبلورات، وموظفا إياهما لفهم التماثل والانفصام البلوريين (انظر الشكل
4-20 ).
94
وقد مكنت دراسات المعادن التي نشأت في السويد مع «علم الكيمياء الحديث»، عالم المعادن الأمريكي جيمس دوايت دانا في عام 1837 من طرح التصنيف الكيميائي للمعادن الذي لا يزال معمولا به حتى اليوم.
96
والآن، ما الصلة التي تربط هذه المناقشات المتعلقة بالمعادن بالرخويات؟ تقوم منهجيات تصنيف لينيوس على البنية الخارجية (علم التشكل). وكان هذا التصنيف قد وضع قبل قرن من اكتشاف دارون للتطور؛ ومن ثم افتقد إلى الرؤى المستمدة من نظرية الانتخاب الطبيعي. وهكذا فإننا الآن ندرك التشابه الظاهري بين أسماك القرش والدلافين بشكل أفضل (اللذين كثيرا ما يلتبس الفارق بينهما على السباحين المتوترين)، من خلال فهم المسارات التطورية المتوازية التي تتيح لكلا النوعين العيش في بيئات وكوات متشابهة. والشكل الظاهري في هذه الحالة مضلل للغاية؛ فالقروش - وهي أسماك - والدلافين - وهي من الثدييات - يختلف بعضها عن بعض كاختلاف الياقوت الأحمر عن الألماس. على النقيض، تبدو الدلافين مختلفة عن الجياد على المستوى الظاهري مثل الجرافيت والألماس. ومع ذلك، فإن الدلافين والجياد حيوانات حارة الدماء، تلد صغارها الحية دون وضع أي بيض، وترعى صغارها. والحقيقة الكيميائية الخفية بشأن الجرافيت والألماس هي أن كليهما كربون نقي.
شكل 4-21: عرض تفرعي حديث للعلاقات التطورية السلالية بين أنواع المحار المختارة. تقوم هذه التصنيفات التفرعية على معايير كيميائية (تسلسلات الحمض النووي) وليس على تكوين الصدفة (الشكل الخارجي). تشير هذه الدارسات الكيميائية الحيوية إلى أن محار كيلميري الملزمي (
C. kilmeri ) أقرب وراثيا إلى محار الماء المالح جيجاس (
V. gigas ) ومحار إكتناجينا إكستنتا (
E. extenta ) منه إلى محار إلونجاتا الملزمي (
C. elongata )، ومحار باسيفيكا الملزمي (
C. pacifica )، ومحار فيزيوليفورميس الملزمي (
C. phaseoliformis ) الأقرب إليه في الشكل الظاهري. وقد خضع علم المعادن لتطور مشابه من التصنيف على أساس الشكل إلى التصنيف الكيميائي قبل أكثر من قرنين من الزمان. فقبل عام 1770، كان يعتقد أن الألماس أقرب إلى الياقوت الأحمر، ولا يمت بصلة إلى الجرافيت. لكن الكيمياء أظهرت أن الألماس والجرافيت كلاهما كربون نقي، وكلاهما لا يمت بصلة إلى الياقوت الأحمر (خالص تقديري للأستاذ روبرت فرايجنهوك لتعريفي بالمفاهيم التفرعية، ومناقشته لدراساته على المحار، وإمدادي بهذه الأشكال المبينة في الكتاب).
يظهر الشكل
4-21
ستة أنواع من المحار في رسم بياني ،
97
أربعة من هذه الأنواع تنتمي إلى فصيلة المحار «كاليبتوجينا»، أما النوعان المتبقيان، فينتميان إلى فصيلتي محار «فسيكوميا»، ومحار «إكتناجينا». وقد قامت هذه التصنيفات بوجه عام على الشكل الخارجي لأصداف المحار؛ نظرا لأنها الجزء الوحيد الذي يتبقى بعد موت المحار، كما أنها تتيح ربطها بالأسلاف الأحفورية (انظر مقال لامارك الوارد لاحقا في هذا الكتاب). ومع ذلك، فخلال الجزء الأخير من القرن العشرين، ابتكرت أدوات كيميائية حديثة، من بينها تحديد تسلسل البروتين، ثم تحديد تسلسل الحمض النووي لاحقا، لدراسة الأبعاد الخفية في مثل هذه العلاقات الوراثية التطورية. وبوجه خاص، كل بروتين مميز في الكائن الحي يقابله جين مسئول عن شفرته. وهكذا يكون الهيموجلوبين في الحصان أشبه لهيموجلوبين البقرة منه لهيموجلوبين الفأر. في هذه الحالة، على الأقل، تعكس العلاقة الشكلية الظاهرية الواضحة الاختلافات الجينية الكامنة. ونحو نهاية القرن العشرين، ومع التطورات الحاصلة في التحليل الكيميائي، والتشغيل الآلي، والبيولوجيا الحاسوبية، ظهر فرع جديد من العلوم باسم «علم الجينوم»، والذي أتاح عقد مقارنات مباشرة بين التسلسلات الجينية الهائلة للكائنات الحية المختلفة، وأحيانا ما تكون النتائج التي تظهر مذهلة للغاية.
يوضح الشكل
4-21
العلاقات النظامية بين أنواع المحار الستة موضوع الدراسة، ليس بناء على الأشكال الخارجية للأصداف، وإنما بناء على تسلسلات الحمض النووي الخاص بوحيدة ميتوكوندريا أوكسيداز الأولى.
97
وتظهر تصنيفات التطور السلالي المبينة في شكل مخطط تفرعي
98
والتي يمثل فيها كل فرع من الشجرة تعديلا مختلفا يتشكل منه فصيلة جديدة. من منظور علم الجينوم، تختلف العلاقة بين أنواع المحار تماما عن التصنيف القائم على الشكل الخارجي (الشكل
4-21 )؛ فالحقيقة الكيميائية الخفية تختلف اختلافا مهولا عن الاستنتاجات القائمة على البنية الخارجية؛ ومن ثم، وبناء على هذا التصنيف الكيميائي، تمثل فصائل محار الماء المالح جيجاس، ومحار إكتناجينا إكستنتا، ومحار كيلميري الملزمي ثلاث فصائل مختلفة، لكن من الممكن أن تنسب إلى فصيلة وحيدة (نظرا إلى أن أصولها تعود إلى سلف مشترك). يشير المخطط التفرعي إلى أن أوجه التشابه بين محار باسيفيكا وكيلميري الملزميين، المصنفين في فصيلة واحدة، أقل من أوجه التشابه بين محار كيلميري الملزمي ومحار إكتناجينا إكستنتا (رغم أن إكتناجينا إكستنتا يبدو مختلفا على مستوى الشكل عن محار كيلميري الملزمي).
97
وقد اكتشف الأستاذ روبرت فرايجنهوك أن المحار الموجود في خليج مونتيري الذي يسمى محار باسيفيكا الملزمي يمثل في الواقع ثلاثة أنواع مختلفة متشابهة شكلا ولكنها مختلفة جينيا وتعيش على أعماق مختلفة. أما محار باسيفيكا الملزمي الحقيقي، فلا يعيش من الأصل في خليج مونتيري، وإنما في جوار ولاية واشنطن.
97
ومع اجتياز علم الجينوم حداثة عهده، بدأ يثير كثيرا من المسائل الصعبة. على سبيل المثال، لا تعكس كل البروتينات تطابق العلاقات التطورية السلالية بين الأنواع المتقاربة. ولا يمثل استخدام القطاع المحدد من الحمض النووي المبين أعلاه - لتحديد العلاقات التطورية السلالية بين أنواع المحار الستة المصورة في الشكل
4-21 - الاحتمالية الوحيدة. فمع اكتساب مزيد من المعرفة في هذا المجال الثوري، ربما يتوصل إلى قرارات بشأن أنسب التسلسلات الجينية وكذلك العوامل الترجيحية. فهل يعيدنا هذا إلى ذاتية التصنيف القائم على الشكل، أم يمكن القبول بأن تعمل جينات «محورية» معينة كمؤشرات محددة؟ بالطبع هذه أسئلة أعقد بكثير من تلك التي أثيرت قبل قرنين حول المعادن، الأكثر بساطة من الناحية الكيميائية؛ إذ لا تحوي أنسجة وأعضاء وظيفية، ولا تستقلب معادن أخرى، وعلى حد علمنا، لا تتزاوج أو تتطور. (9) في الجير حقيقة
شكل 4-22: جدول من كتاب يوهان فريدريش ماير «مقالات في الكيمياء»، الصادر عام 1766. لقد كان يؤمن بوجود مادة «أسيدوم بينج» («الحمض الدهني» أو «الزيتي») في القلويات القوية (الكاوية) (مثل مادة هيدروكسيد البوتاسيوم) في حين أنها لا توجد في القلويات المعتدلة (مثل كربونات البوتاسيوم). إن إضافة الأسيدوم بينج في الواقع كانت تساوي فقدان ثاني أكسيد الكربون، مثلما كانت إضافة الفلوجستون تساوي فقدان غاز آخر غير مرئي، هو الأكسجين.
في مقولة «في الخمر حقيقة» معنى ضمني بأن لسان المرء يطلق من عقاله على الأرجح - بعد أن «تزلقه الخمر» بالدرجة المناسبة - فيعترف بكل شيء. ومع ذلك، ربما قال الصيدلاني الألماني يوهان فريدريش ماير (1705-1765)
99
كذلك «في الجير حقيقة»؛
100
إذ اكتشف من خلال كربونات الكالسيوم (
CACO3 ) (الحجر الكلسي؛ الحجر الجيري) مادة أسيدوم بينج، التي يقال إنها المادة الأساسية العامة الكامنة في الأجساد، وجوهر النار، والعنصر المكون لكل الأحماض (انظر الشكل
4-22 ).
101
ولربما قالها أيضا؛ نظرا لأنه أقر بتناول 1200 رطل من الحجر الجيري على مدار ثماني سنوات لعلاج حموضة معدته الشديدة.
102
حتى عام 1756، كان الغاز أو «الهواء» الوحيد المعروف هو الهواء الجوي. في تلك السنة، نشر د. جوزيف بلاك ورقته البحثية عن عزل خواص «الهواء الثابت» (ثاني أكسيد الكربون أو).
103
وقد استخدم التقنيات المعتمدة على الهواء المضغوط التي ابتكرها كل من ستيفن هيلز وويليام براونريج لحجز «الهواء» الذي كان «مثبتا» في الحجر الكلسي الطبشوري (
CaCO
3 ). وبالرغم من أن فان هيلمونت قد تعامل مسبقا مع هذا «الهواء» على مدى 100 عام، فلا هو ولا أي من العلماء المعاصرين له استطاعوا وصفه على نحو صحيح.
لم يكن معروفا خلال الفترة التي عاصرها بلاك سوى ثلاثة قلويات أساسية، هي:
103
النباتات، وماء البحر، والمواد الطيارة. وقد وجد كل من هذه القلويات في صور «معتدلة» وكاوية. وقد دفعت دراسات بلاك الكمية الدقيقة به إلى قناعة صحيحة مؤداها أن فقدان «الهواء المثبت» هو ما يحول القلويات من الحالة المعتدلة إلى الحالة الكاوية؛ ويمكن تلخيص هذا الاستنتاج بالاصطلاحات الكيميائية الحديثة كما يلي:
عائلة القلويات
قلوي «معتدل»
قلوي «كاو»
النباتات
KOH
ماء البحر
NaOH
المواد الطيارة
أما نظرية ماير فكانت عكس نظرية بلاك من الأساس.
99
فقد قيل إن المادة التي أسماها ماير «أسيدوم بينج» («الحمض الدهني» أو «الزيتي») عنصر حاضر في كل الأحماض. حين تفاعلت القلويات المعتدلة (التي أدرك بلاك أنها كربونات) مع الأحماض، أشار الفوران الناتج عن التفاعل إلى امتصاص مادة «أسيدوم بينج» الموجودة في جميع الأحماض. أما القلويات الكاوية - كما أشير أعلاه - فكانت مشبعة بمادة «أسيدوم بينج»؛ ومن ثم لم ينتج أي فوران عند تفاعلها مع الأحماض. وذلك الملمس الزلق الذي يميز القلويات الكاوية نشأ عن «الحمض الدهني» الذي تتشبع به. ويوضح الشكل
4-22
جدولا لأوجه الارتباط بمادة «أسيدوم بينج».
في هذه المرحلة، باتت الرؤى المتماشية مع نظرية الفلوجستون جلية تماما.
99
فقيل إن كلسات الفلزات تكتسب الفلوجستون وتصبح فلزات عند تسخينها مع الفحم، الذي يعد مادة مشبعة بالفلوجستون. على النقيض، أثبت لافوازييه أن الكلسات قد «فقدت» الأكسجين الذي ينتقل إلى الفحم ليشكل ثاني أكسيد الكربون . وبحسب ما ذكر ماير، كان يقال إن القلويات المعتدلة تكتسب مادة «أسيدوم بينج» من النار لتصبح قلويات كاوية. وأثبت بلاك أن المواد القلوية، في الواقع، «تفقد» ثاني أكسيد الكربون خلال هذه التحولات.
غير أن ما زاد البلبلة أن تحول فلز مثل الكالسيوم إلى كلس الكالسيوم في النار كان سيستلزم إضافة الأسيدوم بينج المستمدة من النار. والكلس أثقل في الواقع من الفلز. غير أن إضافة «الأسيدوم بينج» إلى القلويات المعتدلة لتشكيل القلويات الكاوية من شأنه أن يشير إلى أن هذه الأخيرة لا بد وأن تكون أكثر كثافة أيضا. لكن واقع الأمر أن القلويات الكاوية أخف من المعتدلة؛ نظرا لفقدان ثاني أكسيد الكربون خلال التحول. ومصدر كل «هذه البلبلة اللانهائية» هو أن الفلوجستون (التراب الدهني) هو جوهر النار الكامن في المواد القابلة للاحتراق. في المقابل، تمثل مادة «أسيدوم بينج» أحد عناصر النار التي تعمل كعامل كيميائي خارجي يضاف إلى المواد القابلة للاحتراق. لقد قام كل من بلاك ولافوزاييه ب «استئصال» الدهون من الفلوجستون ومادة «أسيدوم بينج»، أو ربما فرغا كلتا النظريتين من محتواهما.
هوامش
الجزء الخامس
الثورتان الفرنسيتان
(1) الساعات الأولى من صباح الثورة الكيميائية
تبدأ الثورات عادة بداية هادئة، ثم تجمع زخمها، لتنفجر بحدث جائح مثل اقتحام سجن الباستيل. كذلك بدأت الثورة الكيميائية بهمهمات عدم الرضا عن نظرية الفلوجستون. كان من الممكن تبرير زيادات وزن الفلزات عند فقدانها للفلوجستون لتصبح كلسات فلزية في حالة واحدة فقط، هي إلغاء الكيميائيين كل تجاربهم ومنطقهم البديهي، وقبولهم للكتلة السالبة. كثيرا ما تبدأ أفعال التمرد الأولى في براءة تامة، وتفهم الآثار لاحقا؛ فقد أدى نشر الإنجليزي ستيفن هايلز في عام 1727 لأساليبه في جمع الغازات إلى إعلان جوزيف بلاك اكتشافه غاز ثاني أكسيد الكربون في عام 1756، وعزل هنري كافنديش للهيدروجين عام 1766، وأخيرا عزل كارل فيلهلم شيله لغاز الأكسجين عام 1771 أو 1772، ومن بعده جوزيف بريستلي في عام 1774. في البداية، ظن كافنديش أنه قد حبس الفلوجستون المنبعث من الفلزات بفعل الأحماض المائية التي تحولها إلى كلسات. ربما لم يستطع أن يفهم أن الغاز في الواقع انبعث من «عنصر» الماء وليس من الفلز نفسه. فيما تخيل شيله وبريستلي أن «الهواء» الذي حبساه يجذب الفلوجستون - جوهر النار - بقوة من المواد القابلة للاحتراق والفلزات. وربما كان الحادث الجائح في الثورة الكيميائية هو الإدراك الكامل في عام 1783 أن فلوجستون كافنديش وهواء بريستلي منزوع الفلوجستون حين اجتمعا نتج عن تفاعلهما الماء، ولم يختفيا «كذرة» في «الهواء»، أو يتحولا إلى لا شيء.
شكل 5-1: الرموز الكيميائية (انظر النص) من الموسوعة المنشورة في القرن الثامن عشر للفيلسوف دينيس ديدرو وعالم الرياضيات جان لورون دالمبير.
شكل 5-2: الرموز الكيميائية (انظر النص) من موسوعة ديدرو ودالمبير المنشورة في القرن الثامن عشر.
شكل 5-3: الرموز الكيميائية (انظر النص) من موسوعة ديدرو ودالمبير المنشورة في القرن الثامن عشر.
شكل 5-4: الرموز الكيميائية (انظر النص) من موسوعة ديدرو ودالمبير المنشورة في القرن الثامن عشر.
الأشكال من
5-1
إلى
5-10
من موسوعة الفيلسوف دينيس ديدرو (1713-1784) وعالم الرياضيات جون لورون دالمبير (1717-1783) القيمة المتألفة من 35 مجلدا من القطع الكبير، والتي نشرت ما بين عامي 1751 و1772 مع مكملات لاحقة لها (1776-1780).
1
لقد خرقت فلسفة ديدرو التقدمية قوانين الكنيسة والجمهورية الفرنسية الرجعية وقضى ثلاثة أشهر في السجن خلال عام 1749.
2
لا تزال الموسوعة - المليئة بفكر عصر التنوير الأكثر تقدمية - بالغة القيمة؛ لما تتميز به من طباعة فخمة ومحتوى ثري. تمثل الرموز الأنيقة في الأشكال من
5-1
إلى
5-4 «مزيج» التسميات الكيميائية التي وجدت قبل قيام كل من دومورفو، ولافوازييه، وزملائهما بنشر كتاب «نظام التسمية الكيميائية» في عام 1787. تضم هذه الأشكال مزيجا من العناصر والسبائك والخلائط الأخرى، ومركبات، وعمليات كيميائية، ومقاييس، وأواني زجاجية، وأدوات أخرى. وسوف نتناول بعضا فقط من هذه الرموز باختصار شديد.
شبه القدماء المعادن السبعة المعروفة بالشمس والقمر والكواكب الخمسة المعروفة (عطارد، والزهرة، والمريخ، والمشتري، وزحل )
3 - انظر الأشكال
3-13
و
3-14 . يمثل الرمز الأول في العمود 1 من الشكل
5-1
الصلب السبائكي، والتشابه بينه وبين الحديد (الشكل
5-2 ، العمود 1) واضح. ويوضح الشكل (
5-2 ، العمود 2) مسحوق أو برادة الصلب. ويرمز درع مارس إله الحرب ورمحه إلى الفلز الذي يستخدم في تصنيع الأسلحة على نطاق واسع، والذي يشير كلسه الأحمر إلى الكوكب الأحمر. ويوضح الشكل
5-1 (العمود 1) النحاس المحمص (أو البرونز)؛ ويوضح الشكل
5-4
سبيكة نحاس (أو الزهرة، العمود 2؛ مرآة فينوس)، بينما يوضح الشكل
5-2
القصدير (العمود 1؛ المشتري، ربما يكون الرمز مستقى من الرقم العربي 4؛ ربما لأن المشتري هو رابع الكواكب بعدا عن الأرض).
3
أما أكثر الكواكب وضوحا للعين المجردة، فكان كوكب زحل؛ فهو أبطأ الكواكب حركة وفقا للملاحظ على الأرض. يرمز إلى الرصاص الداكن الكثيف (انظر الشكل
5-3 ، العمود 1) أو كوكب زحل بمنجل إله الغرس أو البذر. ويعد صولجان المشتري نفسه رمزا يتألف من ثعبانين أحدهما ذكر والآخر أنثى (الشكل
5-2 ، العمود 3) متشابكين حول صولجان الإله. أما الفضة فيمثلها القمر (الشكل
5-1 ، العمود 1)، والذهب يمثله الشمس (الشكل
5-2 ، العمود 4).
شكل 5-5: معدات تقطير (انظر النص) من موسوعة ديدرو ودالمبير المنشورة في القرن الثامن عشر.
شكل 5-6: معدات تقطير (انظر النص) من موسوعة ديدرو ودالمبير المنشورة في القرن الثامن عشر.
شكل 5-7: معدات تقطير وإعادة دوران (انظر النص) من موسوعة ديدرو ودالمبير المنشورة في القرن الثامن عشر.
شكل 5-8: أنواع مختلفة من معدات إعادة الدوران (انظر النص) من موسوعة ديدرو ودالمبير المنشورة في القرن الثامن عشر.
شكل 5-9: مقطرات معوجة مختلفة وجهاز «بالوني» (انظر النص) من موسوعة ديدرو ودالمبير المنشورة في القرن الثامن عشر.
شكل 5-10: ميزان كيميائي مركب بالكامل لجيوم فرنسوا رويل، المحاضر في حديقة النباتات في باريس، مصور في موسوعة ديدرو ودالمبير المنشورة في القرن الثامن عشر. وقد ألهمت عروض جيوم إف رويل التجريبية أنطوان لافوازييه لاقتحام عالم الكيمياء. كان رويل أحد المؤمنين بقوة بنظرية الفلوجستون، لكن في أقل من عقدين قوض تلميذه السابق نظرية الفلوجستون بنظرية الأكسدة الحديثة.
يمثل الأنتيمون (الشكل
5-1 ، العمود 1)، في الواقع، الستيبنيت (
Sb
2
S
3 )، في حين يمثل الأنتيمون التجاري النقي (الشكل
5-3 ، العمود 1) العنصر النقي.
4
وتشير «زهور الأنتيمون» (الشكل
5-4 ، العمود 2، الرمز 21) إلى ما نعرفه اليوم بأكسيد الأنتيمون (ترمز الزهور إلى الأملاح المتطايرة التي قد تتسامى).
4
في الشكل
5-3 ، ورد الكبريت ما لا يقل عن خمس مرات في أشكال مختلفة هي: الشكل الشائع، والكبريت الأسود، والكبريت الحي أو الطبيعي، و«الكبريت الفلسفي» (إحدى مواد باراسيلسوس الثلاث الأساسية المشتقة - من وجهة النظر الخيميائية - من الذهب)، و«كبريت الرسل». أما «الأبيض الإسباني» (في الشكل
5-1 ، العمود 2، الرمز 4)،
4
فيمكن أن يكون أكسيكلوريد البزموت أو أكسينترات البزموت، لكني لا أرى أي وجه تشابه بينه وبين رمز البزموت نفسه (الشكل
5-4 ، العمود 1). أما حوض الماء (الشكل
5-1 ، العمود 2، الرمز 2)، فهو حوض الماء الساخن الذي طور في العصور القديمة على يد ماريا النبية (ماري اليهودية، وهي خيميائية تاريخية حقيقية)
5
من أجل تسخين هادئ محكوم للأوعية الكيميائية. ويمثل الرمز التالي حمام بخار. ويظهر الشكل
5-1 (العمود 1) مغناطيسا. وبالطبع يحتل الفلوجستون مكانة مرموقة (الشكل
5-4 ، العمود 3). وتشير النخامة، والتي توجد أعلى الفلوجستون مباشرة، على نحو عارض إلى تقطير جزيئي مائي، وليس إلى ذلك الشيء المقزز الذي يطلق عليه المخاط. وفي الشكل
5-1 (العمود 3) يظهر قرن الغزال. أما «دم التنين» (والذي غالبا ما يرمز إلى حجر الفلاسفة
6 - انظر الشكل
1-20 )، فستجده مدرجا في الشكل
5-3 (العمود 2، الرمز 4).
تصور الأشكال من
5-5
إلى
5-10
بعضا من الأواني الزجاجية والأدوات الأخرى التي سبقت الثورة الكيميائية والتي كانت دلالة على دنوها. وكثير من هذه الأواني سبقت الثورة الكيميائية بمئات السنين. ويصور الشكل
5-6
إنبيقا كاملا (انظر الصورة 86) مصحوبا بوعائه الذي يشبه ثمرة القرع (انظر الصورة 85) دون رأس المقطرة. ويمثل كل من الصورتين 89 و90 مجموعات من ثلاثة أوعية غالبا ما تستخدم في عملية التسامي. يشار إلى الصورة 97 بأنها «وعاء كان يستخدمه القدماء في تقطير ماء الورد»؛ وكثيرا ما يشار إليه ب «القبعة الوردية»، يعمل كمكثف هواء بدائي.
7
تظهر الصورة 96 جهاز تقطير كاملا للحصول على روح الخمر، والخلاصات العطرية، والزيوت الأساسية. في هذا الجهاز يمر أنبوب مكثف عبر برميل مملوء بالماء المثلج؛ وثمة نظام تكثيف آخر أكثر فاعلية هو «الأفعى المزدوجة» اللتين تدوران عبر غرفة مملوءة بالماء المثلج. ويمكن استخدام إحدى الأفعيين في تكثيف روح الخمر، والأخرى يمكن أن تستخدم في الخلاصات العطرية أو الزيوت الأساسية - أي يتم الحصول على الشراب والعطور، منفصلين دون اختلاط. أما الصورة 107، فتصور جهازا يرجع إلى القرن الثامن عشر يستخدم في التقطير بحرارة الشمس. توضع القصعة الزجاجية الداخلية التي تحتوي على العينة داخل قصعة طينية أكبر مغطاة بوعاء زجاجي على شكل جرس. يثبت الجهاز في قاعدة، وتتجمع المواد المتطايرة من الوعاء الداخلي داخل الوعاء الجرسي الزجاجي، وتفيض على الجانبين، وتتجمع في القصعة الأكبر.
يصور الجزء العلوي من الشكل
5-7
ثلاث وسائل مختلفة للاستفادة من الشمس في الحصول على الحرارة اللازمة للتقطير. وتوضح الصورتان 122 و123 وعاء مزدوجا ووعاء سوائل مقطرة مزدوجا يتصلان معا لإتاحة عملية الارتجاع أو «التقطير التعاقبي» (إعادة التقطير أو «الدوران»). كذلك يفيد الجهاز الرائع الموضح في الصورة 124 في عملية التقطير التعاقبي. ويصور الشكل
5-8
المقطرة المعوجة البجعية الشكل (الموضحة في الصورة 132) والمعوجات المزدوجة البجعية الشكل (الموضحة في الصورتين 133 و138)، والتي تفيد أيضا لأغراض التقطير التعاقبي. أما الصورة 127 (مع الصورة 128)، فهي لجهاز مصمم لإمداد وعاء تفاعل بحمام بخار. تبين الصورة 143 أداة يطلق عليها «جحيم بويل»، وهي جزء من جهاز للغلق المحكم على أي مزيج كيميائي عند تعريضه إلى التسخين الشديد بالنار.
يظهر الشكل
5-9
خمسة أشكال مختلفة للمقطرات المعوجة في أعلاه. تركب البالونات الزجاجية الموضحة في الصورة 153 من الشكل معا لتكون جهازا (انظر الصورة 161) لتقطير أبخرة مسحوق الأنتيمون المستخدمة في بارود المدافع والتي تتكون كذلك من الفحم ونترات البوتاسيوم. وتوضح الصورة 159 من نفس الشكل جهاز الترسيب الزجاجي المستخدم في ترشيح المواد المنصهرة. وعند بدء أي مادة منصهرة في إعادة التصلب قبل تنقيتها وتعديلها، يمكن استخدام أداة تسخين كتلك الموضحة في الصورة 160 ورقم 2 من نفس الصورة.
أما الشكل
5-10 ، فيظهر التفاصيل والتركيب الكامل لميزان المعايرة الخاص بجيوم فرنسوا رويل (1703-1770).
8
كان رويل محاضرا في الكيمياء في حديقة النباتات بباريس من عام 1742 وحتى عام 1768، ولا عجب في أنه كان مؤمنا إيمانا لا يتزعزع بنظرية الفلوجستون . وقد وصف أسلوبه في إلقاء المحاضرات على النحو التالي:
8 «عند دخول المعمل لإلقاء محاضرته، يكون مرتديا زيا مناسبا من القطيفة مع شعر أبيض مستعار، ممسكا بقبعته الثلاثية الزوايا تحت إبطه. ومع بدء استعداده لإلقاء المحاضرة، يترك قبعته، ويخلع عنه الشعر المستعار والمعطف والصدرية بدورها.» وكان من طلاب
8
رويل الشديدي الحماس أنطوان لوران لافوازييه، الذي سيصبح في النهاية «أستاذ التوازن الكيميائي»، مطيحا بذلك بنظرية الفلوجستون التي أسرت لب معلمه. (2) نسخة بدائية بعيدة الشبه من الجدول الدوري
كانت أول محاولة ممنهجة لترتيب المواد النقية وفقا للخواص الكيميائية (والفيزيائية) هي جدول المتشابهات الذي وضعه إيتيان-فرانسوا جيفري (1672-1731) في عام 1718.
9 ،
10
يتكون جدول جيفري من 16 عمودا، تجمع الأحماض في الأعمدة من 1 إلى 4، والقلويات في الأعمدة من 6 إلى 8، والفلزات في الأعمدة من 10 إلى 15. وينظم الجدول بحيث تكون المادة التي تلي أول مادة في العمود هي الأكثر شبها بها، وتكون المادة الموجودة في أسفل خانة في العمود هي الأقل شبها. أما العمود الأخير في جدول جيفري، فيتصدره الماء يليه الكحول، ثم الملح، الذي يشبه الكحول أكثر مما يشبه الماء؛ فبإضافة الكحول إلى الماء المالح، يحل الكحول محل الملح ويرسبه.
10
وبالطبع، تندرج قابلية الذوبان تحت الخواص الفيزيائية وليس الخواص الكيميائية. وقد كان جيفري من أنصار نظرية الفلوجستون، ويظهر الفلوجستون تحت حمض الكبريتيك مباشرة في جدوله.
10
كان كريستليب إريجوت جيلرت من أوائل من استخدموا التملغم لفصل الذهب عن مادته الخام، متبعا في ذلك حذو فانوتشو بيرينجوتشو الذي فعل ذلك في القرن السادس عشر، ثم ألبارو ألونزو باربا في القرن السابع عشر؛ ففي عام 1750، قام جيلرت بتوسيع جدول جيفري ليصبح 28 عمودا (انظر الشكل
5-11 ).
11
لنلق نظرة سريعة على ترتيب جدول «المواد القابلة للذوبان» (وهي تندرج تحت المتشابهات أو «الروابط» الكيميائية «و» الفيزيائية في الواقع). ويمكن العثور على معظم الرموز أيضا في الأشكال الأربعة الأولى الواردة في المقال السابق. على النقيض من جدول جيفري، وضع جيلرت المادة «الأكثر شبها» بالمادة الواردة في رأس العمود في «أسفل» العمود (أما المواد التي ليست لها متشابهات على الإطلاق، فوضعت تحت الجدول الأساسي). ولنلق نظرة على تنظيم جيلرت، حيث صنفت رءوس الأعمدة على النحو التالي:
12
شكل 5-11: جدول المتشابهات الذي وضعه كريستليب إريجوت جيلرت في عام 1750. في هذا الجدول، توضع المادة الأكثر شبها بالمادة الموجودة في رأس العمود في أسفل خانات العمود. أما المادة الأقل شبها، فتلي المادة الواردة في رأس العمود مباشرة. أما المواد الموضحة في الجدول السفلي، فلا تتفاعل مع المادة الواردة على رأس العمود؛ ومن ثم في الجدول 10 (الذي يتصدره حمض النيتريك)، يعتبر الفلوجستون هو الأكثر شبها بحمض النيتريك؛ نظرا لأن هذا الأخير «منزوع الفلوجستون»؛ إذ إنه يدعم تكلس المعادن. ويمكن توضيح تفاعلية المعادن مع حمض النيتريك على النحو التالي: الزنك هو الأكثر تفاعلية، يليه الحديد، فالكوبلت، فالنحاس، فالرصاص، فالزئبق، فالفضة، فالقصدير. والذهب هو الأقل تفاعلية؛ إذ إنه لا يتفاعل على الإطلاق مع حمض النيتريك (من كتاب سي إي جيلرت «كيمياء المعادن» 1776، بإذن من مؤسسة التراث الكيميائي).
المواد الترابية (الأعمدة من 1 إلى 5): (1)
المواد القابلة للتزجج (أي القابلة للانصهار عند التعرض للنار) أو التراب السيليكوني (ثاني أكسيد السيليكون). (2)
المواد الترابية الانصهارية (المعادن التي تنصهر في درجات حرارة منخفضة). (3)
الطين (ربما الألومينا أو أكسيد الألومنيوم). (4)
الجص (كبريتات الكالسيوم الثنائية الهيدرات أو
CaSO
4 ⋅2H
2
O ). (5)
التراب الجيري (كاو وصيغته
Ca(OH)
2 ، أو معتدل
CaCO
3 ).
القلويات (العمودان 6 و7): (6)
القلويات الثابتة (كربونات البوتاسيوم
K
2
CO
3 ). (7)
القلويات الطيارة (محلول الأمونيا المائي
NH
4
OH ).
الأحماض (الأعمدة من 8 إلى 12): (8)
الخل المقطر (حمض الخليك
HC
2
H
3
O
2 ). (9)
حمض الهيدروكلوريك (
HCl ). (10)
حمض النيتروز (حمض النيتريك
HNO
3 ). (11)
حمض الكبريتيك (
H
2
SO
4 ). (12)
الماء الملكي (
HCl/HNO
3
بنسبة 1:3).
الملح (العمود 13): (13)
النتر (نترات الصوديوم
NaNO
3 ).
الفلزات واللافلزات (الأعمدة من 14 إلى 27): (14)
الكبريت. (15)
الكبريت الكبدي. (16)
الكوبلت. (17)
الزرنيخ. (18)
الأنتيمون التجاري النقي. (19)
زجاج الأنتيمون (ربما أكسي سلفات الأنتيمون -
Sb
2
O
2
SO
4 ). (20)
البزموت. (21)
الزنك. (22)
الرصاص. (23)
القصدير. (24)
الحديد. (25)
النحاس. (26)
الفضة. (27)
الزئبق.
الزجاج (العمود 28 - شكل منصهر من أي مادة - يرمز الحرف
C
إلى الكلس؛ ومن ثم فإن الرمز الأول تحت المادة الواردة على رأس العمود هي كلس الزئبق).
تتجلى طبيعة الذهب اللاتفاعلية بسهولة في ظهوره المتكرر في جدول المواد غير المتفاعلة الصغير السفلي؛ فالذهب لا يتأثر بأي أحماض (الأعمدة 8-11)، باستثناء الماء الملكي (العمود 12)، حيث لا يظل المادة الأقل تفاعلية من بين المواد الاثنتي عشرة الموضحة في العمود. ومع ذلك، فإن الذهب هو آخر مادة في العمود 27، مما يشير إلى وجود تشابه كبير بينه وبين الزئبق - وهو المادة الأساسية في عملية التملغم التي كان يجريها جيلرت لفصل الذهب عن مواده الخام. يظهر الفلوجستون كآخر رمز في الأعمدة من 8 إلى 12؛ مما يدل على اقترابه الشديد في الشبه من الأحماض. ويرجع ذلك، جزئيا، إلى أن المعادن «تتحلل» بسهولة في الأحماض، وأن الوسط المحيط - على ما يبدو - ينتزع منها الفلوجستون، لتتشكل كلسات المعدن. والأمر المثير للاهتمام أن الفلوجستون أيضا من العناصر الأقرب شبها بالقلويات (كما هو مبين في العمودين 6 و7)، التي تحمل بدورها تشابها قويا بالأحماض. لاحظ أن الخل المقطر (حمض الخليك) هو أضعف الأحماض - كما هو متوقع - لأنه لا «يحلل» سوى عدد قليل جدا من المواد. كذلك يحمل الفلوجستون الشبه الأكبر للنتر (انظر العمود 13)؛ وذلك لأن النتر (وكذلك نترات البوتاسيوم) يحول المعادن إلى كلسات بسهولة عند إدخال الحرارة إلى المعادلة. قبل قرن، أشار كل من بويل، وهوك، ومايو إلى قدرة نترات البوتاسيوم على الحلول محل الهواء في احتراق الكبريت والكربون، وكذلك في عمليات تكلس المعادن. وفي منتصف عقد السبعينيات من القرن الثامن عشر، كان الأكسجين يعتبر غازا منزوع الفلوجستون، بل «متعطشا إلى الفلوجستون». وفي هذا السياق، كان من الممكن اعتبار النتر ونترات البوتاسيوم - اللذين سرعان ما اكتشف الكيميائيون أنهما مصدر للأكسجين - «عديمي الفلوجستون».
يتطابق ترتيب درجة تشابه الفلزات بالأحماض في جدول جيلرت إلى حد كبير مع سلسلة الفاعلية الكيميائية للفلزات الحديثة (مما يشير إلى سهولة الأكسدة). وفيما يلي مقارنة بينهما:
العمود 10 من جدول جيلرت (حمض النيتريك)
سلسلة الفاعلية الكيميائية للفلزات *
الزنك
الزنك
الحديد
الحديد
الكوبلت
الكوبلت
النحاس
القصدير
الرصاص
الرصاص
الزئبق
النحاس
الفضة
الفضة
القصدير
الزئبق
الذهب
الذهب *
T. L. Brown, H. E. LeMay, Jr., and B. E. Bursten,
Chemistry-The Central Science , seventh edition, Prentice-Hall, Upper Saddle River, NJ, 1997, pp. 128-132.
عند إضافة فلز الفضة إلى محلول مائي من حمض النيتريك، «يتحلل» الفلز ببطء ، مطلقا فقاقيع «هوائية». (بعد حوالي 15 عاما من نشر جدول جيلرت، رصد هنري كافنديش هذه الفقاعات ووصفها بأنها فائقة الخفة وقابلة للاشتعال، وكان يعتقد أن الهواء القابل للاشتعال الذي يملؤها هو الفلوجستون نفسه.) وبتنا نعرف الآن أن الفضة قد تأكسدت، وأن المحلول يحتوي على نترات الفضة (
AgNO
3 )، لا على الفلز. فإذا أضيف فلز النحاس الأكثر فاعلية كيميائية (مثلا، بوضع سلك نحاس في المحلول)، فسوف يبدأ المحلول في اتخاذ لون أزرق مع ترسب أملاح نحاس معينة وفضة على السلك؛ ومن ثم يبدو أن النحاس أكثر شبها بحمض النيتريك من الفضة، مثلما يقترب الكحول في الشبه من الماء أكثر من الملح. وفي الواقع، ثمة قدر كبير من الالتباس هنا؛ على سبيل المثال: تمثل أكسدة الفلزات تغيرا كيميائيا حقيقيا، بينما يمثل إحلال الكحول محل الملح تغيرا فيزيائيا محضا.
إن تقسيم جدول جيفري أو جيلرت إلى مواد ترابية، وقلويات، وأحماض، وأملاح، ولا فلزات، وفلزات؛ ينطوي على بعض ملامح الجدول الدوري الذي جاء لاحقا. يجمع الجدول الدوري بين الفلزات وأشباه الفلزات واللافلزات في تجمعات وأقسام، والتصنيفات داخل عائلة ما كيميائية من شأنها أن تعكس الفاعلية الكيميائية؛ فالفلورين أكثر تفاعلية إلى حد كبير من بقية الهالوجينات، بينما يمثل الليثيوم الفلز القلوي الأقل تفاعلية في عائلته. تخلط جداول التشابهات بين خواص كيميائية وفيزيائية إلى حد واضح، بينما يتسم الجدول الدوري بطبيعته الكيميائية الواضحة، على الرغم مما يظهر فيه من اتجاهات تعكس خواص فيزيائية كذلك. ولا يتضمن الجدول الدوري سوى عناصر، في حين تتضمن جداول التشابهات عناصر ومركبات. ومع ذلك، حري بنا هنا أن نتذكر أن أكاسيد الفلزات (التي تقع يسار الجدول الدوري) تظهر في جداول التشابهات بصفتها قلويات، في حين أن أكاسيد اللافلزات (التي تقع يمين الجدول الدوري) تظهر في جداول التشابهات بصفتها حمضيات. أما الشيء الغائب عن جداول التشابهات على نحو أساسي فهو صفة الدورية نفسها؛ فلا يمكن للسلوك الدوري أن يحدث إلا عند وجود زيادة تدريجية يمكن قياسها في خاصية مثل الكتلة الذرية (التي اكتشفت في مطلع القرن التاسع عشر)، أو العدد الذري (الذي اكتشف في أوائل القرن العشرين). ومع ذلك، فقد أجبرت جداول التشابهات تلك الكيميائيين على التوصل إلى تخيل واضح لتنظيم منهجي لمجالهم - وربما كانت تلك أول خطوة حقيقية نحو تحول الكيمياء إلى علم حديث. (3) شيله: من مساعد صيدلاني إلى عضو الأكاديمية الملكية للعلوم
ولد كارل فيلهلم شيله (1742-1786)
13 ،
14
في شترالزوند، بالسويد، وهي ميناء يقع على بحر البلطيق، تم التنازل عنه إلى بروسيا في عام 1815، وهو الآن يقع في الجزء الشمالي الغربي من ألمانيا. لم تكن المدرسة التي تلقى فيها شيله تعليمه الابتدائي القوي تقدم تعليما ثانويا مؤهلا للجامعة.
14
وكان شقيق شيله الأكبر قد تلقى تدريبا في صيدلية في جوتنبرج؛ مما حفز شيله الشاب، فأرسل لتلقي التدريب في الصيدلية ذاتها، تحت إشراف مارتن باوخ. كانت كيمياء باوخ متطورة وعصرية، وبدأ شيله يزدهر بصفته كيميائيا شابا مع قراءته نصوص يوهان نوكل وكاسبر نيومان العظيمة، ومحاولاته لإعادة إجراء تجاربهما. حين بيعت الصيدلية في عام 1765، انتقل شيله إلى مالمو، حيث عمل مساعد صيدلاني في إحدى الصيدليات، والتقى أندرس ريتزيوس؛ المحاضر في جامعة لوند.
13 ،
14
وقد منح شيله مساحة كبيرة من الحرية للاستمرار في أنشطته التجريبية في مالمو. ونظرا لإعجابه بالتطور العلمي في ستوكهولم، قبل شيله منصب مساعد في صيدلية عام 1768، لكنه وجد أن مهامه كانت مقتصرة على إعداد الوصفات الطبية.
14
في عام 1770، التحق بالعمل في صيدلية في أوبسالا، حيث حظي أخيرا بنضد عمل ليجري عليه تجاربه الخاصة.
14
وفي أوبسالا، نمت صداقة بينه وبين الشاب يوهان جوتليب جان (1745-1818) - الذي اكتشف المنجنيز بعد أربع سنوات من ذلك الوقت - وعرف جان شيله بأشهر كيميائي السويد؛ توربرن بيرجمان (1735-1784).
15
شكل 5-12: صفحة العنوان من طبعة (أوبسالا ولايبزيج) من كتاب كارل فيلهلم شيلة البارز عن الهواء والنار. بالرغم من اكتشاف شيلة الأكسجين للمرة الأولى في عام 1771 أو 1772، فإن التأخر الطويل في مراجعة الكتاب من طرف بيرجمان؛ ومن ثم نشره، أتاح لجوزيف بريستلي أن يكون أول من ينشر عن اكتشاف الأكسجين (1774) (بإذن من مكتبة روي جي نيفل لتاريخ الكيمياء).
شكل 5-13: هذا الشكل من أول طبعة إنجليزية (1780) صدرت من كتاب شيله «ملاحظات كيميائية عن الهواء والنار». في الصورة 3 من الشكل، يسخن كل من حمض الكبريتيك ونترات البوتاسيوم معا. تتضمن الغازات الناتجة عن التفاعل ثاني أكسيد النيتروجين، وتثبت بواسطة لبن الجير الموجود في الجراب، إلى جانب الأكسجين (الغاز الناري) الذي يجمع غازا في الجراب.
كانت الفترة التي عاشها شيله في أوبسالا (1770-1775) فترة إنتاج مذهلة؛ فقد توصل إلى اكتشافات مهمة، إلا أن اكتشافه الأكسجين في عام 1771 أو 1772 (وربما قبل ذلك) يعتبر إنجازه الأعظم.
13
ومن المهم أن نلفت النظر إلى أن جوزيف بريستلي اكتشف الأكسجين وحده في 1774، ونشر نتائجه مباشرة. وعلى ما يبدو، لم يكن شيله يعلم إطلاقا بعمل بريستلي، وسلم مخطوطة كتابه بعنوان «ملاحظات وتجارب كيميائية عن الهواء والنار»
16
إلى المطبعة في أوبسالا في ديسمبر 1775، وكذلك لبيرجمان في بداية عام 1776.
13
وقد علم للمرة الأولى باكتشاف بريستلي للأكسجين في أغسطس عام 1776، من خلال خطاب كتبه إليه بيرجمان.
13
وكان في ذلك الوقت قد ضاق ذرعا بتواني بيرجمان عن مراجعة مخطوطته، وكذلك بتأخر دار النشر في نشرها.
13
ونشر كتاب شيله - الذي يذكر فيه اكتشافه الأكسجين قبل ست سنوات - أخيرا في عام 1777 (الشكل
5-12 ).
17
ولم يعترف بأسبقية شيله في اكتشاف الأكسجين على نطاق واسع إلا بعد مرور قرن من الزمان.
13 ،
14
الشكل
5-13
من الطبعة الإنجليزية الأولى (التي نشرت عام 1780) من كتاب شيله «عن الهواء والنار»،
16 ،
18
وتظهر يسار أعلى الشكل
5-13 (الصورة 1) قنينة بها مقدار ثلاث ملاعق صغيرة من برادة الصلب، مضاف إليها مقدار أونصة من الماء أعقبها مقدار نصف أونصة من حمض الكبريتيك. ويبين الشكل سدادة بها فتحة يمر عبرها أنبوب زجاجي طويل مجوف أدخل بإحكام في القنينة
A . وضعت القنينة في الوعاء
BB
الذي يحوي ماء ساخنا لتسريع الذوبان. بعد ذلك، قرب لهب شمعة من الغاز القابل للاشتعال (الهيدروجين) الذي يخرج من أعلى الأنبوبة ليشتعل، ووضع اللهب في وسط المقطرة المعوجة
C
التي تزن 20 أونصة. حين خمدت النار من تلقاء نفسها، صعد الماء من الوعاء إلى المستوى
D
في المقطرة المعوجة . وكانت المسافة إلى المستوى
D
تساوي أربع أونصات من الماء؛ وهكذا يكون حجم الهواء الأصلي في المقطرة المعوجة قد قل بنسبة الخمس. أضاف شيله ماء الجير إلى المعوجة، ولاحظ عدم خروج الهواء المثبت (ثاني أكسيد الكربون) نتيجة الاحتراق. ولم يرصد، للأسف، المقدار القليل الذي تكون من بخار الماء. وخلص شيله إلى وجود عنصر غازي مختلف في الهواء الجوي يدعم عملية الاحتراق، واعتقد شيله أن ذلك الغاز امتص الفلوجستون من المواد القابلة للاشتعال. ولكن أين ذهب الفلوجستون؟ افترض شيله أن الفلوجستون الذي لا يمكن وزنه والغاز الجديد قد امتزجا ليشكلا مادة نفذت عبر مسام الوعاء الزجاجي.
تجسد الصورة 2 من الشكل
5-13
تجربة مماثلة تتضمن استخدام شمعة؛ حيث توضع كتلة شمعية صلبة في قاع الطبق
A . بعد ذلك، يغرز أحد طرفي سلك حديدي قوي في هذه الكتلة، ويغرز الطرف الآخر
C
في قاعدة شمعة. تضاء الشمعة، ويوضع فوقها مقطرة معوجة مقلوبة، وتثبت بإحكام على الكتلة الشمعية الموضوعة في الطبق. يضاف الماء إلى الطبق. عند انطفاء الشمعة، شغل الماء أونصتين من سعة المقطرة المعوجة التي تقدر ب 160 أونصة. وقد وجد شيلة أن غاز ثاني أكسيد الكربون تكون نتيجة هذا الاحتراق، وأصاب إذ استنتج أن إطلاق غاز ثاني أكسيد الكربون سرعان ما أخمد اللهب. لكنه في ذلك الوقت لم يستطع فهم أنه في مقابل كل جزيء مفقود من الأكسجين يتشكل جزيء ثاني أكسيد الكربون، على الرغم من أن هذا الغاز أيضا يتسم بقابليته الكبيرة للذوبان في الماء.
توضح الصورة 3 من الشكل
5-13
الجراب المستخدم في جمع الأكسجين. أضيف زيت الزاج (حمض الكبريتيك) إلى نترات البوتاسيوم، وكانت الغازات الناتجة تتضمن الأكسجين وأبخرة ثاني أكسيد النيتروجين (
NO
2 ) الحمراء. تجمعت هذه الغازات في جراب مملوء بمحلول لبن الجير [
Ca(OH)
2 ] الذي «ثبت» أبخرة ثاني أكسيد النيتروجين، ليبقى الأكسجين النقي. توضح الصورة 4 جرابا آخر، ويمكن توضيح استخدامه على النحو التالي: ضع طباشير (
CaCO
3 ) في قاع الجراب، ثم اربط عقدة محكمة عند النقطة
B ، لغلق أسفل الكيس بإحكام، ثم ضع محلولا حمضيا في الجزء
AA
من الجراب، ثم أخرج الهواء المتبقي واربط عقدة أخرى محكمة عند النقطة
C . ثبت الفتحة
D
حول زجاجة مقلوبة مغلقة بسدادة ومحكمة الإغلاق. وعند الاستعداد، يمكن فك العقدة المربوطة عند النقطة
B ، وتلك المربوطة عند النقطة
D
ونزع السدادة (التي لا تزال موجودة داخل الجراب)، لتجمع النواتج الغازية (الهواء المثبت في هذه الحالة). وقد استعان شيله بعدد من التفاعلات المختلفة للحصول على الأكسجين، بما في ذلك تسخين نترات البوتاسيوم، وكلس الزئبق الأحمر (
HgO )، وتسخين «المنجنيز الأسود» مع حمض الكبريتيك أو حمض الفوسفوريك. كما استعان شيله بالنحل في دراساته على تنفس الأكسجين (انظر الصورة 5 من الشكل
5-13 ).
قدم شيله عددا من الإسهامات الأخرى البالغة القيمة في الكيمياء.
13
فقد أضاف زيت الزاج (حمض الكبريتيك) إلى فلوريد الكالسيوم (
CaF
2 ) ثم قطره؛ فوجد تآكلا كبيرا في المقطرة المعوجة التي احتوت المزيج المتفاعل، وحتى التصميغ المستخدم للإغلاق المحكم للأداة بات هشا سهل التفتت، كما تشكل راسب أبيض على كل الأسطح الداخلية للأداة. كذلك حضر شيله حمض الهيدروفلوريك (
HF )، الذي هاجم الوعاء الزجاجي (ثاني أكسيد السيليكون)، وشكل مركب رباعي فلوريد السيليكون
SiF
4
الغازي. وحين أعاد التجربة مع إضافة الماء إلى وعاء الاستقبال، فوجئ بوجود طبقة من السيليكا الجيلاتينية على سطح الماء.
بالطبع، كان شيله يعي تماما مصدر «الفوسفور البولي»؛ إذ ذكره هينينج براند في الأصل قبل قرن من الزمان (انظر المقال الذي ورد في [الفصل الرابع: علم وليد، القسم الخامس: عنصر لوسيفر وحبوب نوكل]) وقد اكتشف جان صديق شيله وجود فوسفات الكالسيوم في العظام والقرون حوالي عام 1769 أو 1770.
13
وعالج شيله الأمونيا المحروقة بحمض النيتريك، وكثف الجبس بحمض الكبريتيك، وركز المادة المصفاة، وقطر حمض الفوسفوريك الناتج على الفحم، وجمع الفوسفور الناتج.
13
اكتشف شيله الكلور حين عالج «المنجنيز الأسود» بحمض الهيدروكلوريك، وعزل غازا خانقا أصفر مائلا إلى الخضرة.
13
وقد كانت خواص التبييض التي يتمتع بها غاز الكلور واضحة بالفعل. وباكتشاف شيله أن الجرافيت حين يحترق بالكامل ينتج ثاني أكسيد الكربون، تمكن من أن يخلص إلى أن «الرصاص الأسود» ما هو في الواقع سوى كربون نقي، مثله في ذلك مثل الألماس.
13
في فبراير عام 1775، كان شيله لا يزال مساعد صيدلي، لكن شهرته كانت واسعة، حتى إنه انتخب عضوا بالأكاديمية الملكية للعلوم في السويد.
13
في ذلك الوقت، قرر أخيرا أن يصير صيدلانيا. وقد توفي هيرمان بول - مالك الصيدلية التي مكنت شيله من تحقيق هدفه بامتلاك متجر للأدوية في شوبنك - في عام 1775، تاركا أرملته سارة مارجريتا سونمان بول تبحث عن مشتر للصيدلية.
14
وتوصل شيله إلى اتفاق معها كادت أن تلغيه بعد ظهور مشتر آخر، غير أن سمعة شيله المبررة التي بلغت الآفاق أجبرت السيدة بول على الانصياع للرأي العام والالتزام باتفاقها الأول.
14
وبالرغم من عدم ذكر كثير من التفاصيل المعروفة عن علاقة شيله بالسيدة بول، فقد استخدم رولد هوفمان وكارل جيراسي رخصة أدبية للتخمين على نحو حساس بشأن هذه العلاقة في مسرحيتهما «الأكسجين».
19
ويلعب خطاب أرسله شيله إلى لافوازييه في أكتوبر من عام 1774، لم يرد عليه لافوازييه قط،
20
دورا محوريا في هذه المسرحية. ونحن نعرف يقينا أن شيله قد تزوج من السيدة بول وهو على فراش الموت، حتى يتسنى لها أن ترث منه الصيدلية.
14 (4) غاز الضحك أم مجرد «غاز النيتروز شبه الفلوجستوني»؟
نشأ علم كيمياء الغازات - جمع الغازات والتعامل معها - في عشرينيات القرن الثامن عشر بفضل عمل ستيفن هيلز، وما أدخله ويليام براونريج لاحقا من تحسينات.
21 ،
22
ومن ثم، قبل عقد السبعينيات من القرن الثامن عشر، كان الغازان الوحيدان اللذان حصل عليهما في صورة نقية وتم توصيفهما إلى حد ما؛ هما الهواء المثبت (ثاني أكسيد الكربون)، والغاز القابل للاشتعال (الهيدروجين)، وقد أطلق على كليهما «غازات اصطناعية» وفق المصطلحات التي وضعها هنري كافنديش.
23
في بداية عقد السبعينيات من القرن الثامن عشر، قام د. جوزيف بريستلي - ضمن جهوده في تحسين تقنيات علم كيمياء الغازات - بعزل وتوصيف سلسلة جديدة من «الغازات»، تضمنت الأكسجين (غاز منزوع الفلوجستون)، والنيتروجين («غاز فلوجستوني»
N
2 )، وأكسيد النيتريك («غاز النيتروز»
NO )، وأكسيد النيتروز («غاز النيتروز الفلوجستوني»
N
2
O ).
24
في مكان آخر، بعيدا عن علم بريستلي، كان الصيدلاني كارل فيلهلم شيله يجري سلسلة موازية من التجارب، قام خلالها بعزل وتوصيف الأكسجين (الغاز الناري) في عام 1772 (أي قبل ما لا يقل عن عامين من قيام بريستلي بالأمر نفسه)، وربما حتى في عام 1771.
25
وقد كان كل من بريستلي وشيله مؤمنا إيمانا راسخا بنظرية الفلوجستون. ويصور الشكل
5-14
بعض أدوات بريستلي المستخدمة في إجراء التجارب على الغازات، بما في ذلك مغطس الغازات (الصورة 1).
شكل 5-14: صورة تجميعية لجهاز عزل الغازات الخاص بجوزيف بريستلي. كان يستخدم ماسورة بندقية كغرفة تفاعل، ويضعها في مدفأة. وكانت الغازات الناتجة، في حالة قابليتها للذوبان في الماء، تتجمع فوق الزئبق (الصورة 11).
ويمكن استيضاح بعض الالتباسات التي نتجت عن نظرية الفلوجستون باختصار من المصطلحات المذكورة أعلاه. على سبيل المثال: يشير مصطلح «الغازات الاصطناعية» إلى غازات مشتقة من مواد صلبة. ويعمل تسخين الطباشير (كربونات الكالسيوم، علما بأن كلا من الطباشير والكالسيوم مرتبط بالكلس أو الجير) على إنتاج «الهواء المثبت» (ثاني أكسيد الكربون). ويصور الشكل
5-14 (انظر الصورة 11 من الشكل)
26
الجهاز الذي كان يستخدمه بريستلي في جمع الغازات الاصطناعية من المواد الصلبة التي كان تسخن في ماسورة بندقية جزء منها موضوع في مدفأة. يجمع الغاز في أنبوب مملوء بالزئبق ومقلوب في طبق يحتوي على الزئبق أيضا (انظر الصورة 11 من الشكل
5-14 ). كذلك يمكن الحصول على غاز الأكسجين من خلال تسخين الكلسات الصلبة، بما في ذلك أكسيد الزئبق الثنائي
HgO
أو ثاني أكسيد المنجنيز (
MnO
2 ). ومن ثم، فإن كلا من ثاني أكسيد الكربون والأكسجين «غاز اصطناعي». ما من مشكلة حتى الآن، ومع ذلك، فإن إضافة الزنك إلى حمض الكبريتيك (زيت الزاج) تنتج غازا اصطناعيا آخر - وهو الغاز غير القابل للاشتعال (الهيدروجين
H
2 ) - يتم الحصول عليه ب «وضوح» من المعدن الصلب. في الواقع، ظن كافنديش أن الغاز القابل للاشتعال هو الفلوجستون عندما عزله عام 1766. والحقيقة أن الهيدروجين ينتج من محلول الحمض المائي؛ نظرا لأن الماء يتكون من الهيدروجين والأكسجين، إلا أن أحدا لم يتوصل إلى هذا الاكتشاف إلا في بدايات عقد الثمانينيات من القرن الثامن عشر.
وجد بريستلي أنه عند تخزين غاز النيتروز - الذي يستحضر من معالجة النحاس بماء النار (حمض النيتريك) - على برادة الحديد، نتج غاز جديد توهج فيه لهب الشمعة بدرجة أشد مما يتوهج في الهواء الجوي أو ما كان يطلق عليه «غاز النيتروز». من الجلي أن ذلك «الغاز» الجديد كان يفتقر إلى الفلوجستون مثل الأكسجين (الغاز المنزوع الفلوجستون)؛ ومن ثم كان ذلك الغاز الجديد منزوع الفلوجستون أيضا. ولأن ذلك الغاز الجديد كان يفوق «غاز النيتروز» قدرة على دعم الاحتراق، فقد أطلق عليه بريستلي استنادا للمنطق «غاز النيتروز المنزوع الفلوجستون».
تذكر الآن فكرة اعتبار أن مصطلح «فلوجستوني» يعني «مفتقرا إلى الأكسجين»، وأن «منزوع الفلوجستون» يعني «يحتوي على الأكسجين».
27
لقد بتنا الآن نعرف أن الغاز الجديد كان أكسيد النيتروز (
N
2
O ) - غاز الضحك - وهذه قصة أخرى مختلفة.
28
في الواقع، يحتوي أكسيد النيتروز على نسبة «أقل» من الأكسجين مقارنة بغاز النيتروز، وبناء على محتواه من الأكسجين، كان ينبغي أن يسمى ب «غاز النيتروز الفلوجستوني» (أو «غاز النيتروز شبه الفلوجستوني»). ومع ذلك، فإن درجة افتقاد الفلوجستون (أو «التعطش» إلى جوهر النار) لم تكن لها علاقة مباشرة بمحتوى المركب ما من الأكسجين؛ فقد كان غاز الكلور، الذي اكتشفه شيله،
25
يتسم بالقدرة على إشعال الهيدروجين. وحتى لافوازييه كان يعتقد أن غاز الكلور لا بد أنه يحتوي على الأكسجين - لكن الأمر غير ذلك. الواقع أن رصد كيمياء أكسيد النيتروز عكس بنيته وتفاعليته الكيميائية، وهما عاملان لم يكن من الممكن فهمها في أواخر القرن الثامن عشر، على عكس محتوى الأكسجين. وهذا الالتباس كان أمرا يمكن تفهمه. (5) إشادة بالتحليل الإيديومتري
شكل 5-15: يوضح الرسم
g
أبسط شكل ممكن للإيديومتر (وهو أنبوب مدرج مغلق من أحد طرفيه). توضع أحجام محددة من الغاز، ثم تقاس التغيرات في الحجم النهائي. وقد قاست أول أشكال بريستلي للإيديومتر ببساطة محتوى الأكسجين في الهواء عند تفاعله مع «غاز النيتروز» المولد حديثا (الذي هو فعليا أكسيد النيتريك) (من كتاب بريستلي «تجارب وملاحظات عن أنواع الغازات المختلفة، طبعة عام 1790).
لم يكن الإيديومتر - في أبسط أشكاله - إلا أنبوبا مدرجا مقلوبا، مغلقا من أحد طرفيه ومفتوحا من الآخر لقياس أحجام الغازات المتجمعة فوق الماء (أو فوق الزئبق في حالة ما إذا كان الغاز قابلا للذوبان في الماء؛ انظر الصورة 11 من الشكل
5-14 ). ترجع فاعلية الإيديومتر الحقيقية إلى قدرته على قياس التغيرات التي تطرأ على الحجم عند تفاعل غازات مختلفة. وقد استخدم جوزيف بريستلي أجهزة أوديومتر شديدة البساطة في دراساته على الغازات الاصطناعية مثل «غاز النيتروز» (أو أكسيد النيتريك، الذي عزل عام 1772)، و«الغاز المنزوع الفلوجستون» (أو الأكسجين، الذي عزله بريستلي عام 1774). ويصور الشكل
5-15
أحد هذه الإيديومترات (انظر الصورة
g )
29
ووعاء زجاجيا للتعامل مع الغازات في تجربة قياس أيديومتري. أما الأوعية الثلاثة المرقمة ب
f
في الشكل، فهي مقاييس سعة أونصة وأونصتين وأربع أونصات للغازات، تملأ أولا بالماء، ثم توضع مقلوبة في حوض هوائي وتملأ بالغاز محل الدراسة. على سبيل المثال: يمكن نقل معيار واحد من أحد الغازات، «الهواء الجوي»، إلى «غرفة التفاعل» (وهي وعاء زجاجي مملوء بالماء يوضع مقلوبا في حوض هوائي). وعند إضافة معيار مساو من «غاز النيتروز»، يتشكل غاز مائل إلى الحمرة على الفور ثم يختفي. وكان التفاعل يترك ليستمر حوالي دقيقتين، ثم تنقل المحتويات الغازية إلى الأيديومتر؛ فكانت النتيجة المعتادة أن يبقى معيار 1,36 من أصل معيارين من «الهواء الجوي» المختلط ب «غاز النيتروز» في الإيديومتر.
30
كذلك كان المقياس الإيديومتري يشير إلى تفاعل مقدار من «الغاز المنزوع الفلوجستون» النقي تماما مع ضعف هذا المقدار من «غاز النيتروز». وبعد حوالي 35 عاما (جمعت ما بين اكتشافات دالون، وجاي-لوساك، وكانيزارو)، أدرك الكيميائيون أن هذا التفاعل الغازي يتخذ الصيغة التالية:
كذلك بتنا نعرف أن ثاني أكسيد النيتروجين يتحلل في الماء ليشكل حمض النيتريك:
بعد ذلك، يعاود أكسيد النيتريك الناتج عن التفاعل الدوران في وعاء التفاعل، وفي النهاية يتفاعل بالكامل تقريبا مع الأكسجين لينتج حمض النيتريك. وفي الواقع، أدت كل هذه التعقيدات، بالإضافة إلى حقيقة أن أكسيد النيتريك كان أكثر قابلية للذوبان في الماء من الأكسجين بدرجة كبيرة، إلى كثير من التضاربات المبنية على نوع الغاز المضاف أولا، ودرجة اهتزاز وعاء التفاعل، وطول فترة السماح بتفاعل الغازات. غير أن كافنديش - في النهاية - أضفى على هذه التقنية صفة الاتساق.
30
يسهل الآن فهم نتائج المقياس الإيديومتري لخلط «الهواء الجوي» و«غاز النيتروز»؛ فنحن نعرف أن الأكسجين يشكل 20 بالمائة تقريبا من حجم الهواء؛ ومن ثم فإن معيار 0,2 من الأكسجين الذي يحتوي عليه معيار 1 من الهواء الجوي سيختفي عند التفاعل مع معيار 0,4 (من أصل المعيار الأصلي 1) من غاز النيتروز. وهكذا، يكون حجم الغاز المتبقي في الإيديومتر 1,4 - ويكون إجمالي حجم الغاز المفقود 0,6. في الحقيقة، من المعتاد أن يتبقى معيار 1,36 (انظر الشكل أعلاه)؛ خذ الحجم المفقود (معيار 0,64)، واقسمه على 3، وسيكون الناتج 0,21؛ وعليه فإن الأكسجين يشكل حوالي 21 بالمائة من حجم «الهواء الجوي». فإذا اختزلت عينة من «الهواء الجوي»، بحيث تصبح نسبة الأكسجين فيها حوالي 10 بالمائة (وذلك من خلال تكليس معدن أو إدخال فأر إلى الوعاء)، فإن خلط معيار قدره 1 من «الهواء الجوي» و«غاز النيتروز» سيخلف غازا بحجم 1,7 في الإيديومتر، وكان محتوى الأكسجين في هذه العينة 1,7 فقط مقارنة بمحتوى الأكسجين في «الهواء الجوي» (1,36).
30
وفرح بريستلي بأنه لن يكون مضطرا بعد ذلك إلى قتل الفئران لاختبار محتوى الهواء الجوي من الأكسجين (انظر الصورة 26 من الشكل
5-14 ).
30 ،
31
وقد اختبر بريستلي وآخرون فرضية أن هواء المدينة يحتوي على نسبة أقل من الأكسجين مقارنة بهواء الريف. ووفقا لهذا المقياس على الأقل، يتساوى محتوى كلا «النوعين» من الهواء الجوي من الأكسجين. ومع ذلك، اكتشف بريستلي (وشيله بمفرده) أن الغاز الذي تحلل في الماء كان يحتوي على نسبة أكسجين أكبر قليلا من تلك التي يحتوي عليها «الهواء الجوي» (نظرا لأن قابلية النيتروجين للذوبان في الماء تقل قليلا عن قابلية الأكسجين للذوبان فيه).
30
خلال الجزء الأخير من القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، ابتكرت تعديلات كثيرة عمل فيها الإيديومتر باعتباره أسطوانة لقياس الحجم وغرفة تفاعل على حد سواء.
32
وكان يمكن تعليق مسحوق الكبريت أو الفوسفور الأحمر في طبق محاط بالغاز موضع الدراسة وموضوع فوق الماء في الإيديومتر. وكانت تستخدم عدسة مكبرة قوية لإشعال المواد الصلبة، لتشكل في النهاية أحماضا قابلة للذوبان في الماء، وتقلل حجم الهواء تبعا لذلك. وبالرغم من اشتعال الهيدروجين (الغاز القابل للاشتعال) والأكسجين في خلائط مختلفة بدءا من سبعينيات القرن الثامن عشر - ونتج الانفجار الأكثر صخبا عن خلط معيارين من الهيدروجين ومعيار واحد من الأكسجين - استخدم إيديومتر فولتا (انظر الإيديومتر
b
ذا الأقطاب
f
في الصورة 16 أسفل منتصف الشكل
5-16 )
33
بكفاءة ودقة شرارة كهربية لإشعال الغازين وقياس الحجم المتبقي.
إذا فكرنا في الإيديومتر في صورته الأصلية بصفته أداة تستخدم لقياس نسبة الأكسجين في الهواء، نجد أنه قد انقرض، مثله مثل طائر الدودو، لكن الفارق بين الإيديومتر والدودو هو إمكانية إعادة الإيديومتر إلى الحياة لأغراض العرض التجريبي للطلاب، وهذا ما فعله فيليب وفيليس موريسون في حلقاتهما التليفزيونية على قنوات بي بي إس (بابليك برودكاستنج سيرفيس).
34
فقد قام مقدما البرنامج بتركيب إيديومتر على طراز فولتا، وأضافا مقدار «كشتبانين» من كل من غازي الهيدروجين والأكسجين، وحين أشعلا هذا الخليط بشرارة كهربية، تمدد الغازان (لم تشر كاميرا الحركة البطيئة إلى خروج أي فقاعات غازية من أسفل الإيديومتر) مخلفين مقدار «كشتبان» واحد من الغاز. ولم تتغير النتيجة بالرغم من تكرار التجربة طوال ساعات ما بعد الظهيرة. ويقول مقدما البرنامج: «كان المقدار المتبقي هو مقدار الأكسجين الذي لم يستطع أن يدخل في التفاعل المكون للماء، ودائما ما يكون معيارا واحدا من إجمالي المعايير الأربعة. ومرة أخرى، عرفنا كيفية تكون جزيء الماء
H
2
O . يبدو أن شيئا عميقا في الماء يفهم أساسيات علم الحساب.»
34
شكل 5-16: إيديومتر أليساندرو فولتا (انظر أسفل منتصف الشكل، الصورة 16 - أنبوب يقف على يمين الحوض). وقد أمكن إشعال مزيج الهيدروجين والأكسجين في هذا الإيديومتر، وقياس تغير حجميهما. (من كتاب أكيوم الصادر عام 1824 بعنوان «المعجم الشارح للأدوات والمعدات ...») (6) الماء يقضي على نظرية الفلوجستون
نحن نشرب الماء، ونخرجه في هيئة عرق وبول منذ أزمنة بعيدة؛ لذا حري بنا أن نعرف تكوينه. يغلي الماء ويتجمد ويستعاد من الأملاح و«المواد الترابية» الأخرى. والماء عامل أساسي لوجودنا، كالهواء. ويمكن تحويل الماء - الذي يعد أحد العناصر الأرسطية - إلى «هواء» عن طريق التسخين، وإلى تراب بالتخلص من الرطوبة، إلى جانب قيامه ب «تحييد» العنصر المقابل له، ألا وهو النار. وقد نجت مكانة الماء بصفته عنصرا من نقد روبرت بويل اللاذع للقدماء في كتابه الكلاسيكي «الكيميائي المتشكك». وفي عام 1747، أعلن أمبروز جودفري، مساعد بويل شديد البراعة، عن تحويل الماء كيميائيا إلى تراب،
35
وهذا استنتاج تجريبي دحضه أنطوان لافوازييه نهائيا عام 1770.
36
فمتى وكيف تعرفنا على طبيعة الماء الحقيقية، أو كيفية «تحول الهيدروجين إلى الماء» بحسب تعبير فيليب بول الدعابي؟
37
في عام 1766، أعلن كافنديش عن انطلاق «غاز قابل للاشتعال» (الهيدروجين) - ساواه بالفلوجستون، جوهر النار - من الفلزات خلال تفاعلها مع أحماض مائية. وبعد ثماني سنوات، أعلن بريستلي عن فصله «غازا منزوع الفلوجستون» (الأكسجين). ولا بد أنه كان شيئا محبطا ألا يلتهم أحد الغازين الآخر عند خلطهما معا
38
ليكونا بدلا من ذلك ... ماذا كونا؟ «فلوجستون منزوع الفلوجستون»؟ أي لا شيء فعليا؟ أوقد بريستلي لهبا قرب هذا الخليط للمرة الأولى في عام 1775 في زجاجة بطول بوصة ونصف بوصة، بفتحة قطرها ربع بوصة، وبعدها «كان يسلي نفسه بحمل هذه الزجاجات المسدودة بالفلين وفرقعتها.»
39
وكان بيير جوزيف ماكيه قد لاحظ تكون الماء، عند احتراق الهيدروجين في الهواء الجوي، لأول مرة ما بين عامي 1776 و1777، كما لاحظ تجمع قطرات ندى على طبق بورسلين بارد فوق اللهب. وسجلت مشاهدات مشابهة في إنجلترا على يد جون وارلتاير، الذي أحرق الهيدروجين والأكسجين بعد مزجهما بنسب حجمية مختلفة؛ فكانت أفضل نسبة لخلطهما هي 1:2،
39
لكن مشاهدة بقايا الماء في أوعية التفاعل الكيميائي كانت أمرا شائعا، وقد أفاد أحد التفسيرات بأنه لا بد من اعتصار الماء من الهواء قبل أن يكون بالإمكان أن يصبح فلوجستونيا بالكامل. وانتبه جيدا عزيزي القارئ! لقد كانت نظرية الفلوجستون تتصدع بصوت مدو في ذلك الوقت، وشرعت في الانهيار. في الواقع، تشغل الغازات حيزا ضخما مقارنة بالسوائل - فمقدار لتر واحد من الغازين بعد خلطهما على النحو الصحيح سينتج 10 قطرات من الماء، وهي كمية يمكن إغفالها بسهولة نوعا ما.
يكفي أن نقول إننا لن نحل «جدلية الماء»
40
هنا. كانت الأطراف الرئيسة في هذه الجدلية هي هنري كافنديش، وجيمس وات، وأنطوان لافوازييه. وقد حفز إيديومتر فولتا (انظر الشكل
5-16 ) بريستلي وكافنديش وآخرين على استخدام هذا الأسلوب. وعلى الرغم من أن جيمس وات (1736-1819) - الذي اخترع محركا بخاريا معدلا إلى حد كبير عام 1765 - قد قدم حجة دامغة على أنه أول من أدرك أن الماء مركب وليس عنصرا كيميائيا، فإن هذا الاكتشاف ينسب إلى كافنديش. فقد كان كافنديش أول من دمج في تجاربه بين النسب الدقيقة للهيدروجين والأكسجين، واستطاع أن يتوصل إلى كتلة كل منهما المحفوظة في الماء السائل. غير أنه نظرا لكون كافنديش من المؤمنين بنظرية الفلوجستون، فقد كان مفاد تفسيره للتجربة أن «الغاز القابل للاشتعال» (الهيدروجين) كان في واقع الأمر ماء وفلوجستونا (
Φ )، بينما «الغاز المنزوع الفلوجستون» (الأكسجين) كان في الواقع ماء منزوع الفلوجستون:
39 ،
41
هيدروجين +
أكسجين
ماء (ماء + لفلوجستون) (ماء − لفلوجستون)
ماء
كان الأمر سيبدو منطقيا لو أن الهيدروجين كان فلوجستونا نقيا، والأكسجين «غازا منزوع الفلوجستون»، فإن «تزاوجهما» ربما كان سيثمر - إذا كان له أن يثمر عن أي شيء - «غازا فلوجستونيا» أو «أزوتا» (النيتروجين). غير أن هذا التزاوج يثمر، بدلا من ذلك، ماء - وهو مركب ذو قوام وكثافة كبيرين. إذا لا بد أنه كان هناك طوال الوقت، أليس كذلك؟
كان لافوازييه، في النهاية، هو من قدم دليلا قاطعا حاسما على تركيب الماء. كان للماء دور محوري في حياة لافوازييه المهنية. وقد رسخت أول ورقة بحثية نشرها لافوازييه، وهو في الثانية والعشرين من عمره، إحدى أفكاره المهمة التي تكررت في أبحاثه.
42
كلس (سخن) لافوازييه الجص (كبريتات الكالسيوم)، ثم جمع الماء الناتج عن البلورة ووزنه، ثم أعاد تركيب المادة الأصلية بإضافة الماء المجمع إلى الملح اللامائي. وكما سبق أن أوضحنا، فقد دحض زعم آخرين بأن الماء قد تحول إلى تراب عند التسخين. وكان زعمه بأنه أول من اكتشف تركيب الماء يشبه إلى حد مذهل زعمه بأنه أول من اكتشف الأكسجين؛ غير أن السجل التاريخي يشير في كلتا الحالتين إلى أنه : أولا: ليس المكتشف الأول لكليهما؛ ثانيا: أنه كتم بعض المعلومات عن منافسيه؛ لكنه ثالثا : شرح على نحو تام وصائب الثغرات التي اكتنفت نظرية الأكسدة التي دحضت نظرية الفلوجستون.
43 ،
44
في الشكل
5-17 ، نرى جهاز لافوازييه «لتحليل الماء» (الصورة 11)،
45
الذي وضع فيه أنبوب من الزجاج الملدن (
EF ، محاط بطين ممتزج بقطع مفتتة من الفخار ومدعمة بقضيب حديدي) في فرن
EFCD ؛ يتصل أحد طرفيه بالمقطرة المعوجة
A ، التي تخرج بخارا، ويتصل طرفه الآخر بالمكثف
SS ، الذي يقطر ماء غير متفاعل في المقطرة
H . ينطلق الغاز المنبعث من الأنبوب عبر
KK ، ثم ينقى ويجمع على النحو المناسب. وقد وجدت التجربة الأولى أن كمية البخار المتصاعد من المقطرة
A ، ومرت عبر الأنبوب الملتهب الخاوي، تساوي تماما كمية الماء المجمع في المقطرة
H . وفي التجربة الثانية، وضع 28 جراما من الفحم في الأنبوب، انبعث منها بعد التعرض لفترة طويلة إلى البخار في الأنبوب المتوهج 100 جرام من غاز حمض الكربونيك (ثاني أكسيد الكربون)، و13,7 جراما من «غاز خفيف جدا ... بدأ في الاشتعال» (وهو غاز الهيدروجين) مع فقدان 85,7 جراما من الماء. وكان معروفا أن 100 جرام من غاز حمض الكربونيك تحتوي على 72 جراما من الأكسجين، و28 جراما من الكربون (تذكر أن الذرات والصيغ الكيميائية لم تكن عرفت بعد آنذاك)؛ ومن ثم تحلل 85,7 جراما من الماء إلى 13,7 جراما من الهيدروجين، و72 جراما من الأكسجين - كانت مؤسسة «جمع الضرائب»، التي كان لافوازييه مساهما فيها، لترضى تماما بهذا الحساب الدقيق. في التجربة الثالثة، عرض 274 جراما من الحديد المطاوع، في شكل صفائح رفيعة ملفوفة في شكل حلزونات، إلى البخار في الأنبوب المتوهج، دون أثر لغاز حمض الكربونيك هذه المرة. بدلا من ذلك، بات الحديد أكسيدا أسود (مثل ذلك الذي ينتج عن احتراق الحديد في الأكسجين)، وازداد وزنه بعدما أضيف إليه 85 جراما من الأكسجين. وبلغ وزن كمية الهيدروجين المجمعة 15 جراما؛ فيما بلغ وزن كمية الماء المفقود 100 جرام. وقد نتج عن هاتين التجربتين البالغتي الاختلاف النتيجة نفسها: يتشكل الماء من 85 بالمائة أكسجين و15 بالمائة هيدروجين.
شكل 5-17: تظهر الصورة 11 من الشكل جهاز تحليل الماء إلى هيدروجين وأكسجين. يوضع الفحم في أنبوب من الزجاج الملدن داخل الفرن. على النار، يؤكسد الفحم إلى ثاني أكسيد الكربون ، ويجمع، فيما يجمع الهيدروجين منفصلا. على الناحية الأخرى، يمكن وضع شرائح حديدية في أنبوب، ثم تسخينها تسخينا شديدا، فيتشكل أكسيد الحديد، وينبعث الهيدروجين في وجود البخار (من كتاب لافوازييه، «أطروحة أولية في الكيمياء»، الطبعة الثانية، عام 1793).
في الشكل
5-18 ، نرى جهاز لافوازييه «لتركيب الماء» (الصورة 5).
45
يوصل البالون الزجاجي
A ، الذي تبلغ سعته 30 باينت، الأكسجين النقي من اليسار (عبر أنبوب التجفيف
MM
المملوء بمسحوق كلوريد الكالسيوم أو مركب شبيه)، والهيدروجين النقي من اليمين (عبر أنبوب التجفيف
NN ). تشعل شرارة كهربية في جوار الوعاء
Ld . وبناء على نتائج تحليل الماء المبينة سابقا، تضاف 85 جراما من الأكسجين و15 جراما من الهيدروجين ببطء مع إشعال شرارات دورية. وهنا يصبح لديك 100 جرام من الماء السائل!
شكل 5-18: تظهر الصورة 5 جهاز «تركيب» الماء من الهيدروجين والأكسجين. ما إن تضاف الكميات الصحيحة، تشتعل شرارة في المقطرة المعوجة
L ، ويحدث التفاعل الكمي (من كتاب «أطروحة أولية في الكيمياء»، الطبعة الثانية، 1793).
وهكذا كانت نهاية نظرية الفلوجستون؛ إذ بدا تحليل الماء إلى عنصري الهيدروجين والأكسجين، ثم إعادة تركيبه من هذين العنصرين بمنزلة آخر مسمار في نعش نظرية الفلوجستون. وقد تحققت النتيجة ذاتها عبر التحليل الكيميائي للماء في عام 1789.
46
فكان «جوهر النار» الغازي الخفيف المنبعث من الحديد بفعل الأحماض المائية هو الفلوجستون، حسبما ذكر كافنديش عام 1766. يا له من أمر مثير للتهكم أن تعرف أن «الغاز القابل للاشتعال» ينبعث من الحمض المائي، وليس المعدن، وأن كافنديش هو من اكتشف ذلك فعليا! لكن دعوني أسر لكم قولا يا رفاق، ها نحن أولاء على مشارف نهاية الألفية الثانية، وما زلنا نجهل لم لا يلتهم كل من الهيدروجين والأكسجين أحدهما الآخر فور اختلاطهما وتكوينهما الماء في عدم وجود شرارة.
38 (7) بن فرانكلين؛ دبلوماسي من طراز خاص
شكل 5-19: لوحة لبنجامين من «مجموعة أعمال السيد فرانلكين»، باريس، 1773. انظر ترجمة القصيدة المدونة أسفل اللوحة في الملاحظة الثانية لهذا المقال، انظر [الجزء الخامس: الثورتان الفرنسيتان - القسم السابع: بن فرانكلين؛ دبلوماسي من طراز خاص] (هذا الكتاب يخص د. فرنر هايزنبرج، بإذن من ابنه الأستاذ يوخان هايزنبرج).
ثمة مشكلة جديرة بتدخل بن فرانكلين، أعظم دبلوماسي عرفته أمريكا، ألا وهي: كيف تحافظ على علاقة صداقة بين صديقين مقربين اختلفا اختلافا تاما وجذريا حول نظرية كيميائية؟ كان جوزيف صديقك منذ ستينيات القرن الثامن عشر، وقد أخذ بنصيحتك ونشر كتابه «تاريخ الكهرباء ووضعها الراهن».
47
وخاطر رجل الدين الإنجليزي هذا مخاطرة كبيرة؛ إذ دعم بقوة استقلال وطنك الحبيب أمريكا. والتقيت أنطوان عام 1772، وهو رجل ذكي، مفعم بالحيوية، وثري، ومواطنو بلاده يكنون لك التبجيل (انظر الشكل
5-19 ).
48
تتحدث إليك زوجته الجميلة الموهوبة الثرية ماري آن بالفرنسية، أو الإنجليزية، أو اللاتينية - كما تشاء - ورسمت لك صورة زيتية (الشكل
5-20 ).
49
يقيم الزوجان لافوازييه حفلات «صاخبة» ويعقدان صالونات ملهمة. على النقيض، يعيش جوزيف وماري بريستلي حياة زاهدة ويقيمان حفلات الشاي الوقورة. نشر جوزيف أول ورقة بحثية له تصف اكتشافه لما يسميه «الغاز المنزوع الفلوجستون»، لكنه كان يؤمن بقوة بنظرية الفلوجستون التي كان عمرها قرنا من الزمان آنذاك. ويطلق أنطوان على ذلك الغاز الذي اكتشفه جوزيف «الأكسجين»، ويؤمن بأن هذه النظرية قد انتهت من الوجود مثلما انتهى طائر الدودو،
50
الذي تزامن انقراضه تقريبا مع ميلاد الفلوجستون. إذا، ماذا لدبلوماسي عظيم أن يفعل؟ الإجابة: اقرأ لكل من المدرستين الفكريتين بإمعان، ولا تترك أثرا أيا كان لموقفك من أعظم جدل كيميائي في عصر التنوير.
51
شكل 5-20: تعلمت السيدة لافوازييه الرسم على يد الفنان الشهير جاك لوي ديفيد. وهذه صورة فوتوغرافية للوحة الزيتية التي رسمتها لصديقها المقرب بنجامين فرانكلين. انظر الصور الملونة (بإذن من أحد أقارب بنجامين فرانكلين).
كان لفرانكلين موقف محايد تجاه الفلوجستون، لكنه أبدى تأملات كيميائية مبتكرة ونافذة الرؤية إلى حد كبير. وقد صاغ أحد أكثر تصريحاته روعة عن بقاء المادة في خطاب يرجع إلى عام 1752،
52
حينما لم يكن لافوازييه قد تعدى التاسعة:
51 ،
52
إن كل ما تفعله النار هو «فصل» جزيئات المادة، لكنها لا «تفنيها»؛ فالماء يعود إلى الأرض في شكل أمطار، بفعل الحرارة المتصاعدة في صورة أبخرة، وإذا جمعنا كل جزيئات المادة المحترقة التي تنطلق مع الدخان، لربما ضاهى وزنها، بالرماد ، وزن كتلتها قبل الاحتراق. ولو استطعنا أن نعيد تركيب الجزيئات معا مرة أخرى بترتيبها السابق نفسه، لجاءت الكتلة مساوية لكتلتها في حالتها الأصلية، ويمكن حرقها مرة أخرى.
على الرغم من أن قانون بقاء المادة يرتبط بقوة وجدارة باسم لافوازييه، فإن التبعات الكيميائية لهذا القانون قد ذكرت صراحة قبل قرن على الأقل، والواقع أن المفهوم يرجع حقا إلى العصور القديمة.
53
ومع ذلك، فإن آراء فرانكلين عن هذه المادة ليست معروفة على نطاق واسع، بل إن مقولته هذه ربما تشير إلى تجربة محددة أجريت لإثبات صحة القانون. كذلك يذكر فرانكلين مشاهدته لقابلية غاز المستنقعات (الميثان) للاشتعال، في نيو جيرسي، قبل ما لا يقل عن أكثر من عقد من عزل أليساندرو فولتا للميثان:
51
اختار مكانا ضحلا؛ حيث يمكن ملامسة القاع بعكاز، وكان المكان موحلا، كان الطين أول ما أثاره العكاز، وحين بدأ عدد من الفقاعات التصاعد منه على السطح، أضيئت شمعة. كان اللهب مفاجئا وقويا للغاية، حتى إنه أمسك في كشكشة قميصه وأحرقها، حسبما ما رأيت.
يشير دودلي هيرشباك إلى أن ملاحظات فرانكلين على مدار ستة عقود قد «أقنعته بخطر التسمم بالرصاص».
54
وبحسب ما ذكر هيرشباك: «عزا فرانكلين إصابة عائلة بمغص إلى شربها ماء أمطار مجمعا من سطح معالج بالرصاص. وقد أشار إلى أن الأشجار المزروعة حول المنزل لسنوات نمت بارتفاع كاف لتسقط أوراقها على السطح، وهكذا كانت تفرز أحماضا راحت تبلي الرصاص فملأت المياه ... بجسيمات سامة.»
54
جمع بين فرانكلين ولافوازييه اهتمامهما بالبارود، ولا سيما بالمكون الرئيس للبارود (الذي يشكل 75 بالمائة منه): كبريتات البوتاسيوم. في حوالي عام 1775، ومع بدء احتدام الثورة الأمريكية، حظر الإنجليز شحنات البارود من أوروبا.
55
وكانت البحرية الملكية بمنزلة حجة مقنعة. وفي العام نفسه، اعتمد المؤتمر القاري منشورا بعنوان «عدة طرق لتصنيع كبريتات البوتاسيوم؛ موصى بها لقاطني المستعمرات المتحدة، من قبل ممثليهم في المجلس». وكان المنشور يحتوي على أجزاء من تأليف فرانكلين ود. بنجامين راش، اللذين شاركا لاحقا في التوقيع على إعلان الاستقلال.
55
وهكذا باتت معالف الحظائر والقعادات المنزلية مصادر حيوية لكبريتات البوتاسيوم. وكان الفرنسيون في أشد اللهفة لبيع كبريتات البوتاسيوم والبارود إلى المستعمرات الأمريكية من أجل إضعاف الإنجليز خصومهم الأزليين. وقد كانت تعاملات فرانكلين مع صديقه المقرب لافوازييه، الذي كان مسئولا في «إدارة البارود»، وهي المنظمة الحكومية المسئولة عن إنتاج البارود وجودته، ناجحة. والشكل
5-21
من تقرير كتبه لافوازييه في الأساس عن تصنيع كبريتات البوتاسيوم.
56
يظهر الشكل مصنعا تغسل فيه الأتربة والرماد المليئين بالروث، ثم يبخر الماء، وتبرد السوائل المتبقية للسماح لكبريتات البوتاسيوم بالتبلور. ويظهر في أسفل يسار الشكل صورة لمقياس الثقل النوعي للسوائل (الذي أطلق عليه لافوازييه «مقياس كثافة الغازات»)، والذي يستخدم في قياس كثافات السوائل المتبقية لتقييم وقت جاهزيتها للتبلور.
شكل 5-21: مصنع لكبريتات البوتاسيوم كما وصف في تقرير صدر عام 1779 (الشكل مأخوذ من نسخة أعيد طباعتها عام 1794) للافوازييه وآخرين عن تصنيع كبريتات البوتاسيوم.
ترجع نشأة المناطيد إلى فرنسا؛ فقد أدى الأخوان مونجولفييه عرضهما التجريبي العام الأول للمنطاد الهوائي في 5 يونيو عام 1783. وفي 27 أغسطس من العام نفسه، صعد جيه إيه سي شارل (المشهور بقانونه
V = kT )
57
لأول مرة في منطاد مملوء ب «الغاز القابل للاشتعال» (الهيدروجين). كان فرانكلين pb متحمسا للمناطيد، ويقال إنه كان يقول مازحا إن مونجولفييه هو أبو المنطاد، وشارل هو مرضعته.
55
وقد شارك كل من فرانكلين ولافوازييه في لجان عملت على تقييم المعلومات المتعلقة بالمناطيد وتبادلها. ومن المثير للدهشة أن لافوازييه وفرانكلين قد شاركا كذلك في لجنة لتقصي ظاهرة «القوة المغناطيسية البشرية» التي قادها فرانز أنطون ميسمر. وعلى الرغم من أن فرانكلين كان يراسل ميسمر، فإنه ولافوازييه كانا متشككين بشأن هذه الظاهرة المزعومة، وجاء التقرير الصادر عن اللجنة عام 1784 سلبيا. واليوم نعرف أن ميسمر قد اكتشف خلال دراساته، التنويم المغناطيسي وقوة الإيحاء. وفيما يلي خاتمة فرانكلين لخطاب يبدي فيه شكوكه إزاء عمل ميسمر:
55
في كل مدينة ثرية كبيرة، يوجد عدد من الأشخاص لا يسلمون أبدا من الأمراض؛ لأنهم مولعون بالعقاقير ولا يتوقفون عن تناولها، ليضروا بذلك بنيتهم الجسمانية. فإذا أمكن إقناع هؤلاء الأشخاص بالامتناع عن تناول العقاقير، ليشفوا بأيدي الأطباء فقط أو بقطب حديدي يوجه نحوهم، فقد يجدون نتائج طيبة، رغم أنهم قد يخطئون السبب.
بالطبع، أكثر ما يشتهر به فرانكلين هو دراساته عن الكهرباء، وثمة مقارنات أجراها هيرشباك بين الأهمية الجذرية لهذه الدراسات ودراسات نيوتن أو واطسون وكريك.
58
كان فرانكلين يرى أن الكهرباء سائل «يزداد» تبعا للشحنات «الموجبة»، و«ينقص» تبعا للشحنات «السالبة». والحق أن اختراع فرانكلين لمانع الصواعق، حوالي عام 1772، حمى مخازن البارود، واستعان فرانكلين بنجاح بتجربته التي عرض فيها نموذجا لمنزل مصغر مزود بمانع للصواعق وسلك تأريض ومملوء بالبارود (إذ مرر شحنة كهربية عبر مانع الصواعق) لإظهار كفاءة اختراعه.
58
ومع ذلك، فإن اهتمامات فرانكلين الواسعة النطاق قادته كذلك إلى شرح أسباب هبوب «الرياح الشمالية الشرقية» من الجنوب الغربي، وقادته كذلك إلى شرح كيفية تأثير تيار الخليج على المناخ في شمال شرقي الولايات المتحدة. يصور الشكل
5-22
شرح فرانكلين لعمود مائي في المحيط.
48
وكما هو واضح، يمكن اعتبار فرانكلين أحد رواد العلوم الأرضية. وقد اخترع فرانكلين الهارمونيكا الزجاجية، و«ربما» لحن مقطوعة رباعية وترية (على نغمة فا فقط!) - وهي مقطوعة عبثية نوعا؛ إذ لم يستخدم العازفون المذهولون أياديهم اليسرى طوال عزف المقطوعة.
58
شكل 5-22: كان فرانكلين أحد رواد علوم الأرض، ويصور هذا الشكل عمودا مائيا ويشرح أصل تكوينه. وقد شرح فرانكلين آثار تيار الخليج على الطقس في شمالي شرق الولايات المتحدة (من كتاب «أعمال السيد فرانكلين» بإذن من الأستاذ يوخان هايزنبرج). (8) حسنا، أنا أعرف الآن ماذا تعني «الأكسدة»، لكن ما «الاختزال»؟
بفضل عمل لافوازييه قرب نهاية القرن الثامن عشر، أصبحنا نعرف أن المعادن يضاف إليها الأكسجين من أجل تكوين الأكاسيد، وأن احتراق المادة العضوية يضيف الأكسجين إلى كل من الكربون والهيدروجين؛ ومن ثم يكون البروبان ثاني أكسيد الكربون والماء عند اشتعاله في شواياتنا. أما عند أكسدة العناصر غير المعدنية، مثل النيتروجين والفوسفور والكبريت، فتتكون أكاسيد تعمل كأحماض، بينما تعمل أكاسيد المعادن كقواعد. وقد توسع مفهوم الأكسدة في القرن التاسع عشر - فكان يمكن أكسدة الشكل المنخفض التكافؤ من النحاس ليصبح في شكل عالي التكافؤ (حتى في غياب الأكسجين). على سبيل المثال، يضيف أكسيد النحاس الأحادي الأصفر (
Cu
2
O
الذي يحتوي على 11,1٪ أكسجين) الأكسجين من أجل تكوين أكسيد النحاس الثنائي الأسود (
CuO
الذي يحتوي على 20,1٪ أكسجين)، ويمكن أكسدة كلوريد النحاس الأحادي (
CuCl ) ليصبح كلوريد النحاس الثنائي (
CuCl
2 ) في غياب الأكسجين. وهذا يعني، في الواقع، أن الكلور عامل أكسدة تماما مثل اليود.
يذكر أن عمر مفهوم «الاختزال»، المناقض لمفهوم «الأكسدة»، أقدم من «نقيضه» هذا بقرون. إذا، ما مصدر المفهوم الأقدم؟ إن أول ما يتبادر إلى الذهن افتراض أن «الاختزال» ربما يشير إلى حقيقة أن تحول كلس، مثل
CuO ، إلى معدن سيكون مصحوبا بنقصان في وزنه.
59
ومع ذلك، فعلى الرغم من حقيقة أن بعض الكيميائيين في القرن السابع عشر (ري، وبويل، ولوفيفر ... إلخ) كانوا أول من أشار إلى أن المعادن أخف وزنا من كلساتها، كان مفهوم «الاختزال» مستخدما فعليا قبل ذلك بكثير.
60
لحسن الحظ، تمدنا مطالعة قاموس ضخم وقديم بالمعرفة المطلوبة. فعلى الرغم من أن قاموسا صغيرا شائعا يبلغ حجمه رطلين،
61
يقدم تعريف «يقلل بأي طريقة ممكنة» بوصفه التعريف الأول لكلمة «يختزل» من بين تعريفاتها الخمسة عشر، فإن قاموسا أقدم وأكبر حجما يصل حجم مجلده إلى 20 رطلا،
62
يقدم التعريف الأساسي للكلمة: «يعيد، يؤدي إلى مكان سابق أو حالة سابقة، يستعيد»، وهو التعريف الذي يتوافق تماما مع الجذر اللاتيني
reducere
بمعنى «يعيد إلى الوراء». وهكذا نجد، أيها القارئ العزيز، في اعتقادي، المعرفة الأساسية؛ فقد افترض الحرفيون القدماء أن المعادن النقية هي الحالة المرجعية، وساد الاعتقاد بأن عملية التحويل إلى معدن (من كلسه، على سبيل المثال، بتسخينه مع الفحم) هي «الاختزال» (أي إعادته إلى حالته الأصلية).
60
وهذا أيضا مثير للاهتمام؛ لأنه بالنسبة إلى معظم المعادن (لكن ليس الذهب بالتأكيد) لم تكن حالتها الحقيقة (الأرضية) السابقة معدنا، بل كانت ملحا، عادة كبريتيد يجب تحميصه من أجل الحصول على المعدن. وقد أشار جون ريد
63
إلى أن عملية «الانحلال» (المفتاح الرابع لبازيل فالانتين، انظر الشكل
1-4 ) تنطوي على تحول المزيج الخيميائي الأصلي إلى اللون الأسود، ويكون هذا مصحوبا ب «وفاة» المعادن الأدنى قيمة من الذهب. وهذا في الواقع يمثل عملية تحميص المعادن وخاماتها الكبريتيدية وأكسدتها. وعكس هذه العملية هو «الاسترجاع» (المفتاح الثامن لبازيل فالانتاين، الشكل
1-5 )، بمعنى استعادة المعادن الأصلية، ولم شملها بأرواحها عبر العملية الكيميائية التي نطلق عليها اسم «الاختزال».
كذلك عرف منذ زمن طويل أن تسخين كلس ما في تيار من غاز الهيدروجين يؤدي إلى اختزال الكلس إلى المعدن النقي الأخف وزنا. (ياه! هل ذكرت أن الماء يتكون أيضا؟) وعليه، فإن غاز الهيدروجين يعد عامل اختزال. ومع ذلك، فإن اختزال الدهون غير المشبعة بغاز الهيدروجين ينتج دهونا مشبعة، تزن «أكثر» من نظيرتها من الدهون غير المشبعة؛ فالدهون المشبعة المختزلة تحتوي على سعرات حرارية أكثر من الدهون غير؛ ومن ثم ... حسنا، لا عليك! على أي حال، فإن التعريف الحديث «للاختزال»، الذي يجمع بين كل هذه العمليات المختلفة، هو كالتالي: «عملية تكتسب فيها المادة إلكترونا واحدا أو أكثر» (والأكسدة «العكس من ذلك»).
64
حسنا، تبا لهذا، فأنا - عالم الكيمياء - أعرف ماذا أعني عندما أقول «اختزال». وكما يقول البحار باباي - «أنا لن أتغير؛ فهذه [يبصق] طبيعتي!»
65 (9) الرجل ذو البذلة المطاطية «دفن» أنطوان لافوازييه نظرية الفلوجستون، وفي غضون هذا شرح أساس الاحتراق وعمليات التكلس، مثل صدأ الحديد. ومع ذلك، لا يحظى لافوازييه بتقدير واسع باعتباره أول من أثبت أن الأيض هو ببساطة عملية احتراق بطيئة للغاية. ولكن ظل مكان حدوث هذا الأيض فعليا، في القلب أم الرئتين، أم كليهما، غامضا بالنسبة إليه.
بدا واضحا لجون مايو في عام 1674 أن التنفس كان يزيل شيئا من الهواء الجوي، وأن الهواء المستنزف المتبقي لا يستطيع دعم الحياة أو الاحتراق.
66
ودعم ملاحظات مايو بعد قرن من الزمن أعمال شيله، وبريستلي، ولافوازييه، الذين فصلوا «الهواء» الذي درسوه، وعالجوه، وحددوا خصائصه. فعند حبس فأر في وعاء زجاجي جرسي الشكل يحتوي على الهواء الجوي، سرعان ما أصبح الهواء «ساما» أو «مميتا»؛ بسبب استنفاد كامل محتواه من «الهواء الحيوي» (الأكسجين).
67
ولو أعيد شحن «الهواء السام» (~99٪ نيتروجين) بالأكسجين بالنسبة الصحيحة 4:1، لعاش الفأر طويلا كما كان ليحدث لو عاش في الهواء الجوي. ولم يعلن عن فصل الغاز الناتج عن زفير الفأر، أي «الهواء المثبت» (ثاني أكسيد الكربون)، ووصف خصائصه لأول مرة إلا في عام 1756 على يد جوزيف بلاك.
68
وفي عام 1777 خلص لافوازييه إلى أن عملية الأيض لدى الحيوانات تمزج الكربون مع الأكسجين من أجل إنتاج ثاني أكسيد الكربون، تماما كما يتحد الكربون مع الأكسجين في أثناء عملية الاحتراق.
69 ،
70
كان لافوازييه أول من استخدم المسعر الثلجي، الذي صممه بيير سيمون دي لابلاس، في شتاء عام 1782 / 1783؛
71 ،
72 ،
73
فقد قيست الحرارة الصادرة من وعاء التفاعل بمقدار الثلج الموجود في الجزء المعدني المحيط، الذي ذاب بدوره وجمع في صورة ماء. قاس لافوازييه ولابلاس الحرارة المنبعثة من عمليات كيميائية عديدة، بما في ذلك احتراق الفحم، وقاسا أيضا الحرارة المنبعثة من خنزير غيني على قيد الحياة.
ساوى لابلاس ولافوازييه، عن طريق حرق الفحم وقياس «الغاز المثبت» الناتج، بين تكوين أوقية واحدة من الهواء الثابت وذوبان 26,692 أوقية من الثلج.
71
وعلى مدار 10 ساعات، جاء مقدار الغاز المثبت المجمع من زفير الخنزير الغيني (224 وحدة؛ حيث 576 وحدة = أوقية واحدة)، على هذا الأساس، مساويا لذوبان 10,14 أوقيات من الثلج. وكانت الحرارة الفعلية المنبعثة من الخنزير على مدار عشر ساعات أكبر من هذا؛ إذ أذابت 13 أوقية من الثلج. وعلى الرغم من وجود أخطاء في تحديد حرارة احتراق الفحم، فقد تمثل التفاوت الأساسي في أن الخنزير الغيني لم «يحرق» الكربون فقط، بل حرق الهيدروجين في «غذائه» أيضا من أجل تكوين الماء، مصدرا طاقة إضافية.
74
غير أن لافوازييه لم يفهم الطبيعة الحقيقية للماء في أوائل عام 1783 أو أنه نتيجة للتنفس.
شكل 5-23: كان لافوازييه أول من يثبت أن التنفس في الواقع ما هو إلا عملية احتراق. وهذه صورة رسمتها مدام لافوازييه (التي تظهر في جهة اليمين) لزوجها وهو يجري تجارب على التنفس على مساعده أرمان سيجان، الملفوف بالكامل في بذلة مطاطية. وقد نجا سيجان، وأصبح في النهاية فاحش الثراء من عمله مقاولا في الجيش (بإذن من الأستاذ ماركو بيريتا).
شكل 5-24: رسم آخر لدراسات لافوازييه للتنفس على مساعده سيجان - الرجل داخل البذلة المطاطية. تصور مدام لافوازييه نفسها وهي ترسم هذا المشهد (بإذن من الأستاذ ماركو بيريتا).
كان لاكتشاف أن الماء ليس عنصرا، بل مركبا من الهيدروجين والأكسجين، أهمية بالغة في تنامي فهم لافوازييه لعملية التنفس؛ ففي عام 1774، أشعل «الغاز القابل للاشتعال» (الهيدروجين)، الذي عزل قبل ثمانية أعوام على يد كافنديش، في وجود «الغاز الحيوي»، وحاول جمع «الغاز» الناتج فوق الماء.
75
بطبيعة الحال، لم يلاحظ أحد الكمية الضئيلة من بخار الماء التي تولدت. ومع أن الفضل في اكتشاف تركيب الماء موضع جدل إلى حد ما، فإن معظم المؤرخين الكيميائيين ينسبونه إلى كافنديش في عام 1783.
76
غير أن لافوازييه هو من حدد التركيب الدقيق له في كل من حالة تحلله إلى عناصره وتكونه منها (انظر الشكلين
5-17
و
5-18 )، وأعلن عن هذه الاكتشافات في أوائل عام 1784. لم يكن الماء عنصرا، بل مركبا وناتج احتراق للمركبات التي تحتوي على الهيدروجين؛ ومن ثم أدرك أن الماء الذي يخرج مع زفير الحيوانات وعرقها كان على الأرجح نتاجا للتنفس. وكانت المشكلة المتبقية أمام «أستاذ التوازن الكيميائي» أن إجمالي حساب الكتل، المدخلة في مقابل المخرجة، لم يثبت بعد. ولسوء الحظ، لم يحبس إنسان حتى الآن بإحكام داخل دورق مغلق من أجل إجراء دراسات دقيقة على توازن الكتلة.
غير أنه في عام 1790 أجرى لافوازييه ومساعده أرمان سيجان دراسات أغلق فيها على سيجان بالكامل داخل بذلة مصنوعة من التفتا المرنة المغطاة بالمطاط.
70 ،
77
وكان يتنفس أكسجينا نقيا عبر أنبوب ملتصق بإحكام حول شفتيه، وكان يخرج الهواء في الزفير عبر هذا الأنبوب. وقد صور هذا المشهد في لوحة رسمتها مدام لافوازييه (الشكل
5-23 )
78 - فيجلس سيجان في اليسار، بينما يقف لافوازييه في المنتصف إلى جهة اليمين ويمده بالأكسجين، فيما تدون مدام لافوازييه الملاحظات. جرى قياس اختفاء الأكسجين بعناية، وجمع ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء الصادران عبر الزفير وجرى قياسهما. وجاءت كمية الأكسجين المستنشقة مساوية تماما للكمية التي خرجت في الزفير في صورة ثاني أكسيد الكربون وماء. ومن أجل حساب توازن كتلة الماء بالكامل، قيست كتلة الرجل داخل البذلة المطاطية بدقة قبل إجراء التجربة وبعدها. كذلك قيس التعرق، و«الانبعاثات» الأخرى، المحبوسة داخل البذلة بدقة مذهلة، وكانت 18 وحدة في 135 رطلا
70 - يا له من توازن باهظ الثمن حقا! ولكن عندما كان الأمر يتعلق بجهاز لافوازييه، لم يكن المال عائقا. يصور الشكل
5-24
78
التجربة نفسها، ولكن سيجان يجهد نفسه بالضغط على دواسة. فكانت كمية الأكسجين المستنشقة أكبر بكثير. وفي 17 نوفمبر عام 1790، قدم سيجان ولافوازييه تقريرا ورد في جزء منه:
70
التنفس ما هو إلا احتراق بطيء للكربون والهيدروجين، يشبه في جوانبه كافة الاحتراق الذي يحدث في مصباح أو شمعة مشتعلة، ومن هذا المنظور، تكون الحيوانات المتنفسة أجساما قابلة للاشتعال فعليا تحترق وتبلى. (10) «مسكين مارا العجوز»؟ لا أعتقد ذلك!
ينظر إلى جان-بول مارا حاليا بوصفه عالما بلا أهمية، وهكذا حكمت عليه الأكاديمية الفرنسية للعلوم منذ أكثر من قرنين. ومع ذلك، يظل مشهورا وسيئ السمعة بوصفه «صديقا للشعب» متقد الحماس ومتعنتا؛ فكان عنصرا رئيسا في انتصارات الثورة الفرنسية، وتجاوزاتها، ومآسيها. وعلى الرغم من أن مارا نفسه قد قتل في 13 يوليو عام 1793، قبل نحو 10 أشهر من إعدام لافوازييه، فإنه ساعد بالتأكيد في إشعال الحماس وخلق جو أدى إلى وصول الأرستقراطيين اللامعين إلى المقصلة في 8 مايو عام 1794.
ولد مارا في كانتون نيوشاتل السويسري في عام 1743، وترك المنزل في عام 1759، وقضى 6 سنوات في فرنسا، و11 سنة في إنجلترا واسكتلندا، يكتب كتيبات فلسفية نالت بعض الاهتمام العالمي.
79 ،
80 ،
81 ،
82
كان من بين هذه الكتيبات كتيب «سلاسل العبودية» (1774)، الذي يقال إنه قدم فيه لأول مرة فكرته عن المؤامرة «الأرستقراطية».
81
بدأ مارا في حضور فصول طبية في فرنسا في حوالي عام 1760، ثم انتقل إلى إنجلترا ومارس الطب بداية من عام 1765. وبعد 10 سنوات من العمل الناجح، حصل على درجة الدكتوراه الفخرية في الطب من جامعة سانت أندروز في اسكتلندا في عام 1775.
83
وعلى الرغم من انتقاد صمويل جونسون لممارسة سانت أندروز لبيع الدرجات العلمية (فقال إن الجامعة كانت «تزداد ثراء من الدرجات العلمية»)، كان عضوا هيئة التدريس اللذان زكياه يتمتعان بمكانة مرموقة.
83
عاد مارا للاستقرار مرة أخرى في فرنسا، واتجه إلى تملق الأرستقراطيين والتودد إليهم، وعين طبيبا للحرس الشخصيين للكونت دي أرتوا، الشقيق الأصغر للملك لويس السادس عشر. وكان يأخذ من عملائه الأرستقراطيين
82 ،
84
لويسا واحدا (24 جنيها) نظير الاستشارة، أو بما يعادل ألف دولار أمريكي تقريبا في عصرنا الحالي، وكان يعتبر طبيبا بارعا للغاية.
بداية من عام 1778، بدأ مارا سلسلة من الأبحاث العلمية على «العناصر غير القابلة للتقدير الدقيق» - الضوء والحرارة والنار والكهرباء - و«... بدأ في حصار أكاديمية العلوم».
82
الشكل
5-25
من كتاب مارا
85
الصادر في عام 1780، الذي وصف فيه طبيعة الحرارة والنار، فحدد طبيعة سائل مشتعل،
86
تنبأ، إلى حد ما، بنظرية السيال الحراري (الكالوريك) للافوازييه؛ فقد افترض أنه عند اتصال جسم ساخن بآخر بارد، ينتقل السائل المشتعل من الجسم الأكثر دفئا إلى الأكثر برودة حتى يصبح محتواهما متساويا. نظر مارا إلى الحرارة والنار بوصفها تأثيرات وثيقة الصلة ذات أصل واحد. فتنتج الحرارة عندما تكون الطاقة المدخلة معتدلة، وتنتج النار عندما تكون الطاقة المدخلة مرتفعة.
86
وقد أغفل هذا التفسير الفيزيائي لتحول تسلسلي من الحرارة إلى النار الطبيعة الكيميائية الحادة للنار. فيرى مارا أن المواد كافة لا بد أن تحتوي على «السائل المشتعل»، وإلا لن تستطيع الوصول إلى درجة حرارة البيئة المحيطة بها؛ إذ كانت حركة هذا السائل، وليس مجرد وجوده، هي التي ولدت الحرارة والنار.
86
وضمن قائمة من المواد المعروفة بكونها قابلة للاشتعال (الكربون، والكافور، والنافتا، والزيوت العطرية الطيارة، والكحول، والفوسفور)، التي يصفها مارا بأنها «متشربة بالسائل المشتعل»، يذكر أيضا «المركب القلوي المثبت» غير القابل للاشتعال (أو كربونات الصوديوم
Na
2
CO
3 ، حاليا).
86
وينشأ هذا الالتباس، على الأرجح، من انبعاث «الغاز المثبت» (ثاني أكسيد الكربون) من تسخين هذا الملح، تماما كما «ينبعث» «الغاز المثبت» من حرق المواد المحتوية على الكربون. وشرح مارا حقيقة أن اللهب ينطفئ سريعا في مكان مغلق كالتالي: «يعمل الهواء الذي يتمدد بعنف بفعل اللهب ولا يستطيع الخروج، على الضغط على اللهب بشدة وإخماده.»
82
شكل 5-25: أشكال مبهمة أمكن الحصول عليها باستخدام «المجهر الشمسي» الخاص بجان بول مارا في كاميرا مظلمة. افترض مارا وجود «سائل مشتعل» قد ينبعث من المواد عند تسخينها أو احتراقها (دون أن يقدم تمييزا فعليا بين العمليات الفيزيائية والكيميائية). ويدعي هنا أنه لاحظ خروج هذه المادة التي لا يمكن وزنها من (
a ) شمعة مشتعلة، و(
b ) قطعة من الفحم المحترق، و(
c ) قذيفة ملتهبة. لعب لافوازييه دورا رئيسا في رفض طلب مارا عضوية الأكاديمية الفرنسية للعلوم؛ ومن ثم استحق كراهيته الأبدية (من كتاب مارا «أبحاث فيزيائية عن النار»، 1780).
الأشكال المبهمة في الشكل
5-25 ، على حد قول مارا، هي صور «لسائل مشتعل» حقيقي يخرج من شمعة مشتعلة (الصورة 1)، ومن قطعة محترقة من الفحم (الصورة 2)، ومن قذيفة ملتهبة (الصورة 3). وقد أمكن الحصول على هذه الصور باستخدام «مجهر مارا الشمسي»، وهو كاميرا مظلمة بها فتحة صغيرة للغاية تسمح بدخول شعاع رفيع للغاية من الضوء يمر عبر عدسة مجهر ويسقط على شاشة. فتلتقط صورة، على سبيل المثال، للشكل المخروطي الصغير المرئي لشعاع الشمعة، وكذلك العمود المحيط بها من «السائل المشتعل». وقد حضر سفير أمريكا في فرنسا، بنجامين فرانكلين، إحدى تجارب مارا، معرضا رأسه الأصلع للمجهر الشمسي، ولوحظ على الفور أننا «نراها محاطة بأبخرة متموجة تنتهي جميعا في شكل حلزوني. إنها تشبه ألسنة اللهب التي يرمز بها الرسامون للعبقري.»
82
باءت محاولة مارا للحصول على تصديق الأكاديمية الفرنسية للعلوم بالفشل في مايو عام 1779. وفي شهر يونيو في عام 1780، لفت لافوازييه انتباه الأكاديمية لورقة بحثية لمارا يشير فيها ضمنيا إلى تصديق الأكاديمية على اكتشافاته المتعلقة ب «السائل المشتعل».
82
ودحضت الأكاديمية هذا الزعم، ووضع مارا عندها الأكاديمية ولافوازييه، على وجه الخصوص، ضمن قائمة أعدائه مدى الحياة. وتجدر الإشارة إلى أن لافوازييه الثري والفطن أصبح عضوا في الأكاديمية في سن الخامسة والعشرين. وربما كان ما تعرض له من رفض بداية لما يطلق عليه جوتشالك اسم «عقدة الشهيد» لدى مارا.
87
تعرض المجتمع الفرنسي لتغير هائل طوال القرن الثامن عشر مع ظهور توترات شديدة وصدوع ضخمة في نسيج المجتمع.
88
وظلت سلطة الملك الفرنسي مطلقة. وتحت حكم ملك ملهم، وهو لويس الرابع عشر - «الملك الشمس» - ظل الفرنسيون في حالة معقولة من السكون. غير أن الحاكمين التاليين في نظام الحكم الأرستقراطي الفرنسي، لويس الخامس عشر ولويس السادس عشر، افتقرا نسبيا إلى الكفاءة. وبدأت الثورة تتحرك على نطاق واسع في المناطق الحضرية في عام 1788، لكن لم تظهر أعنف مظاهرها، اجتياح سجن الباستيل، إلا في 14 يوليو عام 1789. ولم يمض وقت طويل حتى بدأ مارا، الذي زاد نشاطه السياسي كثيرا في ثمانينيات القرن الثامن عشر، في إصدار صحيفة «صديق الشعب»، من أجل إيقاظ الحماسة الثورية وإثارتها.
79-82
أيد مارا في البداية نظام حكم ملكي دستوري، لكنه سرعان ما تبنى آراء المتشددين المعادين للملكية، الذين أحضروا العائلة الملكية عنوة من فرساي إلى باريس في أكتوبر عام 1789. ومع ذلك، ظل الحكم الملكي على حاله، وأدى انتقاد مارا لوزير مالية الملك إلى هروب هذا الثوري إلى إنجلترا لفترة وجيزة في عام 1790.
يستخدم بويريه مصطلح «الثورة الثقافية»
89
ليصف ثورة فرنسا ضد السلطة الفكرية للمعرفة التي تشبه، ضمنيا، تلك التي حدثت في الصين في ستينيات القرن العشرين؛ فقد أصبح انتقاد الأكاديمية في عام 1784 للتنويم المغناطيسي، الذي لعب فيه كل من لافوازييه وفرانكلين دورا رئيسا، يتعرض للهجوم بوصفه نخبويا.
90
وثمة مقتطفان من كتيب مارا «المشعوذون المعاصرون» الصادر عام 1791 يوضحان مدى الهجوم الذي تعرض له الأكاديميون:
91
على رأسهم جميعا يأتي لافوازييه، الأب المزعوم لكل الاكتشافات التي أحدثت مثل هذه الجلبة؛ ولأنه لا يملك أفكارا خاصة به، فإنه يكتفي بأفكار الآخرين.
تذكر أن هذا كان بعدما أحدث لافوازييه ثورة في مجال الكيمياء بالكامل. ولم يكن وصف مارا للأكاديمية أقل سوقية:
92
مجموعة من الرجال التافهين، يتفاخرون للغاية بالالتقاء مرتين أسبوعيا يثرثرون بفتور عن زهرة الزنبق؛ إنهم كأجهزة الإنسان الآلي المعتادة على اتباع صيغ معينة وتطبيقها دون تفكير ... ويا لمتعة رؤية علماء الرياضيات يتثاءبون، ويسعلون، ويبصقون، ويضحكون ضحكة مكبوتة عند قراءة بحث كيميائي، ورؤية الكيميائيين وهم يضحكون ضحكة مكبوتة، ويبصقون، ويسعلون ، ويتثاءبون عند تقديم بحث في الرياضيات.
أصبحت الثورة الفرنسية أكثر تطرفا وتعطشا للدماء في غضون السنوات القليلة التالية.
88
وأيدت أكثر الفصائل الثورية تحفظا، وهم الجيرونديون، الحكم الملكي الدستوري. غير أنه أصبح واضحا أكثر من أي وقت مضى أن الملك لن يتخلى أبدا عن الأرستقراطية المتعجرفة والمتعنتة. واندلعت حرب قصيرة مع بروسيا المجاورة بتحريض من الملك، الذي فشلت محاولته للهروب من فرنسا، في يونيو عام 1791. وكان الأمل أن تعمل حرب خارجية على إخماد الحرب الأهلية. غير أن الخطة أتت بنتيجة عكسية، وأطاحت «ثورة ثانية» بالملكية في أغسطس من عام 1792، وتشكل المؤتمر الوطني الفرنسي، المكون من الجيرونديين المحافظين نسبيا والمونتاناريين (حزب الجبل) الأكثر تطرفا، من أجل وضع دستور جديد، وأدين الملك في شهر ديسمبر، ونفذ فيه حكم الإعدام في يناير عام 1793، وسجنت الملكة ماري أنطوانيت أيضا وأعدمت على المقصلة في النهاية في أكتوبر عام 1793.
شكل 5-26: درس مارا ليصبح طبيبا، وكان لديه عيادة مربحة للغاية. أصبح متعصبا طوال فترة ثمانينيات القرن الثامن عشر، وصار عضوا كبيرا في أكثر الجماعات تطرفا في عام 1789. وربما تكون فترات الاختباء الطويلة في مجارير باريس قد أدت إلى إصابته بمرض جلدي مؤلم كان يعالجه بالاستحمام لعدد لا يحصى من المرات. وقد تعرض للطعن في أثناء استحمامه على يد سيدة تدعى شارلوت كورداي في 13 يوليو عام 1793. رسم هذا المشهد (الموضح هنا بالأبيض والأسود) جاك لوي ديفيد، وعرض في المتحف الملكي للفنون الجميلة في بروكسل. وقد جسدت الأحداث التي أدت إلى اغتيال مارا وأحداث اغتياله ذاتها في مسرحية كتبها الكاتب المسرحي بيتر فايس في عام 1964.
في هذا الوقت، هزم المونتاناريون الجيرونديين،
88
بل إن الفصائل الأكثر تطرفا ضمن المونتاناريين هزمت الفصائل البرجوازية التابعة لهم. وكان مارا، مع روبسبيار ودانتون، ضمن الفصائل الأكثر تطرفا. وأسهمت على ما يبدو فترات الاختباء الطويلة في الأقبية والمجارير في إصابة مارا بمرض جلدي مؤلم ويسبب التشوهات ، حتى إنه لم يكن يرتاح إلا بالاستحمام المتكرر. وفي 13 يوليو عام 1793، استطاعت شارلوت كورداي، التي تعتبر حاليا أداة بريئة في يد الجيرونديين، حيث تعرضت على الأرجح إلى غسيل دماغ، الدخول إلى منزل مارا، وطعنته حتى الموت وهو في حوض الاستحمام. وقد خلد الفنان جاك لوي ديفيد «وفاة مارا» في لوحة درامية (الشكل
5-26 ). ويبدو أن ديفيد نفسه كان متطرفا عصريا لم تكن لديه أدنى مشكلة في «مجاراة الرياح السائدة»؛ فقد كان مدرس الرسم الخاص بالسيدة لافوازييه، وتقاضى أجرا أيضا ما يعادل حوالي 300 ألف دولار أمريكي حاليا نظير رسم صورة لافوازييه في عام 1789.
93
ومع ذلك، هاجم ديفيد الأكاديميين في أثناء الثورة، وأوكل إليه رسم صورة مارا. وألبس ديفيد جثة مارا على الطراز الروماني من أجل الجنازة.
94
أطاح «قانون الاشتباه» الذي كان بداية عهد الإرهاب في أكتوبر عام 1793؛ استجابة لمقتل مارا، بماري أنطوانيت، وبعدها بستة أشهر أطاح بلافوازييه وحميه، تحت فكه الضاري. وفي النهاية، أدى اشمئزاز عام من حمام الدم هذا إلى قدر من الاعتدال في السنوات التالية من العقد، لكن الاستقرار الفعلي لم يتحقق في فرنسا إلا عندما فرض نابليون بونابارت ديكتاتورية عسكرية في أواخر عام 1799.
تتغير وجهات النظر السياسية بمرور الوقت. لقد كان القرن التاسع عشر قاسيا على مارا. ومع ذلك، في عام 1964 نشر الكاتب المسرحي الألماني بيتر فايس مسرحية رائعة يشار إليها في الغالب بالعنوان المختصر «مارا/صاد».
95
صور مارا تصويرا أكثر تعاطفا داخل هذه المسرحية. تدور أحداث المسرحية في عام 1808، وكان الماركيز دي صاد، أحد النبلاء وكاتب فقد سمعته، يودع في مصحة شارنتون، ويخرج مسرحية تجسد مقتل مارا. ويرتل كورس أغنية بعنوان «مسكين مارا العجوز» في أثناء مقاطع من المسرحية (نشرت المغنية جودي كولينز كلمات الأغنية في ستينيات القرن العشرين). تصور المسرحية مقتل مارا، وتجسد شارلوت كورداي إنسانا آليا - عبارة عن أداة دمار لمارا، ويظهر لافوازييه ضيف شرف لوقت قصير في المسرحية. يكمن التجاور النقدي في المسرحية بين مارا الملتزم والمتعصب في الوقت نفسه، والماركيز الذي عاش حياة تجمع بين الفكر والفسق مختبرا حدود الطبيعة البشرية. كان صاد متعاطفا مع عامة الشعب وثورتهم، لكنه متشائم، ويشعر بفتور تجاه كل ما في الوجود، ويحمل في داخله خوفا شديدا من المؤيدين المتعصبين للثورة، أمثال مارا. ويدور، في المسرحية، هذا الحوار بينهما:
96
صاد :
أنا لا أومن بالمثاليين،
الذين يسيرون في طرق مسدودة.
أنا لا أومن بأي تضحيات
قدمت في سبيل أي قضية.
أنا لا أومن إلا بنفسي!
مارا (ملتفتا بعنف نحو صاد) :
وأنا لا أومن إلا بالشيء الذي خنته أنت.
لقد أطحنا بحكامنا الأغنياء الغوغاء،
ونزعنا سلاحا كثيرا منهم رغم هروب
العديد منهم.
لكن الآن حل آخرون محل هؤلاء الحكام،
اعتادوا حمل المشاعل والرايات معنا.
والآن وبعد مرور الكثير على الأيام الخوالي،
أصبح واضحا
أن الثورة قد اندلعت
من أجل التجار وأصحاب المتاجر
والبرجوازيين.
الطبقة الجديدة المنتصرة
التي نجد تحتها
أنفسنا
نحن الذين نخسر في اليانصيب على الدوام!
تاريخيا لم يدر قط أي حوار فعلي بين مارا وصاد.
95 (11) لامارك العجوز المسكين
من المؤسف أن الشيء الوحيد الذي نتعلمه في المدرسة عن جون باتيست لامارك (1744-1829)
97
أنه فسر العنق والأطراف الطويلة للزرافة بالقول إنها حتما تمدد وتطيل أنفسها باستمرار؛ ومن ثم تعمل على تقوية عنقها وأقدامها وإطالتها بعض الشيء في أثناء حياتها، وترث ذريتها هذه التغيرات المكتسبة. وتوالي الأجيال المتعاقبة «التحسن» على هذا النحو - أو «التطور» حسب تعبيرنا الآن. ظهر هذا التفسير قبل نحو 60 عاما من نشر كتاب «أصل الأنواع» لتشارلز دارون في عام 1859، الذي عرض التطور بوصفه حقيقة مرصودة، وأشار إلى الانتقاء الطبيعي بوصفه آلية لهذا التطور. وستمر 6 سنوات أخرى قبل تقديم جريجور مندل ملاحظاته عن تهجين البازلاء، و35 سنة أخرى قبل إدراك أهميته، و50 سنة أخرى قبل شرح واطسون وكريك له. ومع ذلك، فنحن نذكر لامارك بسبب نظريته الخاطئة تماما مثلما خلد رالف برانكا، رامي فريق بروكلين دودجرز، في الذاكرة للأبد بسبب ضربته الآمنة التي رماها لبوبي تومسون في 3 أكتوبر عام 1951، والتي سمحت لفريق نيويورك جيانتس بانتزاع راية البطولة من ملاكها الشرعيين . كان برانكا، الذي كان يضع الرقم 13 بكل فخر على زيه، يتمتع بسجل محترم للغاية طوال حياته (88 فوزا، و68 خسارة؛
98 «يمكنك التحقق من الأمر » - سي ستنجل)،
99
لكنه سيظل مرتبطا في الذاكرة دوما بهذا المساء الكئيب المشئوم في مانهاتن. ثمة احتمال أن لامارك كان يرتدي أيضا الرقم 13؛ فقد كان واحدا من 11 طفلا ولدوا في أسرة «شبه فقيرة وأقل نبلا في شمالي فرنسا».
97
تزوج ثلاث مرات (أو ربما أربع)، وتوفيت زوجاته الثلاث المعروفات في سن مبكرة بسبب المرض، وكان لديه ثمانية أطفال، مفاجئا للدرجة؛ فإذا كان المرء على بعد من بينهم ابن أصم وابن مختل عقليا، وعاش جميع أبنائه، عدا واحد، في الفقر. ومن أجل دفع تكاليف جنازته في عام 1829، اضطرت أسرته إلى بيع كتبه ومجموعته العلمية في مزاد علني والتماس المال من أكاديمية العلوم.
97
في الواقع، قدم لامارك العديد من الإسهامات المهمة للعلم في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر؛ فقد صاغ مصطلحي «علم الأحياء» و«اللافقاريات» في اللغة الإنجليزية، وتوصل إلى نظام تصنيف كان، في بعض النواحي، أسهل في الاستخدام من نظام لينيوس.
97
وعرف على نطاق واسع كأحد الخبراء الرائدين في علم أحياء اللافقاريات، وكان أحد أوائل علماء الإحاثة أو الأحياء القديمة الذين ربطوا الحفريات بكائنات على قيد الحياة، وحاولوا تفسير الاختلافات بين المحار الأحفوري، مثلا، وأقاربه الموجودة على قيد الحياة؛ وأدى هذا به، بطبيعة الحال، إلى محاولة شرح مصادر هذه الاختلافات. وبينما لم يستخدم قط مصطلح «التطور»، فإنه كان بالتأكيد في طليعة المؤمنين بمذهب التطور.
97
كانت لدى لامارك وجهة نظر موحدة عن الطبيعة كانت شبه غامضة بطبيعتها؛ فالكائنات الحية هي الوحيدة القادرة على صنع «مادة عضوية»، ويمكن لهذه الكائنات التغير (أي «التطور») عبر الأجيال من خلال تقوية أنفسها وتحسينها - وهي فكرة تعود إلى أصول الخيمياء القديمة؛ إذ إن تقوية الصفات الإنسانية تؤدي إلى الكمال البشري - فإزالة الشوائب تحسن تدريجيا المعادن غير النبيلة وتحولها إلى ذهب. وعند موت الكائنات، تصبح المادة العضوية المتحللة مادة معدنية. في الواقع، لقد قاوم الاختزالية المتزايدة في العلم (أطلق عليها «الحقائق الصغيرة»). بالإضافة إلى ذلك، رتب لامارك، بوصفه أستاذا وقيما في المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي، اللافقاريات على أساس تصنيف منهجي بدلا من أسلوب «غرفة العجائب» العشوائي المعتاد في مثل هذه المتاحف في وقت سابق. ونرى أساليب لامارك الرائدة في قاعات الديناصورات والثدييات في المتاحف الحديثة، بل وفي الترتيب التطوري داخل هذه القاعات.
ومع الأسف، أدت معارضة لامارك «للأفكار الصغيرة» التي تظهر في الكيمياء، إلى انحساره بشدة في الفترة السابقة على ظهور بويل في القرن السابع عشر؛ فقد احتفظ باعتقاده في العناصر الأربعة، وكان منبهرا على وجه الخصوص بالأشكال المختلفة التي يتخذها عنصر النار، واعتقد لامارك أن «مادة النار» و«مادة الكهرباء» كانتا في الأساس الشيء نفسه. وهذا ليس أمرا مفاجئا للدرجة؛ فإذا كان المرء على بعد مسافة طويلة من نار هائلة، فسيظل ممكنا أن يرى السماء مضيئة مع اشتداد قوة النار، أو مع احتراق مصدر جديد للوقود. ولا يختلف المشهد كثيرا عن مشهد انتشار ضوء البرق الذي تحجبه السحب. كان لامارك يعي جيدا أن بنجامين فرانكلين قد أثبت الطبيعة الكهربائية للبرق. بالإضافة إلى ذلك، كان واضحا أيضا بنهاية القرن الثامن عشر أن كلا من النار والكهرباء يحدث تغيرا كيميائيا.
شكل 5-27: كان جون باتيست لامارك عالم أحياء مهما ترتبط ذكراه، مع الأسف، على نطاق واسع بنظريته الخاطئة عن السمات المكتسبة. غير أن علم الكيمياء لديه كان قديم الطراز للغاية، وحاول في كتابه الكيميائي الوحيد وصف التنافر الذي يحدث بين جسيمات المادة مع اكتسابها حرارة تجعلها تتمدد وتتنافر (من كتاب لامارك الصادر عام 1794 «أبحاث عن المسائل الأساسية في الفيزياء»).
الشكل
5-27
مأخوذ من أول وأهم عمل كيميائي للامارك،
97
والذي نشر في عام 1794.
100
يظهر الجزء العلوي من الشكل كرتين من الفلين معلقتين على خطاف بواسطة خيط حريري. اكتسبت الكرتان الخفيفتا الوزن شحنة كهربائية بالاحتكاك، ثم انفصلت كل منهما عن الأخرى (انظر الشكل
B
في الجزء العلوي). وكان السبب الذي قدمه لامارك لذلك أن الشحنة الكهربائية تؤدي إلى إحاطة كل كرة ب «مادة الكهرباء» الفائقة الخفة. كما أن ضغط الهواء يضغط عليها من جميع الجوانب بالتساوي (يتسبب الخيط في قليل من الانحراف)، ومن ثم يفصل المجالين المشحونين كهربائيا المحيطين بالكرتين. ولو أجبرت الكرتان المصنوعتان من الفلين المشحونتان على ملامسة إحداهما الأخرى (الشكل
A )، لتداخلت مجالات المادة الكهربائية بينهما، ولأصبح الشكل العام للمادة الكهربائية بيضاويا (وهو ليس الشكل الكروي المثالي)، مع وجود فجوة صغيرة في الأعلى، ولتسرب ضغط الهواء إلى الداخل ودفع الكرتين بعيدا إحداهما عن الأخرى (الشكل
B ). في الجزء الأسفل من الشكل
5-27 ، نرى إناء مملوءا بالماء وضع على النار. مرة أخرى، يحافظ ضغط الهواء على تركز اللهب تحت الإناء، وأسهل طريق أمام النار، في رأي لامارك، يكون عبر الوعاء ومنه إلى الماء. ومع امتصاص المزيد من النار، تصبح جزيئات الماء محاطة بأغلفة أكبر من أي وقت مضى من «مادة النار» الفائقة الخفة؛ فيصبح الماء أكثر دفئا (وأقل كثافة). وفي النهاية، تؤدي الكثافة المنخفضة لهذه الجزيئات وطاقتها العالية، الناتجتان عن الضغط الهبوطي للهواء الجوي، إلى تبخرها في الهواء حاملة معها «مادة النار». (فكروا في الأمر يا زملائي المعلمين - يا لها من طريقة مثيرة لتصوير الحرارة الكامنة في جزيئات بخار الماء!)
وعليه، فقد كنا نتمنى لو استطعنا التحدث بأشياء جيدة عن كيمياء لامارك. ومع ذلك، فقد كانت إسهاماته المبكرة في علم الأحياء وعرضها في المتاحف العامة للناس ذات قيمة بالغة وتكرم ذكراه بالفعل. (12) عزيزي الفلوجستون «أنت تتحدث كالأبله!»
كان الثوريون المنتصرون الذين أطاحوا بالملكية في أغسطس عام 1792 مقتنعين بأن فرنسا قد ولدت من جديد. وفي الثامن من الشهر الثالث من الخريف من العام الثاني بعد اندلاع الثورة (وفقا لتقويم الجمهورية الفرنسية آنذاك)؛ أي في 28 نوفمبر عام 1793، صدر أمر اعتقال بحق أنطوان لوران لافوازييه ووالد زوجته جاك بولز في سجن بورت- ليبر؛
101
فقد أصبح وضع لافوازييه محفوفا بالمخاطر على نحو متزايد مع تزايد تطرف الثورة من حوله وإطباقها عليه، مجردة إياه من مناصبه، وزملائه، وقدرته على السفر، وبعد بضعة أيام من الاختباء في باريس، سلبته حريته نفسها، ليفقد حياته في وقت لاحق من ربيع عام 1794.
شكل 5-28: صفحة العنوان من الطبعة الأولى (1789) من رائعة لافوازييه «المبادئ الأساسية للكيمياء» 1789، أول كتاب دراسي حديث عن الكيمياء.
بيد أن لافوازييه كان في عام 1988 في أوج نفوذه وسلطته؛ فبصفته واحدا من بين 40 شريكا ثريا في «المؤسسة العامة لجمع الضرائب»، كان مساهما في الشركة المسئولة عن جمع الضرائب على كل الواردات، والتي كان من بينها الملح الذي تقوم عليه حياة الناس. وقد مارست مؤسسة جمع الضرائب قدرا من التحكم أيضا في تدفق هذا العائد إلى الخزانة الملكية؛ ومن ثم كان لهذا تأثير كبير على سياسة فرنسا المالية، وأصبح لافوازييه نفسه، بوصفه شريكا في الشركة، عضوا في مجلس إدارة مصرف «ديسكاونت بنك»؛ وهو «المصرف المركزي» الذي كان يقرض الخزانة الملكية، ويوفر الذهب والفضة من أجل سك العملات؛
102
ونظرا لكونه رجل اقتصاد من الطراز الأول، سرعان ما أصبح مدير المصرف. ويتحدث بيوريه، على نحو دقيق، عن هذا الوضع بقوله إنها «كانت شركة خاصة تتحكم في القروض الممنوحة للحكومة بواسطة مصرف خاص.»
102
استغرق لافوازييه معظم عام 1788 في تأليف رائعته «المبادئ الأساسية للكيمياء»، ونشر في أوائل عام 1789 (انظر الشكل
5-28 ).
103 ،
104
بدأ هذا المشروع كمحاولة لتقديم مقدمة سهلة الفهم للكيمياء، وتطور ليحدث «طريقة التسميات الكيميائية»
103 ،
104
لعام 1787، وأصبح أهم أطروحة في تاريخ الكيمياء؛ فقد اشتمل على أول قائمة حديثة بالعناصر الكيميائية (البالغ عددها 33 عنصرا، بما في ذلك «العناصر التي لا يمكن وزنها»؛ الضوء والسيال الحراري «الكالوريك»).
103-
105
اهتم لافوازييه كثيرا بالتعليم العام،
106
وعلم أصول التدريس، وينعكس هذا في كتابه الدراسي. وفي 22 سبتمبر من عام 1793، التمس من المؤتمر الوطني تعليم شعب بارع تكنولوجيا، غير أنه في ظل مناخ «الثورة الثقافية» الذي ساد فرنسا آنذاك،
107
أراد روبسبيار واليعقوبيون تعليما أكثر أيديولوجية. وتوقف هذا الجدل فجأة مع بدء عهد الإرهاب في أكتوبر عام 1793.
106
كان عام 1788 عاما عامرا بالانتصارات للافوازييه، حتى مع احتدام رياح الثورة. وكتبت السيدة لافوازييه إلى جان هنري هازينفراتز، مدير الترسانة العسكرية، تبحث عن اقتراحات للاحتفال بانتصار ثورتهم في مجال الكيمياء، فاقترح عليها رسم لوحة أسرة لافوازييه، وتقديم مسرحية رمزية يهزم فيها الأكسجين الفلوجستون.
108 ،
109
أنهى جاك لوي ديفيد لوحة أسرة لافوازييه في عام 1789، نظير 7 آلاف جنيهيا (280 ألف دولار أمريكي حاليا)،
109
وتوجد حاليا في متحف المتروبوليتان للفنون. ويوجد الدليل الملموس الوحيد على وجود مسرحية ساخرة قصيرة أو مسرحية ماسك في خطاب من د. فون إي ***
نشر في دورية كريل، «شيميش أنالين».
108 ،
109
مع ذلك ثمة مسرحية أخرى قصيرة من نوعية مسرحيات الماسك تصور بإبداع داخل مسرحية بعنوان «أكسجين»، ألفها اثنان من علماء الكيمياء المعاصرين، هما كارل جيراسي ورولد هوفمان.
110
يوافق عام 2001 الذكرى المائة لجائزة نوبل؛ ففي مدينة ستوكهولم الحديثة أبلغت لجنة جائزة نوبل للكيمياء لعام 2001، سرا، أنها سوف تختار أيضا أول «جائزة نوبل بأثر رجعي». وتوصلت اللجنة على الفور إلى اتفاق بالإجماع على أن اكتشاف الأكسجين ودوره في الكيمياء والتنفس يستحق أول «جائزة نوبل بأثر رجعي». هل يجب أن تذهب إلى السويدي كارل فيلهلم شيله، الذي كان أول من عزل «الغاز الناري» (الأكسجين) في عام 1777 (أو 1772)، لكنه لم ينشر عمله حتى عام 1777؟ أم يجب أن تذهب إلى جوزيف بريستلي، الذي اكتشف منفردا «الغاز المنزوع الفلوجستون» (الأكسجين) في عام 1774 وبادر بنشر اكتشافه في العام نفسه؟ لقد اعتقد كل من شيله وبريستلي خطأ أن «الغاز» الذي اكتشفه كل منهما كان يسحب الفلوجستون من المواد المحترقة أو الصدئة. أو لعلها تذهب إلى أنطوان لوران لافوازييه، الذي شرح على نحو واف، مستخدما توليفته الفكرية من المعلومات والمعارف، دور الأكسجين في الاحتراق والتكلس والتنفس؟ تبدأ أحداث مسرحية «أكسجين» فعليا في ستوكهولم في عام 1777؛ حيث نلتقي بماري آن بولز لافوازييه، وماري بريستلي، وسارة مارجريتا بول، مساعدة شيله ورفيقته، في ساونا؛ فقد استدعي أزواجهن إلى السويد من أجل إجراء تجارب أمام الملك جوستاف الثالث، الذي سيصدر «حكم ستوكهولم». ربما يمكن لهذه المسرحية داخل مسرحية أن تساعد لجنة عام 2001 في حل معضلتها (أو على الأقل معضلة رواد المسرحية). وفي الليلة السابقة على صدور الأمر الملكي بإجراء تجارب كيميائية، تعرض عائلة لافوازييه مسرحية قصيرة من نوعية الماسك أمام الملك جوستاف الثالث ورفاقه المجتمعين. يتزايد شعور أسرة بريستلي، وشيله، والسيدة بول بالانزعاج، وفي النهاية يصبحون جميعا مستائين مع نهايتها. وقد لعب أنطوان دور «الفلوجستون» المنهزم، ولعبت ماري آن دور «الأكسجين» المنتصر في هذه المسرحية داخل مسرحية داخل مسرحية. وقبل نهاية مسرحيتهم القصيرة، نجد السيدة أكسجين تخاطب السيد فلوجستون قائلة:
111
سيدي العزيز، أنت تتحدث كالأبله!
أنت تعرف أنه لا وجود لشيء يدعى الكتلة السالبة!
ثمة ثورة على وشك البزوغ.
في الكيمياء، مع مولد الأكسجين
الفلوجستون هو فكرة من الماضي،
دحضت واستبعدت، وفي الواقع، تجاوزناها.
كانت السيدة لافوازييه بالتأكيد واحدة من أروع الشخصيات في تاريخ الكيمياء؛
112
فهي تلعب الدور المحوري في مسرحية «أكسجين»، وثمة رسالة مقتضبة غامضة ظلت مخبئة لوقت طويل في حقيبة «الضروريات» التي تحملها
112
تقدم حلا، على الأقل في المسرحية، للغز كيميائي يبلغ عمره نحو قرنين من الزمان. أما بالنسبة للفائز بأول «جائزة نوبل بأثر رجعي»، فالأمر متروك لتخمينك أيها القارئ العزيز، لكن عليك أولا أن تقرأ المسرحية.
ساد استياء واسع تجاه لافوازييه، صاحبه إعجاب بهذا الشخص الموسوعي الرائع، خلال فترة ما قبل الثورة الفرنسية؛ فبوصفه عضوا في أكاديمية العلوم، أثار بحثه، مع فرانكلين وآخرين، الذي رفض التنويم المغناطيسي بوصفه علما زائفا، استياء جماهير أرادت تصديقه.
113
وتمثلت إحدى الشكاوى الأخرى القائمة منذ زمن في قيام مؤسسة جمع الضرائب ب «رش التبغ بالماء» قبل توزيعه على الموزعين.
114
ومع هذا، كان الأخطر من ذلك هو دور لافوازييه في جمع المؤسسة للضرائب. تخيل شركة قابضة قوية تتكون من 40 فردا، هدفها جمع الضرائب بحماس من أجل الخزانة الملكية، لكن ليس قبل حصولها على ربح ضخم. وكان ثمة استهجان واسع النطاق من الضريبة على الملح - إذ كان الملح أساسيا لحفظ اللحم - بل إنه في الواقع يعتبر جوهر الحياة.
115 ،
116
كانت الضريبة على الملح إحدى مسئوليات لافوازييه الخاصة في مؤسسة جمع الضرائب. وكان مسئولا أيضا عن تحصيل الضريبة على الواردات إلى باريس؛ فقد أدرك لافوازييه ببراعته في المحاسبة، التي طبقها في الكيمياء، في أواخر سبعينيات القرن الثامن عشر أن أربعة أخماس السلع اللازمة لتوفير احتياجات سكان باريس هي فقط التي كانت مسجلة وتفرض عليها الضريبة.
117
أما الخمس المتبقي، فكان يهرب، مما يسبب خسارة للخزانة الملكية (وبالتبعية للمؤسسة). وأقر الحل الذي قدمه لهذه المشكلة، بإقامة جدار ذي بوابات لتحصيل الرسوم حول باريس، في عام 1787، وبني بتكلفة 30 مليون جنيه فرنسي (1,2 مليار دولار).
117
مرة أخرى، حاول أن تتخيل شركة خاصة يمتلكها 40 فردا من أغنى الأفراد في الولايات المتحدة، تبني جدارا حول مدينة نيويورك، وتبني بوابات لتحصيل الرسوم على حساب دافعي الضرائب لصالح هيئة الإيرادات الداخلية. وكان أحد الاتهامات التي وجهت إلى لافوازييه بعد عدة سنوات أن بناء هذا الجدار حول باريس حبس هواء المدينة، مما أضر بصحة سكانها.
غير أن الاضطراب بدا يخيم على الأوضاع، وسرعان ما تعرض لافوازييه لنذير باقتراب نهايته؛ فبوصفه مدير إدارة البارود، كان متحكما في شحنات البارود الواردة من ترسانة الأسلحة. ولم يمر وقت طويل على اقتحام الباستيل في 14 يوليو عام 1789، حتى لاحظ المواطنون وصول شحنات غامضة من البارود من الترسانة، واستنتجوا قرب حدوث هجوم ملكي مضاد.
118
وألقي القبض على لافوازييه وظل رهن الاعتقال لفترة وجيزة، واحتشد بعض أفراد الشعب على طول طريق ترحيله مطالبين بإعدامه دون محاكمة، غير أنه أوضح مبرر هذه الشحنات بالتفصيل، وأعلنت براءته وأطلق سراحه. وفي 20 مارس 1791، ألغت الجمعية الوطنية مؤسسة جمع الضرائب.
119
وفي أعقاب هذا، اتضح أن أعمال لافوازييه التجارية لا يشوبها شائبة. ألغيت الأكاديميات العلمية في أغسطس عام 1793،
120
وأصبح الأكاديميون الذين لم يتخلوا تماما عن آرائهم «النخبوية» ولم ينضموا بإخلاص إلى الشعب، آنذاك في خطر. لقد غير «عهد الإرهاب» الثورة جذريا، وأعدم لافوازييه وبولز و26 عضوا آخر من أعضاء المؤسسة العامة لجمع الضرائب على المقصلة في غضون 35 دقيقة في 8 مايو عام 1794.
121 (13) قداس على روح الوزن الخفيف
على الرغم من أن نظرية الفلوجستون قد دحرت في ثمانينيات القرن الثامن عشر، فإنه يجدر بنا تلخيص بعض من تعريفات الفلوجستون والحجج المؤيدة والمعارضة له،
122
والتي سوف تقتصر بالكامل تقريبا على التغطية الواردة في هذا الكتاب، ولا يقصد بها معالجة شاملة للموضوع. (1)
ما أصول نظرية الفلوجستون؟ كان لدى الثقافات المختلفة معتقدات قديمة عن الثنائيات (الذكر والأنثي، الين واليانج، الشمس والقمر، الكبريت والزئبق). وقد تغير هذا على يد باراسيلوس وآخرين إلى المواد الثلاث الأساسية للكيمياء وهي: الكبريت الفلسفي، والزئبق الفلسفي، والملح الفلسفي، التي تتكون منها المادة بنسب متفاوتة. ولاحظ بيشر (في القرن السابع عشر) وجود ثلاثة أنواع من «التراب»؛ أحدها «التراب الدهني» الذي يقال إنه يوجد في المواد القابلة للاشتعال والمواد المعدنية، ويشبه الكبريت الفلسفي. وعدل شتال نظرية بيشر (في أوائل القرن الثامن عشر) الذي صاغ مصطلح «فلوجستون» ليحل محل «التراب الدهني». (2)
ما طبيعة الفلوجستون؟ يعرف الفلوجستون بأنه «جوهر النار». وأحيانا يعرف رمز
Φ
بأنه النار المنبعثة من مادة محترقة. وقد اعتبر الوميض الفوسفوري لمادة ما تعبيرا بصريا عن الفلوجستون المختزن بداخلها. ويزخر الفوسفور الأبيض بالفلوجستون؛ نظرا لكونه يصدر وميضا فوسفوريا، ويمكنه أيضا الاشتعال تلقائيا. وساد الاعتقاد بأن الفلوجستون هو مادة (سائلة عادة) لا يمكن وزنها (خفيفة للغاية أو حتى ليس لها كتلة)، ومع ذلك، لا يكون دوما انبعاث الفلوجستون مصحوبا بالنار؛ ومن ثم ربما تكون مجرد واحد من مظاهر انبعاثه. (3)
ما الظواهر الكيميائية التي فسرها الفلوجستون؟ كان الفلوجستون يمثل إلى حد بالغ نظرية موحدة لاحتراق المادة ولتكوين الكلسات (التي نطلق عليها عادة الأكاسيد). وكان هذا واضحا تماما. ومن المهم أن نشير إلى أنه حتى منتصف القرن الثامن عشر، كانت الغازات الناتجة عن الاحتراق، مثل ثاني أكسيد الكربون، ترى ببساطة على أنها «غازات» ولا يمكن جمعها.
فحم (يحتوي على فلوجستون) + حرارة ←
رماد + فلوجستون
نحاس (يحتوي على فلوجستون) + حرارة ←
كلس النحاس + فلوجستون
فحم (يحتوي على فلوجستون) + كلس النحاس + حرارة ←
رماد + نحاس (يحتوي على فلوجستون)
جمع كافنديش «الغاز القابل للاشتعال» المستمد من «إذابة» المعادن في أحماض مائية، وكان ما تبقى بعد تبخر المحلول هو الكلس، وكان «الغاز القابل للاشتعال» الذي جمعه لا يبلغ إلا 7٪ من كثافة «الهواء الجوي». واتضح أن الغاز الفائق الخفة والفائق الاشتعال المنبعث ب «وضوح» من المعادن ربما يكون الفلوجستون ذاته.
نحاس (يحتوي على فلوجستون) + حمض الكبريتيك ←
كلس النحاس + فلوجستون؟ (الغاز القابل للاشتعال).
يمكن لأنواع «الغازات» الأخرى إزالة الفلوجستون من المعادن:
نحاس (يحتوي على فلوجستون) + حمض النيتريك ←
كلس النحاس + «غاز نيتروزي» (يحتوي على فلوجستون)
إن ما أطلق عليه لافوازييه حينئذ «أكسجينا» أشار إليه بريستلي بمصطلح «الغاز المنزوع الفلوجستون»، ويمثل خمس الغلاف الجوي ويشبه الفلوجستون كثيرا. يحمل كل من «الغاز النيتروزي» و«الغاز القابل للاشتعال» القدر نفسه من الفلوجستون؛ نظرا لأن مقدارا واحدا من أيهما سيفقد كامل محتواه من الفلوجستون ليصبح نصف وحدة حجم من «الغاز المنزوع الفلوجستون». «يتضرر» الهواء الجوي الذي يمتص الفلوجستون، وعندما يتشبع به بالكامل يصبح «مميتا» أو «ساما»، وما يتبقى يكون هواء «ساما» أو «فلوجستونيا»، أو النيتروجين، الذي عرف قديما باسم «أزوت» (بمعنى «بلا حياة»).
طعام يحتوي على فلوجستون؛ الأطعمة الدهنية على وجه الخصوص غنية ب فلوجستون. (4)
ماذا كانت عيوب الفلوجستون؟ كان أبرزها «زيادة» وزنه عند فقدان الفلوجستون:
نحاس (يحتوي على
Φ ) +
حرارة ←
كلس النحاس +
فلوجستون (63,5 جراما) (79,5 جراما)
لوحظ هذا منذ القرن السادس عشر. وإذا كان قانون بقاء المادة صحيحا، فإن الفلوجستون له كتلة سالبة (في هذه الحالة −16 جراما). وعندما جمعت الغازات، بداية من منتصف القرن الثامن عشر، جاءت نتائج الاحتراق الكامل للفحم كالتالي:
فحم (يحتوي على
Φ ) +
حرارة ←
رماد + «هواء مثبت» +
Φ (60 جراما) (أقل كثيرا من 1 جرام) (حوالي 220 جراما)
كانت كتلة الغاز الناتج كبيرة إلى حد ما وغير متسقة مع فقدان الفلوجستون، إلا إذا كانت كتلته سالبة ( ∼ −160 جراما في الحالة المطروحة حاليا). كذلك كانت ثمة مشكلة لها أهمية كبرى تمثلت في تركيب الماء؛ فالماء بوجه عام كان ناتجا غير ملحوظ (أو لا يشار إليه) للاحتراق، وربما كان من المتوقع أن ينتج عن احتراق «الهواء القابل للاشتعال» (فلوجستون؟) عن طريق دمجه مع «الهواء المنزوع الفلوجستون» «فلوجستون منزوع الفلوجستون» (أي ببساطة لا شيء)، أو ربما مجرد «هواء» خال من الفلوجستون - ربما نيتروجين؟ لكن بدلا من ذلك، كان الناتج ماء. وأمكن بالمثل فصل الماء كيميائيا لينتج عنه الهيدروجين (هواء قابل للاشتعال) وأكسجين (هواء منزوع الفلوجستون). وهكذا أصبح واضحا حينذاك أن الفلوجستون المستمد من «إذابة» النحاس في حمض الكبريتيك يأتي من المحلول الحمضي (في شكل «هواء قابل للاشتعال» أو هيدروجين)، وليس من المعدن نفسه. بالمثل، يأتي الفلوجستون المستخرج من «إذابة» النحاس في حمض النيتريك من المحلول الحمضي (في شكل «هواء نيتروزي» أو أحادي أكسيد النيتروجين
NO )، وليس من المعدن نفسه. كانت ثمة أسئلة أساسية أخرى، منها «إلى أين يذهب الفلوجستون بمجرد فقدانه؟» ولماذا يقل حجم «الهواء الجوي» بمقدار الخمس عند اكتسابه للفلوجستون؟ وهل كان «الهواء المنزوع الفلوجستون» يفقد «مرونته» بسبب «تضرره»؟ وكانت ثمة مشكلات كمية أخرى لا حصر لها أقل وضوحا. وهذه إحداها - إذا «أذيب» 63,5 جراما من النحاس في حمض الكبريتيك، ينبعث كامل محتواه من الفلوجستون في صورة وحدة حجم واحدة من «الهواء القابل للاشتعال»، مع تحول المعدن بأكمله إلى كلسه. أما إذا «أذيب» 63,5 جراما من النحاس في حمض النيتريك، فإن كامل محتواه من الفلوجستون ينبعث في صورة ثلثي وحدة حجم من «الهواء النيتروزي» مع تحول كامل للمعدن إلى كلسه. في الحالة الأولى سينزع الفلوجستون كله من وحدة الحجم الواحدة من «الهواء القابل للاشتعال» باستخدام نصف وحدة حجم من «الهواء المنزوع الفلوجستون». أما في الحالة الثانية، فسوف ينزع الفلوجستون كله من ثلثي وحدة الحجم من «الهواء النيتروزي» باستخدام ثلث وحدة حجم من «الهواء المنزوع الفلوجستون» نفسه. ببساطة لا تبدو هذه الأرقام منطقية. (5)
الاندماج، يعد الاحتراق وتكون الكلس مثالين لتوليفات كيميائية مع الأكسجين في الهواء. ولهذا السبب تكون الكلسات أثقل وزنا من معادنها، ومن ثم تكون نواتج الاحتراق أثقل وزنا من المواد القابلة للاشتعال (عند عدم وضع الأكسجين في الاعتبار). ثمة طريقة مفيدة تتمثل في اللجوء إلى اقتراح رولد هوفمان المتمثل في اعتبار الفلوجستون «سلبي الأكسجين».
123
وهكذا يفقد الأكسجين من الغلاف الجوي عند الاحتراق بدلا من اكتساب الغلاف الجوي للفلوجستون. أما المعادن فتكتسب الأكسجين، بدلا من فقدانها للفلوجستون، عند تكوينها للكلسات؛ فتتأكسد المواد بالأكسجين، الذي يعتبر بالطبع عامل أكسدة. وعليه تضاهي عملية اكتساب الفلوجستون الاختزال؛ ومن ثم يعتبر الفلوجستون عامل اختزال. جرب الأمر؛ إنه ممتع.
هوامش
الجزء السادس
دولة ناشئة ونظرية ناشئة
(1) «من المؤسف أن عددا قليلا للغاية من الكيميائيين يعملون في الصباغة، وعددا قليلا من العاملين في الصباغة بارعون في الكيمياء»
سادت روح مبادرة جريئة، لكنها عملية، بين سكان الولايات المتحدة الأمريكية الناشئة، وتجسدت في الفيزيائي الشاب السابق لعصره جون بينينجتون. كان بينينجتون أحد طلاب د. بنجامين راش بجامعة بنسلفانيا، ومعاصرا للدكتور كاسبر ويستار، وأنهى دراسته للطب في إدنبرة؛ حيث كتب ما يلي إلى معلمه السابق في عام 1790:
1
للأسف يا سيدي العزيز، لقد يئست من لقاء شخص مثل راش أو ويستار هنا؛ فهذه ليست طبيعة الأساتذة في إدنبرة، أن يأخذوا بيد الباحث الشاب، ويرافقوه على طريق المعرفة الحقة؛ فالغرور والتحفظ يسودان بين الأساتذة، والتكاسل والخلاعة يسودان بين أغلبية الطلاب؛ ولافتقاري إلى «الصحبة الملائمة»، لجأت حتى الآن إلى الكتب والتمشية بمفردي. باختصار، أنا لا أجد هنا أي شيء يمكن له أن يفسد وطنيتي.
شكل 6-1: صفحة العنوان لأول كتاب دراسي في الكيمياء نشر في الولايات المتحدة، بدلا من استخدام خلاصة أو كتيب، أو ترجمة لنص أجنبي، أو إعادة طباعته. نشر مؤلفه السابق لعصره جون بينينجتون، من فيلادلفيا، هذا الكتاب عندما كان في الحادية والعشرين من عمره. وكان في العام السابق قد أسس أول جمعية كيميائية في الولايات المتحدة. تدرب بينينجتون طبيبا تحت إشراف بنجامين راش في جامعة بنسلفانيا، وتوفي وهو في الخامسة والعشرين من عمره، في أثناء وباء الحمى الصفراء في عام 1793 بينما كان يكافح لإنقاذ الأرواح.
في عام 1789، وهو في العشرين من عمره، أسس بينينجتون، في فيلادلفيا، أول جمعية كيميائية في أمريكا
2 ،
3 ،
4 (ولعلها الأولى في العالم)،
3
وألف أول كتاب أمريكي في الكيمياء، «مقالات في الكيمياء والاقتصاد» (انظر الشكل
6-1 )،
5 ،
6
وهو عمل نال استحسان توماس جيفرسون.
7
استمرت جمعيته الكيميائية لفترة وجيزة، وخلفتها الجمعية الكيميائية لفيلادلفيا، التي تأسست في عام 1792 (وكان الطبيب د. جيمس وودهاوس أول رئيس لها).
2 ،
3
وفي عام 1793، كان أحد الستة الموقعين على تصديق على عملية هوبكنز لتصنيع البوتاس (
KOH ) وكربونات البوتاسيوم (
K
2
CO
3 )، التي بفضلها حصلت الولايات المتحدة على أول براءة اختراع.
1
يتسم كتاب «مقالات في الكيمياء والاقتصاد» بأنه كتاب ذو طابع حيوي، ويمكن تبين مثال على طابعه هذا في مقارنته التصويرية بين «الكيميائي العملي» و«المنظر البحت»، التي لا تزال محتفظة بقدر من صداها حتى عصرنا الحالي:
8
ينتمي علماء الكيمياء أنفسهم إلى فئتين كبيرتين ومتميزتين ليس بينهما، مع الأسف، أي ارتباط؛ قد نضع في إحداهما أولئك الذين يجرون عددا كبيرا من العمليات باستخدام الحرارة والمزج، دون حتى معرفة الأسباب الثانوية للآثار الناتجة، ويسمى هؤلاء الكيميائيين العمليين، مثل عمال الصباغة الذين لا يمكنهم تفسير أو إدراك لماذا يجب استخدام الشبة، على سبيل المثال، في عملهم؛ أو لماذا يجب أن تنتج العفصة وكبريتات الحديد الثنائي صبغة سوداء. ويشبه هؤلاء أيضا الدباغين الذين لا يمكنهم تفسير تأثير لحاء البلوط على الجلود الخام. وبالمثل ثمة كثير من الصيادلة الذين يستطيعون تركيب حمض النيتريك وغيره، لكنهم لا يعرفون شيئا عن الأساس المنطقي للعملية. أما الفئة الأخرى، فتتمثل في المنظر البحت، الملم جيدا ب «آثار الحرارة والمزج» على الأجسام كافة، ويمكنه تفسيرها جميعا، لكنه لا يلوث أصابعه أبدا بقطعة من الفحم، أو لم يضطر قط إلى كسر بوتقة. يمكن لمثل هذا الكيميائي أن يخبرنا، على نحو مثير للإعجاب، بكيفية حدوث التغيرات في اللون عند الصباغة، لكنه لن يستطيع صنعها بنفسه؛ ويستطيع تفسير تأثير لحاء البلوط على المواد الحيوانية، دون أن يسبق له استنشاق رائحة ساحة مواد الدباغة مطلقا؛ ويمكنه شرح نظرية صنع حمض النيتريك والعملية المستخدمة فيه، لكن ربما لو حاول تطبيقها، قد يستغرق ساعتين في إشعال النار في فرنه، ويكسر جهاز التقطير الخاص به، ويخنق نفسه بالأدخنة.
شكل 6-2: الكيمياء الأمريكية ما بعد الاستعمار - مزيج رائع من ورشة الحدادة والمزرعة والمختبر. يصور الشكل جهازا أمريكيا قديما (1790) لإنتاج حمض الكبريتيك يتكون من ثلاث جرار تبلغ سعة الواحدة منها 30 جالونا، يربطها أنبوب من الرصاص وتتصل بمنفاخ (من كتاب بينينجتون، «مقالات في الكيمياء والاقتصاد»، انظر الشكل
6-1 ).
يصور الشكل
6-2 ، المأخوذ من كتاب بينينجتون،
9
جهازا يمثل مزيجا مدهشا من الأوعية الكيميائية (هي في الواقع أوان خزفية عبارة عن جرار زيت سعتها 30 جالونا تتصل بأنابيب من الرصاص)، والمنفاخ المستخدم عادة في ورشة الحداد. وكان الغرض من هذا الجهاز هو إنتاج حمض الكبريتيك. قبل هذا بأكثر من عشر سنوات، أحرق لافوازييه الكبريت في وجود الأكسجين في وعاء مغلق باستخدام عدسة مكبرة قوية، وجمع حمض الكبريتيك الذي نتج عن هذا. ومع ذلك؛ نظرا لأن كميات صغيرة من الغاز تشغل مساحات كبيرة، لا يمكن إنتاج إلا كميات قليلة للغاية من حمض الكبريتيك في أوعية عملية الاستخدام على هذا النحو. بدلا من ذلك، يمكن استخدام نترات البوتاسيوم بوصفها مصدرا عالي الكثافة للأكسجين، لكنه باهظ التكلفة للغاية. ويمثل جهاز بينينجتون الهجين نوعا من مفاعلات التدفق وليس مفاعلا دفعيا؛ نظرا لأنه يدخل كاشفا جديدا للأكسجين باستمرار في التفاعل. ويشير بينينجتون إلى الجهد الهائل المطلوب من أجل دفع المنفاخ، ويقترح إدخال تعديل بحيث يواصل جهاز تقطير صغير من الحديد تمرير البخار إلى الوعاء
B (وكان قد أخطأ في التعبير وقال إنه الوعاء
C )، من أجل توفير مصدر مستمر للضغط من أجل مساعدة المنفاخ.
9
بدأ د. بينينجتون الذي اخترع طريقة لحفظ اللبن بالحرارة (قبل البسترة)، ممارسة الطب في فيلادلفيا في عام 1792، وأصيب في عام 1793 بوباء الحمى الصفراء الذي حصد أرواح خمس سكان المدينة، و«استمر في الاعتناء بالمرضى حتى توفي هو أيضا».
6
وكان في الخامسة والعشرين من عمره. (2) رؤيتان قديمتان: الأكسدة دون أكسجين، والنساء بوصفهن عالمات قويات
بدأت الجمعية الكيميائية في فيلادلفيا عملها في عام 1792 وخلفتها الجمعية الكيميائية الكولومبية في عام 1811.
10
لم يتبق سوى بضعة آثار قليلة من الجمعية الأولى، لكن ثمة نسخا معروفة
11
من الخطاب السنوي الذي ألقاه توماس بي سميث في 11 أبريل عام 1798 (الشكل
6-3 ).
12
كان سميث الذي كان يبلغ من العمر 21 أو 22 عاما فقط آنذاك، عضوا في لجنة النترات بالجمعية.
10
نشرت اللجنة إعلانات في الصحف تطلب فيها من المواطنين تقديم أي معلومات لديهم عن النتر، وهو أحد مكونات البارود، عبر رسائل بريدية (مع ملاحظة أنها «خالصة الرسوم البريدية ») إلى السيد سميث على 19 شارع نورث فيفث، أو إلى أحد أعضاء اللجنة الأربعة الآخرين، بمن فيهم رئيس الجمعية د. جيمس وودهاوس (13 شارع شيري).
10
شكل 6-3: صفحة العنوان لمحاضرة توماس بي سميث أمام الجمعية الكيميائية في فيلادلفيا في 11 أبريل عام 1798. جرؤ السيد سميث، السابق لعصره، على تخيل عالم من الإسهامات العلمية لكيميائيات من النساء، ووسع نطاق مفهوم الأكسدة ليشمل (على نحو صحيح، كما اتضح سريعا بعد ذلك) الأكسدة بغازات أخرى خلاف الأكسجين.
لعل أحد الجوانب الممتعة في خطاب السيد سميث الشاب، أنه قد تجاهل بأدب وكياسة توقعات الجمعية بأنه «سيحوي الاكتشافات كافة التي حدثت في علم الكيمياء خلال العام الماضي»،
12
وقدم، بدلا من ذلك، عرضا موجزا رائعا لتاريخ الثورات الكيميائية حتى نهاية القرن الثامن عشر. غير أننا سنركز بإيجاز على تكهنين ذكرهما قرب نهاية خطبته.
بالنسبة للأول؛ فقد لخص سميث في إيجاز نظرية لافوازييه عن الاحتراق: (1)
لم يعرف قط أن الاحتراق يمكن أن يحدث دون وجود الأكسجين. (2)
في كل احتراق «معروف» يحدث امتصاص للأكسجين. (3)
تحدث زيادة في وزن نواتج الاحتراق تساوي وزن الأكسجين الممتص. (4)
في كل حالات الاحتراق ينبعث الضوء والحرارة.
ويطرح بعد ذلك سؤالا بسيطا، ولكنه مبتكر: «هل علينا استنتاج أنه لما كانت المواد التي تحترق بسهولة في وجود الأكسجين لا تحترق في وجود أي غاز آخر، فلن يعثر على أي مواد تحترق في وجود غازات أخرى؟»
في الواقع، كان ثمة غاز آخر معروف بهذه المواصفات، لكن أسيء فهمه؛ فقد عزل شيله غاز الكلور في عام 1773، عن طريق إذابة البيرولوسيت (
MnO
2 ) مع روح الملح البارد (أو حمض الهيدروكلوريك).
13
علم شيله أن البيرولوسيت كان «منزوع الفلوجستون» (أي إنه عامل أكسدة جيد)، ومن ثم اعتبر منطقيا أن الكلور هو حمض هيدروكلوريك منزوع الفلوجستون.
13
واكتشف فيما بعد أنه يعزز توهج فتيل الشمعة أفضل من الهواء، وينفجر مع الهيدروجين عند إشعاله بفتيل شمعة، ويعمل على احتراق الفوسفور، والأمونيا، والبزموت، والأنتيمون، ومسحوق الزنك وغيرها من المعادن النشطة.
14
غير أن لافوازييه قال إن الأحماض كافة تحتوي على الأكسجين (كلمة أكسجين تعني «مكون الحمض»)، وأطلقت المدرسة الفرنسية على الكلور (
Cl
2 ) اسم «حمض هيدروكلوريك متأكسد». لاحظ الاتساق التام إلى حد التطابق بين تسمية شيله ولافوازييه للكلور: «متأكسد» = «منزوع الفلوجستون». ولما كان حمض الكبريتيك والأحماض المشابهة له تطلق الأكسجين من البيرولوسيت، لم تكن فكرة فقدان البيرولوسيت لمحتواه من الأكسجين لحمض الهيدروكلوريك بعيدة الاحتمال. ظلت رؤية لافوازييه سائدة، إن كانت قد خضعت للشك من الأساس، حتى أثبت همفري ديفي بعد نحو 30 عاما أن الكلور لا يحتوي على أي أكسجين؛ ومن ثم كان عنصرا نقيا؛ وهي رؤية أقرها بيرزيليوس أخيرا في عشرينيات القرن التاسع عشر.
15
إذا كان سميث الشاب محقا؛ فثمة احتراق يحدث دون وجود الأكسجين. وبعد مائة سنة أخرى، تعرض غاز الفلور - المعروف ب «تيرانوصور»
16
أو «شيطان تسمانيا»
17
العناصر - للعزل، واتضح أنه يعزز الاحتراق التلقائي القوي، أو حتى الانفجاري، بل إنه أقرب شبها بالهيدروجين منه بالأكسجين، كما أنه يحرر غاز الأكسجين من الماء بالإضافة إلى كثير من الحرارة:
يقترب سميث من ختام سرده الموجز لتاريخ الكيمياء كما يلي:
12 ،
18
سأعرفكم الآن على آخر وأروع ثورة حدثت في الكيمياء. حتى الآن رأينا هذا العلم تحت سيطرة الرجال كليا؛ أما الآن فنحن بصدد رؤية سيدات يؤكدن مطالبهن المشروعة، رغم تجاهلها لوقت طويل، بالمشاركة في المتع المستمدة من اكتساب معرفة بالكيمياء؛ فقد أثبتت بالفعل مدام داسييه والسيدة ماكولي مكانتهما في النقد والتاريخ. وقدمت السيدة فولهام الآن مطالب جريئة بالعمل في مجال الكيمياء حتى إنه لم يعد بإمكاننا حرمان هذا الجنس من ميزة المشاركة في هذا العلم أيضا.
19
وما عسانا ألا نتوقعه من صعود مثل هذه المواهب؟ وإلى أي مدى سوف يتراجع الأفق المعرفي أمام جهودنا الموحدة؟ وما كم المتعة غير المحدودة التي يمكننا توقعها من خوض غمار هذا العلم برفقة هذه الصحبة؟ (أليست هذه نبوءة بظهور ماري وبيير كوري بعد 100 عام من عصره ؟)
توفي سميث جراء حادث إطلاق نيران عرضي مؤسف في عام 1802، في رحلة عبر المحيط إلى أوروبا؛ حيث كان يفترض به أن يواصل دراساته في الكيمياء وعلم المعادن.
10 ،
11
وكان، مثل د. جون بينينجتون، لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره عند وفاته. (3) حصريا! أول صور مطبوعة لجزيئات دالتون
ثمة أشياء توجد بأجسام صلبة وأبدية، وهي الأشياء التي نثبت أنها مصدر الأشياء وبدايتها، ومنها خلقت كل الأشياء الموجودة حاليا.
20
يوجد إذا فراغ، مجرد مساحة فارغة ولا يمكن لمسها. ولو لم تكن هذه المساحة موجودة، لما تسنى للأشياء بأي حال أن تتحرك؛ إذ ستكون وظيفة الجسم، المتمثلة في التعدي والعرقلة، تحاصر الأشياء كافة في كل وقت؛ ومن ثم لا يمكن لشيء أن يتقدم؛ نظرا لعدم وجود شيء يمكنه أن يضرب مثالا للتخلي عن المكان.
21
لكن في الحقيقة، نظرا للجمع بين عوامل تثبيت العناصر الأولى على نحو متباين، وكون مادتها أبدية ... لا يرتد شيء واحد إلى لا شيء، بل تعود كل الأشياء عن طريق الذوبان إلى الأجسام الأولى للمادة.
22
هكذا تحدث إلينا الشاعر اللاتيني لوكريتيوس، منذ ألفي عام، في قصيدته «طبيعة الأشياء» «مبررا»: (1)
كون الذرات «البذور» الأساسية وغير القابلة للتلف للمادة. (2)
وجود، أو في الواقع ضرورة وجود، مساحة فارغة (الفراغ أو الفضاء). (3)
قانون بقاء المادة.
قبل حصول لوكريتيوس على نصيب من «جوائز نوبل بأثر رجعي»
23
في الكيمياء، والفيزياء، والأدب، علينا الاعتراف بأن هذه كانت فرضيات فلسفية بحتة؛ فلم تختبر أي فرضيات علمية عمليا. وقد لخصت قصيدة لوكريتيوس الملحمية آراء الفلاسفة الإغريق القدماء، ومنهم ديموكريتوس، وليوكيبوس، وإبيقور (انظر تعليق روبرت بويل الساخر، [الجزء الرابع: الثورتان الفرنسيتان، القسم الثاني: شكوك عالم حول «الآراء الكيميائية للسوقة»]).
نشرت نظرية شبه علمية مبكرة عن الجسيمات أو الذرات على يد دانيال سنيرت (1574-1637)، أستاذ الطب بجامعة فيتنبرج في عام 1618.
24
وأسس الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650) الهندسة التحليلية، لكن إسهاماته في علم الفيزياء والكيمياء لم تكن ذات شأن؛
25
فقد اعتقد في وجود جسيمات أساسية تشبه الذرة تحتشد معا بحيث لا يحتوي الكون على أي فراغات (الطبيعة تكره الفراغ)، فكل الحركة في الكون لا بد أن تكون متسقة في شكل «شبكة كونية مغلقة». على النقيض من ذلك، كانت آراء بيير جاسندي (1592-1655)،
26
وهو عالم كلاسيكي درس إبيقور واعتنق المفهوم الإبيقوري عن الذرات والفراغات، بديلا عن الحيز الديكارتي. فقد توصل جاسندي إلى حجة علمية راسخة تؤيد الوجود الفعلي للفراغ والخواء في بارومتر (مقياس الضغط الجوي) تورتشيللي، الذي اخترعه في عام 1643.
قدم روبرت بويل وإسحاق نيوتن، اللذان كانا من أشد أنصار الخيمياء، نظرية جسيمية للمادة. وجدير بالذكر أنه نظرا لإيمانهما بأن الرصاص يمكن أن يتحول إلى ذهب، فلا يمكن أن توجد جسيمات ذهب أو رصاص «فريدة»؛ فقد كانت آراؤهما متأثرة بجاسندي.
27
أظهر قانون بويل (1662) أنه إذا تمدد غاز ما، على سبيل المثال، إلى ثمانية أضعاف حجمه، فإن ضغطه ينخفض بمعامل قدره 8. ووجد أيضا أن كثافته تنخفض بمقدار 8. والآن، قد يتصور المرء أن «تخفيف» «سائل ديكارتي» يمكن أن يقلل كثافته من خلال توسيع الحيز التسلسلي الذي تشغله «ذراته». غير أن تفسير انخفاض الضغط باستخدام هذا النموذج أمر أكثر صعوبة. بدلا من ذلك، يمكن لنموذج يتخيل تكون الغاز من «جسيمات» فردية منفصلة في المكان، تفسير مثل هذه السلوكيات في إطار فيزياء نيوتن؛ ومن ثم يحوي الغاز المخلخل، في المتوسط، مساحة أكبر بين جسيماته. في عام 1687، حاول نيوتن شرح قانون بويل من خلال افتراض وجود تنافر بين الجسيمات الصلبة في السائل الغازي،
28
ومن خلال ربط هذا التنافر بقوة الطرد المركزي، تنبأ بأنه سيكون متناسبا عكسيا مع المسافة بين مراكز الذرات؛ ومن ثم كان انخفاض الضغط في الغاز نتيجة لانخفاض التنافر بين الجسيمات التي أصبحت الآن أكثر انفصالا. ومثلما لم يحاول نيوتن تفسير طبيعة قوة الجاذبية التي تجذب الأجسام إلى الأرض، لم يحاول كذلك فهم مصدر قوة التنافر الغامضة هذه بين الذرات.
28
نشأت أقدم نظرية ذرية لجون دالتون في عام 1801، وكانت ذات طبيعية فيزيائية بحتة.
29
ارتكزت هذه النظرية على قانون بويل وقانونه للضغوط الجزئية (انظر المقال التالي)، بيد أن إنجازه الأساسي بحق ، الذي حدث في عام 1803، تمثل في صنع النموذج الحديث الذي يربط كل شيء نعرفه الآن عن الكيمياء معا. وقد كان قانون دالتون للذرات ذروة الثورة الكيميائية التي حدثت خلال العقود الثلاثة المنصرمة.
30 ،
31
توحي قصيدة لوكريتيوس بأن قانون بقاء المادة كان معروفا طوال ألفيتين على الأقل. وقد كان بالتأكيد افتراضا علميا أساسيا في أثناء الثورة العلمية، غير أن لافوازييه كان من اقترح فكرة أنه إن لم يكن بالإمكان حساب كتلة كل المواد في التفاعل الكيميائي، فلا يمكن للمرء أن يحاول حتى فهمها. ومما حظي بأهمية أيضا وضع ريختر لجداول المتكافئات، ومفهومه عن حساب العناصر المتفاعلة، وقانون بروست للنسب الثابتة، الذي نجا بنجاح من مناظرته مع برتوليه.
32
وقد اشتمل ما دونه دالتون في مفكرته في 6 سبتمبر عام 1803 (في عيد ميلاده السابع والثلاثين) على أول رموز مرسومة لذراته وأوزانها النسبية.
30
شكل 6-4: على الرغم من أن جون دالتون وضع نظرية ذرية فيزيائية في عام 1801 ووسع نطاقها إلى مجال الكيمياء في عام 1803، فإنه لم ينشر نظريته حتى عام 1808. ومع ذلك، كان توماس تومسون في جامعة إدنبرة من أوائل المؤيدين لنظريته الذرية، وبإذن من دالتون نشرت أول مناقشة مطبوعة لها في عام 1807 (انظر كتاب «نظام الكيمياء» الطبعة الثالثة، لندن، 1807).
حصل توماس تومسون
33
على درجة الدكتوراه في الطب من إدنبرة في عام 1799؛ حيث استمد إلهامه من جوزيف بلاك. وبدءا من عام 1800 ألقى محاضرات في الكيمياء في إدنبرة، ونشر الطبعة الأولى من كتابه الشامل «نظام الكيمياء» في عام 1802. زار تومسون دالتون في عام 1804، واتبع نظريته الذرية بحماس. ومن المثير للاهتمام أن أول تصريح منشور عن نظرية دالتون قد ظهر في الطبعة الثالثة (1807) من أطروحة تومسون الكيميائية ذات المجلدات الخمسة.
34
ونشر كتاب دالتون «الفلسفة الكيميائية» في العام التالي.
30 ،
31
ومن المثير أن نقرأ تعليقات تومسون المهذبة والمبدئية، ونرى أول صور مطبوعة للذرات كما ظهرت في كتابه (الشكل
6-4 ):
33
ليس لدينا طريقة مباشرة للتحقق من كثافة ذرات الأجسام؛ لكن السيد دالتون، الذي لا تعتبر براعته وحصافته الاستثنائيتان أمرا غريبا على عالم الفلاسفة ، ابتكر مؤخرا فرضية، إن ثبتت صحتها، ستمدنا بطريقة بسيطة للغاية للتحقق من هذه الكثافة بدقة كبيرة.
اقترح دالتون الكويكري مبدأ «البساطة القصوى»؛ ومن ثم افترض، على سبيل المثال، أن الماء مكون من ذرة واحدة من كل من الأكسجين والهيدروجين، وأن الأمونيا تتكون من ذرة واحدة من كل من النيتروجين والهيدروجين (انظر الشكل
6-4 ). وقد أدى هذا إلى ظهور قيم للأوزان الذرية في عام 1803 قد نراها حاليا شاذة
30 (على سبيل المثال، «الأزوت» أو النيتروجين = 4,2، والأكسجين = 5,5، بينما يفترض بالهيدروجين أنه = 1). غير أن دالتون كان مدركا أيضا أن «حمض الكربونيك» يحتوي على أكسجين يساوي وزنه ضعف وزن الكربون مقارنة ب «أول أكسيد الكربون» المكتشف حديثا.
35
وكانت ثمة اكتشافات مشابهة في حالة أكاسيد النيتروجين.
30
ومن ثم، كان قانون النسب المتضاعفة هذا (على سبيل المثال،
CO
2
في مقابل
CO )، الذي وضعه دالتون، نتيجة طبيعية واضحة لنظريته الذرية. (4) جزيئات الماء في الغلاف الجوي وندى الصباح
ظل جون دالتون
36
يسجل قياسات الغلاف الجوي طوال حياته العلمية الطويلة وفي الساعة السادسة صباح يوم 27 يوليو عام 1844، دون آخر ملحوظة في مذكرته - «قليل من المطر في هذا اليوم» - بيد ضعيفة قبيل وفاته مباشرة.
37
وقد قاده هذا الاهتمام الذي استمر طوال حياته إلى محاولة فهم وجود بخار الماء في الهواء (فلماذا لا يتكثف ببساطة؟) وكان ثمة لغز آخر يتمثل في السبب وراء التجانس التام للهواء؛ فلماذا لا ينفصل مكون الأكسجين الأكثر كثافة عن غاز النيتروجين الأخف وزنا والأكثر وفرة؟ هل يرجع هذا إلى تكوين هذين الغازين مركبا ضعيفا بنسبة 1:4 عرضة لاستبدال النيتروجين فيه بمواد أكثر تفاعلية، مثل المعادن أو الهيدروجين، التي تحمل تشابها أكبر بينها وبين الأكسجين؟
قبل عقد من إعلانه عن نظريته الذرية، اكتشف دالتون أن مقدار (ضغط) بخار الماء في الهواء، أو الذي يتكون في فراغ، يعتمد فقط على درجة حرارة الماء السائل في التوازن الكيميائي
38 (وضع دالتون أيضا مفهوم نقطة الندى).
38
وأوحى هذا بأن بخار الماء لا يشكل مركبا ا كيميائيا مع الهواء (وإلا، لماذا يدخل وعاء فارغا؟) وأوحى أيضا بأن ضغط بخار الماء ووجوده في حد ذاته كان مستقلا تماما عن أي غازات أخرى في الهواء. وفي عام 1801، سمحت دراساته التجريبية بإصدار بيان أكثر شمولا عما نطلق عليه قانون دالتون للضغوط الجزئية:
39
عند خلط مائعين مرنين، يشار إليهما برمزي «أ» و«ب»، معا لا يحدث تنافر متبادل بين جسيماتهما؛ أي لا تنفر جسيمات «أ» من جسيمات «ب»، كما يحدث فيما بينها؛ ومن ثم، ينشأ الضغط أو إجمالي الوزن الواقع على أي جسيم فقط من الجسيمات من نوعه.
ويمكننا صياغة هذا بالمصطلحات الحديثة كالتالي:
بخار ماء
+
نيتروجين
+
أكسجين
=
الإجمالي
إنها فكرة مثيرة، وإن كانت غير واضحة للغاية؛ فلماذا قد تنفر «جسيمات» «أ» (النيتروجين، مثلا) من جسيمات «أ» الأخرى، ولا تتنافر مع «جسيمات» «ب»، مثل جسيمات الأكسجين، التي تظل غير مبالية بها؟
كانت نظرية دالتون الذرية الأولى «نظرية فيزيائية». فنرى من خطابه الذي ألقاه في عام 1801،
40
وصفه لغازات الغلاف الجوي الأربعة (الماء، والأكسجين، والنيتروجين، وحمض الكربونيك). يتنافر كل غاز على نحو منفصل، مع «الذرات» المشابهة له (الجزء العلوي من الشكل
6-5 )، لكن «الذرات» المختلطة للغازات المختلفة لا ينفر بعضها من بعض، ولا يجذب بعضها بعضا (الجزء السفلي من الشكل
6-5 ). ومع ذلك، قارن دالتون، الذي كان كويكريا متواضعا، نظريته بقانون الجذب العام لنيوتن،
40
ولم تخل هذه المقارنة من التواضع أيضا. وبعد بضع سنوات، أدرك دالتون أن نظريته كانت تشرح حقائق كيميائية بالإضافة إلى الحقائق الفيزيائية.
يجمع شرح دالتون بين نظرية السيال الحراري للافوازييه ونظرية التنافر الميكانيكي لنيوتن، ثم يضيف قدرا من مكونه الخاص. أولا: من المهم أن نتذكر أن عنصر الأكسجين عند اتحاده مع أكسيد أو كلس معدني، يكون في حالته «المثبتة». وهكذا يكون «غاز الأكسجين» فعليا، في رأي لافوازييه، «سيالا حراريا متأكسدا»؛ نظرا للحاجة إلى حرارة من أجل تحرير العنصر من كلسه. بالمثل، يضيف الماء المغلي سيالا حراريا من أجل تكوين البخار. لاحظ، حسبما ورد في مقال سابق، كيف أن وصف لامارك التصويري المعاصر (الشكل
5-27 ) لتبخر الماء يضع «أغلفة» من السيال الحراري حول جسيمات الماء؛ حتى تزيد المسافة بينها، مما يؤدي إلى انتقال هذه الجسيمات إلى المرحلة الغازية.
شكل 6-5: وصف تصويري لقانون دالتون للضغوط الجزئية طبع في «سجلات جمعية مانشستر الأدبية والفلسفية» في عام 1802. وفقا لنظرية دالتون، تتنافر جسيمات غاز واحد من غازات الغلاف الجوي (مثل الماء، والأكسجين، والنيتروجين، وثاني أكسيد الكربون) بعضها من بعض، لكن ليس من جسيمات الغازات الأخرى؛ ومن ثم يمكن خلط الغازات («متراكبة»، كما في أسفل الشكل) دون حدوث أي تفاعل فيما بينها؛ وهكذا يختلط الغلاف الجوي بحرية، دون انفصالها في طبقات. انظر الشكل
6-6 ، الذي يصور محاولة دالتون لشرح هذه الظواهر.
شكل 6-6: أشكال أغلفة السيال الحراري و«خطوط القوة» التي افترضها دالتون من أجل شرح سبب ضرورة نفور جزيئات الغاز المتماثلة بعضها من بعض، حتى تظل الغازات ذات الكثافات المختلفة مختلطة بدلا من انفصالها إلى طبقات في الغلاف الجوي (من كتاب دالتون «نظام جديد للفلسفة الكيميائية»، الجزء الأول، مانشستر، 1808).
ظهرت صورة توضيحية «لتفسير» دالتون الذكي لمشكلة التنافر بين الجزيئات المتشابهة في الجزء الثاني من كتابه «الفلسفة الكيميائية» (الشكل
6-6 ).
41
يظهر في الجزء العلوي من الشكل «أغلفة» من السيال الحراري تحيط بالجزيئات الغازية. (ملحوظة: كان ثمة اعتقاد بأن غاز الهيدروجين أحادي الذرة.) أما الجزء السفلي من الشكل، فيظهر سبب تنافر الجزيئات المتشابهة، مثل الأزوت (النيتروجين)، بعضها من بعض، بينما يوجد حياد متبادل بين الأنواع المختلفة من الجزيئات الغازية. نظرا لأنه عند درجة حرارة محددة يجب أن تصبح أحجام السيال الحراري و«أغلفته» المحيطة بكل جزيئات غاز الأزوت المتساوية الأبعاد، تكون خطوط القوة مصطفة بالكامل ويحدث التنافر.
42
وينطبق الأمر ذاته على التنافر بين جزيئات الهيدروجين. غير أن مثل هذا الاصطفاف التام لا يحدث بين الهيدروجين والأزوت؛ إذ توجد في مواضع مستقلة تماما، وتكون لها إسهاماتها المستقلة في الضغط الإجمالي للمزيج. وقد كان تنافر «الذرات» المتشابهة بعضها من بعض، وعدم تنافر «الذرات» المختلفة، أمرا حيويا بالنسبة إلى دالتون؛ نظرا لأن هذا كان من شأنه منع انفصال الغازات السائلة وتحولها إلى طبقات ترتب وفقا لكثافات الغازات.
لا يختلط الهواء على نحو متجانس على مستوى سطح البحر فحسب، بدلا من أن يتكون بالكامل أو في معظمه من غاز الأكسجين الأكثر كثافة، بل إن المزيج نفسه يوجد في طبقات مرتفعة في الغلاف الجوي. وقد كان هذا معروفا في الوقت الذي كان فيه دالتون يصوغ نظريته الذرية. وفي عام 1804، طار جوزيف لوي جاي-لوساك بمنطاد على ارتفاع 23 ألف قدم تقريبا فوق باريس، وجمع عينتين من الهواء، اتضح أن لهما نفس تركيب الهواء الموجود عند سطح البحر.
43
نحن نعرف حاليا أن طبقات التروبوسفير والستراتوسفير والميزوسفير، التي تمتد إلى نحو من 60 إلى 70 ميلا فوق الأرض، لها التركيب الكيميائي المتجانس نفسه في الأساس.
44
فيتحرك الأكسجين، والنيتروجين، وبخار الماء، وغيرها من غازات الغلاف الجوي بسرعات
45
أقل بكثير من السرعة المطلوبة للهروب من قوة جاذبية الأرض [11 كيلومترا/الثانية أو 22 ألف ميل/الساعة]
46
إن حقيقة تمتع هذه الجزيئات الغازية بقوة جذب ضعيفة بعضها تجاه بعض على نحو لا يكاد يذكر، والنزعة الطبيعية نحو زيادة الفوضى (زيادة الإنتروبيا) إلى أقصى حد، وتعرضها للامتزاج الدائم بفعل الرياح المدفوعة بدوران الأرض، تضمن الامتزاج التام لغازات الغلاف الجوي. ويصور الشكل
6-7
توزيعات سرعة الجزيئات الغازية البسيطة.
45
يظهر أخف غازين، وهما الهيدروجين والهليوم، توزيعات مختلفة جذريا مقارنة بالغازات الأخرى في هذا الشكل. وعلى الرغم من أن متوسط سرعاتها أقل بكثير من سرعة الهروب من الأرض، فإن «الجزيئات الشاذة» التي تتحرك بأقصى سرعة ستهرب إلى الفضاء، وبمرور الوقت تضيع هذه الغازات من الغلاف الجوي للأرض. وعليه، فإن الهيدروجين على الرغم من أنه أكثر العناصر وفرة في الكون، فإنه لا يوجد إلا بكميات ضئيلة للغاية في الغلاف الجوي للأرض نتيجة للعمليات المستمرة المرتفعة الطاقة التي تفصل جزيئات الماء. وبالمثل، ترجع الكميات القليلة للغاية من الهليوم في الغلاف الجوي إلى التحرير المتجدد للغازات من المواد المشعة التي تصدر جسيمات ألفا (نواة ذرة الهليوم).
شكل 6-7: توزيع سرعات جزيئات الغاز عند درجة حرارة 25 مئوية. لاحظ كم تكون السرعات أكبر بكثير في حالة جزيئات الهيدروجين وذرات الهليوم الفائقة الخفة؛ ومن ثم تهرب هذه المواد من الغلاف الجوي للأرض، على عكس الغازات الأثقل وزنا (مقتبس من كتاب براون وآخرين «الكيمياء : العلم المركزي»). (5) إنها كيمياء رائعة تلك التي نقدمها إليك!
شكل 6-8: تعلم د. بنجامين راش على يد د. جوزيف بلاك في جامعة إدنبرة، وفي عام 1769، حصل على أول كرسي في الكيمياء في أمريكا، في جامعة بنسلفانيا. يعرض هذا الشكل صفحة العنوان لمنهجه الدراسي (من كتاب «الكيمياء في أمريكا» لسميث). كان د. راش أحد الموقعين على إعلان الاستقلال الأمريكي، وعمل مع بنجامين فرانكلين، الذي وقع معه على الوثيقة، على إتقان صنع نترات البوتاسيوم.
تعتبر فيلادلفيا مهد الكيمياء في أمريكا، بيد أن جذور الكيمياء في فيلادلفيا تمتد إلى عصر التنوير الاسكتلندي وجامعة إدنبرة على وجه التحديد؛ فقد قضى ديفيد هيوم وآدم سميث جزءا كبيرا من حياتهما في إدنبرة، ويشير المؤرخ جان جولينسكي إلى «بيئتها المحلية المشجعة»، ويستشهد بتوبياس سموليت، الذي أطلق عليها «منبت العبقرية».
47 ،
48
منح الدكتور بنجامين راش بجامعة بنسلفانيا أول كرسي في الكيمياء في أمريكا في عام 1769 (انظر الشكل
6-8
للاطلاع على صفحة العنوان لمنهج محاضراته في عام 1770).
49 ،
50
شارك راش مع بنجامين فرانكلين في التوقيع على إعلان الاستقلال، وحصل على شهادة الطب من جامعة إدنبرة، ودرس الكيمياء مع د. جوزيف بلاك.
51
وبالطبع كان أهم اكتشافات بلاك هو عزل «الهواء المثبت» (ثاني أكسيد الكربون)، ووصف تركيبه، ونشر في عام 1756. ومع ذلك، يتمثل أحد إسهاماته الكبرى الأخرى في تأثيره على طلابه الذين حضروا محاضراته الواضحة والمتجددة. وقد نشرت الملاحظات المأخوذة من محاضرات بلاك بعد وفاته على يد تلميذه جون روبيسون في عام 1803.
52
درس كل من صمويل لاثام ميتشل، وجون ماكلين، وبنجامين سيليمان الأب؛ أول أساتذة الكيمياء في جامعة كولومبيا (1792)، وبرينستون (1795)، وييل (1802)، جميعهم مع بلاك في إدنبرة.
53 ،
54
قبل تعيين راش، كان أول من درس الكيمياء جزءا من المقرر الدراسي في كلية الطب بجامعة بنسلفانيا جون مورجان، الذي تعلم الكيمياء، بالطبع، من بلاك في إدنبرة.
55
من الإنصاف أن نذكر أن ثمة مستعمرات أخرى بجانب بنسلفانيا أظهرت اهتماما مبكرا بالكيمياء. وفي الواقع، أسهم جيفرسون من فيرجينيا، وآدامز من ماساتشوستس بآراء راسخة إلى حد كبير.
56
كما أن جيمس ماديسون ، الواضع المستقبلي للدستور والرئيس الرابع للولايات المتحدة، أدرج الكيمياء ضمن محاضراته عن الفلسفة الطبيعية في كلية ويليام وماري، حتى إنه نشر خطابا عن تجاربه الكيميائية في منتجع «سويت سبرينجز» في منشور «معاملات الجمعية الفلسفية».
57
درس د. بلاك الكيمياء في جامعة جلاسكو في مختبر ويليام كولين (1710-1790)،
58
وانتقل إلى إدنبرة مع كولين، وقدم رسالة الدكتوراه في عام 1754.
51
خلف بلاك كولين أستاذا للكيمياء في جلاسكو في عام 1756، وفي إدنبرة في عام 1766. تعلم كولين الكيمياء من خلال قراءة أعمال بورهاف في ترجمتها الإنجليزية. وضمت أعمال كولين الأصلية دراسات عن التبييض وصناعة الملح، وعمل في مقاله
59 «عن صنع البرودة بتبخير السوائل، وبعض الطرق الأخرى لصنع البرودة»، على توسيع دراسات بورهاف عن قياس درجة الحرارة:
عند غمس ترمومتر في مشروب كحولي، رغم أن درجة حرارة المشروب كانت هي نفسها درجة حرارة الهواء المحيط به، أو أبرد إلى حد ما؛ فعند إخراج الترمومتر من المشروب، وتركه في الهواء، كان الزئبق الموجود في الترمومتر، الذي صنعه فهرنهايت، دائما ما ينخفض درجتين أو ثلاث.
كانت فيلادلفيا موطن أول جمعية كيميائية، والتي تأسست في عام 1789، على يد جون بينينجتون، الذي درس الكيمياء في إدنبرة.
55
بعد عامين، أسس جيمس وودهاوس، أحد تلاميذ راش؛ ومن ثم «الحفيد الكيميائي» لبلاك، الجمعية الكيميائية في فيلادلفيا.
55
وفي عام 1794، حاول راش إقناع جوزيف بريستلي، الذي تعرض للاضطهاد بسبب معتقداته السياسية، بترك إنجلترا والاستقرار مرة أخرى في فيلادلفيا، مسقط رأس صديق عمر بريستلي، بنجامين فرانكلين، الذي كان قد توفي حينئذ.
60
في النهاية اختار بريستلي الذهاب إلى نورثمبرلاند التي يغلب عليها الطابع الريفي. باختصار، ألا يصح وضع اثنين من أهم المصادر للمؤرخين الكيميائيين في أمريكا - مجموعة إدجار فاهس سميث بجامعة بنسلفانيا، ومؤسسة التراث الكيميائي - في مدينة الحب الأخوي؟ (6) «الطقس حار كالجحيم ... في فيلا-دل-فيا»
61
كما ذكرنا من قبل، كان الطقس حارا على نحو غير مسبوق تقريبا، وكان مختبره في مواضع متنوعة منه يتوهج على الدوام بالفحم المشتعل والأفران الحارة المشتعلة، والبوتقات، والسبطانات، وكان كل جزء منه مغطى غالبا بالبخار المتصاعد من الماء المغلي. ونادرا ما كانت درجة حرارة الهواء فيه، في أثناء النهار، تقل عن 110 إلى 115 فهرنهايت؛ وربما حتى أعلى من ذلك في بعض الأحيان.
كنت أزور الأستاذ يوميا تقريبا في منزل السلمندر هذا، وكنت دوما ما أجده على الوضع نفسه - لا يرتدي إلا قميصا وبنطالا صيفيين، وزر ياقته مفتوح، وأكمامه مطوية لما فوق مرفقيه، فيما يتدفق العرق بغزارة على وجهه وجسمه، وملابسه بالكامل تقطر بللا من السائل نفسه. إضافة إلى ذلك، كان هو نفسه بسبب انشغاله طوال الوقت إما بإجراء عملياته فعليا، أو مراقبتها عن كثب والإشراف عليها، موجودا معظم الوقت في أكثر البقع سخونة في مختبره أو بالقرب منها.
كانت تحيتي له عند دخولي في هذا الدفق من الحرارة الشبيه بنهر الفليجيثون
62
على الدوام: «يا إلهي، دكتور، كيف يمكنك تحمل البقاء طوال الوقت في غرفة ساخنة هكذا! إنه مكان مثالي للتطهر من الخطايا!» وكان الرد الذي أتلقاه عادة على هذا التساؤل الذي يحمل في متنه نبرة الاستفهام والتعجب في آن واحد له ذات الفحوى: «ساخنة يا سيدي، ساخنة! هل تسمي هذه غرفة ساخنة؟ كيف يا سيدي؟ إنها واحدة من أبرد الغرف في فيلادلفيا. إن انبعاث الأبخرة، يا سيدي، واحد من أكثر العمليات المبردة. ثم ألا ترى كيف ينبجس العرق من جسمي، حاملا معه كل السيال الحراري؟ وألا تعلم، يا سيدي، أنه بواسطة انبعاث الأبخرة، يمكن إنتاج الثلج تحت أشعة الشمس في أكثر الأجواء حرارة؟»
هكذا كتب بنجامين سيليمان الأب في الفترة (1802-1803) التي قضاها في حضور محاضرات الكيمياء وزيارة د. جيمس وودهاوس (الطبيب)، أستاذ الكيمياء بجامعة بنسلفانيا،
63
علما بأن سيليمان صار أستاذا للكيمياء بجامعة ييل بعد ذلك. والإشارة إلى «السلمندر» تستدعي إلى الأذهان حيوان السلمندر الأسطوري المقاوم للنار في المعتقدات الخيميائية (الشكل
1-21 ). وكما ذكرنا مسبقا؛ فقد أسس وودهاوس، قبل عقد من هذا ، الجمعية الكيميائية في فيلادلفيا،
64
وكانت محاضراته حماسية، إن لم تكن مشوقة للغاية، ويشير سيليمان إلى أنه «كان يأتي، عند إلقاء محاضرته، كما لو كان غير مطمئن، كما لو كان خائفا بعض الشيء من ألا يحظى بالكثير من التقدير؛ إذ لم يكن فعليا يحظى بتقدير كبير للدرجة.»
63
ومع ذلك، كانت تجاربه فعالة حتى باستخدام جهاز «متواضع» تميز بتكلفته المعقولة. وفي الواقع، يصور الشكل
6-9 «جهاز د. وودهاوس الاقتصادي»؛ وهو «مختبر متنقل، يضم أحد أجهزة الفلسفة الطبيعية، وعددا كبيرا من العوامل الكيميائية، يمكن لأي شخص إجراء عدد لا حصر له من التجارب المتنوعة الممتعة والتعليمية بواسطته.» يظهر الجهاز الموضح في الشكل
6-9
في ملحق الطبعة الأمريكية الأولى (فيلادلفيا، 1802) لكتاب «كتاب الكيمياء للجيب»
65
من تأليف د. جيمس باركنسون (الطبيب)، الذي وصف مرض الجهاز العصبي المركزي الذي يحمل اسمه. وبعد إعلانه عن المجموعة الكبيرة من التجارب التي يمكن إجراؤها باستخدام «جهازه الاقتصادي»، يشير د. وودهاوس إلى عيوب المختبر المتنقل المنافس لجيتون دو مورفو، على سبيل المثال:
66
إنه أقل تكلفة. إن مصباح جهاز جيتون واحد من أسوأ الأنواع لمختبر كيميائي. ولا مجال لوجود عدد من البراغي، لرفع المقطرة المعوجة أو المصباح أو خفضهما؛ نظرا لإمكانية توليد حرارة مرتفعة أو منخفضة، من مجرد رفع الفتيل أو خفضه.
بصرف النظر عن الدعاية، كان د. وودهاوس أحد أكثر الكيميائيين احتراما وتوقيرا في عصره، وكان أول رئيس للجمعية الكيميائية في فيلادلفيا (1792). وبوصفه معاديا للفلوجستون، انتقد حجج د. جوزيف بريستلي المؤيدة للفلوجستون، التي لخصت في كتيب الأخير الصادر في عام 1796، الذي نشر في فيلادلفيا، وأعيدت طباعته في لندن، التي فر منها قبل ذلك ببضع سنوات قليلة.
67
على سبيل المثال، أشار وودهاوس إلى أنه عندما كلس المعادن في وجود «الهواء النقي» (الأكسجين)، انخفض الحجم، لكن «لم أستطع إدراك أن الهواء الذي تبقى كان متضررا.»
68
إذا نظرنا إلى الأمر من وجهة النظر الفلوجستونية، فإن التكلس يجعل المعادن تطلق ما بها من فلوجستون في الهواء حتى يصبح الهواء مشبعا تماما بالفلوجستون، ولم يعد قادرا على دعم اللهب أو الحياة (فيكون الهواء «ساما» أو مميتا). غير أن الوضع ليس كذلك كما هو واضح؛ فعند وجود كمية زائدة من الأكسجين، تمتص المعادن كمية محددة من هذا الغاز، تاركة خلفها كما أصغر من الأكسجين بالدرجة نفسها من النقاء.
شكل 6-9: أسس د. جيمس وودهاوس، أستاذ الكيمياء بجامعة بنسلفانيا الجمعية الكيميائية بفيلادلفيا. وكانت له أيضا سلسلة محاضرات مربحة باع من أجلها جهازه الكيميائي، الذي صرح بأنه يتفوق على الجهاز الذي اخترعه جيتون دي مورفو في فرنسا، وأقل منه تكلفة. (من كتاب باركنسون، «كتاب الكيمياء للجيب»، 1802.)
ومع ذلك، لم يكن وودهاوس شخصا عقائديا؛ إذ ظلت لديه بعض الشكوك بشأن «الكيمياء الجديدة» الصادرة من فرنسا، وكان قلقا بشأن بريستلي المسن. وقد وردت الفقرة التالية في خطاب جاء ردا على هجوم من د. جون ماكلين، الأستاذ بجامعة برينستون:
69
يمكن تكوين حكم على مدى نجاحك في تحقيق هدفك، وبأي حق تصدر حكما سلبيا على تجارب د. بريستلي بالطريقة المستبدة التي انتهجتها، في حين أنك لم تفعل شيئا يذكر، بالمواصفات التالية؟ ومع ذلك، فأنت لم تستطع بعد، يا دكتور، هزيمة هذا الخبير المحنك في الفلسفة.
في كتاب «كتاب الكيمياء للجيب» في عام 1802، كتب د. وودهاوس
66
ملحقا بعنوان: «سرد للاعتراضات الرئيسة على نظام الكيمياء المناهض للفلوجستون». على سبيل المثال، يثبت وودهاوس بالتجربة صحة تجربة لبريستلي تمتزج فيها «كفتان من الحديد» ملتهبتان (أكسيد الحديد الخالي من الماء، ومن ثم، من الهيدروجين)، مع فحم ملتهب (خال بالمثل من الماء؛ ومن ثم من الهيدروجين)، وتكون النتيجة غازا قابلا للاشتعال (هيدروجين أي فلوجستون؟ غاز هيدروجيني مكربن؛ أي الميثان؟) ومن ثم، لا بد أن الغازات التي نتجت قد أزالت بعض الفلوجستون (الهيدروجين) من الفحم (ومكمن الالتباس هنا أن معظم الغاز الناتج يكون أول أكسيد الكربون، وهو غاز قابل للاشتعال).
أسهمت الدقة والصرامة البالغتان في عمله - دون شك - في وفاة د. وودهاوس المبكرة، والذي أشار سيليمان إلى أنه لم «يستفد قط أيا من الحقائق التي كشفت عنها الكيمياء، من أجل شرح طبيعة الخالق كما ظهرت في أعماله.» وأطلق عليه د. بنجامين راش، معلمه السابق، ببساطة «ملحدا صريحا ووقحا»
63
في عام 1809 في سن التاسعة والثلاثين. (7) اثنا عشر سنتا نظير محاضرة كيمياء
كان أموس إيتون، إيه إم، رجلا كثير المشاغل؛ فوصف نفسه في كتابه الصادر في عام 1826 بعنوان «معلم الكيمياء»
70
بأنه «محام ومستشار في القانون، وأستاذ في الكيمياء والفلسفة الطبيعية في كلية رينسلير وفي أكاديمية فيرمونت للطب ... إلخ.» وبوصفه محاضر كيمياء تجاريا اتبع الدرب الذي ارتاده أمثال هنري مويس، الطبيب، الذي نشر إعلانا عن سلسلة محاضراته الواقعة في واحد وعشرين جزءا، «عناوين لمجموعة من المحاضرات عن فلسفة الكيمياء ...» في عام 1784 نظير جنيه إنجليزي واحد (أو شلن واحد نظير كل محاضرة)
71
في صحيفة «ماساتشوستس سينتنيال». إليك منهج السيد إيتون (وأعتقد أننا نعلم نص من الذي استخدمه):
72
مجموعة محاضرات مقسمة إلى ثلاث وثلاثين محاضرة
المحاضرة الأولى حتى صفحة 22.
الثانية حتى صفحة 26.
الثالثة حتى صفحة 32.
الرابعة حتى صفحة 38.
الخامسة حتى صفحة 42.
السادسة حتى صفحة 48.
السابعة حتى صفحة 54.
حتى صفحة الثامنة 60.
التاسعة حتى صفحة 66.
العاشرة حتى صفحة 70.
الحادية عشرة حتى صفحة 76.
الثانية عشرة حتى صفحة 82.
الثالثة عشرة حتى صفحة 88.
الرابعة عشرة حتى صفحة 94.
الخامسة عشرة حتى صفحة 102.
السادسة عشرة حتى صفحة 112.
السابعة عشرة حتى صفحة 119.
الثامنة عشرة حتى صفحة 125.
التاسعة عشرة حتى صفحة 130.
العشرون حتى صفحة 137.
الحادية والعشرون حتى صفحة 144.
الثانية والعشرون حتى صفحة 152.
الثالثة والعشرون حتى صفحة 159.
الرابعة والعشرون حتى صفحة 165.
الخامسة والعشرون حتى صفحة 175.
السادسة والعشرون حتى صفحة 180.
السابعة والعشرون حتى صفحة 190.
الثامنة والعشرون حتى صفحة 199.
التاسعة والعشرون حتى صفحة 211.
الثلاثون حتى صفحة 224.
الحادية والثلاثون حتى صفحة 239.
الثانية والثلاثون حتى صفحة 246.
الثالثة والثلاثون حتى صفحة 249.
سعر هذه المجموعة 4 دولارات. وإذا اختصرت إلى 22 محاضرة، يكون سعرها 3 دولارات.
لم يكن السيد إيتون ليثقل كاهل طلابه أبدا بنظريات غامضة عن مركبات عديمة الفائدة:
من المؤسف أن معظم الأطروحات الشهيرة عن الكيمياء تخصص قدرا كبيرا للغاية من صفحاتها لمركبات عديمة الفائدة، لا يمكنها أبدا أن تعود بالنفع على الدارس أو الشخص العادي؛ لا سيما المركبات التي لا حصر لها التي تحتوي على الكلور واليود، التي يمكن مضاعفتها وتوسيع نطاقها في ظل وجود أي مادة أخرى. فهذا بالتأكيد أمر تافه بالنسبة للمخزون الغني من المعرفة الإنسانية. ضع مثل هذه الأعمال بين يدي أحد الطلاب، واطلب منه وضع كامل ثقته في المؤلفين، وسيؤدي هذا إلى تكوينه آراء غريبة عن العلم؛ فقد يتخيل أن نظرية ديفي عن الكلور واليود شكلت علم الكيمياء بأكمله، وأن الحصول على مزيد من المعرفة عن الموضوع، رغم عدم وجود أهمية بالغة لهذا، يجب أن تكون في صورة تكملة مناسبة لنظرية الكلور واليود. وحتى مع الاعتراف بأن كل نظريات ديفي كانت مدعمة جيدا، أليست هذه النظريات التافهة بلا أي أهمية تماما مثل أصغر الحشرات التي عرفها الإنسان؟ فأنا أفضل أن أهيئ الطالب، بدلا من هذا، لحفظ كل تعويذات العصور الوسطى، أو عدد الطرق التي يمكن بها ترتيب حروف الأبجدية.
حسنا، من قال إن تلبية رغبات طالب يدفع مصاريف تعليمه مجرد ظاهرة حديثة؟ إضافة إلى أننا لطالما كنا أمة عملية؛ استمع إلى ما قاله الرئيس توماس جيفرسون في عام 1805:
73 ،
74
لقد ملأ علماء الكيمياء مجلدات بتركيب آلاف المواد التي لا أهمية لها على الإطلاق لمقاصد الحياة؛ في حين تظل فنون صناعة الخبز، والزبد، والجبن، والخل، والصابون، والجعة وعصير التفاح وغيره بلا تفسير.
تشير «نظرية ديفي عن الكلور واليود» إلى دراساته المتأنية التي استمرت لنحو 10 سنوات قبل ظهور كتاب إيتون. وقد أثبتت هذه الدراسات أن الكلور واليود عنصران خالصان، وأن حمض الهيدروكلوريك وحمض الهيدرويوديك (
HI ) لا يحتويان على الأكسجين، وأن نظرية لافوازييه القائلة إن كل الأحماض تحتوي على الأكسجين غير صحيحة؛ وهي استنتاجات ربما أعظم بكثير من «أصغر الحشرات التي عرفها الإنسان.» غير أن إيتون كان يقف على الطرف الآخر من المحيط الأطلنطي من ديفي، وعلى الأرجح كان بإمكانه الدفاع عن نفسه ببراعة لو لجأ ديفي المريض إلى رفع دعوى تشهير. في الواقع، أنهى ديفي أيامه الأخيرة بالصيد، ونشر كتابه «سالمونيا: أو أيام الصيد بالحشرات» في عام 1828، قبل عام من وفاته، غير مدرك على نحو مناسب الانتقادات الصادرة من براري منطقة شمال نيويورك وفيرمونت.
في الواقع، مرت حياة أموس إيتون المهنية ببعض المنعطفات والمنحنيات المذهلة؛
75
فقد ولد في بلدة تشاتهام، نيويورك، في عام 1776، ودرس إيتون القانون في كلية كولومبيا، وكان أول من أثار اهتمامه بالكيمياء صمويل لاثام ميتشل، ونجح في اختبار مزاولة مهنة المحاماة في عام 1802. مارس القانون وزاول العمل التجاري وأدين بالتزوير استنادا إلى أدلة لفقها له بعض من أعدائه، وسجن في عام 1811، وحصل على عفو من الحاكم تومبكينز في عام 1815 بموجب تعهد منه بعدم العودة أبدا إلى ولاية نيويورك. وانتقل إلى مدينة نيو هافن، وتعلم الكيمياء من بنجامين سيليمان في ييل، وأصبح محاضر كيمياء متجولا عبر بلدات نيو إنجلاند وقراها، حتى إنه كان يتجرأ أحيانا على العبور إلى ولاية نيويورك. وذاعت شهرته؛ فقد دعاه حاكم نيويورك الجديد، ديويت كلينتون، لإلقاء محاضرات على المشرعين، والتقى بالثري ستيفن فان رينسيلير، الذي أسس جامعة رينسيلير في الأساس من أجل توفير مكان لهذا المحاضر الموهوب في الكيمياء والجيولوجيا. ويعتبر معهد رينسيلير للتقنيات المتعددة حاليا جامعة بحثية تحظى باحترام واسع النطاق، وتتولى رئاسته عالمة فيزياء أمريكية من أصل أفريقي، هي د. شيرلي جاكسون، في وقت كتابة هذا المقال. وحصل معهد رينسيلير للتقنيات المتعددة للتو على تبرع غير مشروط قدره 300 مليون دولار؛ وهو مبلغ لا بأس به لجامعة ريفية كان أول أستاذ كيمياء بها مزور مدان.
شكل 6-10: استهل روبرت بيست إيده كتالوجه المصور المكون من 48 صفحة بكتاب دراسي عن الكيمياء يتكون من 193 صفحة. ولكن كانت المبيعات هي الهدف الرئيس؛ وإليك بداية كتالوجه المصور (من كتاب إيده «حقائق عملية في الكيمياء»، لندن، 1839، 1837).
شكل 6-11: «جهاز الكيمياء للطلاب» لإيده عام 1837 (انظر الشكل
6-10 ).
شكل 6-12: تجربة إيده الطلابية البسيطة والراقية من أجل الحصول على ثلاثي أكسيد ثنائي النيتروجين - غير المستقر إلى حد كبير ذي اللون الأزرق الداكن، والذي لا يتحلل إلا عند درجة حرارة 3 مئوية - وحبسه في درجة حرارة صفر مئوية. ما زالت هذه تجربة جيدة في عصرنا الحالي، بعد مرور نحو 170 سنة (انظر الشكل
6-11 ).
ازدهر العمل التجاري الكيميائي في أوائل القرن التاسع عشر. وفي كتاب «حقائق عملية في الكيمياء»، ألف روبرت بيست إيده كتابا تعليميا صغيرا، يعتبر مقدمة افتراضية من 193 صفحة لكتالوجه المصور المكون من 48 صفحة «سلسلة روبرت بيست إيده للمختبرات والصناديق الكيميائية ...» نشر في لندن في عام 1837 (انظر الشكل
6-10 ).
76
وأضيفت إلى هذا الكتالوج المصور أربع صفحات من التوصيات والشهادات تضم مجلات، وصحفا، وعلماء كيمياء مشاهير، مثل توماس جراهام، أستاذ الكيمياء في جلاسكو (لقد أتيحت لي فرصة إلقاء نظرة على محتويات مختبر السيد إيده المتنقل، وأعجبت به كثيرا)، وتوماس كلارك، الطبيب، بجامعة أبردين (إنني أعتبر مختبر السيد إيده المتنقل اختيارا زهيد الثمن ومفيدا للغاية للطلاب في مجال الكيمياء التجريبية)؛ وكان هذا، في الواقع، إطراء كبيرا من رجل اسكتلندي.
لاحظ الجهاز العملي البسيط الموضح في الشكل
6-11 . تشكل المقطرة المعوجة الكروية ووعاء استقبال بسيط أنبوبي الشكل لاستقبال المواد المقطرة (القطعة 14) جهازا من قطعتين من الأنابيب الزجاجية. تصنع المقطرة المعوجة عن طريق ثني أنبوب بعض الشيء، وغلق أحد طرفيه، والنفخ فيه لتكوين فقاعة في الطرف المغلق في أثناء تسخين الأنبوب.
77
أما وعاء الاستقبال الأنبوبي، فهو منحن قليلا وشبه مغلق، مع ترك فتحة ضيقة للغاية من أجل خروج الغازات والأبخرة. يتصل الوعاءان معا بإحكام باستخدام معجون من دقيق بذر الكتان، أو بأنبوب من شرائح الكاوتشوك (المطاط الطبيعي). ويوضح استخدام هذا الجهاز في الشكل
6-12 .
77
يغمس الجزء المنحني من المستقبل الأنبوبي في ماء مثلج، وتوضع نترات الرصاص [
3 )
2 ] في المقطرة المعوجة، وتوصل قطع الجهاز معا، وتسخن المقطرة المعوجة باستخدام مصباح كحولي من أجل تكوين أكاسيد مختلطة، ويتجمع محلول من حمض النيتروز في الجزء المنحني من وعاء الاستقبال الأنبوبي. وعند وضع مقدار صغير للغاية من هذا السائل في أنبوب اختبار جاف وتضاف إليه قطرة واحدة من الماء المقطر، يظهر لون أزرق داكن، ربما نتيجة لوجود ثلاثي أكسيد ثنائي النيتروجين (
N
2
O
3 ) - وهي مادة غير شائعة وغير مستقرة نسبيا تتحلل عند درجة حرارة 3,5 درجة مئوية.
78
إذا نرى هنا بعضا من التجارب الكيميائية الراقية تجرى في جهاز زهيد الثمن مصنوع من أنبوبين زجاجيين ومعجون من دقيق بذر الكتان.
هوامش
الجزء السابع
التخصص والتنظيم
(1) الجيود
1
حفظت الإيقاعات والقوافي والصور الشعرية التراث الشفهي منذ العصور القديمة، وهي ترسخ الأفكار بقوة في أذهاننا. إذا لماذا لا نطبق أداة التعلم هذه على التعليم المعاصر؟ ومن ثم، يوجد لدينا مجلدان صغيران يحملان اسم «فيرنريا» نشرا في عامي 1805 و1806 على يد «تيرا فيليوس» (بمعنى «المزارع ابن الأرض المحب»).
2 ،
3
تشير كلمة «فيرنريا» إلى أبراهام فيرنر، وهو عالم جيولوجيا ألماني كان يعتقد أن كل الصخور نشأت في المحيطات (المدرسة النبتونية)، لكنه كان «محاضرا بارعا في الجيولوجيا».
4
إن مؤلفنا الغامض هو الكاهن ستيفن ويستون (1747-1830)،
5
وهو شاعر وأديب، ولديه نطاق واسع من الاهتمامات على نحو مذهل. وعقب وفاة زوجته الشابة في حوالي عام 1790، كرس ما تبقى من حياته للفن والأدب.
5
واشتملت أعماله على ترجمات من اللغات اللاتينية، والفرنسية، والعربية، والفارسية، والصينية، ومناقشات للأسفار والأفكار الدينية. ويقال إنه «عاش بضع سنوات بين أعضاء جمعية الديلتانتي (جمعية من النبلاء والعلماء لدراسة الفن الروماني والإغريقي القديم) في لندن»، و«حظي بدائرة من المعجبات أرضت غروره».
5
في مقدمته لكتاب «فيرنريا»،
2
استشهد ويستون بأرسطو: «هل لأن البشر، قبل اكتشافهم فن الكتابة، كانوا يتغنون بقوانينهم، كانوا لا ينسونها؟» وهكذا يطبق مهاراته الفنية في تعليم علم المعادن.
ماذا عن هذا الوصف الشعري لقطعة من الألماس الذي يستعرض بعضا من خواصها الفيزيائية، ويعرفنا أن الألماس كربون خالص؛ فينتج عن احتراقه ثاني أكسيد الكربون مع عدم وجود أي بقايا أخرى؟
2
في الصلابة والتألق والشفافية
تفوق الماسة كل المعادن،
تعرف بالأسود، الأصفر، الأخضر، الأزرق، البني، الرمادي،
وبلونها الشفاف توجد في رمال الكوارتز
بحبيبات مسطحة، أو مستديرة، أو أحيانا مكعبة الشكل،
لكن بأضلع ثمانية أو اثني عشر،
تكون معتادة الشكل بملمس براق، لكنه ليفي أيضا،
دون انتظام ملحوظ؛ وإلى أشعة الشمس تعرض،
فينبعث من الماسة وميض فوسفوري،
وعند احتكاكها تصدر شرارات كهربائية؛
وأي حجر كريم آخر من ساحل جولكوندا الغني بخلاف هذه الجوهرة
يمكنه التحول إلى حمض الكربون،
دون ترك أي مخلفات وراءه؟
وإليك الآن وصفا للجير (
CaO ، أكسيد الكالسيوم أو الجير الحي)، المستخلص من تسخين كربونات الكالسيوم (الحجر الجيري)، الذي كان المادة الرابطة الأساسية في الخرسانة حتى أوائل القرن التاسع عشر. يمكن للجير الاتحاد مرة أخرى مع ثاني أكسيد الكربون، فيصبح شديد القلوية، لكن الرطوبة تحوله، مع تولد الحرارة، إلى مسحوق أكثر اعتدالا من هيدروكسيد الكالسيوم:
يستخرج هذا التراب من كربونات الجير
لعدة استخدامات، وبالتعرض
لحرارة مستمرة يظهر في شكل أسمنت،
أو مسحوق؛ لونه أبيض، ومذاقه ساخن،
وحاد، ولاذع؛ وعند إذابته في الماء
سيحول لون الخضراوات الأزرق إلى الأخضر،
وعند تعريضه في شكل أسمنت للهواء
يفقد قوة تماسكه؛ لكن عند امتصاصه غاز
الكربون من الهواء
يستعيد كامل صلابته الأصلية.
أضف الرطوبة فيعود إلى مسحوق،
ويلمع في الظلام، وينبعث سياله الحراري،
ويصبح خفيفا ومعتدلا ضعف ما كان عليه،
وغير قابل للانصهار في حد ذاته، ويصهر كل العناصر الأخرى،
ويذوب مع البورق وملح الإنسان،
ولا يفور.
شكل 7-1: جهاز همفري ديفي لقياس مقدار الحجر الجيري في التربة. يطلق حمض الكبريتيك مكافئا واحدا من ثاني أكسيد الكربون من مكافئ من الحجر الجيري. يملأ الغاز بالونا، ويحل محل وحدة حجم من الماء تقاس من أجل تحديد حجم الغاز الناتج (من كتاب ديفي «الكيمياء الزراعية»، لندن، 1813).
ينتشر الحجر الجيري على نطاق واسع في التربة، ونعرض في الشكل
7-1
الجهاز الذي صممه همفري ديفي
6
من أجل قياس مدى وفرته. يضاف حمض الكبريتيك الموجود في الجزء
B
قطرة بقطرة إلى التربة الموجودة في الوعاء
A . ينتقل ثاني أكسيد الكربون الناتج عبر الجزء
G ، ويتجمع داخل البالون الموجود داخل الوعاء
E
المملوء بالماء، ويقاس حجم التمدد في الأسطوانة
D . (2) «أفكار الكيمياء» بالألوان
شارك ثيوفيل جولز بيلوز (1807-1867)
7
وإدموند فريمي (1814-1894)
7
في تأليف واحد من أروع كتب الكيمياء المصورة في القرن التاسع عشر، بعنوان «أفكار عامة في الكيمياء».
8
كان بيلوز طالبا لدى جاي-لوساك في المدرسة المتعددة التقنيات في باريس، ويصف بارتينجتون ظروفه المعيشية فيقول: «كان مسكنه صغيرا للغاية، حتى إنه كان يقول ساخرا إنه اكتشف ضرورة فتح النافذة حتى تتوفر له مساحة لارتداء معطفه؛ وكان يتناول الخبز والماء على العشاء، ويقول إن هذا يعمل على تصفية الذهن.»
7
خلف بيلوز جاي-لوساك في النهاية في المدرسة المتعددة التقنيات كما خلف فيما بعد تينار ودوما في كلية فرنسا، وفي عام 1848 أصبح رئيس لجنة صك العملة. وفي عام 1838 كان بيلوز أول من يجري تفاعلا بين حمض النيتريك والقطن، وأنتج عفويا نترات السليلوز القابلة للاشتعال. ومع ذلك، كان كريستيان فريدريك شونباين، هو من أنتج، بعد ذلك بثمانية أعوام، نترات السليلوز الشديدة الاشتعال، وهي مادة متفجرة تعرف باسم «القطن المتفجر»، باستخدام مزيج من حمضي النيتريك والكبريتيك.
9
بدأ فريمي حياته المهنية في الكيمياء مساعدا أول لبيلوز في المدرسة المتعددة التقنيات، وعين فيما بعد أستاذا في هذا المعهد، وكذلك في متحف التاريخ الطبيعي. وفي اليوم نفسه الذي كان يفترض فيه شغل منصب بيلوز في كلية فرنسا عن طريق الانتخابات، في عام 1850، قرأ فريمي بحثا يهاجم الخليفة المفضل على نطاق واسع، أوجست لورينت، ولم تنتخبه الأكاديمية الفرنسية للعلوم. وتوفي لورينت بسبب سوء حالته الصحية بعد أقل من ثلاثة أعوام في سن الرابعة والأربعين.
10
ربما كان فريمي أول من ينتج قدرا ضئيلا من الفلور، ويحافظ عليه عن طريق تحليل فلوريد الكالسيوم بالكهرباء في عام 1854.
11
ومع ذلك، عزل تلميذه هنري مواسان الفلور، مستفيدا من تجارب معلمه، في عام 1886، وحصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1906.
11
انبهر فريمي بألوان أملاح الكوبالت التي اقترح لها تسمية مبتكرة (واندثرت منذ زمن طويل).
12
ولعل هذا الانبهار بالألوان هو ما أدى إلى ظهور هذا الكتاب الرائع.
شكل 7-2: صورة بالأبيض والأسود لصورة ملونة من الطبعة الأمريكية (1854) لكتاب «أفكار عامة في الكيمياء» لثيوفيل جولز بيلوز وإدموند فريمي. انظر الصور الملونة. يظهر في الصورة 1 تجربة لافوازييه الكلاسيكية لأكسدة الزئبق التي تشتمل على التقطير المرتد للزئبق في الهواء. أما الصورة 2، فتوضح أكسدة سلك من الحديد باستخدام لهب في أكسجين نقي . وتوضح الصورة 3 التسخين الشديد لثاني أكسيد المنجنيز من أجل إنتاج الأكسجين - وهي تجربة كان شيله أول من أجراها.
شكل 7-3: صورة بالأبيض والأسود لصورة ملونة من الطبعة الأمريكية (1854) لكتاب «أفكار عامة في الكيمياء» لبيلوز وفريمي. انظر الصور الملونة. يظهر في الصورة 4 احتراق الفوسفور في الهواء مخلفا وراءه نيتروجينا غير متفاعل. أما الصورة 5، فتظهر توليد الهيدروجين عبر تفاعل الزنك وحمض الكبريتيك - وهو عمل نشره لأول مرة هنري كافنديش في عام 1766. وفي الصورة 6 نرى تحليل لافوازييه للماء باستخدام سلك حديدي في أنبوب خزفي يسخن حتى التوهج في فرن (انظر الشكل
5-17 ).
شكل 7-4: صورة بالأبيض والأسود لصورة ملونة من الطبعة الأمريكية (1854) لكتاب «أفكار عامة في الكيمياء» لبيلوز وفريمي. انظر الصور الملونة. يظهر في الصورة 7 عملية لتركيب الماء تشتمل على توليد الهيدروجين واحتراقه في الهواء. وتظهر الصورة 8 مولدا ذكيا ذاتي التحكم لغاز الهيدروجين. وتوضح الصورة 9 جهاز تقطير على نطاق مخبري مناسب للطلاب.
شكل 7-5: صورة بالأبيض والأسود لصورة ملونة من الطبعة الأمريكية (1854) لكتاب «أفكار عامة في الكيمياء» لبيلوز وفريمي. انظر الصور الملونة. يظهر في الصورة 10 جهاز تقطير على نطاق صناعي يتكون من غلاية نحاسية مغطاة بغطاء معدني. أما الصورة 11، فتوضح جهاز التقطير ذا الشكل العصري للغاية المبرد بالمياه، الذي صممه جاي-لوساك.
شكل 7-6: صورة بالأبيض والأسود لصورة ملونة من الطبعة الأمريكية (1854) من كتاب «أفكار عامة في الكيمياء» لبيلوز وفريمي. انظر الصور الملونة. في الصورة 12 يحترق الفوسفور، المتدلي من سلك، مصدرا وميضا شديدا يعمي الأبصار في وجود أكسجين خالص. وتظهر في الصورة 13 ألماسات تتكون من كربون خالص تماما مثل معدن الجرافيت المتواضع، وتمثل أحد المتآصلات الأخرى للكربون، وتختلف تماما عن الياقوت والأحجار الكريمة الأخرى؛ ينتج حمض النيتريك (الصورة 14) عن تسخين نترات البوتاسيوم مع حمض الكبريتيك، لكن على النطاق الصناعي (الصورة 15)، يكون استخدام النتر (نترات الصوديوم) أقل تكلفة.
شكل 7-7: عرض سريالي رائع للهوابط (المتدلية من أسقف الكهوف، إذا كنت قد نسيت) والصواعد المكونة من الحجر الجيري، التي تكونت بفعل التفاعل بين ثاني أكسيد الكربون الذائب في المياه الجوفية والجير الموجود في التربة. انظر الصور الملونة. يبدو أن هذه الصورة كانت استشرافا لأسلوب رينيه ماجريت الفني قبل نحو 45 سنة من مولده (من الطبعة الأمريكية الصادرة عام 1854 لكتاب «أفكار عامة في الكيمياء» لبيلوز وفريمي).
توضح الصورة 1 (في الشكل
7-2 ) تجربة لافوازييه التي تتصل فيها مطرة (نوع من الأوعية الزجاجية يعرف أيضا باسم «رأس المسمار») تحتوي على زئبق من عنقها الطويل المقوس بوعاء مدرج جرسي الشكل مفتوح على زئبق في حوض. يسخن الزئبق الموجود في المطرة حتى درجة الغليان فقط لمدة خمسة أيام، حتى لا يعود هناك أي اختزال آخر لحجم الهواء في الوعاء الجرسي. ويجري مزيد من التسخين على مدار بضعة أيام. اكتشف لافوازييه أن حجم الغاز الموجود في الوعاء الجرسي انخفض بنسبة 27٪ بسبب فقدان الأكسجين (كانت القيمة المقبولة فيما بعد 21٪). وكانت المادة البلورية الحمراء التي ظهرت تطفو على سطح الزئبق في المطرة هي أكسيد الزئبق . وفي الصورة 2 (في الشكل
7-2 ) وضع سلك من الحديد في طرفه قطعة من الحراق (كل مادة سريعة الاشتعال) المشتعل داخل وعاء من الأكسجين الخالص. يشتعل الحديد على الفور، ويطلق شرارات من أكسيد الحديد ساخنة بما يكفي لإذابة الزجاج واختراقه بعمق. وفي الصورة 3 (في الشكل
7-2 ) يتعرض رطل من ثاني أكسيد المنجنيز (
MnO
2 ) إلى التسخين بشدة في مقطرة معوجة فخارية من أجل إنتاج الأكسجين. وهذه هي الطريقة التي عزل بها جان المنجنيز لأول مرة في عام 1774. هذا، وتستخدم حرارة أقل في إنتاج الأكسجين من ثاني أكسيد المنجنيز في وجود حمض الكبريتيك.
تظهر في الصورة 4 (في الشكل
7-3 ) بوتقة صغيرة من الجبس فوق قطعة من الفلين تطفو، مثل قارب، فوق مياه في حوض صغير. تشعل قطعة صغيرة من الفوسفور في البوتقة، ويوضع وعاء جرسي فوق البوتقة مقلوبا. ويكون الغاز المتبقي داخل الوعاء الجرسي هو النيتروجين. أما الصورة 5 (في الشكل
7-3 )، فتبين دورقا زجاجيا يحتوي على الزنك ويضاف إليه الماء أولا عبر أنبوب، ثم يضاف حمض الكبريتيك، فيتجمع غاز الهيدروجين فوق الماء. ويظهر في الصورة 6 (في الشكل
7-3 ) تحليل لافوازييه الكلاسيكي للماء باستخدام قطع من سلك حديدي داخل أنبوب خزفي يسخن حتى التوهج داخل فرن. يتكون أكسيد الحديد داخل الأنبوب، ويجمع غاز الهيدروجين باستخدام وعاء استقبال مقلوب في الماء.
في الصورة 7 (في الشكل
7-4 ) «يتولد الهيدروجين» (انظر الصورة 5، في الشكل
7-3 )، ويتحرك عبر أنبوب تجفيف، ويحترق مع الأكسجين في الهواء العادي، وتتساقط قطرات الماء المتكثف في وعاء تجميع. وتظهر الصورة 8 (في الشكل
7-4 ) وعاء جرسي الشكل، يحتوي على الهواء وأسطوانة من الزنك تتدلى بواسطة سلك في ماء محمض. عندما يدفع الهيدروجين المتكون الماء المحمض إلى خارج الوعاء الجرسي، يتوقف حدوث المزيد من التفاعلات. ويظهر في الصورة 9 (في الشكل
7-4 ) جهاز تقطير على نطاق مخبري. ونرى في الصورة 10 (في الشكل
7-5 ) جهاز تقطير كبير الحجم باستخدام غلاية من النحاس مغطاة بغطاء معدني. ويسمى أنبوب التكثيف المقوس «الدودة». ويظهر في الصورة 11 (في الشكل
7-5 ) جهاز تقطير على نطاق مخبري رائع حديث الطراز، من صنع جاي-لوساك. يضاف ماء التبريد عبر القمع الموجود أسفل الجانب الأيمن، ويغادر المكثف في أعلى الجانب الأيسر.
يحترق الفوسفور بقوة بالغة في بوتقة، معلقة بواسطة سلك يتصل بقطعة من الفلين، في جو من الأكسجين الخالص (الصورة 12، الشكل
7-6 ). يظهر الألماس، المعروف بكونه كربونا خالصا، في الصورة 13 (الشكل
7-6 ). ينتج عن تسخين نترات البوتاسيوم وحمض الكبريتيك في معوجة زجاجية، ثم تقطيرهما، الحمض «الأزوتي» (حمض النيتريك) (الصورة 14، الشكل
7-6 ). ويستخدم النتر (نترات الصوديوم) في الإنتاج الواسع النطاق لحمض النيتريك (الصورة 15، الشكل
7-6 )، الذي تقل تكاليف إنتاجه عن تكاليف إنتاج نترات البوتاسيوم. تتعرض كميات تتراوح من 100 إلى 150 كيلوجراما من النترات للتسخين في أسطوانات فخارية يضاف إليها حمض الكبريتيك على فترات منتظمة، وتستقبل المواد المقطرة في سلسلة من 12 إلى 15 قارورة ثلاثية العنق.
تمثل الصورة 27 (الشكل
7-7 ) عرضا سرياليا للهوابط (المتدلية من أسقف الكهوف)، والصواعد التي ترتفع لتقابلها في كهف يشبه فكا مفتوحا لحيوان بشع. تتكون الهوابط والصواعد من كربونات الكالسيوم التي تنشأ من تفاعل حمض الكربونيك الذائب في الماء مع الجير الموجود على سطح الأرض. ويبدو شكل السماء الواسعة مع السحب الغريبة والكهف غير المألوف الشكل، استشرافا لأسلوب الفنان العصري رينيه ماجريت (1898-1967). (3) فيم يصلح علماء الكيمياء العضوية؟
حتى منتصف القرن التاسع عشر، كانت الصبغات المستخدمة في الأقمشة والتطبيقات التجارية الأخرى مستخرجة من المواد النباتية والحيوانية.
13
وفي الواقع كانت صبغات النيلة المستخرجة من ثلاثة أنواع من الحلزون أساسا لصبغة «التخلت» القديمة، التي حددها موسى لتلوين حواف شال الصلاة لدى اليهود أو «الطاليت» باللون الأزرق.
14
يروي هذه القصة المشوقة رولد هوفمان وشيرا ليبوفيتز شميدت، اللذان أشارا إلى أن «التخلت» كانت على الأرجح مزيجا من صبغتين نيليتين مرتبطتين على نحو وثيق.
14
فقد اليهود، وفقا لمعتقداتهم، فن صنع «التخلت» بحلول عام 760، ومنذ ذلك الحين، أصبحت الحواف تترك بيضاء؛ نظرا لعدم سماح القانون الديني باستخدام أي بدائل. ورغم اكتشاف مصادر نباتية لهذه الصبغات فيما بعد وظهور أساليب كيميائية حديثة تؤكد تطابقها على نحو قاطع مع الصبغة الأصلية، لا يزال تقليد الحواف البيضاء الحديث ثابتا. وكما يشير المؤلفان، نظرا «لعدم بقاء أي منسوجات يهودية أصيلة مصبوغة ب «التخلت»، فمن غير المرجح أن تكون أي محاولة لإعادة صنع «التخلت» مقبولة.
14
في منتصف القرن التاسع عشر، التحق ويليام هنري بيركن السابق لعصره (1838-1907) بالجمعية الملكية للكيمياء وهو في سن الخامسة عشرة، وسرعان ما أصبح مساعدا لمديرها، الأستاذ أوجست فيلهلم هوفمان.
15 ،
16
في ذلك الوقت، كان قطران الفحم قد أصبح نوعا غير مرغوب فيه من فضلات الإنتاج، وبينما كان البنزين والتولوين التجاريان يستخرجان من قطران الفحم عن طريق التقطير، ظل القطران يعتبر مصدر إزعاج كبيرا.
17
حاول بيركن الشاب، بعمله في مختبر منزله في لندن في عام 1856، دون نجاح، تصنيع عقار الكينين، لكنه حصل بدلا من ذلك على قطران داكن. وأدى تعديل بسيط، باستخدام الأنيلين أحد مكونات قطران الفحم، إلى إنتاج مادة داكنة أخرى، اتضح، مرة أخرى عن طريق الصدفة، أنها صبغة بنفسجية رائعة أطلق عليها بيركن اسم «موف». ترك بيركن الجامعة، مما أصاب هوفمان بالإحباط كثيرا، وبنى مصنعا لصناعة الصبغة الموف بتمويل من والده. وفجأة، ظهرت صناعة الصبغة الصناعية وأصبح قطران الفحم سلعة تجارية بدلا من كونه أحد مخلفات الإنتاج.
13 ،
17
شكل 7-8: شجرة الأصباغ (؟)، التي تظهر تطور الصبغات العضوية الاصطناعية خلال مطلع القرن العشرين عقب اكتشاف ويليام هنري بيركن في عام 1856، في سن الثامنة عشرة ، «للموف»، المشار إليه هنا باسم «بنفسجي بيركن» (
) (من «كيمياء الألوان»، رقم 1، بإذن من السيدة لين كروكر).
شكل 7-9: نرى في الشكل (
a ) مهارة عالم الكيمياء العضوية الصناعية في «تغيير» إطار جزيئي من أجل تعديل الخواص المطلوبة؛ فنجد أن استبدال ذرات الهيدروجين في التركيب العلوي (صبغة الفوشين الحمراء البنفسجية) بالميثيل (
CH
3 ) ومجموعات أخرى يغير اللون بسلاسة من خلال درجات البنفسجي، والأزرق البنفسجي، ثم الأزرق. وتستخدم هذه الطريقة منذ فترة طويلة من أجل تعديل البنسلينات والعقاقير الأخرى، وحاليا من أجل صنع صبغات الليزر. أما الشكل (
b )، فيصور ذرتين من الهيدروجين تمسكان بصديقتهما ذرة الأكسجين من أجل صنع الماء. وفي الشكل (
c )، نرى أيادي (تمثل التكافؤات أو «قوة» الاتحاد) خمس ذرات شائعة؛ وقد حسم أخيرا الالتباس بشأن تكافؤ النيتروجين (إذ يكون أحيانا 3، وأحيانا 5 - انظر ذرات النيتروجين في الشكل (
a )) في عشرينيات القرن العشرين (من كتاب «كيمياء الألوان»، رقم 1، بإذن من السيدة لين كروكر).
يوضح الشكل
7-8
شجرة عائلة تظهر تطور الصبغات الصناعية على مدار أول 75 سنة بعد اكتشاف الصبغة الموف على يد بيركن.
18
تضم التفريعة الطرفية على يسار الموف سلسلة من الصبغات المتصلة به كيميائيا، ذكر بعض منها في الشكل
7-9 (
a ). فثمة تحول سلس إلى حد ما في اللون من الفوشين (
Fuchsine ) ذي اللون الأحمر الأرجواني عبر سلسلة من ثلاث صبغات أرجوانية حتى الوصول إلى الصبغتين الزرقاوي اللون اللتين يظهر تركيبهما في هذا الشكل. في الشكل
7-9 (
a ) يستخدم الفوشين بوصفه «الصبغة الأساسية»، وتختلف الصبغات الخمس الأخرى قليلا عن طريق استبدال المجموعات المكتوبة بخط داكن بذرات الهيدروجين. ويوضح التصنيع حسب الطلب لألوان هذه الصبغات وتعديلها الدقيق إحدى نقاط القوة الأساسية للكيمياء العضوية. ويعتبر علماء الكيمياء العضوية خبراء في «تغيير» خصائص الجزيئات المعقدة من خلال إحلال ذرات أو مجموعات من الذرات بعضها محل بعض. ويتمثل الفرق بين الفوشين والميثيل البنفسجي
Methyl Violet B
في استبدال بسيط لخمس ذرات من الهيدروجين بخمس مجموعات من الميثيل.
من المثير أن نشير إلى أن كلا من المركبات الستة الواردة في الشكل
7-9 (
a ) يحتوي على ذرة نيتروجين واحدة تشكل خمسة روابط مع ذرات أخرى . في الواقع، إن الكتاب الرائع، الذي نشر في عام 1935، ويحتوي على التكوينات الواردة في الشكل
7-9 (
a )، يشتمل أيضا على بعض الرسومات الكاريكاتورية «القيمة» تجسد ذرات ذات أيد تعبر عن التكافؤات الكيميائية.
18
يصور الشكل
7-9 (
b ) جزيء ماء تظهر فيه ذرة واحدة من الأكسجين وذرتان من الهيدروجين متشابكة الأيدي (بما يشبه إلى حد ما «جنيات الماء» التي تظهر في مواضع أخرى).
19
وفي الشكل
7-9 (
c )، نلاحظ رسوما توضيحية لتكافؤ كل ذرة، من بينها تكافؤ قدره 5 للنيتروجين. وربما يظهر الالتباس واضحا في حالة كلوريد الأمونيوم. ولما كان معروفا أن تكافؤي الهيدروجين والكلور أحاديان، فإن الترتيب الوحيد المنطقي ربما يتمثل في تكوين النيتروجين روابط أحادية مع ذرات الهيدروجين الأربع ومع ذرة الكلور الخامسة أيضا. وكان من المعروف سابقا أن كلوريد الأمونيوم ينفصل إلى الأمونيا (
NH
3 ) وكلوريد الهيدروجين (
HCl ) عند تسخينه. وقد كانت نظرية المحاليل الأيونية لسفانت أرهنيوس
20
في ثمانينيات القرن التاسع عشر الأساس لفهم الطبيعة الحقيقية لكلوريد الأمونيوم، كملح أيوني صيغته
يتصرف كجزيئين منفصلين عند إذابة الملح في الماء، وليس جزيئا واحدا من كلوريد الأمونيوم
NH
4
Cl . وكانت الروابط الأربعة المتصلة بالنيتروجين في أيون الأمونيوم
متوافقة بالكامل مع قاعدة الثمانيات وتركيبات لويس (1916).
21
ومع ذلك، لم يحدث الاتحاد بين النظرية الأيونية وثمانيات لويس فعليا إلا في عشرينيات القرن العشرين،
22
قبل عقد تقريبا من نشر الشكل
7-9 .
ظهرت تطبيقات مبكرة للتعديل و«التغيير» الجزيئي الطفيف على يد علماء الكيمياء العضوية في صناعة الأدوية. على سبيل المثال، لا يعد الفرق بين المورفين والكودايين والهيروين كبيرا للغاية من حيث تركيبها، لكنه كبير للغاية من الناحية الدوائية. وقد حفز اكتشاف البنسيلين مصادفة في عام 1928 على يد ألكسندر فلمنج بحثا استمر طوال عقدين عن تركيبه الكيميائي، الذي توصلت إليه في النهاية في منتصف أربعينيات القرن العشرين المتخصصة في علم البلورات دوروثي كروفوت (التي أصبحت فيما بعد دوروثي هودجكين) (1910-1994)،
23
التي حصلت على جائزة نوبل في عام 1964 في الطب والفسيولوجيا عن عملها في تحديد تركيب فيتامين ب12.
24
وبمجرد معرفة تركيب البنسيلين، صنع علماء الكيمياء الدوائية آلاف المشتقات سعيا منهم لزيادة الفاعلية، وتقليل التكلفة، والحد من الآثار الجانبية غير المرغوب فيها، مثل ردود الفعل التحسسية. (4) لا تبتسم أبدا للكاكوديل
في عام 1835 أطلق فريدريش فولر على الكيمياء العضوية «غابة بدائية في المنطقة الاستوائية»،
25
وعلى ما يبدو كان هذا التشبيه للكيمياء العضوية، بنظام حياة معقد لا يمكن تصوره، تشبيها مناسبا. فكان يبدو أنه لا يمكن عزل المركبات العضوية إلا من كائنات حية - النباتات والحيوانات. وكان يجب استخلاصها دوما من مصفوفات معقدة للغاية، وكان من الصعب عزلها خالصة. حتى البول، وهو سائل شفاف، يكون معقدا على نحو استثنائي. وقد أعلن عن مركب اليوريا العضوي البسيط (الذي عرف فيما بعد بالصيغة
CH
4
N
2
O ) في عام 1773 على يد هيلير مارتن رويل (وسبقه بورهافا في وصفه).
26
كانت هذه المادة غير نقية، لكن ملمسها «الصابوني» وسهولة تحللها عند «تقطيرها» أشارا إلى اختلافها الواضح عن الأملاح غير العضوية المألوفة، التي كانت بلورية ولا تتأثر عادة بالحرارة. ورغم أن فولر صنع اليوريا بطريق المصادفة تماما من مركبات غير عضوية في عام 1828، فقد حافظ في ذلك الوقت، على الرأي السائد بأن المركبات العضوية مشبعة ب «قوة حيوية»؛ ومن ثم لا يمكن أبدا إنتاجها صناعيا.
27
بعد ذلك بنحو عقدين من الزمن، أقدم هيرمان كولبه على «قتل الحيوية» عن طريق تصنيع حمض الخليك (الخل) بفاعلية كبيرة من عناصره الكيميائية.
27
وشاع استخدام ثلاثة أنظمة للأوزان الذرية النسبية بحلول منتصف القرن التاسع عشر، لخصها آرون جيه إيده كالتالي:
28
H
C
O
بيرسيليوس
1
12
16
ليبيج
1
6
8
دوما
1
6
16
تسببت الصعوبات التي تكتنف التحليل الكيميائي الدقيق في مزيد من الالتباس؛ فقد اشتمل التحليل في أوائل القرن التاسع عشر على قياسات لحجم أول أكسيد الكربون، الذي يتولد في أثناء الاحتراق. وأدى هذا إلى قصر العينات التحليلية على كميات صغيرة إلى حد كبير، وتمثل تأثيرها في تضخيم الأخطاء الصغيرة. حتى جهاز تحليل الكربون لليبيج، الذي كان يلتقط ثاني أكسيد الكربون في صورته المكثفة من أجل وزنه، مما زاد حجم العينات ودقتها كثيرا، لم يحل هذه المشكلات بالكامل. ويظهر هذا واضحا
29
في التفاوت بين صيغة حمض الكوليك (
C
48
H
39
O
9 ، حسب أوزان ليبيج الذرية) التي أعلن عنها عالم الكيمياء الشهير أدولف شتريكر، الذي كان يعمل في مختبر ليبيج في مدينة جيسن، والصيغة الحالية (
C
24
H
40
O
5 ). وتعد هذه التفاوتات، على صغرها، مؤثرة للغاية؛ نظرا لأن استخدام أوزان بيرسيليوس الذرية لكل من الكربون والهيدروجين والأكسجين (القريبة للغاية من القيم الحالية) كان من شأنه أن يعطي الصيغة
C
24
H
19.5
O
4.5 . ولم يكن هذا، بالطبع، متوافقا مع الذرات الكاملة، وأيضا مع قواعد التكافؤ التي لم تظهر إلا بعد عقد من ذلك.
أثارت المركبات العضوية أيضا عدة مشكلات للنظرية الكيميائية المبكرة؛ فقد أدت دراسات ديفي للتحليل الكهربائي، التي أنتجت بوتاسيوم موجب الشحنة في أحد الأقطاب الكهربائية، وكلورا سالب الشحنة في القطب الآخر، إلى افتراض بيرسيليوس نظرية عن الثنائية. وكان واضحا أن الهيدروجين موجب الشحنة؛ إذ كان يكون الماء وكلوريد الهيدروجين مع عناصر الأكسجين والكلور السالبة الشحنة. كذلك كون الكربون الموجب الشحنة مركبات مع الأكسجين والكلور. ومع ذلك، لم يبد أن هذه النظرية تصلح للمركبات العضوية. فكيف يمكن للمرء تفسير تكوين الميثان - مركب من الكربون والهيدروجين - المكون من عنصرين موجبي الشحنة؟ وكيف يمكن لعنصر سالب الشحنة، مثل الكلور، أن يحل محل ذرات الهيدروجين الأربع الموجبة الشحنة الموجودة في الميثان بالكامل ليكون مركب رباعي كلوريد الكربون
CCl
4 ؟
من بين الاكتشافات المبكرة المهمة التي ساعدت في توضيح الكيمياء العضوية وتنظيمها، فكرة وجود جذر كيميائي ظهرت مصادره الأولى لدى لافوازييه: الحمض = جذر + أكسجين (حيث يمكن أن يكون الجذر عنصر الكبريت الذي ينتج عن اتحاده مع الأكسجين «حمض الكبريتيك» - في الواقع
SO
3
أو ثلاثي أكسيد الكبريت).
30
تبع ظهور هذا المفهوم البدائي دراسات أكثر تنقيحا كشفت عن وجود جذر السيانيد (
CN ). كان شيله أول من عالج صبغة الأزرق البروسي، التي تتكون من مركبات الحديد المتمثلة في الفيروسيانيد [المعروفة حاليا ب
Fe(CN)
6 ]، على الأرجح في وجود المعادن القلوية أو الأمونيا (على سبيل المثال،
NH
4
Fe[Fe(CN)
6 ] - وهذه هي الصيغة الحديثة بالطبع ). وعند معالجته لفيروسيانيد البوتاسيوم بحمض الكبريتيك، حصل على «حمض البروسيك» («حمض الهيدروسيانيك» أو سيانيد الهيدروجين
HCN )، وكان من المذهل أنه لم يقتل نفسه وهو يختبر رائحته. كما حصل شيله على سيانيد البوتاسيوم (
KCN )، وسيانيد الزئبق [
Hg(CN)
2 ]، وسيانيد الفضة (
AgCN ).
31
وفي عام 1787، أجرى برتوليه تفاعلا بين «حمض البروسيك» والكلور، واكتشف كلوريد السيانوجين (
ClCN ).
32
وفي عام 1815 اكتشف جاي-لوساك السيانوجين [(
CN
2 )] من عمله على «حمض البروسيك».
33
ومن ثم، أشارت مجموعة من الأدلة إلى أن جذر السيانيد يتصرف فعليا مثل ذرة (أي «ألكيل حلقي») من حيث انتقاله دون أن يتغير من مركب إلى آخر.
34
والأمر الأكثر إثارة كان إعلان ليبيج وفولر في عام 1832 عن جذر البنزويل ( “C
14
H
20
O
2 ” - في الحقيقة
C
7
H
10
O )، وهو وحدة مستقرة تحتوي على ثلاثة أنواع مختلفة من الذرات.
22
الشكل
7-10
من طبعة عام 1857 من كتاب يومانس «أطلس الكيمياء».
35
كانت الجذور تعد في البداية «ذرات فائقة» مستقرة، ترتبط وتنفصل ويعاد دمجها من أجل تكوين جزيئات. وأول جذر يظهر في الشكل
7-9
هو جذر الإيثيل، الذي يظهر بصيغة
C
4
H
5 (باستخدام نظام ليبيج؛ ومن ثم
C
2
H
5
بالصيغة الحديثة). إذا نظرنا إلى التركيبة الثالثة من أعلى، نرى ثنائي إيثيل الإيثر، الذي نعرفه حاليا بصيغة
C
4
H
10
O
بدلا من
C
4
H
5
O (أو
C
2
H
5
O
باستخدام أوزان ليبيج الذرية). ومن وجهة نظر ثنائية، يتكون «جزيء»
C
4
H
5
O
من جذر «الإيثيل» ( “C
4
H
5 ” ) بوصفه الجزء الموجب الشحنة والأكسجين بوصفه الجزء السالب الشحنة. وعلى ما يبدو أن إضافة الماء ( “OH” ) إلى إيثيل الإيثر يكون هيدراته، المعروفة أيضا ب «الكحول الإيثيلي» (الموضح هنا بصيغة
C
4
H
5 ⋅OH⋅O ، ولكنه في الواقع يتخذ الصيغة
C
2
H
6
O
باستخدام الأوزان الذرية الحديثة، وليس أوزان ليبيج). وعلى أي حال، فقد أوضحت النظرية القديمة للجذور المركبة (الثلث العلوي من الشكل
7-10 ) حدوث تبادل بسيط في الجذور المستقرة من أجل تكوين جزيئات عضوية مختلفة.
شكل 7-10: رسم توضيحي لنظريات منتصف القرن التاسع عشر في الكيمياء العضوية (انظر النص)، ويوجد الشكل الملون الأصلي في كتاب إي يومانس «أطلس الكيمياء»، نيويورك، 1857. افترض وجود جذر الكاكوديل في وقت مبكر من قبل روبرت بنسن، الذي فقد إحدى عينيه عندما انفجر سيانيد الكاكوديل في مختبره.
يقودنا هذا إلى الكاكوديل، وهو اسم قديم لسائل رباعي ميثيل ثنائي الزرنيخ سيئ الرائحة، وتلقائي الاشتعال، وعديم اللون، الذي نحصل عليه من تسخين أكسيد الزرنيخ وأسيتات البوتاسيوم:
36
عد بنسن أيضا جذر الكاكوديل [ (CH
3 )
2
As ]
37 «ذرة فائقة» مستقرة يمكن تبادلها بين الجذور الأخرى. ويتسم كثير من مركبات الكاكوديل بأنه قابل للانفجار، وأيضا قابل للاشتعال تلقائيا. وقد انفجر أحد هذه المركبات وهو مركب سيانيد الكاكوديل [ (CH
3 )
2
AsCN ]، في أثناء إحدى دراسات بنسن الاستكشافية وفقد عينه اليمنى.
25
صنع بنسن في إحدى دراساته أكسيد الكاكوديل من الكاكوديل وحوله إلى الكلوريد. وعند تفاعله مع الزنك، فقد الكلور واعتقد بنسن أن المركب النقي المتبقي المكون من الزرنيخ والكربون والهيدروجين هو جذر الكاكوديل الحر. لكنه في الواقع كان كاكوديل سائلا [ (CH
3 )
2
As-As(CH
3 )
2 ].
38
بالمثل، حرر تفاعل يوديد الإيثيل مع الزنك جزيء اليود العضوي، وكان يعتقد أنه ينتج جذر «الإيثيل» الحر، لكنه في الواقع أنتج البوتان (
C
2
H
5 -C
2
H
5 ) - ديمر الإيثيل. وأدى عمل إدوارد فرانكلاند (1825-1899) فعليا إلى إنتاج بعض من ثنائي إيثيل الزنك (C
2
H
5 )
2
Zn ، وهو مادة متطايرة تشتعل تلقائيا، مما بشر ببداية عصر الكيمياء العضوية الفلزية.
26
باءت الأبحاث عن هذه الجذور الحرة بالفشل؛ ومن ثم ساد الافتراض بأنها غير قادرة على الانفصال حتى جاءت المشاهدة غير المتوقعة لجذر ثلاثي فينيل الميثيل لموزس جومبرج.
39
فقد أجرى جومبرج تفاعلا بين كلوريد ثلاثي فينيل الميثيل وغبار الزنك متوقعا الحصول على سداسي فينيل الإيثان:
40
إن ما حدث كان تفاعلا مفاجئا أدى إلى تكوين محلول ملون. وأدت إضافة اليود، على سبيل المثال، إلى تكوين يوديد ثلاثي فينيل الميثيل ومحلول ملون. لقد أنتج جومبرج جذرا حرا مستقرا، لكنه قادر على التفاعل - جذر ثلاثي فينيل الميثيل:
ومن المثير للاهتمام، أنه على الرغم من أن ديمر جذر ثلاثي فينيل الميثيل كان يعتقد أنه سداسي فينيل الإيثان الذي كان مرتقبا طوال نحو 60 عاما؛ فقد بتنا نعرف الآن التكوين الصحيح للديمر الذي يوجد في توازن مع جذر ثلاثي فينيل الميثيل - وهو ليس أحد مشتقات الإيثان.
28
في الواقع، رغم وجود خماسي فينيل الإيثان (
CΦ
3 -CHΦ
2 ) وتمتعه بروابط
C-C
طويلة على نحو غريب،
41
وبعد قرن تقريبا من اكتشاف جومبرج، لا يزال سداسي فينيل الإيثان يحير أمهر علماء الكيمياء المعاصرين.
42
من المفارقات الرائعة أن نشير إلى وجود جذر كاكوديل حر مستقر بالفعل («ثابت» في الواقع).
43 ،
44
فمنذ نحو 20 عاما اتضح أن التسخين المعتدل لمركب -
ينتج جذرين
مستقرين، ويمكن رؤيتهما لفترات غير محددة في صورة سائل عند درجة حرارة 25 درجة مئوية.
29 ،
30
تكمن الخدعة هنا في المجموعة المكونة من أربع مجموعات
ضخمة تعيق إعادة اندماج الجذور وتكوين رابطة
As-As
الضعيفة.
45
يصور الجزء الأوسط من الشكل
7-10
نظرية النوع؛ حيث يمكن، على سبيل المثال، استبدال نوع من الأمينات تباعا بجذور الألكيل في سلسلة ترتبط بوضوح بالأمونيا. وكان هذا إسهاما إيجابيا؛ نظرا لاكتشافه عائلات من المركبات المرتبطة بعضها ببعض (المجموعات الوظيفية). أما الجزء السفلي في الشكل
7-10 ، فيوضح نظرية «الاقتران» (الرابطة) التي قدمها بيرسيليوس في محاولة أخيرة لإنقاذ نظرية الثنائية. وكما أشار إيده، يمكن (باستخدام «الصيغ المزدوجة») تفسير تكوين حمض الخليك (بصيغته الحديثة
C
2
H
4
O
2 ) بكونه مزيجا من جزء موجب الشحنة (
C
4
H
6 )، وجزء السالب الشحنة (
O
3 )، والماء.
46
كان حمض ثلاثي كلورو الخليك (
C
2
HCl
3
O
2 ) مزعجا لبيرسيليوس؛ فقد نصت نظرية الإحلال في تلك الفترة على وجود استبدال بسيط لذرات الهيدروجين في جذر
C
4
H
6
بذرات الكلور. ولكن الصيغة الناتجة
H
2
O +
O
3 +
C
4
Cl
6
تنطوي الآن على اختلال خطير؛ نظرا لكون الشحنة الموجبة للجذر المحتوي على الكربون أقل بكثير إن لم يكن «سالب الشحنة بالكامل»، بينما يعد جزء
O
3
الآن سالب الشحنة تماما. وشعر بيرسيليوس بضرورة إعادة ترتيب جذرية بحيث «يقترن» (يتحد) الكربون المكلور (صيغته الحالية
C
2
Cl
6 ) ب «حمض الأوكساليك» (
C
2
O
3 ) والماء، مما ينتج عنه وحدة يمكن تمييزها بسهولة هي:
H
2
O +
C
2
O
3 +
C
2
Cl
6 . وبهذه الطريقة توازنت الشحنة السالبة الزائدة في جزء
C
2
Cl
6
بالشحنة السالبة المنخفضة في جزء
C
2
O
3 . ويوضح الجزء السفلي في الشكل
7-10
هذا النوع من إعادة ترتيب الذرات في «اتحاد» جذر البنزويل بحمض الفورميك من أجل إنتاج حمض الفورميلبنزويك. ومع ذلك، أظهرت مجموعة متنوعة من الأبحاث الكيميائية بوضوح وجود ارتباط كيميائي وثيق بين حمض الخليك (
CH
3
COOH )، وحمض ثلاثي كلورو الخليك (
CCl
3
COOH )، وأن الثنائية أجبرت على الاختفاء بوصفها نظرية قابلة للتطبيق في الكيمياء العضوية. ولم يبدأ الحل في الظهور إلا مع ظهور مفهوم التكافؤ .
شكل 7-11: صفحة العنوان لرسالة الماجستير المكونة من 15 صفحة للشاب ديمتري مندليف (بإذن من مكتبة تاريخ الكيمياء لروي جي نيفل). (5) من «السلم الكوني» لمندليف إلى «جنة فيثاغورس »
في عام 1945 كان أوليفر ساكس البالغ من العمر 12 عاما أول من انبهر بالجدول الدوري العملاق في متحف العلوم في جنوب كينجستون بينما كان يفحص عينات فردية من كل عنصر.
47
والآن وبعد مرور أكثر من نصف قرن، يبدو أن مسيرته المهنية المميزة كطبيب وكاتب لم يكن من شأنها إلا دعم حبه للكيمياء، والمعادن على وجه الخصوص، وشغفه المتقد بالجدول الدوري. ويحكي كتاب السيرة الذاتية «العم تونجستن» عن إحالة ساكس الصغير «الجدول المستطيل الجليل» في ذهنه إلى «نوع من السلالم الكونية أو سلم يعقوب، يصعد إلى جنة فيثاغورس ويهبط منها.»
48
فقد تخيل أتباع فيثاغورس القدماء كونا تحكمه الرياضيات البحتة، وعد د. ساكس «حديقة مندليف»؛ أي الجدول الدوري، جزءا من علم للكونيات ينبض بالتناغم الطبيعي.
47
شكل 7-12: البيان رقم 17 في صفحتي 6 و7 من رسالة الماجستير لمندليف يستعرض الزوايا المقاسة في بلورات المواد ذات الصلة. هذا، ويشرح القانون الدوري، الذي نشره مندليف في عام 1869، أوجه التشابه بين البلورات المتشابهة الشكل، التي أشار إليها أيلهارد ميتشرليخ لأول مرة قبل نحو 40 عاما من نشر مندليف لأطروحته للماجستير. (بإذن من مكتبة تاريخ الكيمياء لروي جي نيفل.)
شكل 7-13: البيان رقم 20 في الصفحتين 7 (انظر الشكل
7-12 ) و8 يتناول الأوزان الذرية النسبية الضرورية للغاية في إنشاء القانون الدوري. والكتلة النسبية للماء (في الصفحة 8) 112,5، وهذا بناء على الكتلة النسبية المفترضة الشائعة الاستخدام = 100 لذرة الأكسجين (بإذن من مكتبة تاريخ الكيمياء لروي جي نيفل).
كان ديمتري إيفانوفيتش مندليف (1834-1907)
49
الابن الأصغر بين 14 طفلا. وتظهر بطولة والدته جلية في توفيرها تعليما لائقا له في ظل ظروف مأساوية.
49 ،
50
حصل مندليف على درجة الماجستير في سانت بطرسبرج في عام 1856، وتوضح الأشكال من 148 إلى 150 صفحة العنوان وأربع صفحات إضافية من أطروحته المكونة من ثمانية أفرخ (15 ورقة).
51
وقد أشار عالم الكيمياء وجامع الكتب، روي جي نيفل، إلى وجود تلميحات للقانون الدوري في رسالة الماجستير،
52
كما أن اهتمام مندليف بالكتل الذرية والعلاقات بين العناصر واضح للغاية. قبل ذلك بنحو 40 عاما، ابتكر أيلهارد ميتشرليخ (1794-1863)
53
مفهوم التشابه الشكلي، مشيرا إلى أوجه التشابه الكبيرة في الشكل وقياس الزوايا بين مواد بلورية معينة. على سبيل المثال، هيدرات فوسفات هيدروجين الصوديوم (
Na
2
HPO
4 ⋅12H
2
O ) والزرنيخات المشابهة لها (
Na
2
HAsO
4 ⋅12H
2
O ) تنتج بلورات متشابهة الشكل. كذلك، يوجد تشابه شكلي بين كبريتات الأمونيوم البلورية [ (NH
4 )
2
SO
4 ] وكبريتات البوتاسيوم (
K
2
SO
4 ) (الشكل
7-14 ). وفي رسالته للماجستير، طبق مندليف البالغ من العمر 22 عاما اهتمامه بالتشابه الشكلي على استكشاف العلاقات بين العناصر. ويظهر هذا في البيان السابع عشر في صفحة 6 (الشكل
7-12 )؛ حيث قارن بين الزوايا في بلورات المواد ذات الصلة. وبعد ثلاثة عشر عاما (أي في عام 1869) وضع مندليف الفوسفور والزرنيخ داخل العائلة الكيميائية ذاتها؛ ومن ثم قدم فهما للتشابه الشكلي للفوسفات والزرنيخات السالفة الذكر. وقد بتنا نعرف الآن أن الأمونيوم ( ) والبوتاسيوم (
K + ) أيونات موجبة أحادية التكافؤ لها الحجم نفسه، وهذا هو أساس التشابه الشكلي لكبريتاتها (الشكل
7-14 ). أما البيان التاسع عشر في صفحة 7 (الشكل
7-12 )، فيوضح أوجه التشابه في الحجم النوعي بين المواد ذات الصلة كيميائيا.
شكل 7-14: بلورات متشابهة شكليا لكبريتات الأمونيوم وكبريتات البوتاسيوم (رسومات توضيحية للفنان روجر هايوارد في الطبعة الأولى لكتاب صديقه لينوس بولينج، «الكيمياء العامة»، 1947، ص202، حقوق الطبع محفوظة للينوس بولينج. مستخدمة بإذن من دبليو إتش فريمان وشركاه). اكتشف ميتشرليخ أن بعض بلورات الفوسفات والزرنيخات متشابهة شكليا، وفسر مندليف هذه الملاحظات بأنها ناشئة عن انتماء الفوسفات والزرنيخ للعائلة الكيميائية نفسها. وقد أصبحنا نعرف الآن أن أيونات الأمونيوم والبوتاسيوم متطابقة أيضا، مما يفسر التشابه الشكلي لبلورات كبريتاتها.
في البيان رقم 20 في الصفحتين 7 و8 (الشكل
7-12
و
7-13 )، نلاحظ علاقات بين الأوزان الذرية، أشار إليها مندليف، على مقياس قدر فيه الوزن النسبي للأكسجين بمائة. وتشير الأرقام التي تلي
V
في البيان العشرين إلى الحجم النسبي، بينما تشير البيانات التي تلي
II
إلى الكتلة النسبية. وكان من المعروف أنه في الماء اتحد 100 جرام من الأكسجين مع مقدار 12,5 جراما من الهيدروجين؛ ومن ثم تكون الكتلة النسبية لجزيء
H
2
O (انظر الصفحة 8 في الشكل
7-13 ) على هذا المقياس 112,5. وإذا استخدمنا الكتلة النسبية لجزيء
Na
2
O ، نرى أن الكتلة الإجمالية التي تقدر بنحو 289 تتحد مع كتلة الأكسجين المقدرة بمائة. ومن ثم، تساوي الكتلة النسبية لكل ذرة من الصوديوم 2/289 أو 144,5. وإذا ضربنا 100/144,5 في 16 (الكتلة الذرية الحديثة للأكسجين)، فسنحصل على قيمة قدرها 23,1 للصوديوم، في توافق تام مع القيمة الحديثة.
على الرغم من توافق هذه الكتل الذرية النسبية المحددة مع البيانات الحديثة، كانت ثمة شكوك كبيرة في خمسينيات القرن التاسع عشر إزاء الكتل الذرية والأوزان المكافئة. وفي المؤتمر الكيميائي الدولي في كارلسروه، في ألمانيا، المنعقد في عام 1860، اجتمع بعض من أكبر علماء الكيمياء آنذاك من أجل مناقشة هذه القضايا.
54
وطرحت بعض الرؤى الخطيرة من قبل ستانيسلاو كانيزارو الذي عمل على تنوير الجمع من خلال طرح الفرضية التي يبلغ عمرها 50 عاما لمواطنه أميديو أفوجادرو لتصبح جزءا من المعرفة الكيميائية الحديثة لمنتصف القرن التاسع عشر.
54
ذهب الشاب مندليف في رحلة ترفيهية إلى كارلسروه بصحبة عالم كيمياء شاب آخر، وهو ألكسندر بورفيريفيتش بورودين (1833-1887).
55
أصبح بورودين، بالطبع، أحد أشهر المؤلفين الموسيقيين في العالم، ولا تزال أوبراه، «الأمير إيجور»، تحظى بشعبية ضخمة. غير أن هذا الموسيقي السابق لعصره (الذي علم نفسه التشيلو، وألف مقطوعات موسيقية في سن الرابعة عشرة) كان أيضا عالم كيمياء سابقا لعصره (إذ بنى مختبرا منزليا، وبذل جهودا ناشئة في صنع المتفجرات).
55
من الممتع تخيل فيلم يصور مندليف ذا السادسة والعشرين وبورودين ذا السابعة والعشرين وهما في طريقهما لرحلتهما الترفيهية إلى كارلسروه، ويستمتعان بموسيقى الأرغن ذي الأنابيب العملاق في فرايبورج.
55
كان للاثنين والدتان روسيتان مؤثرتان
56
عملتا على توجيه تعليم ولديهما الموهوبين بحب، حتى إنهما أقامتا مسكنا لهما بالقرب من كليتيهما. وعلى الرغم من أن الموسيقى قد مثلت إرث بورودين الأقوى، فقد حقق بعضا من الاكتشافات الأساسية في الكيمياء العضوية. فعلى طلاب السنة الثانية في الجامعة في عصرنا الحالي المثقلين بالأعباء، الذين عليهم تذكر أن تكاثف الألدول ربما يتبعه جفاف، أن يلوموا بورودين على هذه الحقيقة الإضافية.
57
شكل 7-15: انظر الجزء السفلي من صفحة
XVII
في كتاب مندليف عن الكيمياء العضوية الذي نشر في سانت بطرسبرج في عام 1863. سوف تلاحظ هذا الترتيب المبكر الذي توقع القانون الدوري الذي نشره مندليف بعد ذلك بست سنوات (من كتاب مندليف «الكيمياء العضوية »، 1863).
شكل 7-16: النسخة الأولى من جدول مندليف الدوري الصادر في عام 1869؛ لاحظ علامات الاستفهام الموجودة في بعض المواضع، التي تتبع الألومنيوم والسليكون على نحو ملحوظ. تمثل الجانب الجريء في جدول مندليف في وجود هذه الفراغات؛ فقد توقع مندليف وجود «الإيكا-ألومنيوم» (الجاليوم) و«الإيكا-سليكون» (الجرمانيوم)، وبالفعل اكتشفا بعد ذلك بوقت قصير. ويعد هذا واحدا من أفضل الرسوم التوضيحية التي توضح قوة الأسلوب العلمي في تاريخ البشرية (من مجلة «تسيتشريفت فور شيمي»، بإذن من مجموعة إدجار فاهس سميث).
حسم مؤتمر كارلسروه كثيرا من الخلافات، ووضع الكتل الذرية والمكافئات على أساس راسخ في المجتمع الكيميائي. ولم يكن ليطول انتظار محاولات تنظيم هذه البيانات؛ إذ طرحت الجداول الدورية الأولى من قبل جون نيولاندز (1865)، وويليام أودلينج (1865)، ويوليوس لوثر ماير (1868)، من بين كثيرين آخرين.
58
إن «لحظات النصر المفاجئ» فعليا نادرة للغاية في العلوم، والتطور التدريجي للأفكار هو الأكثر شيوعا. وكما أشرنا مسبقا، تظهر محاولات تنظيم العناصر واضحة في رسالة مندليف للماجستير في عام 1856. والشكل
7-15
مأخوذ من كتابه
59
الصادر في عام 1863 عن الكيمياء العضوية. ومن المثير أننا نرى جدولا دوريا بدائيا هنا؛
50
فقد تبلورت هذه الأفكار فعليا في عقل مندليف في عام 1868، ونشر جدوله الدوري الأول (الشكل
7-16 ) في عام 1869.
60
فنحن معتادون على رؤية جدول دوري «أفقي»، لكن هذا الجدول كان «رأسيا». رتب مندليف العناصر وفقا لكتلتها الذرية النسبية، وأشار إلى دورية الخصائص. ومن ثم، فإن الفلزات القلوية، مثل السيزيوم (
Cs )، والروبيديوم (
Rb )، والبوتاسيوم (
K )، والصوديوم (
Na ) تحاكي الليثيوم (
Li ) كمعادن تتفاعل بقوة، أو حتى بانفجارية، مع الماء وتكون أملاحا مع الكلور، وتشترك جميعا في تركيبة
MCI . بالمثل، نرى اللافلزات، مثل الفلور (
F )، والكلور (
Cl )، والبروم (
Br )، واليود (
I )، التي تكون كلها أملاح الهاليدات، مثل
NaCl ، مدرجة ضمن عائلة واحدة مع الفلزات القلوية. وجدير بالذكر أن الفلور، المعروف بكونه عنصرا فريدا من نوعه لعدم إمكانية فصله عن مركباته ، قد عزل لأول مرة بعد ذلك كعنصر على يد هنري مواسان في عام 1886؛ أي بعد 20 عاما تقريبا من ظهور جدول مندليف الأول. يظهر في الشكل
7-17 (
a ) جدول مندليف الدوري الرأسي، الذي نشر بالألمانية في عام 1872،
61
ومن الواضح أنه كان ما زال «يتلاعب» بترتيبه، واحتوى هذا الجدول على ثمانية أعمدة (دورات) و17 صفا، في مقابل ستة أعمدة و19 صفا في النسخة التي صدرت في عام 1869 (الشكل
7-16 ). ويوضح الشكل
7-17 (
b ) نسخة
61
عام 1872 من جدول مندليف الدوري الأفقي، الذي نشر لأول مرة في عام 1871.
49
شكل 7-17: نسختا عام 1871 (نشرتا فعليا في عام 1872) لجدولي مندليف الدوريين في صورة عمودية (
a ) وأفقية (
b ) (من دورية «أنالين دير شيمي أوند فارماتسي»، 1872).
تمثل الجانب المميز والجريء فعليا لجدول مندليف الدوري في الفراغات المتروكة عمدا للعناصر التي لم تكتشف بعد. ويظهر بوضوح في الشكل
7-16
العنصر الأثقل وزنا في عائلة الألومنيوم («إيكا-ألومنيوم»، أو الجاليوم)، وفي عائلة السليكون («إيكا-سليكون»، أو الجرمانيوم)؛ فقد تنبأ مندليف بوجود هذه العناصر وبخصائصها أيضا. وفي غضون ست سنوات فقط، اكتشف أول هذه العناصر، الجاليوم، على يد بول إميل (المدعو فرانسوا) لكوك دو بوابودران، وبعد 11 سنة أخرى، اكتشف العنصر الآخر، الجرمانيوم، على يد كلمينز ألكسندر وينكلر.
49
إن النظريات العلمية تنشأ من أجل تفسير الظواهر الطبيعية، ولا يمكن اختبارها بحق إلا بالتوقعات التي تقدمها - وكلما زادت جرأتها، كان ذلك أفضل. ويأتي توقع مندليف بوجود وخواص عناصر (كيميائية وفيزيائية) لم تكن معروفة (وغير متصورة) حتى ذلك الوقت، ضمن أقوى الإنجازات العلمية على الإطلاق. (6) الأكسجين الكهربائي
التجدد والانتعاش: تلك الرائحة «الكهربائية» الأخاذة لهواء ساحل البحر عقب عاصفة رعدية؛ تلك الرائحة المثيرة للذكريات للعبة القطار الكهربائي التي تعيد إلى الذهن ذكريات الطفولة الدافئة؛ وحتى رائحة مترو أنفاق نيويورك، وآثار غاز الأوزون الناتجة عن الأقواس والشرارات الكهربائية؛ كلها أشياء قابعة في ذاكرتنا؛ فقد شاع استخدام هذا «الأكسجين الكهربائي» لأكثر من 100 سنة من أجل تنقية ماء الشرب وإزالة الروائح الكريهة. وتعلن الزجاجة الموجودة في الشكل
7-18
التي يبلغ عمرها قرنا من الزمن أن «الأوزون حياة»، وربما كانت تحتوي على ماء معالج اختفت منه آثار الأوزون منذ وقت طويل. ولماذا لا نستخدم هذا الاسم ذا الوقع الساحر من أجل الترويج لمنتج لا علاقة له بأي حال من الأحوال بالأوزون - لنقل الصابون (كما في الشكل
7-19 )؟ صابون الأوزون - التجدد والانتعاش - أزهار؛ طفل ينعم بالصحة والسعادة.
شكل 7-18: «التجدد والانتعاش، رائحة البحر الأخاذة، ومطهر الماء.» هكذا روج سريعا للمعرفة المتوافرة عن الأوزون. نرى في هذا الشكل زجاجة عمرها قرن من الزمن لماء معالج بالأوزون كتب عليها «الأوزون حياة» صنعت في كندا. وقد ملأنا الزجاجة بالحليب واهب الحياة؛ تماشيا مع هذه الفكرة (وأيضا من أجل تحسين التباين الفوتوغرافي). (الصورة بإذن من السيدة سوزان جيه جرينبرج.)
شكل 7-19: بطاقات دعائية قديمة عن صابون بالأوزون. انظر الصور الملونة. وفي حين نشك بشدة في إمكانية العثور حتى على أقل آثار للأوزون في صابون الأوزون هذا، فقد ظل اسما تجاريا مثيرا للذكريات على نحو رائع.
شكل 7-20: رسم توضيحي لمولد أوزون يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر. صمم الجهاز لتعريض غاز الأكسجين المتدفق إلى «تفريغ صامت عالي الفولتية» بفعل الكهرباء؛ لأن الشرارات تحلل الأوزون (1 مول
O
3 ) ليعود إلى أكسجين (1,5 مول
O
2 ). (من كتاب روسكو وشورليمر «أطروحة عن الكيمياء»، 1894.)
من اللافت للانتباه حقا أن معظم الحقائق المهمة عن الأوزون، منها صيغته (
O
3 )، أصبحت معروفة بحلول عام 1872؛ فالأوزون هو متآصل للأكسجين. والمتآصلات هي أشكال مختلفة للعنصر في الحالة نفسها؛ فالألماس، والجرافيت، والفوليرينات (مثل التي تشبه «كرة القدم»
C
60 ) كلها متآصلات للكربون، مثلما يعد الفوسفور الأحمر والفوسفور الأبيض متآصلين. ومع ذلك، لا يوجد الأوزون عادة إلا على مستوى جزء في المليون من الهواء (فيحتوي متر واحد مكعب من الهواء على مليجرام واحد من الأوزون). بالإضافة إلى ذلك، تزيد الطاقة الموجودة فيه كثيرا عن تلك الموجودة في الأكسجين، ونشاطه التفاعلي أكبر بكثير (عامل أكسدة أقوى)، ويتحلل بسهولة بفعل الحرارة أو بعد امتصاص الضوء فوق البنفسجي.
62
وعند تركيزه في شكل سائل، يكون قابلا للانفجار. إذا كيف نما إلينا هذا الكم من المعلومات في مثل هذا الوقت المبكر ؟
في عام 1785؛ أي بعد عقد من اكتشاف الهواء المنزوع الفلوجستون (الأكسجين) على يد شيله ثم بريستلي، أشعل مارتن فان ماروم عينة من هذا الغاز المحبوس داخل أنبوب فوق زئبق.
63 ،
64
فلاحظ أن الزئبق الملامس لهذا الأكسجين المكهرب قد فقد لمعانه.
65
في المقابل يتفاعل «الأكسجين الخالص» عادة مع الزئبق في درجات حرارة تزيد على 300 درجة مئوية.
66
ولاحظ أيضا أن الغاز الموجود في الأنبوب له الرائحة الكبريتية المميزة التي ترتبط عادة بالكهرباء. ومع ذلك، فقد استغرق الأمر أكثر من 50 عاما حتى افترض كريستيان فريدريك شونباين وجود مادة جديدة مميزة ووضع لها اسما (مشتق من كلمة «أوزون» الإغريقية التي تعني «أنا أشم»)، و20 عاما أخرى لفهم أنه لا يتكون إلا من عنصر واحد فقط وهو الأكسجين.
63 ،
64
بل إنه في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، كان مزيج الأكسجين والأوزون يسيل
66
ويتكثف باستخدام التقطير التجزيئي من الأكسجين. وكان يجب ضغط العينات التي تحتوي على أوزون مركز بحرص شديد؛ نظرا لأن التسخين عند الضغط قد يسبب انفجارا.
63
والأوزون الخالص هو سائل متفجر ذو لون أزرق داكن، يغلي عند درجة حرارة −112 مئوية.
62
يصور الشكل
7-20
مولد أوزون يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر.
63
الشكل
BB
يصور أنبوبا من الحديد يمرر خلاله الماء البارد (أنبوب
CC ). أما الأسطوانة الزجاجية
AA ، فقطرها أكبر قليلا من الأنبوب
BB ، وتمتلئ المساحة الصغيرة الكائنة بين هاتين الأسطوانتين بأكسجين يدخل عبر الأنبوب
DD . يغطى جزء من الأسطوانة الخارجية (الزجاجية) برقائق القصدير
GG . ويتصل الغطاء الخارجي القصديري والأنبوب الحديدي الداخلي عند النقطتين
E
و
F
بملف حث كهربائي. صمم هذا الجهاز من أجل إنتاج «تفريغ صامت عالي الفولتية»؛ نظرا لأنه من المعروف أيضا أن الشرارات تحلل الأوزون إلى أكسجين. وتمثل الاختبار المبكر لخصائص الأوزون في اختبار قدرته على تحويل ورقة الترشيح المغموسة في يوديد البوتاسيوم/المشربة بالنشا إلى اللون الأزرق:
63 ،
64 (7-1)
جدير بالذكر أن هذا التفاعل وغيره الكثير من التفاعلات الأخرى للأوزون قد أنتجت الأكسجين كناتج ثانوي (جزيء واحد من الغاز ينتج جزيئا واحدا من الغاز؛ أي لا يحدث تغير في الحجم). ومع ذلك ، كان من المعروف أن مكونات زيت التربنتين «تمتص» الأوزون بالكامل:
64 ،
67 (7-2)
لا يؤدي مولد الأوزون الموجود في الشكل
7-20
إلى تحول كامل إلى الأكسجين؛ نظرا لأن التحلل إلى المادة الأولية أمر مهم للغاية. وعادة ما يتم الحصول على 10 في المائة من مزيج الأكسجين والأوزون.
62
ومن ثم تصبح المشكلة متمثلة في إنشاء صيغة هذه المادة ذات القدرة التفاعلية المرتفعة، الموجودة بمقدار 10٪ فقط: (7-3)
جاء حل هذه المشكلة على يد جيه إل سوريه في عام 1872 باستخدام الجهاز الموضح بيانيا في الشكل
7-21 .
63
يحتوي المحلول الموجود في الوعاء المتحد المركز الموجود في الجانب الأيسر من جهاز سوريه على حمض كبريتيك مخفف أو كبريتات نحاس غمس فيه سلك (لم يظهر في الشكل وعاء الغمس الذي يحتوي على سلك آخر مغموس في ماء مثلج؛ علما بأن هذه الأسلاك موصلة بمصدر للكهرباء). يدخل الأكسجين في المساحة المتحدة المركز، التي تحتوي أيضا على أنبوب زجاجي رفيع مغلق مملوء بالتربنتين. يوجد اتصال محكم بين هذا الأنبوب الزجاجي والعالم الخارجي بحيث يمكن كسرها عند الرغبة. ووضع مانومتر يحتوي على حمض كبريتيك مركز مع صبغة نيلية على التوالي مع الوعاء الموجود في الجانب الأيسر.
وهكذا، إذا أنتج 10٪ من خليط الأوزون، فإن امتصاص التربنتين الكامل له سوف يختزل 100 سنتيمتر مكعب من الغاز إلى 90 سنتيمترا مكعبا. من ناحية أخرى، عند تسخين مزيج ال 10٪ هذا من أجل تحليل الأوزون إلى أكسجين، فإن مقدار العشرة سنتيمترات المكعبة الموجودة من الأوزون ينتج 15 سنتيمترا مكعبا من الأكسجين، بحيث يصبح إجمالي حجم الغاز 105 سنتيمترات مكعبة. بعبارة أخرى، إذا اكتمل التفاعلان (
7-2 ) و(
7-3 )، (بمعنى أن صيغة الأوزون هي
O
3 )، فإن تضاؤل الحجم عند اكتمال التفاعل مع الأوزون يجب أن يكون ضعف تمدد الحجم الذي يحدث عند التحلل الحراري للأوزون. وقد ثبتت إمكانية تكرار هذه التجربة، وأتاحت تحديد التركيبة رغم قلة وفرتها نسبيا في المزيج.
شكل 7-21: رسم للجهاز الذي استخدمه جيه إل سوريه في عام 1872 من أجل شرح صيغة
O
3
للأوزون. انظر النص من أجل قراءة الشرح (من كتاب بارتينجتون «الكيمياء اليومية»، 1929، ماكميلان وشركاه المحدودة، لندن ).
ونظرا لأن مفهوم التكافؤ كان عمره أكثر من عقد من الزمن، وتحدد تكافؤ الأكسجين بقيمة 2، كانت الصيغة التركيبية الأكثر منطقية في عام 1872 هي رقم 1 (تذكر عزيزي القارئ أن قاعدة الثمانيات أو الأزواج غير الرابطة من الإلكترونات لم يكن لها وجود في عام 1872، كما لم يكن يوجد أي اهتمام بتوتر الحلقة آنذاك). وظل هذا التركيب مفضلا على الأقل طوال عشرينيات القرن العشرين.
64
ومع ذلك، بدأت الكيمياء البنيوية التجريبية للمواد الصلبة (عبر حيود الأشعة السينية) والغازات (عبر حيود الإلكترونات) في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، ووجد أن الأوزون جزيء منحن
62 (وليس مثلثا متساوي الأضلاع)، مع وجود زاوية مقدارها 117 درجة تقريبا بين
O-O-O ، وأطوال الرابطة
O-O (1,28 أنجستروم) التي تتوسط الرابطة الأحادية (1,49 أنجستروم) والرابطة الثنائية (1,21 أنجستروم). وقد فسرت هذا التركيب بدقة نظرية الرنين لبولينج في ثلاثينيات القرن العشرين باعتباره هجينا من اثنين من تراكيب لويس النقطية،
2A
و
2B (التي تخضع لقاعدة الثمانيات):
68
وكما يعد جزيء الأوزون هجينا رنينيا من تركيبين مساهمين (رغم كونهما متطابقين) من تراكيب لويس، تعد خصائص الأوزون أيضا هجينا من آرائنا التقليدية عن «الجيد» و«السيئ». فلا يزال الأوزون في عصرنا الحالي عاملا فعالا لتنقية مياه الشرب. ومع ذلك، فإن تركيزه في طبقات الجو الدنيا في الضباب والدخان الذي صنعه الإنسان يشكل خطرا كبيرا على الصحة، خاصة على المصابين بالربو وكبار السن. من ناحية أخرى، يمتص الأوزون في طبقة الستراتوسفير الأشعة فوق البنفسجية الضارة، ويقلل من خطر الإصابة بسرطان الجلد. ولنا أن نقلق كثيرا بشأن الانخفاض الحالي في أوزون الستراتوسفير الناتج عن الكلوروفلوروكربونات المستخدمة منذ وقت طويل في عبوات البخاخات. وهنا نقتبس من أغنية من حقبة الروك آند رول: «أيها أوزون» هل أنت «شيطان أم ملاك؟»
69 (7) «الكيمياء مكثفة» «كيميا كوارتاتا» (الشكل
7-22 ) هي المرادف اللاتيني لمصطلح «الكيمياء المكثفة».
70
يسمح الشكل المستطيل «الفريد» لهذا الكتاب، الذي قال عنه أحد النقاد إنه «أقرب إلى دفتر الشيكات من أي مجلد عادي»،
71
بكتابة جداول أفقية طويلة تبدأ من الصفحة اليسرى وتنتهي على الصفحة اليمنى من الورقة المقابلة. إنه كتاب غير مألوف على نحو مذهل؛ سواء من حيث عنوانه «الصارخ» الذي لم يحقق الكثير من المبيعات، أو من حيث دفن أتباعه المخلصين مع نسخهم من الكتاب حتى يستطيعوا التعامل مع المعضلات الكيميائية في مثواهم الأخير. وإليك مقتطفا من المقدمة:
71 «كان الهدف الأساسي للمؤلف ضغط كل ما يرتبط بالدراسة ويستحق اهتماما في أقل مساحة ممكنة، وعدم تقديم أي مادة تفسيرية أكثر مما تقتضيه الحاجة فعليا من أجل جعل كل موضوع مفهوما بالكامل.» في الواقع، كان لي صديق في المرحلة المتوسطة من التعليم استطاع «ضغط» هذا الكتاب بأكمله المكون من 111 صفحة في صفحة واحدة صغيرة قبيل امتحان الكيمياء النهائي (انظر «عالم طبيعي»، المقال الأول في خاتمة هذا الكتاب). لكني أستطرد. في رأي مؤلف الكتاب كولماير، يشمل الجمهور المستهدف:
72 (1)
الطلاب العازمين على التقدم لاختبارات (الذين قال عنهم أحد نقاد الكتاب في عام 1876: «الذين يفترض، كقاعدة، أن نقدم لهم هذه النصيحة العامة: لا تفعلوا!»).
71 (2)
الأفراد الذين تعلموا أسلوب التدوين «القديم» ويرغبون في التعرف على «النظام الحديث». (3)
الراغبين في مواكبة كل جديد في هذا الموضوع؛ ومن ثم يمكنهم بسهولة إنعاش ذاكرتهم دون أن يكون هذا على حساب ارتباطاتهم الأخرى.
شكل 7-22: أحد الجداول من الكتاب النادر الصادر في عام 1875 «الكيمياء المكثفة». لا يا فرجينيا، ليس من الممكن الاستذكار قبل امتحان الكيمياء النهائي بوقت قصير، أو «إنعاش ذاكرة (القراء) دون أن يكون هذا على حساب ارتباطاتهم الأخرى».
إن وقع هذا الوعد الأخير يشبه واحدا من إعلانات آخر الليل، تلك التي تعد بفقدان الوزن مع تناول أي شيء ترغب فيه في أثناء مشاهدتك التليفزيون: «كلما زاد التغيير، ظلت الأشياء على حالها.»
من المثير فحص المدخل الخاص بالفلور (الشكل
7-22 )، قبل 11 عاما فقط من عزله في عام 1886 على يد هنري مواسان. فكانت ثمة تلميحات مثيرة تشير إلى وجود عنصر جديد طوال قرن مضى عندما أعلن كارل فلهلم شيله، في عام 1771، نتائج إضافة الفلورسبار (فلوريد الكالسيوم) إلى زيت الزاج (حمض الكبريتيك) متبوعا بالتقطير. كانت النتيجة الملحوظة تآكل معوجة التقطير الزجاجية (بفعل تكون حمض الهيدروفلوريك)، وما يتبع ذلك من تكون غاز (
SiF
4 ) تنتج عنه السيليكا الهلامية عند اتصاله بالماء.
73
ومع ذلك، استغرق الأمر 115 سنة أخرى حتى حرر مواسان الفلور أخيرا، باستخدام الكيمياء الكهربائية، من أي شريك كيميائي آخر.
74 (8) الإنسان الأعسر يستمتع ب «شعور النشوة»، لكن ليس بمذاق جعته
ظلت رؤية لويس باستير العبقرية، عن كون عدم التناظر المرآتي (أو «اليدوية») للبلورات ينشأ من التركيب الجزيئي الأساسي، غير مستغلة طوال ربع قرن.
75
ولكن عقب الافتراضات المستقلة تماما لجوزيف أكيل لي بيل، وياكوبس هنريكوس فانت هوف في عام 1874 عن الكربون الرباعي الأوجه،
75
انتقل الباحثون في الكيمياء على الفور إلى البعد الثالث. فاكتشف باستير لأول مرة في عام 1848 أن بعض المواد البلورية كانت «عديمة التناظر المرآتي» أو «يدوية» (مثل اليد اليسرى واليد اليمنى من حيث كون بعض البلورات صورا مرآتية لا يمكن أن تتراكب)؛ فعندما أذاب البلورات «اليمينية» و«اليسارية» لطرطرات البوتاسيوم أمونيوم، المشتقة من صناعة النبيذ، في أوعية منفصلة من الماء، كانت المحاليل الشفافة الناتجة نشطة بصريا بالتساوي لكن على نحو عكسي. واستنتج باستير أن هذه «اليدوية» أو انعدام التطابق كانت موجودة في الجزيئات التي تتكون منها البلورة، لكنها تحررت في المحلول. وقد نشأت هذه الفكرة المجردة قبل نشأة مفهوم التكافؤ بعشر سنوات أو نحو ذلك؛ ومن ثم لا يمكن أن يكون باستير يعلم أي شيء عن القواعد التي تحكم طريقة ارتباط الذرات.
شكل 7-23: قصاصات لنماذج جزيئية ورقية أو من الورق المقوى من أول طبعة ألمانية لكتاب فانت هوف «ترتيب الذرات في الفراغ»، 1877 (يمكن العثور على الصور الملونة للنماذج المركبة في كتاب هايلبرونر ودونيتز «تأملات في التطابق»، 1993).
شهدت السنوات الخمس والعشرون التالية واحدة من أسرع الثورات وأكبرها التي تحدث طوال الوقت في مجال العلم؛ فقد شرح مفهوم التكافؤ صيغا وأيزومرات؛ وتوصل إلى أن السلوك الكيميائي يتحكم فيه عادة التركيب الجزيئي، وأخيرا توسع في النظرية الكيميائية لتشمل البعد الثالث. والشكل
7-23
مأخوذ من أول طبعة ألمانية (1877)
76
لعمل فانت هوف عن الكيمياء الفراغية، ويظهر بعض القصاصات لنماذج «اطوها بنفسك » الجزيئية المصنوعة من الورق المقوى - وهي نوع من «الأوريجامي الجزيئي» يتوافق تماما مع الطموحات الفنية للكتاب الذي تقرؤه الآن. وتمثل الصورتان العلويتان في الشكل
7-23 (الصورتان 39 و40) قصاصات لاثنين من رباعيات الأوجه تلونت فيهما الزوايا بألوان مختلفة (الأحمر، والأزرق، والأبيض، والأصفر)، يمثل كل لون منها نوعا مختلفا من الذرات أو مجموعات الذرات التي ترتبط بذرة كربون مركزية (
Cwrsb ). أما الصورتان 41 و42، فتوضحان قصاصتين لشكلين رباعيي الأوجه تلونت فيهما الأوجه الأربعة المثلثة، وليس الزوايا، بأربعة ألوان مختلفة. ركب هذين الزوجين من الأشكال معا وسوف تكتشف أنهما يشكلان زوجين من الأشكال المرآتية الثلاثية الأبعاد لا يمكن مطابقتهما؛ ومن ثم فهي أشكال لا تناظرية أو «يدوية». (يمكن العثور على الصور الملونة لنماذج فانت هوف الأصلية من الورق المقوى في الكتاب الجذاب الذي شارك في تأليفه كل من إدجار هايلبرونر وجاك دي دونيتز.)
77
من الواضح أن زوجي الأشكال المعروضين على نحو ثنائي الأبعاد في أعلى الشكل
7-23
هما، في الواقع، صور مرآتية لا يمكن تركيبها معا بأي حركة أو تدوير في بعدين. في رواية «الأرض المسطحة»،
78
كانت هذه الأشكال لتصبح صورا مرآتية لا يمكن تركيبها معا (تماما مثل الرسوم الاستشفافية الثنائية الأبعاد على ورقة ليديك اليسرى واليمنى). ولو كانت المناطق الملونة هي نفسها على كلا الجانبين من هذه الأشكال الأربعة الثنائية الأبعاد، لاستطعنا - نحن البشر الذين نشغل حيزا ثلاثي الأبعاد - قص إحداها وتدويرها 180 درجة وتركيبها في الشكل المناسب. بالمثل، لو كانت كلتا يديك متطابقة من أعلى وأسفل (10 مفاصل أصابع في كل يد - وهي «ميزة» تسمح بتسديد لكمات بالجزء الأمامي والخلفي من اليد)، لأمكن تركيب الصور المرآتية الثنائية الأبعاد في ثلاثة أبعاد. يشير المبدأ ذاته إلى أننا - نحن الأفراد الذين نعتمد على القدرات المكانية في تقدير الأشياء - لا يمكننا مطابقة شكلين رباعيي الأوجه ثلاثيي الأبعاد لهما تناظر معكوس، أو في هذا الإطار، يدينا اليمنى واليسرى. ومع ذلك، من الواضح أن الفرد الذي يعيش في فضاء رباعي الأبعاد قد يحظى بالكثير من المرح معنا؛ فقد يكون من الممتع تخيل حلاق يستخدم يده اليمنى يضع مقصه جانبا لبرهة، وبعد دخوله في البعد الرباعي، يعود إليه في لمح البصر مقصا لشخص أعسر. على الأرجح لن يسعد الحلاق أو الزبون بالنتائج.
الشكل
7-24
من سلسلة من أربعة مقالات نشرت في عام 1901 بغرض تعريف العاملين في مجالي الفنون والتصنيع بالتطورات الهائلة التي حدثت في مجال الكيمياء الفراغية.
79
كان المؤلف، ويليام جاكسون بوب، أستاذا للكيمياء في كامبريدج، وأسهم إسهاما ملحوظا في مجال الكيمياء الفراغية.
80
توضح الصور الثلاث في الشكل
7-24 (
a ) التركيب الثلاثي الأبعاد الرباعي الأوجه للميثان،
79
والتركيبات الرباعية الأوجه للمصاوغات المرآتية (صور مرآتية لا يمكن مطابقتها) لحمض اللبنيك (تظهر ذرة الكربون المركزية في مركز الشكل الرباعي الأوجه).
79
ترتبط ذرة الكربون المركزية في حمض اللبنيك بأربعة بدائل مختلفة (ذرات أو مجموعات من الذرات). ويعتبر هذا المركز الكربوني غير المتماثل شرطا كافيا، رغم كونه غير ضروري، لانعدام التناظر. وأي شكل حلزوني (على سبيل المثال، الزنبرك أو البرغي) يكون «يدويا» أيضا.
شكل 7-24: (
a ) صور للميثان الرباعي الأوجه بالإضافة إلى الصور المرآتية غير المتطابقة (المصاوغات المرآتية) لحمض اللبنيك (من «جورنال أوف ذا سوسايتي أوف ذا آرتس»، بوب، 1901)؛ (
b ) بلورات المصاوغات المرآتية للكوارتز، التي تنشأ من تكوينه الحلزوني الخفي (من كتاب «الكيمياء العامة» للينوس بولينج، حقوق الطبع 1947 للينوس بولينج. مستخدم بإذن من دبليو إتش فريمان وشركاه).
لعب حمض اللبنيك دورا محوريا في تطور الكيمياء الفراغية؛
75
فقد عزل لأول مرة على يد شيله من اللبن المتخمر في عام 1770. كذلك عزل بيرسيليوس حمض اللبنيك من العضلات في عام 1807. وعقب ظهور قياس الاستقطاب في أوائل القرن التاسع عشر، اتضح أن حمض اللبنيك الذي عزله شيله غير نشط بصريا، في حين كان حمض اللبنيك الذي عزله بيرسيليوس، الذي كان مطابقا لحمض شيله في كل الجوانب الأخرى، نشطا بصريا. وقد فسر كل من فانت هوف ولي بيل هذه الظواهر بافتراض أن حمض بيرسيليوس كان يحتوي على مصاوغ مرآتي واحد فقط، بينما كان حمض شيله مزيجا راسيميا - أي يحتوي على كلا المصاوغين المرآتيين بكميات متساوية تماما.
كان باستير أول من لاحظ عدم التناظر المرآتي لطرطرات البوتاسيوم أمونيوم البلورية - وهي مادة عضوية - التي فصلها بجهد كبير بيديه إلى بلورات «يسارية» و«يمينية». كذلك يظهر كثير من المعادن الموجودة في الطبيعة «يدوية» عيانية ترى بالعين المجردة ، وأشار باستير إلى هذا كما ينبغي. ويعبر التكوينان الموضحان في الشكل (
7-24 ) عن رسومات لبلورات «يسارية» و«يمينية» للكوارتز.
81
اكتشف باستير أيضا أنه بينما تبدو الخصائص الفيزيائية والكيميائية للمصاوغات المرآتية متطابقة بكل الطرق فعليا، فإن الخمائر والعفن والبكتريا يمكن أن تميز بينها؛ ومن ثم حقن حمض الطرطريك الراسيمي بفطر «البنسيليوم الأزرق»، ووجد أن هذا الفطر «حلل» المزيج عن طريق تأييض أحد المصوغات المرآتية بينما ترك الآخر.
79
ومن ثم أدرك باستير أن كيمياء الحياة لا تناظرية، وإن كان لم يفهمها إلا بأكثر طريقة مجردة. يحتوي حمض الطرطريك على ذرتي كربون مترابطتين غير متناظرتين. نظريا، قد يسمح مثل هذا التركيب بوجود 2 × 2 أو أربعة من المصاوغات الفراغية. وتوضح الصور من 43 إلى 46 في الشكل
7-23
نماذجا جزيئية يمكن تجميعها لتمثل المصاوغات الفراغية الأربعة لجزيء صيغته العامة هي
srwC-Cwbs . ومع ذلك، لا توجد إلا ثلاثة مصاوغات فراغية ممكنة (الصور من 47 إلى 49) لصيغة
srwC-Cwrs . ركب هذه الأشكال وحاول تجربتها. تتوافق طرطرات باستير مع اثنين من هذه التركيبات المحتملة، حاول معرفة أيها.
أشار بوب في عام 1901
79
إلى أن النشاط البصري الملاحظ لبلورات الكوارتز سمح لعلماء أواخر القرن التاسع عشر باستنتاج أن تركيبه الجزيئي الأساسي حلزوني؛ فقد أدركوا في ذلك الوقت أن وصلات الربط الموجودة في الكوارتز لم تشتمل على أي مراكز لا تناظرية، ومع ذلك كانت بلورته لا تناظرية. لقد كانت الطبيعة البلورية للكوارتز تقتضي تركيبا منتظما ودوريا. والحلزون هو التركيب المنتظم اللاتناظري الوحيد الذي يمكن أن تنطبق عليه هذه الشروط. وبينما نعرف حاليا أن الكوارتز يتكون بالفعل من تركيبات حلزونية طويلة،
82
وندرك بوضوح منطق علماء الكيمياء الذين تعرفوا على تركيبه الجزيئي، لا نزال تنتابنا الرهبة من هذه التوقعات الاستشرافية المذهلة التي سبقت تصوير البلورات بالأشعة السينية بعقود. ويظل أصل النشاط البصري على سطح الأرض لغزا حتى يومنا هذا. يقول أحد الآراء إن بلورات مثل الكوارتز أو الكالسيت (كربونات الكالسيوم) كونت نماذجا لا تناظرية، كونت، بمحض المصادفة، فائضا من جزيئات «يدوية» من نوع واحد فقط على الكوكب.
83
يخبر بوب قراءه بأنه بحلول نهاية القرن التاسع عشر، أصبح معروفا أن السكريات والأحماض الأمينية التي تتكون منها أجسامنا، على وجه التحديد، جزيئات «يمينية» و«يسارية» على التوالي. ثم يمزح قليلا بتخيل الظهور المفاجئ ل «إنسان أعسر» استنادا إلى السكريات «اليسارية» والأحماض الأمينية «اليمينية».
79
ويختتم بوب سلسلة مقالاته على نحو كئيب نوعا ما:
إذا ظهر إنسان تربطه بنا صلة على مستوى المصاوغة الفراغية - ذلك الإنسان الأعسر الذي تحدثنا عنه - على كوكبنا، فإن الاحتمالات كافة تقول إنه سوف يموت جوعا على الفور؛ لعدم قدرته على هضم المواد الغذائية التي يمكننا وضعها أمامه.
وحتى نكون أقل كآبة بشأن هذا الأمر، لنتخيل أول يوم للإنسان الأعسر على الكوكب يبدأ على نحو جيد بما فيه الكفاية. «يستيقظ على الجانب الخطأ من السرير» في سعادة، ويحصل على كوب منعش من الماء، ويأخذ حماما منعشا،
84
ويلاحظ، بينما يصنع قهوته، رائحة غريبة ويختبر أول كوب له؛ داكنة كالمعتاد، لكن مذاقها بشع؛
84
فيضع ملعقة صغيرة من السكر تليها ملعقة أخرى، وأخرى، ثم اثنتان أخريان،
84
دون أي تحسن في مذاق القهوة. أما شريحة الخبز المحمصة التي لديه، فلها مذاق البطاطس المهروسة بطعم الشكولاتة.
84
يتملكه الغضب، فيسكب كوبا من الجعة الباردة ويشربها دفعة واحدة. طعمها بالغ البشاعة.
84
ثم يشرب فودكا قوية، ليبدأ الإحساس بالطعم المألوف ويبدأ هذا يهدئ أعصابه.
83
ومع نهاية الصباح، يبدأ الصداع التسلل إليه، لكن تناول قرصين من الأسبرين مع كوب من الماء سرعان ما يخفف الألم.
84
يعود إلى السرير ليأخذ قيلولة قصيرة، ثم يستيقظ فجأة، ويتفاجأ بأنه قد «استيقظ على الجانب الصحيح من السرير»، ليدرك على الفور أن باقي اليوم سوف يكون كارثيا. (9) ماذا يمكن للمرأة أن تكتب عنه أيضا؟
شكل 7-25: صفحة العنوان لكتاب إلين هنريتا سوالو ريتشاردز (إلين ريتشاردز) الصادر في عام 1882 «كيمياء الطهي والتنظيف ». كانت السيدة ريتشاردز ضمن أول دفعة تتخرج في فاسار، وافتتحت مختبر الكيمياء للنساء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وأسست فرع الكيمياء الصحية، وشاركت في تأسيس الجمعية الأمريكية للجامعيات، وكانت ناشطة بيئية سابقة لعصرها بعدة عقود. ولم تكن لتسعد بالدعاية الخادعة لمياه «الأوزون حياة» المعبأة (الشكل
7-18 ) أو صابون الأوزون (الشكل
7-19 ).
لا تنخدع بعنوان كتاب إلين هنريتا سوالو ريتشاردز الطريف، «كيمياء الطهي والتنظيف» (الشكل
7-25 )،
85
الذي نشر في عام 1882؛ فقد كانت ريتشاردز أول طالبة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (وحصلت على بكالوريوس العلوم، عام 1873)، وأصبحت معلمة في المعهد، وأسست مختبره النسائي. وربطت الكيمياء البحتة والتطبيقية بالعلوم الاجتماعية، وأسست مجال الاقتصاد المنزلي العلمي. وشاركت في عام 1882 في تأسيس ما أصبح في النهاية الجمعية الأمريكية للجامعيات.
86 ،
87 ،
88 ،
89 ،
90
ولدت إلين سوالو، السابقة لعصرها، لوالدين معلمين في ريف ماساتشوستس في عام 1842 (وتوفيت عام 1911)، وحصلت على تعليم ريفي، وعملت بالتدريس محليا، وادخرت من المال ما يكفي لتلتحق بمدرسة تجريبية للتعليم العالي النسائي في مدينة بكبسي، بنيويورك. كان الحافز وراء اهتمامها بالكيمياء التحليلية هي الأستاذة إيه سي فارار. وعن ذلك تقول سوالو بعد أول تدريب معملي لها: «تشجعنا الأستاذة فارار على الاجتهاد فيها؛ إذ إن مهنة عالم الكيمياء التحليلية مهنة مربحة للغاية، وتمثل عملا رائعا ودقيقا للغاية، ومناسبا لأيدي المرأة.»
89
كانت ضمن أول دفعة تتخرج في كلية فاسار في عام 1870، وكرمت بلوحة تذكارية في قاعة بلودجيت.
89
وتعهدت الخريجات الجدد ب «الطاعة دون حنق للسلطة، والإذعان، والاجتهاد، وحسن السلوك».
89
وفي عام 1871 التحقت بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وتفوقت في دراساتها، والتقت بالأستاذ روبرت هالويل ريتشاردز، الذي تزوجته في عام 1875 بعدما أصبحت عضوا في هيئة التدريس بالكلية. يصور كتاب للأطفال أيام دراستها في معهد ماساتشوستس بمشهد طريف تحصل فيه على قبول زملائها من الذكور في الصف عن طريق خبز البسكويت لهم.
90
حصلت ريتشاردز من عملها المبكر في الكيمياء التحليلية للمعادن والماء على تقدير واسع النطاق، إلا أن عملها في إدخال الكيمياء الصحية إلى المنازل أكسبها في النهاية شهرة عالمية.
إن كتاب «كيمياء الطهي والتنظيف» هو كتاب رفيع واقتصادي وفعال للغاية في أسلوب عرضه المباشر لجمهوره من النساء. وإليك ما قالته السيدة ريتشاردز عن غش المصنعين الذين تكشف زيف ادعاءاتهم بشأن «المكونات السرية»:
تحظى الكيمياء والمصطلحات الكيميائية بهيبة كبيرة لا تزال عالقة في الأفق، وهو أمر متوارث من عصر الخيمياء؛ فبإمكان كل عالم كيمياء تذكر حالات كثيرة طلب فيها منه المصنعون وصفات لصنع بديل لشيء معروف، وتوقعوا الحصول على أكثر النتائج عبثية من مجرد مزج مادتين معا. فجمهور الناس يعتقد أن للمواد الكيميائية قوة هائلة، ويستغل المصنعون عديمو الضمير هذه السذاجة أكبر استغلال.
حسنا، حتى صابون أيفوري كان «نقيا بنسبة تسعة وتسعين وأربعة وأربعين من مائة في المائة» فقط. وماذا كانت لتقول عن صابون الأوزون (انظر مقالا سابقا في [الجزء السابع: التخصص والتنظيم، القسم السادس: الأكسجين الكهربائي])؟
يصاحب الحديث عن التركيب الكيميائي للأطعمة تحليل لمحتواها من الطاقة، والعادات الغذائية للثقافات المختلفة. فتشير الكاتبة على نحو واف إلى أن الأرز، وهو نوع من الكربوهيدرات، أقل في محتواه من الطاقة بكثير من محتواه من الدهون، مع تفسير كون الأولى المكون الغذائي الأساسي في الثقافات الاستوائية والأخيرة مكونا مهما في الأجواء القطبية. بل يمكن لامرأة فطنة، تلاحظ أن أطفالها (أو زوجها) ربما يتعرضون لتراكم كثير من «الرواسب» من نظامهم الغذائي، أن «تعاير» هذه الرواسب كيميائيا باستخدام الأكسجين من أجل حرق الفائض في صورة
CO
2
و
H
2
O
عبر ممارسة نشاط خارجي:
هكذا أصبح الطهي فنا يستحق اهتمام السيدات الذكيات والمثقفات. تقوم قوانين النشاط الكيميائي على قانون النسب الثابتة، وأي شيء يضاف أكثر مما ينبغي يخل بهذا القانون. فيجب على كل ربة منزل دراسة حالة أسرتها، وإغراؤهم بأطباق لذيذة إذا كان هذا ما يحتاجون إليه. فإذا تراكم الرماد على الحاجز الحديدي للموقد، سوف تطلب من أحد الخدم نفض الرماد عنه حتى يمكن للنار أن تشتعل. وإذا رأت أن رماد الأطعمة التي استهلكت مسبقا يعوق الطاقات الحيوية لطفلها، فعليها أن تخرجه في الهواء الطلق؛ حيث الأكسجين والتمارين، حتى تجعله سعيدا، لكن عليها ألا تعطيه مزيدا من الطعام.
استشهد بيل هاتشينسون، العالم بجامعة ييل، بخطاب الدعوة إلى اجتماع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الذي كتبته إلين سوالو ريتشاردز في عام 1910؛ أي بعد أكثر من 60 عاما، بوصفه دعوة واضحة للحفاظ على البيئة واحترامها:
89 ،
91
تعتمد جودة الحياة على قدرة المجتمع على تعليم أعضائه كيفية العيش في تناغم مع بيئتهم - التي تعرف أولا بالأسرة، ثم بالمجتمع، ثم بالعالم وموارده.
كانت إلين سوالو ريتشاردز من أوائل الرواد في تعليم النساء الكيمياء. ويظهر الشكل
7-26
صورة فوتوغرافية، من مؤسسة فرانك لويد رايت، التقطت بين عامي 1900 و1910.
92
كانت هؤلاء السيدات الشابات من مدرسة هيلسايد المنزلية، الواقعة بقرية سبرينج جرين، بولاية ويسكونسن. كانت عمتا هذا المهندس المعماري الشهير داعمتين للمدرسة، وبعد إغلاقها، أصبحت في النهاية جزءا من ضيعة فرانك لويد رايت. وقد التقطت هذه الصورة على الأرجح على نحو روتيني في المدرسة، وأصبحت في النهاية جزءا من مقتنيات الضيعة. وكان من الرواد الأوائل الآخرين د. إدجار فاهس سميث، أستاذ الكيمياء في جامعة بنسلفانيا. أنهت عشر سيدات رسائل الدكتوراه تحت إشراف د. سميث في الفترة بين عامي 1894 و1908، وأصبح عدد منهن أعضاء في هيئة التدريس بالكلية.
93
وتشكل مجموعة سميث من الكتب الكيميائية والأعمال الفنية حاليا أساس مجموعة كتب تاريخ الكيمياء في جامعة بنسلفانيا. وكان كتابه العظيم «الكيمياء القديمة»
94
عملا يتسم بالحماس وسعة الاطلاع، وكان مصدر إلهام لهذا الكتاب. يشتمل الكتاب على مناقشة رائعة عن جين مارسيت و«محاوراتها في الكيمياء».
شكل 7-26: صورة فوتوغرافية لفصل كيمياء للسيدات في مدرسة هيلسايد المنزلية في سبرينج جرين، بولاية ويسكونسن، قرب مطلع القرن العشرين (بإذن من أرشيف فرانك لويد رايت، سكوتسديل، أريزونا). (10) البحث عن علامات للنيون
اكتشف غاز الأرجون النبيل في عام 1894، ويقدم لنا تفاصيله الكيميائية رايلي ورامزي في مقالهما الحائز جائزة هودجكين في عام 1896،
95
ولخصت بإيجاز في مواضع أخرى.
96
وكما يحدث دوما في الكيمياء، أدى تفاوت ضئيل، لكنه حقيقي، إلى سلسلة من الاكتشافات الخطيرة. بإيجاز، تواصل الفيزيائي لويد رايلي (جون ويليام ستروت) مع الكيميائي ويليام رامزي بشأن الملاحظة الغريبة بأن كثافة «النيتروجين الجوي» (1,2572 جرام في اللتر) كانت أعلى بنحو 0,6٪ من كثافة «النيتروجين الكيميائي» (1,2505 جرام في اللتر). كان يمكن تصنيع «النيتروجين الكيميائي»، على سبيل المثال، من خلال تسخين كلوريد الأمونيوم البلوري النقي حتى يطلق الأمونيا، ثم إجراء تفاعل بين هذا الغاز والأكسجين على نحاس شديد السخونة. وفي دراستهما عن «النيتروجين الجوي»، أزال رامزي كيميائيا الماء، وثاني أكسيد الكربون، والغازات النزرة الأخرى؛ ومن ثم الأكسجين (عبر تعريضه إلى نحاس ملتهب). وأزيلت كامل مكملات النيتروجين عبر التفاعل مع ماغنسيوم ملتهب من أجل صنع مسحوق النتريد. وكان ما تبقى نسبة أقل من 1٪ من بقايا غاز غير تفاعلي أطلقوا عليه اسم «أرجون» (بمعنى «كسول»). وأشارا باحترام شديد إلى أن هنري كافنديش قد حصل على هذه البقايا نفسها بنسبة 1٪ منذ أكثر من قرن مضى عن طريق إشعال النيتروجين الجوي بالكامل بواسطة الأكسجين. واشتمل إجمالي اكتشافاتهما على توصلهما إلى أن الأرجون أحادي الذرة، رغم الصعوبات المفاهيمية المترتبة على وزنه الذري البالغ 40، وأنه غير تفاعلي تماما، مثل الهليوم المكتشف حديثا، وربما حدد، مع الهليوم، عائلة جديدة بالكامل في الجدول الدوري.
97
من المهم التأكيد على أن كثافة الأرجون كانت لتشرح بدقة لو أنه كان ثنائي الذرة (
Ar
2 )، مثل كل الغازات العنصرية الأخرى المعروفة آنذاك. فكان الوزن الذري 20 سيجد مكانا مناسبا له بين وزن الفلور (19) والصوديوم (23). غير أن الوزن 40 يبدو أن مكانه المناسب بعد البوتاسيوم (39) وأنه مساو للكالسيوم. ورغم ظهور «مشكلة» مشابهة بين الأوزان الذرية لليود والتيلوريوم، كان ثمة شعور بأن هذا الانحراف الفردي سيصحح يوما ما. وفي عام 1896، لم يكن يوجد أي مفهوم عن النويات أو النظائر، والأهم من ذلك، حقيقة أن العدد الذري - المعيار الذي يحدد فعليا ترتيب العناصر (وليس الوزن الذري) - لن يكتشف إلا بعد عقدين من الزمن. وعليه كانت حقيقة أن الأرجون غير قابل للاستخدام بمنزلة تهديد حقيقي بكسر القانون الدوري.
نقلت اكتشافات الأرجون وغيره من الغازات النادرة على مستوى شخصي للغاية على يد موريس دبليو ترافرز، الذي كان قبل ثلاثة عقود طالبا جامعيا شابا لدى رامزي في جامعة بريستول.
98
وأرى جانبا ساخرا لوحظ مبكرا في كتاب ترافرز. فها هو يستشهد بحديث فانت هوف، أول فائز بجائزة نوبل في الكيمياء، من تقرير هولندي معاصر كالتالي:
99
كيف حدث إذا هذا الاكتشاف؟ ظل لورد رايلي! المسكين رايلي ! عاما بعد عام يزن النيتروجين؛ النيتروجين من اليوريا، والنيتروجين من نترات الأمونيوم، والنيتروجين من الهواء، ووجد أن الأخير أثقل وزنا: 1,2572 مقابل 1,2505 جرام في كل لتر من النيتروجين؛ ومن ثم كان النيتروجين الموجود في الهواء مختلفا إلى حد ما؛ إذ كان يحتوي على شيء مختلف عن النيتروجين الكيميائي، وانطلاقا من هذا الافتراض الأخير أزال رامزي جميع المواد الممكنة من الهواء، ولم يتبق إلا فقاعة غاز كافنديش الصغيرة الشهيرة العديمة اللون، الخالية من أي طعم أو رائحة.
وجد ترافرز أن هذا المقال يدور «في إطار ساخر لاذع بأكمله، ويستخف بعمل كل من اللورد رايلي ورامزي.»
99
وفي الواقع، يشير ترافرز إلى أن رايلي لم «يمتهن» وزن النيتروجين، وأن دراسته للكثافات النسبية للغازات كانت جزءا من دراسة واسعة للأوزان الذرية النسبية للعناصر حملت، كما يمكنني القول الآن بعد أكثر من قرن، تداعيات مستقبلية خفية، ولكن عميقة، فيما يتعلق بفهم التركيبات النووية للذرات.
100
لكن أليس هذا فانت هوف نفسه الذي افترض، وهو مدرس في السادسة والعشرين من عمره في كلية الطب البيطري في أوترخت منذ نحو 22 عاما، وجود الكربون الرباعي الأوجه والكيمياء في الفضاء الثلاثي الأبعاد؟ أليس هذا فانت هوف ذاته الذي اشتهر بتعرضه إلى «النقد اللاذع» من جانب عميد الكيمياء العضوية الألماني الذي شارف على الستين، الأستاذ الدكتور أدولف فيلهلم هيرمان كولبه؟
101 ،
102
حسنا، لعلها نقاط ضعف البشر الموهوبين. يصف ترافرز بسعادة معلمه السابق رامزي معلما لطيفا وأبويا، مهتما بطلابه ومعتدلا ومنصفا في المناقشة.
لاحظ نورمان لوكير سلسلة جديدة من الخطوط الطيفية في أثناء كسوف الشمس في عام 1868. وتعرف على عنصر جديد وأطلق عليه اسم «هيليوم» (من كلمة «هيليوس» الإغريقية بمعنى شمس). وفي عام 1888، عزل معدن غير تفاعلي مستخرج من معدن الكليفيت، الذي يحتوي على اليورانيوم، على يد د. دبليو إف هيلدبراند بوكالة المسح الجيولوجي الأمريكية، الذي وصفه خطأ بأنه نيتروجين. وفي عام 1895؛ أي بعد عام من اكتشاف الأرجون، فحص رامزي، باقتراح من السيد هنري مايرز بالمتحف البريطاني، الكليفيت بالإضافة إلى بعض المعادن الأخرى التي تحتوي على اليورانيوم، وجمع المكونات الغازية كما شرحنا مسبقا، واكتشف غازا خاملا أحادي الذرة كتلته 4 كمكون رئيسي.
103
واكتشف ويليام كروكس، الذي حصل على أول طيف للأرجون بالتعاون مع كل من رايلي ورامزي، أن طيف هذا الغاز الضوئي الجديد كان مطابقا لطيف هيليوم لوكير.
103
وكما أشرنا من قبل، افترض رامزي أن الهليوم والأرجون يشكلان عائلة دورية جديدة. ومن الضروري هنا ملاحظة أن عمل رامزي على الهليوم جرى قبل عام من اكتشاف هنري بيكريل لظاهرة النشاط الإشعاعي باستخدام ملح اليورانيوم؛ وقبل ثلاث سنوات من صياغة الزوجين كوري لمصطلح «النشاط الإشعاعي» وعزلهما للبولونيوم والراديوم؛ وقبل نحو ثماني سنوات من بدء الإدراك العام بأن جسيمات ألفا هي هليوم ينقصه إلكترونان.
104
ومن ثم كان بالإمكان العثور على الهليوم بوضوح في معادن غريبة معينة تحتوي على اليورانيوم والثوريوم. ولم يرتبط قط بالنشاط الإشعاعي؛ إذ لم يكن معروفا.
والآن ظهر تحد قوي أمام رامزي؛ فقد كان أحد أعضاء العائلة الجديدة من الغازات النبيلة في الصف الأول من الجدول الدوري (الهليوم)، وعضوا آخر في الصف الثالث (الأرجون). وكان المفقود هو الغاز النبيل الذي يقع في الصف الثاني الذي قدر وزنه الذري ب 20، وكذلك الغازات الخاملة المحتملة الأثقل وزنا، لكن الهدف الأساسي تمثل في ملء الفجوة المندليفية. وباءت محاولات العثور على غازات نبيلة جديدة في الغلاف الجوي مبدئيا بالفشل. وخضعت معادن غامضة وغريبة مثل الكليفيت النرويجي، والنيازك، والغازات من باطن الأرض التي تخرج في شكل فقاعات في الينابيع الحارة في أيسلندا وغيرها، للفحص دون جدوى.
103 ،
105
والآن، نحتاج، بإيجاز شديد، إلى معرفة طريقة تسييل الغازات (أو حتى تجميدها) عند درجات حرارة شديدة الانخفاض (شديدة البرودة). ثمة إشارات إلى وجود مستويات منخفضة جدا من غاز نبيل آخر على الأقل في الأرجون حثت رامزي وزملاءه على تحري إمكانية تسييل الهواء (أو أجزاء مختارة) وإتباعه بتقطير تجزيئي. مرة أخرى، تجدر بنا الإشارة إلى أن درجات الحرارة التي تقترب من الصفر المطلق (درجة حرارة صفر كلفن أو −273,16 درجة مئوية أو نحو −460 فهرنهايت) قد توصل إليها قبل نهاية القرن التاسع عشر. ويعرف المبدأ المهم هنا باسم تأثير جول-تومسون،
106
الذي اكتشف في منتصف القرن التاسع عشر؛ ففي حال تمدد غاز ما من وعاء إلى فراغ، فإن الغاز المتبقي (والمواد الأخرى في الوعاء) سوف تبرد. فإذا تعرض غاز إلى الضغط أولا، فسوف ترتفع درجة حرارة الغاز، لكن يمكن لغلاف تبريد إزالة هذه الحرارة، تاركا غازا مضغوطا باردا، يمكن تبريده أكثر عند تعريضه لضغط منخفض. في الواقع، كثف مايكل فاراداي مصادفة غاز الكلور إلى سائل أخضر بغيض عن طريق حقنه باستخدام محقنة في أنبوب مغلق.
107
ويمكن ضغط ثاني أكسيد الكربون وتحويله إلى سائل تحت ضغط يزيد على 5,11 جو، لكن لا توجد درجة برودة بإمكانها تكثيفه إلى سائل تحت تأثير الضغط الجوي. اكتشف إيه ثيلوريه في عام 1835 أنه عند ضغط ثاني أكسيد الكربون المسال سرعان ما يتعرض إلى الضغط الجوي، ويكون التمدد إثر التبريد (الذي «يسرق» أيضا حرارة التبخير من المادة المتبقية والبيئة المحيطة) ثاني أكسيد الكربون الصلب أو الثلج الجاف.
107
وهكذا أمكن تكثيف عينات الغاز في «حوض ديناميكي حراري» من الثلج الجاف في ثنائي إيثيل الإيثر درجة حرارته ثابتة عند −78 درجة مئوية. ولم يمر وقت طويل قبل تسييل الأكسجين (درجة غليانه −183 درجة مئوية) والنيتروجين (درجة غليانه −196 درجة مئوية) والهواء الجوي وحتى تجميده. كذلك استطاع الأكسجين السائل عند درجة الغليان تكثيف الهليوم وحتى الهيدروجين تحت ضغط. وكان أساتذة هذه التكنولوجيا عالمين بولنديين، هما أولشفسكي وفروبلفسكي.
108 ،
109
اخترع جيمس ديوار، الذي يعمل في إنجلترا، الأوعية الخوائية التي تحمل اسمه حاليا، ورغم إبقائه هذا الجهاز سرا لعدة سنوات؛ فقد اكتشف أمره في عام 1892 على نطاق واسع.
109
وأصبح الطريق الآن واضحا أمام دبليو هامبسون، الذي اخترع عملية لتسييل الهواء بالتعاون مع السيد كيه إس موراي ، المدير الإداري لشركة أكسجين البريطانية،
108
من أجل إمداد رامزي بهواء سائل يكفي لتوفير عدة لترات (!) من الأرجون الغازي.
في نهاية مايو عام 1898، أحضر هامبسون عينة مقدارها 750 سنتيمترا مكعبا من الهواء السائل، وبناء على اقتراح رامزي، تركها ترافرز تغلي على مدار أسبوع تقريبا حتى لم يبق منها إلا 25 سنتيمترا مكعبا من الغاز (أي حوالي 0,025 سنتيمتر مكعب من السائل الأصلي). ويصف ترافرز تفاعله مع صديق وزميل شاب كان يداعبه بلطف قائلا:
110 ««سيكون هذا الغاز الجديد هذه المرة، يا ترافرز.» فرددت عليه: «بالطبع سيكون كذلك.» وصعدت إلى الطابق العلوي إلى غرفة رامزي. كنت قد بدأت أفكر أن اكتشاف الغاز الجديد سيوافق غرة الشهر عند الإغريق،
111
لكن رامزي كان لا يزال لديه ثقة في القانون الدوري، وربما كانت لدي أنا ثقة أكبر في رامزي. ومع ذلك، كان علينا تحمل قدر كبير من المزاح اللطيف داخل القسم وخارجه.»
لكن في وقت لاحق من ذلك اليوم، عقب تنظيف البقايا المعتادة للغاز المتبقي، وضعت كمية صغيرة في أنبوب بلاكر، وشغلت الكهرباء، وشوهد الضوء باستخدام مطيافات الرؤية المباشرة. عجبا! لقد ظهر شريط أصفر جديد بوضوح - عنصر جديد - في جزء «أقل تطايرا» مشتق من الأرجون. لم يكن هذا الغاز، بالطبع، من نوعية الغازات ذات الوزن الذري 20 المفقود، بل كان غازا أحادي الذرة يقترب وزنه من 80. أطلق على هذا العنصر الجديد اسم كريبتون (من كلمة «كريبتوس» الإغريقية بمعنى «الخفي»). وانقطعت فترة الجفاف التي توقفنا فيها عن العمل؛ فتعرضت عينة أخرى كبيرة من الهواء السائل للتقطير التجزيئي والمعالجة الكيميائية حتى تعطي نواتج تقطير عالية ومنخفضة في درجة غليانها تحتوي على الأرجون. قسم ناتج التقطير المنخفض درجة الغليان بعناية وأنتج غازا لم يتطلب دقة النظارات الطيفية من أجل الكشف عن سره، لكن دعونا نترك ترافرز يخبرنا بشأن هذا:
112
التقط كل منا أحد مطيافات الرؤية المباشرة الصغيرة الموجودة على المقعد. لكن هذه المرة لم نكن بحاجة لاستخدام الموشور من أجل تحديد ما إذا كنا نتعامل مع غاز جديد أم لا؛ فقد أخبرنا وهج الضوء القرمزي الصادر من الأنبوب بقصته، وكان منظرا يسهب فيه المرء ولا يمكن نسيانه أبدا.
الكريبتون المقدس، باتمان! لافتة نيون لعنصر النيون!
113
اشتقت كلمة نيون من كلمة «نيوس» الإغريقية (بمعنى «جديد»). وفي غضون فترة قصيرة للغاية اكتشف الزينون (المشتق من كلمة «زينوس» الإغريقية بمعنى «غريب») أيضا [وبعد خمس سنوات وبالتعاون بين رامزي وفريدريك سودي - اكتشف الرادون (الذي سمي في البداية «نيتون»)، وهو ناتج ثانوي لتحلل الراديوم)].
114
باختصار، أصبحت النسبة المئوية لحجم الغازات النبيلة في الغلاف الجوي معروفة الآن: الأرجون 0,93٪، والنيون 0,0018٪، والكريبتون 0,0011٪، والهليوم 0,00052٪، والزينون 0,0000087٪.
115
ولا عجب إذا أن النيون، والكريبتون، والزينون كانت تحتاج إلى كميات كبيرة للغاية من الهواء السائل لرصد وجودها. غير أنه من المذهل أن نشير أيضا إلى أن كل متر مكعب من الهواء يحتوي على 10 جرامات تقريبا من الأرجون؛ أي إن كل شخص بالغ يستنشق نحو 200 جرام من الأرجون في اليوم. ومع ذلك لم نكن نعلم بوجود الأرجون حتى عام 1894.
حصل رامزي على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1904، وحصل رايلي على جائزة نوبل في الفيزياء للعام نفسه. ونرى في الشكل
7-27
رسما كاريكاتوريا يعود إلى أوائل القرن العشرين يصور رامزي في صورة أبوية وهو يقف بسعادة مع عائلته الدورية.
شكل 7-27: رسم كاريكاتوري يعود إلى مطلع القرن العشرين في مجلة «فانيتي فير» لويليام رامزي، وهو يشير بفخر أبوي إلى عائلته الكيميائية - الغازات النادرة. انظر الصور الملونة. (11) «تذمر» أم «نزق»؟ (11-1) هل أصبح مندليف وبريستلي عالمين متذمرين مع تقدمهما في العمر؟
أعطى اكتشاف الغازات النبيلة في الفترة بين عامي 1894 و1898 الفرصة لديميتري مندليف لتطبيق قانونه الدوري من أجل التوصل إلى تفسير كيميائي كامل للأثير العالمي، وهو الوسط الكلي النفاذ الذي لا يمكن وزنه، ويحيط بجميع المواد وتتشبع به.
116
ورغم أن تجربة مورلي ومايكلسون في عام 1887 دحضت وجود الأثير، ظل كثير من العلماء المهمين، ومن بينهم عدد من علماء الفيزياء البارزين، يقرون بوجوده في مطلع القرن العشرين. تمثل جزء من المشكلة في أن النتيجة التجريبية - التي مفادها أن سرعة الضوء متساوية في جميع الاتجاهات - لم يكن ممكنا تفسيرها بالنظرية الحالية، رغم أن تلك النتيجة التجريبية قد أقرت. ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبارها «حالة شاذة».
117 ،
118
وستقدم نظرية النسبية لأينشتاين في النهاية التفسير. وسع مندليف نطاق قانونه الدوري حتى يفترض وجود غاز خامل لم يكتشف بعد كتلته الذرية (قياسا على الهيدروجين الذي تساوي كتلته 1) مرتبة من 0,00000096 إلى 0,000000000055، من شأنه أن يشكل جوهر الأثير.
116
ومع ذلك، حتى يتأتى له افتراض هذا العنصر الأثيري، كان بحاجة أيضا إلى افتراض وجود غاز خامل إضافي كتلته الذرية 0,4. لم يكن يوجد دليل دامغ على وجود هذا العنصر، من شأنه أن يمثل استقراء خارجيا بدلا من الاستقراءات الداخلية التي نجحت ببراعة في توقع العناصر الجديدة في سبعينيات القرن التاسع عشر وثمانينياته. وربما من غير المنصف أن نقول هذا، «من السهل دوما تقييم الأمور بعد حدوثها»، لكننا ربما نرى أن مندليف أصبح عالما «متذمرا» بعض الشيء مع تقدمه في العمر.
ثمة أمثلة سابقة أخرى لعلماء كبار أصروا ب «تذمر» على الاحتفاظ بنظريات بعد انتهاء عمرها الافتراضي. وأحد الأمثلة البارزة على هذا د. جوزيف بريستلي،
119
الذي كانت اكتشافاته لغازات جديدة، من بينها الأكسجين، مهمة للغاية في تطور الكيمياء. كان بريستلي مؤيدا قديما لنظرية الفلوجستون، ونشرت آخر إصداراته الكيميائية «إثبات مفهوم الفلوجستون ودحض تركيب الماء» عام 1800 (الشكل
7-28 )،
119
ونشرت الطبعة الثانية منه عام 1803، قبل عام من وفاته وبعد عقدين من تفنيد اكتشاف التركيب الحقيقي للماء نظرية الفلوجستون. (ويطلق بارتينجتون على عالم الكيمياء السويدي البارز أندرس رتزيوس، الذي توفي عام 1821، «آخر نصير للفلوجستون على الأرجح».)
120
لا يكون مثل هذا التحفظ بالضرورة أمرا غير صحي في العلم؛ فهو يحمي النظريات العلمية من التحول السريع مع التيارات السائدة، ويتطلب إثباتا أقوى، بل وتغييرا في الأجيال قبل التسليم على نطاق واسع بما يطلق عليه فيلسوف العلم توماس كون «نقلة نوعية».
121
شكل 7-28: احتفظ جوزيف بريستلي «متذمرا» بإيمانه بنظرية الفلوجستون طوال الفترة الأخيرة من حياته. هذه نسخة من دفاعه الحماسي التي وقعها وقدمها لأحد معارفه (بتصريح من المكتبة الكيميائية التاريخية لروي جي نيفيل). (11-2) رفض النظرية الذرية ونبذ الانجراف القاري
في ضوء هذا، تجدر الإشارة إلى أن نظرية دالتون الذرية، التي نخبر طلابنا بسعادة أنها ظهرت وأقرت في مطلع القرن التاسع عشر، تعرضت لمعارضة بعض علماء الكيمياء البارزين (وكثير من علماء الفيزياء) حتى العقد الأول من القرن العشرين، عندما شرح أينشتاين، وجون بيرين فيما بعد، الأساس الجزيئي للحركة البراونية. ألف توماس ستيري هانت،
122
أستاذ الجيولوجيا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وعضو الأكاديمية الوطنية للعلوم (1873)، ورئيس الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم (1871)، ورئيس الجمعية الكيميائية الأمريكية لمرتين (1879، 1888)، كتابا في عام1887 يرفض تماما النظرية الذرية. وظل على اعتقاده هذا حتى وفاته بعد ذلك بخمس سنوات. كذلك عارض عالم الكيمياء الألماني الكبير فريدريش فيلهلم أوستفالد (1853-1932) بشدة النظرية الذرية طوال العقود الأربعة الأولى من حياته المهنية العلمية. ومع ذلك، في عام 1909، وهي السنة التي حصل فيها على جائزة نوبل في الكيمياء، اعترف أوستفالد في النهاية بأن عمل بيرين بالإضافة إلى جيه تومسون «يؤيد أكثر العلماء تحفظا في حديثه الحالي عن الدليل التجريبي للطبيعة الذرية للمادة.»
123
لا يكون الحد الفاصل بين «التذمر العلمي» و«النزق العلمي» واضحا للغاية أحيانا. فمجرد تخيل شخص يعارض بعناد الآراء السائدة للمؤسسة العلمية و«يعوي وحده في الصحراء» ليس سببا كافيا لتصنيف شخص «جاحد» بهذه الآراء بأنه «نزق». على سبيل المثال، أشار عدد لا حصر له من الأفراد، بما في ذلك الأطفال، الذين رأوا خرائط للعالم دون شك إلى التكامل الواضح في الشكل بين قارتي أمريكا الجنوبية وأفريقيا. ظلت ملحوظة غريبة، لكنها لا توحي بالكثير، نظرا لعدم وجود آلية لتفسير هذه «الرؤية الشاذة» حتى مؤخرا. ومع ذلك، في عام 1912 أشار الجيوفيزيائي الألماني ألفريد فيجنر (1880-1930) إلى وجود أوجه تشابه في الحفريات التي عثر عليها في القارتين، وأضاف هذا إلى البيانات الجيوفيزيائية، ووضع نظرية «الانجراف القاري».
117
عزل فيجنر واعتبرت آراؤه «جدلية للغاية»، وهو وصف ينطبق أحيانا على عمل «النزقين»، حتى برأت ساحته نظرية الصفائح التكتونية التي ظهرت في أواخر ستينيات القرن العشرين.
117 (11-3) نزق «انتقد» أنصار الفلوجستون وأعداء الفلوجستون بحماس شديد
أعتقد أن الشخص «النزق» يلتزم بأيديولوجية، وهذه الأيديولوجية هي التي تميز هذا «النزق» أكثر من أي تحفظ أو تطرف علمي فطري (إلا إذا كان التحفظ أو التطرف في حد ذاته هو الأيديولوجية). يصنف بارتينجتون
124
بوضوح روبرت هارينجتون،
125
وهو جراح إنجليزي، بأنه «نزق». ورغم كونه مؤمنا بنظرية الفلوجستون، بدت «أيديولوجية» هارينجتون قائمة على عمل علمي كان فيه على صواب، والآخرون كلهم مخطئون. كان يؤمن كذلك ب «تكافؤ الفرص»، وفي كتيب نشر عام 1786 «انتقد» بسعادة أنصار الفلوجستون من المدرسة الإنجليزية (بريستلي وكافنديش وريتشارد كيروان) والمناهضين للفلوجستون من المدرسة الفرنسية (لافوازييه) انتقادا لاذعا:
125
خطاب ... إلى د. بريستلي، والسادة كافنديش ولافوازييه وكيروان ... من أجل إثبات أن ... آراءهم التي تفيد بأن الماء يتكون من هواء قابل للاشتعال ومنزوع الفلوجستون، وأن الأحماض مركبة من أنواع مختلفة من الغازات تعد آراء مضللة، لندن، 1786.
وعلى المرء التفكير في عناوين اثنين من أعماله اللاحقة:
125 «أمر إعدام للنظرية الفرنسية في الكيمياء» ... مع «نظرية تفسر ... بالكامل كل الظواهر. «وأيضا فحص» ... كامل ... للجلفانية، وانتقادات للآراء الكيميائية للسادة ويجليت وكروكشانكس وديفي وليزلي والكونت رمفورد ود. تومسون؛ وكذلك ملاحظات على نظرية د. دالتون الأخيرة وملاحظات أخرى»، 1804.
أو ربما كتاب «كيف تكون صداقات وتؤثر في الكيميائيين»، وأخيرا ما كتبه هارينجتون، بتواضع شديد عن نظريته:
125 «شرح وتوسيع للنظام الهارينجتوني في الكيمياء، بشرح جميع الظواهر دون انحرافة واحدة»، لندن، 1819.
لنستعرض بإيجاز «حديث» هارينجتون مع زملائه من أنصار الفلوجستون. في كتابه الصادر عام 1785 عن الأنواع المختلفة من الهواء، يشير إلى أنه يبدو من الملائم «استنتاج أن الفلوجستون هو النار والضوء، أو سائل مرن خفي، تعتمد ظواهر الحرارة والضوء مباشرة على ما يحدث فيه من تعديلات.»
126
لكنه لاحظ عندها أن الهواء النقي ضروري من أجل الحصول على الفلوجستون من الجسم القابل للاحتراق حتى يصبح الهواء «فاسدا» بسبب النار ويفقد قدرته على دعم الاشتعال أكثر من هذا. يرى هارينجتون ثمة مشكلة تتعلق ب «التوقيت» هنا. فإذا كان يجب على الهواء النقي جذب الفلوجستون أولا ثم يتبعه النار والضوء، فكيف يمكن للفلوجستون أن يكون هو النار والضوء؟ في حقيقة الأمر، هو يسخر من أنصار الفلوجستون الآخرين عن طريق الإشارة إلى المدى المنطقي لفقدان الفلوجستون متبوعا بالحرارة والضوء: «فإذا كان الجسم مشبعا بالماء فإنه لن يحترق. ولكن لما كان الهواء يجذب الماء من الجسم المحترق فإنه سيحترق، وبما يتناسب مع سرعة أو بطء اجتذابه للرطوبة.»
126
ومن ثم، بدلا من تشبهه بالنار، يبدو الفلوجستون، بغباء شديد، شبيها بالماء.
ثمة مشكلة أخرى لأنصار الفلوجستون الأقل حذقا من د. هارينجتون. من المعروف أن الهواء القابل للاشتعال (فعليا
H
2 ) والهواء النيتروزي (فعليا
NO ) يحتويان على كميات متساوية من الفلوجستون. دعونا نتتبع هذا المنطق الصحيح لأنصار الفلوجستون للحظة باستخدام معادلات كيميائية معاصرة. إن حمض الكبريتيك المائي «سيذيب» المعادن؛ لأن أيونات الهيدروجين في الأحماض (
H + ) تختزل بسهولة بفعل كل المعادن فيما عدا المعادن الأقل نشاطا:
ومع ذلك، في حالة حمض النيتريك المخفف، ستختزل المعادن الأقل نشاطا، مثل النحاس والحديد، مجموعة النترات بدلا من أيون الهيدروجين من أجل إنتاج أكسيد النيتريك (الهواء النيتروزي):
في كلتا الحالتين، تظل كلسات النحاس باقية؛ ومن ثم، من «الواضح» أن الفلوجستون قد خرج في «الهواء القابل للاشتعال» في الحالة الأولى، وفي «الهواء النيتروزي» في الحالة الثانية. والآن، عند مقارنة «الهواء القابل للاشتعال» و«الهواء النيتروزي»، يكون من «الواضح»، باستخدام علم قياس الغازات بالإيديومتر، أن كلا منهما يحتوي على الكمية نفسها من الفلوجستون، ما دام كلاهما يتفاعل مع الكمية نفسها من «الهواء المنزوع الفلوجستون» (الأكسجين):
الهواء القابل للاشتعال:
الهواء النيتروزي:
يطرح هارينجتون سؤالا عن سبب توليد النار والضوء مع «الهواء القابل للاشتعال»، ولكن ليس مع «الهواء النيتروزي»، حتى وإن كان الاثنان ينتجان الكمية ذاتها من الفلوجستون.
وثمة تناقض آخر؛ فنحن «نعرف» أن الهواء الذي يخرج مع الزفير يكون إلى حد ما «فاسدا» نظرا لامتصاصه الفلوجستون، ولعدم كونه صالحا للتنفس مثل الهواء النقي الذي استنشق قبل لحظات. «من الواضح» أن الفلوجستون يحبس في الرئتين؛ فالثعبان يأكل حيوانات غنية بالفلوجستون (بمعنى أنها تحتوي على الدهون).
126
ولكن جسم الثعبان بارد؛ ومن ثم لا بد أن تكون لديه رئتان ضخمتان حتى يستطيع الطرد السريع للكميات الهائلة من الفلوجستون التي استخرجها من اللحم. ولكن في الواقع أن رئتي الثعبان صغيرتان؛ فلماذا لا يحترق من الحرارة المحتبسة؟ على العكس من ذلك، تأكل الحيوانات الآكلة للعشب، مثل الأبقار، غذاء قليل الفلوجستون (خال من الدهون)، وتكون دافئة، وتتمتع برئتين كبيرتين من أجل طرد الفلوجستون سريعا.
126
فلماذا لا تموت الأبقار جوعا؟ صراحة، لا توجد لدى هارينجتون نفسه أي إجابات جيدة عن هذا، لكن هذه ليست مهمته. (11-4) آراء كيميائي ليبرالي: مؤسسة سميثسونيان الماكرة ومؤامرات أخرى
قرب نهاية القرن التاسع عشر شرع جوستاف ديتليف هنريتشز، الحاصل على دكتوراه في الطب والقانون، وأستاذ الكيمياء في كلية سانت لويس للصيدلة، في مباشرة حملة مستميتة من أجل إنقاذ الصناعة الكيميائية في أمريكا ومؤسستها التعليمية من الأوزان الذرية غير الصحيحة المفروضة على هذه الأمة الغافلة من حكومتها الماكرة.
127
كان مصدر كل الشرور هو فرانك ويجليزورث كلارك، رئيس الكيميائيين في هيئة المساحة الجيولوجية، الذي:
اعتمدت حساباته المعادة رسميا من جانب أمين مؤسسة سيمثسونيان ونشرت رسميا على نفقة خزانة المؤسسة؛ وأخيرا، أرسلت ممهورة بدمغة الإعفاء البريدي الرسمية بوصفها مادة مسجلة. ويعوض القصور في الخدمة البريدية - الناتج جزئيا عن مثل هذه الإجراءات- باعتمادات الكونجرس.
كما أن كلارك نفسه الذي وضع هذه الحسابات يرسل عادة بموجب سلطة الحكومة الوطنية وعلى النفقة العامة، مبعوثا إلى مؤتمرات الكيميائيين، وأصبح مسئولا عن المعارض الوطنية في الداخل والخارج. وقد مكنته هذه الحيثية الرسمية التي تعد أعلى حيثية ممكنة من ممارسة نفوذ سيادي رسمي في الجمعية الكيميائية الأمريكية.
128
يبدو الأمر مزعجا بعض الشيء - «النظام العالمي الجديد للأوزان الذرية». إذا ما سر «الجلبة الكبيرة» الدائرة هنا؟ يبدو أن الأستاذ هنريتشز تبنى فرضية براوت
129 ،
130 ،
131
بوصفه أصوليا صارما.
في عام 1815 و1816 نشر ويليام براوت (1785-1850)
129
بحثين أكد فيهما أن كثافة الغازات هي ببساطة مضاعفات في صورة أعداد صحيحة للهيدروجين.
129-131
كان هذا بعد عقد فقط من افتراض دالتون للأوزان الذرية لأول مرة، وكانت ثمة شكوك كبيرة في التجارب والصيغ القائمة. ومع ذلك، كان المفهوم جذابا بما أنه ينطوي على إمكانية وجود «مادة أولية» في أبسط الصور تتألف منها جميع الذرات الأخرى. وافترض براوت وجود هذا «البروطيل» الذي ربما تتألف منه الذرات الأخرى. لقد كان يتسم ببساطة أقرب إلى البساطة الدينية. في عام 1819 نشر بيرسيليوس سلسلة كاملة من الكتل النسبية للعناصر والمركبات، اشتملت على كثير من الأوزان الذرية ذات الكسور (قياسا على
H = 1)، لا تتفق مع فرضية براوت. ورغم ذلك، كانت ثمة شكوك كبيرة في الصيغ والأوزان الذرية. وفي عام 1825، نشر توماس تومبسون جدوله للأوزان الذرية؛ وكانت كلها، بما فيها الكلور (36)، على سبيل المثال، مضاعفات صحيحة لوزن الهيدروجين (1). وقد قال بيرسيليوس عن أوزان تومبسون الذرية:
129
يبدو أن قدرا كبيرا من الجزء التجريبي، حتى في التجارب الأساسية، قد جرى على المكتب، وأرقى مظاهر الكياسة التي يمكن لمعاصريه إظهارها لصانع هذه التجارب نسيان أنها نشرت في وقت من الأوقات.
سرعان ما ندم بيرسيليوس على اتهامه هذا، ويشير بارتينجتون إلى أن تومبسون كان صادقا تماما.
129
وشملت محاولات إنقاذ فرضية براوت اقتراحات مفادها أن الهيدروجين ربما يحتوي بالضبط على اثنين أو ربما أربعة من «البروطيلات».
132
واشتملت محاولات أخرى على اقتراحات بأنه من الناحية الإحصائية، بينما قد يكون الوزن الذري لمعظم ذرات الكلور، مثلا 36، فإن بعضها ربما يكون 35 و37، وعدد أقل من الذرات لها أوزان تبلغ 34 و38، وهكذا. ويشير بارتينجتون حتى إلى الأفكار التي تذكرنا ب «الذرات البالية» لنيوتن.
133
غير أن آخر مسمار في نعش فرضية براوت جاء في عام 1865 تقريبا من الدراسات التحليلية الدقيقة التي أجراها جون سيرفيه ستاس. يوضح الشكل (
7-29 ) جهازا رائعا للتحليل الكامل ليودات الفضة (
AgIO
3 ).
134
وكيف يمكن للمرء مجادلة جهاز «يشبه آلة روب جولدبيرج» كهذا؟ يوفر مقياس الغاز (
A ) الموجود على اليسار تيارا متواصلا من غاز النيتروجين الذي ينقيه جهاز تحليل الكربون (
B ) المملوء بحمض الكبريتيك المركز، وتأتي بعده أنابيب تجفيف (
C ) تحتوي على كلوريد كالسيوم لا مائي، ثم فرن غاز
D
يحتوي على أنبوب من الزجاج المصهور مملوء بنحاس مقسم إلى أجزاء متساوية بدقة. ويمكن صنع النيتروجين، من أجل تنظيف الجهاز، من خلال حرق الأمونيا. وتشتمل شوائبه على أمونيا غير متفاعلة (محبوسة في جهاز تحليل الكربون
B )، وماء (أزيل بواسطة أنابيب التجفيف
C )، وبقايا أكاسيد نيتروجين (تختزل إلى نيتروجين في فرن الغاز
D ). تتعرض القنينة الكروية (
H )، التي تحتوي على يودات الفضة، لتسخين بطيء فوق موقد بنسن ويحتبس الأكسجين الناتج (مخلفا وراءه فضة منصهرة
AgI ) في فرن الغاز
I
المحتوي على النحاس المجزأ.
شكل 7-29: الجهاز الذي استخدمه جون سيرفيه ستاس في التحليل الكامل ليودات الفضة. وضع عمل ستاس المضني والدقيق على الأوزان الذرية أساسا صلبا لظهور الجدول الدوري. ومع ذلك، أشار جوستاف ديتليف هنريتشز إلى ستاس بوصفه «أكبر عالم مزيف». وفي وقت لاحق من حياته المهنية، أصبح هنريتشز مهووسا علميا إلى حد المرض، يتصور وجود مؤامرة حكومية واسعة النطاق من أجل إخفاء الأوزان الذرية الحقيقية للعناصر (من ستاس، «دراسات في قانون النسب الكيميائية»، 1867).
ولعدم انبهاره بستاس وجهازه، لم يسع هنريتشز إلا أن يكون صريحا ومباشرا:
135
منذ أدركت حالات العناصر الكيميائية وعلاقتها بمادة واحدة أولية (أي منذ عام 1855)، عملت بإخلاص شديد في هذا المجال.
كان قد مر نصف قرن تقريبا على فكرته عندما نشر كتابه «الأوزان الذرية المطلقة»
127
في عام 1901. ويتلخص رأيه في جون ستاس في فقرة بعنوان:
136 «أكبر عالم مزيف».
شخص هنريتشز حالة معاصره جون ويليام ماليت، الذي لم تلق أوزانه الذرية للذهب والليثيوم والألومنيوم استحسانه، بأنه يعاني «داء ستاسي» تفاقم بفعل مروره ب «مراحل أولية من «غضب كلاركي»».
136
ورأى أن عمل دبليو إل هاردن، أحد طلاب إدجار فاهس سميث، «لا يمثل شيئا إلا خياله الخاص».
136
وتحت إشراف هنري مواسان «فسد العمل المخبري الفرنسي الجيد أو زيف، عن طريق التقليل من شأنه بفعل استخدام الأوزان الذرية الألمانية».
136
ولخص مشكلات بيرسيليوس في كونه «كيميائيا كبيرا، مع توازن ضعيف».
136
ورأى كذلك أن الدراسات التي أجراها ويليام رامزي على الأوزان الذرية قد فسدت باستخدامه لجداول كلارك. ووفق تقديرات هنريتشز المعتمدة على تقنياته الإحصائية الخاصة، فإن
136 «بيرسيليوس كان في عام 1826، كيميائيا أفضل بعشرة آلاف مليون مرة من رامزي في عام 1893.»
قبل ثلاثين سنة من نشر الكتاب السالف الذكر عن الأوزان الذرية، كان هنريتشز أستاذا للعلوم الطبيعية في جامعة ولاية أيوا. ورغم عدم تقبله لمفهوم الدورية، أقر «جدول العناصر» لهنريتشز بوصفه أول تصنيف حلزوني للعناصر.
137
ففي كتابه الصادر في عام 1871
138
ذكر قائمة بأوزان ذرية (قبل ستاس) ضمت أوزانا بها كسور مثل الألومنيوم (27,4)، والكلور (35,5)، والنحاس (63,4)، والبلاتين (197,4)، والسيلينيوم (79,5)، والسترونتيوم (87,6)، والزنك (65,2). أما العناصر المتبقية في جدوله البالغ عددها 37 (وكان إجمالي عدد العناصر المعروفة حينذاك 63 عنصرا)، فكانت مضاعفات صحيحة مرضية للهيدروجين (=1). ولا توجد إشارات واضحة على اهتمام هنريتشز بهذه الانحرافات عن فرضية براوت في عام 1871. ربما لم يرد إرباك طلابه. ومع ذلك، من الواضح بالتأكيد أن الوزن الذري الذي أقره كلارك للكلور 35,45 (بدلا من 35,5)، على سبيل المثال، قد «أزعج» هنريتشز، تماما مثل نظرية دارون عن التطور.
135
ربما كان هنريتشز «متذمرا» أيضا إلى حد ما بالإضافة إلى كونه «نزقا على نحو مفرط». إليك أولى «قواعده المخبرية» الخمسة:
139 (1) «كن هادئا - لا تتحدث إلى زملائك الطلاب، ولا تتحدث إلى معلمك إلا همسا. سر من الميزان وإليه بخطوات لا تسمع. وتعلم منذ وقت مبكر إظهار احترامك للحقيقة والبحث عنها؛ فيجب أن يصبح المختبر معبدا للعلم.»
أو ربما ديرا؛ ويظل الهمس الهادئ والخطى الصامتة في مختبر التعليم أكثر جاذبية لي كلما تقدم بي العمر وأصبحت أكثر تذمرا. (12) لماذا لا تزال فرضية براوت موجودة في الكتب الدراسية المعاصرة؟
لاحظ براوت في عام 1815 أن كثافة الغازات كانت مضاعفات صحيحة لكثافة غاز الهيدروجين. وأدى هذا إلى فكرته القائلة إن الأوزان الذرية هي مضاعفات صحيحة للوزن الذري للهيدروجين، وإن الهيدروجين ربما يكون «المادة الأولية» المصنوع منها جميع العناصر الأخرى. ومع ذلك، أدت ملاحظات لاحقة، مثل الوزن الذري للكلور (نحو 35,5)، إلى ظهور «البروطيلات» التي يبلغ وزنها نصف وزن ذرة الهيدروجين. واشتملت التحليلات الكيميائية والصيغ التي ظهرت في عصر براوت وبعده بنحو 50 سنة على كم من الأخطاء يكفي ليثير شكوكا بشأن دقة الأرقام العشرية في الأوزان الذرية . ورغم هذا، مع تحسن الكيمياء التحليلية، أصبح واضحا تماما مع اقتراب نهاية القرن التاسع عشر أن هذه الانحرافات من الواحد الصحيح، أو النصف أو حتى الربع، كانت حقيقية وواضحة، وكان لزاما على صديقنا «النزق» هنريتشز (المقال السابق) تقبل هذا. وكما يحدث دوما في العلم، كانت هذه المفارقات الضئيلة تشير إلى أشياء أكثر عمقا - التركيب دون الذري للمادة.
140 ،
141 ،
142
عند تدريس الكيمياء لأول مرة للطالب، ربما يشتمل الامتحان الأول له على «أسئلة ملء الفراغات»، مثل:
الرقم الذري هو
عدد البروتونات .
رقم الكتلة الذرية هو
عدد البروتونات زائد النيوترونات .
عدد البروتونات يساوي عدد
الإلكترونات .
تمثل هذه المفاهيم المبسطة الفائدة الواضحة لفرضية براوت بوصفها مبدأ تنظيميا. يعامل عدد الكتلة الذرية، الذي يختصر عادة خطأ إلى «الكتلة الذرية»، البروتونات والنيوترونات على أنهما متساويان. وبتطبيق هذا حرفيا، تبدو كتلة اليورانيوم−238 مساوية تقريبا للهيدروجينات 238 (البروتيوم أو ذرات هيدروجين−1)، مع وجود تناقض ضئيل يفهم أنه ناشئ من الاختلاف في الكتلة بين البروتونات والنيوترونات البالغ 0,1٪. في الواقع، إذا أخذنا كتلة 92 بروتونا، و146 نيوترونا، و92 إلكترونا، فإن الكتلة الإجمالية ستصبح 240 وحدة كتلة ذرية.
بدأ التكوين دون الذري للذرة يظهر في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بفضل اختراع أنبوب كروكس (نسبة إلى السير ويليام كروكس (1832-1919))، وعمل جيه جيه تومسون. وظهرت النظائر، وهي ذرات للعنصر ذاته (العدد الذري) لها كتل ذرية مختلفة، على نحو منفصل من خطين من الاستقصاء.
140
فكانت العناصر المشعة المكتشفة حديثا دوما ما تضم أنواعا متطابقة كيميائيا، لكنها تتمتع بخصائص تحلل إشعاعي متمايزة.
140
ومن ثم، اكتشف نوعان مختلفان من اليورانيوم، كل منهما له نمط تحلل فريد. واكتشف بي بي بولتوود في جامعة ييل عنصرا جديدا، «الأيونيوم»، الذي كان وسيطا في تحلل يورانيوم 2، لكن ليس يورانيوم 1.
140
ومع ذلك، علم أن «الأيونيوم» كان متطابقا كيميائيا مع الثوريوم. وصاغ فريدريك سودي مصطلح «النظير» (بمعنى «المكان نفسه» - أي في الجدول الدوري)، في عام 1913.
140
وفي عام 1919، أدخل إف دبليو أستون تعديلا على إحدى تقنيات تومسون، واكتشف أن ذرات النيون المتأينة تنتج نوعين من الأيونات، أحدها كتلته 20، والآخر كتلته 22.
140
وكان الاختلاف في الكتلة الذرية هو ما أشار إلى وجود النظائر. لم يمض وقت طويل حتى اتضح أن الكلور ما هو إلا مزيج من نظيرين (أرقام كتلتهما 35 و37)، مع تقدير المتوسط الإحصائي لكتلته الذرية بنحو 35,45 وحدة كتلة ذرية.
وعقب اكتشاف النيوترون، الذي طال الاشتباه فيه، في عام 1932، بعد نحو 25 سنة من نظرية النسبية لأينشتاين، إليك ما صارت إليه الأمور فيما يتعلق بفرضية براوت: (1)
أبسط نظير للهيدروجين هو البروتيوم، الذي يحتوي على بروتون (شحنته النسبية +1) داخل نواته، وإلكترون (شحنته النسبية −1) خارج نواته. (2)
تتمثل كتل الجسيمات دون الذرية الثلاثة الرئيسة وشحناتها (النسبية) فيما يلي (مع وضع كتلة ذرة الكربون−12 كمرجع):
142
الجسيمات
الشحنة
الكتلة (وحدة الكتلة الذرية قياسا على الكربون 12)
بروتون +1
1,0073
نيوترون
0
1,0087
إلكترون −1
0,0005486
ذرة كربون−12
0
12,0000000 (مفترضة)
لا تتناسب حقيقة أن البروتون أخف بنسبة 0,1٪ من النيوترون مع التفسير الحرفي لفرضية براوت. (3)
ما دمنا نعرف الآن أن النيوترون المتحرر من النواة يكون له نصف عمر يبلغ 17 دقيقة؛ إذ يتحلل إلى بروتون وإلكترون ومضاد النيوترينو بكتلة ضئيلة، ربما يكون من المغري التفكير في مصدر فرضية براوت على أنه فعليا إجمالي كتلة البروتون وإلكترون واحد. يظل إجمالي الجسيمين المنفصلين، 1,0078، أقل من كتلة النيوترون. ومع ذلك، ربما يكون من المغري أيضا اعتبار أن «البروطيل» له كتلة النيوترون. (4)
من الواضح أن النظائر تمثل المصدر الرئيس للتناقض في فرضية براوت؛ فيحتوي الهيدروجين على 99,968٪ بروتيوم، النظير الأخف وزنا (1,0078 وحدة كتلة ذرية = كتلة بروتون زائد إلكترون)، و0,014٪ ديوتريوم (2,0141 وحدة كتلة ذرية)
2
فقط.
141
ويوجد التريتيوم بكمية ضئيلة للغاية. ويعد هذا التوافق السبب في كون الهيدروجين «يعمل» كثيرا بوصفه «البروطيل» الواضح في فرضية براوت. فإذا كان، على سبيل المثال، البروتيوم يشكل 80٪ والديوتريوم 20٪ في الهيدروجين الموجود طبيعيا، لما كان لفرضية براوت أي وجود على الإطلاق. أما في حالة الكلور، فيوجد النظيران الطبيعيان بكميات كبيرة: الكلور−35، 75,53٪، والكلور−37، 24,47٪. وتتمثل الكتلة الملحوظة للكلور الموجود طبيعيا في المتوسط المرجح: 35,45 وحدة كتلة ذرية - وهو ما يستحيل تفسيره باستخدام فرضية براوت. (5)
يتمثل أحد أوجه التناقض الرئيسة الأخرى في تأثير التعبئة للجسيمات النووية؛ ومن ثم إذا جمعنا كتل كل الجسيمات النووية في هيليوم−4 (بروتونين + نيوترونين = 4,03190 وحدة كتلة ذرية)، وقارنا هذا المجموع بالكتلة الملحوظة (ناقص الإلكترونين) لنواة الهليوم (4,00150 وحدة كتلة ذرية)، فإن التفاوت (البالغ 0,03040 وحدة كتلة ذرية) يوفر الطاقة (القوة الشديدة، ) التي تربط النواة بعضها ببعض.
142
وتوازي هذه الطاقة نحو مليون ضعف تأثير القوى الكيميائية التي يصدرها انفجار الديناميت أو التي إن تي. ويقدر «نقص الكتلة» في يورانيوم −238 (92 بروتونا و146 نيوترونا) بالرقم المذهل 1,9353 وحدة كتلة ذرية. لحسن الحظ، يجعلنا «الفائض» المحسوب (1,9356 وحدة كتلة ذرية) من مجموع كتل الجسيمات النووية (239,9356 وحدة كتلة ذرية)، المختزلة بفعل طاقة الربط لكتلة مساوية (1,9353 وحدة كتلة ذرية)، سعداء بأن الكتلة النووية هي 238,0003 وحدة كتلة ذرية (المطابقة فعليا لرقم الكتلة الذرية). والآن، إذا أضفنا تلك الإلكترونات الاثنتين والتسعين، بما يعني إضافة 0,050 وحدة كتلة ذرية أخرى، يظل المقدار ضئيلا للغاية ليزعزع قناعتنا الغامضة والراضية باستخدام رقم الكتلة الذرية في تحديد الوزن الذري.
كما ذكرنا مسبقا، ربما يحاول المرء تخيل أن النيوترون هو «بروطيل» المادة أو حتى «المادة الأولية». غير أن الفيزيائي قد يرد اليوم ليقول إن الكواركات هي المادة الأولية. ويقال إن كتلة النيوترون تشمل هذه الكواركات بالإضافة إلى طاقتها. ومن المرعب حقا لعالم الكيمياء أن يعرف، مع ذلك، أن الفيزيائيين يعترفون بأنهم حتى الآن لا يفهمون فعليا الطبيعة الأساسية للكتلة.
هوامش
الجزء الثامن
بعض المرح
(1) صور واضحة للذرات: سرد كيميائي غريب
أذكر هذه الواقعة بوضوح. كان السيد ليدبيتر في هذا الوقت يمكث في منزله، وكان يمارس قدراته المستبصرة دوما لصالحي وصالح زوجتي والأصدقاء المتصوفين حولنا. لقد اكتشفت أن هذه القدرات، عندما تمارس في الاتجاه المناسب، تكون ذات قوة مجهرية فائقة. خطر لي مرة أن أسأل السيد ليدبيتر إن كان يعتقد أن باستطاعته حقا رؤية جزيء لمادة طبيعية. كان على أتم استعداد لتجربة الأمر، واقترحت عليه جزيء الذهب كأحد الجزيئات التي يمكنه أن يحاول ملاحظتها. بذل المجهود المطلوب، وخرج من التجربة يقول إن الجزيء المعني كان تكوينه معقدا للغاية بحيث يصعب وصفه. فمن الواضح أنه كان يتكون من عدد هائل من الذرات الأصغر حجما، بحيث يصعب عدها؛ ومعقدة للغاية في تركيبها بحيث يصعب فهمها. خطر لي على الفور أن هذا ربما يكون نتيجة لأن الذهب معدن ثقيل وزنه الذري مرتفع، وأن الملاحظة ربما تكون أكثر نجاحا إذا وجهت لجسم وزنه الذري منخفض؛ لذلك اقترحت ذرة هيدروجين؛ إذ ربما تكون أكثر سهولة. قبل السيد ليدبيتر اقتراحي وحاول مرة أخرى. ووجد هذه المرة أن ذرة الهيدروجين أبسط بكثير من الذرة الأخرى؛ إذ كانت الذرات الضئيلة التي تتكون منها ذرة الهيدروجين من الممكن عدها. فكانت مرتبة وفق مخطط محدد، سيتضح برسومات بيانية فيما بعد، وكان عددها ثماني عشرة.
1
يظهر هذا السرد في بداية الطبعة الثانية (المنشورة في عام 1919) للكتاب الغريب والمذهل «الكيمياء الغامضة: ملاحظات مستبصرة على العناصر الكيميائية»، من تأليف آني بيسنت وتشارلز دبليو ليدبيتر، الذي نشر لأول مرة في عام 1908.
2
وحقيقة يعد نشر طبعة فاخرة من الكتاب بعد ذلك بوقت طويل في عام 1951،
3
دليلا على الجاذبية الخالدة لهذا الكتاب الغني بالرسوم التوضيحية. حسنا، ما الذي يمكننا الخروج به من محتوياته؟ يصور الشكل
8-1
تركيب «الذرة الكيميائية» للصوديوم. «كان أسلوب الفحص المستخدم هو أسلوب الاستبصار.»
4
تتكون هذه الذرة الكيميائية من أجزاء علوية وسفلية (يتكون كل منها من كرة و12 قمعا) وقضيب للتوصيل. والأجزاء الموجودة داخل الأقماع والكرات والقضيب المذكور عددها فيما يلي، هي نفسها «الذرات الأصغر حجما» المشار إليها من قبل:
لقد أحصينا عدد الأشياء في الجزء العلوي: الكرة:10؛ العدد في اثنين أو ثلاثة من الأقماع، كل منها 16؛ عدد الأقماع: 12؛ العدد نفسه في الجزء السفلي؛ أما في قضيب التوصيل فبلغ 14؛ وحسب السيد جيناراجاداسا: 10 + (16 × 12) = 202؛ ومن ثم 202 + 202 + 14 = 418، مقسومة على 18 = 23,22 متكررة. وبهذه الطريقة حمينا إحصاءنا من أي تحيزات؛ إذ كان يستحيل علينا معرفة كيف تنتج الأرقام المختلفة عند الجمع والضرب والقسمة، وجاءت اللحظة المثيرة عندما انتظرنا لنرى ما إذا كانت نتائجنا تؤيد أي وزن معترف به أو تقترب منه.
5
شكل 8-1: تركيب ذرة الصوديوم المتحصل عليه من خلال أسلوب الاستبصار والمنشور في الكتاب الكلاسيكي («الكيمياء الغامضة»، 1908). يوجد إجمالي 418 «ذرة فيزيائية» أصغر حجما في «الذرة الكيميائية» للصوديوم. أظهر الاستبصار أيضا أن ذرة الهيدروجين تحتوي على 18 ذرة فيزيائية أصغر حجما. إذا ... 418 على 18 = 23,22، في توافق جيد للغاية مع الوزن الذري 22,99! (وهو المطلوب إثباته).
وهكذا ، يكون الوزن الذري المعترف به للصوديوم هو 23؛ وهو ما يتفق جيدا مع الوزن الذري 23,2، على ما يبدو. إجمالا، خضع 57 من أصل 78 عنصرا معترفا به للفحص بالإضافة إلى عنصر لم يكن معروفا من قبل، هو «الأوكولتيوم»، «الشارد الكيميائي»، المنحسر بين الهيدروجين والهليوم. كذلك، أعلن عن ستة «أنواع» جديدة من عناصر معروفة - ليس إنجازا سيئا. إن التوافق بين الأوزان الذرية المعترف بها والعد المستبصر «للذرات الأصغر حجما» مثير للإعجاب، وهذا أحد العناصر الرئيسة للاعتماد العلمي للذرات المستمد من الاستبصار.
تجدر الإشارة هنا إلى عدم يقينية الاستبصار عند الحصول على ملاحظة. فلاحظ أن اثنين أو ثلاثة أقماع فقط هي التي أخذت عينة للعد، ويعترف الباحثون بشكوكهم عند عد 1 أو 2 من «الذرات الأصغر حجما». ويصعب للغاية منع هذه الفكرة من الاختلاج في صدورنا دون الإصابة بصداع شديد؛ ومن ثم ربما توضح أوجه القصور هنا وجود نوع من «مبدأ عدم يقين الاستبصار».
6
لكن ماذا عن «الذرات الأصغر حجما» المكونة؟ تظهر تلك الذرات الأساسية («الأصغر» أو «الفيزيائية المطلقة») في الشكل
8-2 - ويتضح أنها مقسمة إلى ذكر وأنثى. في حالة الذرات الذكورية، تلتف الطاقة حلزونيا إلى الداخل من الفضاء الرباعي الأبعاد (المستوى النجمي) وإلى الخارج في العالم المادي. أما الذرات الأنثوية فتمتص الطاقة من العالم المادي وتلفها حلزونيا، عكس الشكل اللولبي، وتعيدها إلى المستوى النجمي. ثمة علاقة واضحة بين هذا التصنيف وبين الذكر (الكبريت) والأنثى (الزئبق) في رموز الخيمياء القديمة
7 - الشمس والقمر، «عائلة الذرات».
شكل 8-2: تكون الذرات الفيزيائية الأصغر حجما، بالمناسبة، ذكرا وأنثى. لقد عدنا إلى الشمس والقمر، الكبريت والزئبق؛ ومن ثم تحتوي ذرة الهيدروجين على تسع ذرات فيزيائية أنثوية أصغر حجما وتسع ذرات فيزيائية ذكورية أصغر حجما (من كتاب «الكيمياء الغامضة»، 1908).
شكل 8-3: إليك سبب فاعلية القانون الدوري في رأي بيسنت وليدبيتر - لتشابه الذرات في العائلات نفسها في الشكل. على سبيل المثال، انظر إلى التركيب 1 في هذا الشكل - الذي يمثل تركيب ذرات النحاس والفضة والذهب. ونظرا لأن بعض التصنيفات المبكرة قد جمعت بالفعل الصوديوم مع النحاس والفضة والذهب (انظر الشكلين
7-17
و
8-5 )، يبدو من المنطقي للغاية أن تحمل هذه الذرات الأربعة قدرا من التشابه العائلي (انظر الشكل
8-1 ). لحسن الحظ، نحن لا نصنع عملات من الصوديوم، فلا تحرق العملات جيوبنا وتصنع فيها ثقوبا (الأشكال من كتاب «الكيمياء الغامضة»، 1908).
شكل 8-4: المزيد من أنواع تركيبات الذرات الكيميائية (من كتاب «الكيمياء الغامضة»، 1908). علق الأستاذ بيير لازلو على تشابهها الغريب مع المدارات الذرية.
شكل 8-5: الأفعوانية الدورية على شكل رقم ثمانية بالإنجليزية للسير ويليام كروكس؛ وهو فيزيائي بارز بحق، ساعد صمامه المفرغ في تحديد خصائص الإلكترون في أواخر القرن التاسع عشر، وكان كروكس متعاطفا أيضا مع المعتقدات الغامضة (من كتاب «الكيمياء الغامضة»، 1908).
يتمثل الاعتماد العلمي القوي الآخر للذرات الكيميائية المستمد من الاستبصار في اتساقها الظاهري في تفسير الخواص الكيميائية والفزيائية التي نظمها بإتقان بالغ القانون الدوري. يوضح الشكلان
8-3
و
8-4
أنواع عائلات الذرات الكيميائية، ليست بروتوزوات كما يبدو للعين غير الناقدة (أو حتى مدارات
d
أو
f
لدى الكيميائي المتمني!) يمكن توضيح الفكرة بإيجاز؛ يصنف النوع التركيبي 1 في الشكل
8-3
على أنه فئة «الدمبل»، التي تشتمل على النحاس والفضة والذهب، وهي ثلاثة معادن تصنع منها العملات وتقع في المجموعة 11 من الجدول الدوري. غير أن بيسنت وليدبيتر يضعان أيضا الصوديوم ضمن هذه الفئة؛ فتركيب ذرة الصوديوم (الشكل
8-1 ) يجعلها واحدة من فئة الدمبل. غير أنني أقترح، أيها القارئ اللطيف، أن تتجنب قبول قرش مصنوع من الصوديوم إلا إذا كنت تحب حرق المال (ويدك أيضا). ويتضح الالتباس من خلال الأخطاء التي حدثت بسبب استخدام المؤلفين للأفعوانية الدورية التي قدمها لهما العالم البارز بحق السير ويليام كروكس (1832-1919)، الذي يحتفظان بإحدى مراسلاته معهما (انظر الشكل
8-5 ). (في كتاب لاحق
8
لجيناراجاداسا المذكور آنفا تظهر نسخة أخرى من جدول كروكس الدوري، لكن هذه النسخة على وجه الخصوص تحتوي على «عناصر اكتشفت لأول مرة بالفحص المستبصر» - نتحدث هنا عن جرأة فظة!) ونما لدى كروكس، مخترع الصمام المفرغ الذي أدى إلى اكتشاف الإلكترونات والأشعة السينية، اهتمام بالأفكار الروحانية والتأملية الشديدة، وما يطلق عليها ويليام بروك «الكيمياء الغيبية»
9 - من الواضح أنه نظير علمي مناسب لمؤلفي «الكيمياء الغامضة».
باختصار، يبدو أنه حتى في أوائل القرن الحادي والعشرين، ربما تحتاج هذه النظرية إلى مزيد من الدراسة وبعض التعديلات؛ فعلى الرغم من أن ذرة بور وتفسير لويس- كوسل-لانجموير لقاعدة الثمانيات جاءا بعد الطبعة الأولى وقبل الطبعة الثانية من كتاب «الكيمياء الغامضة»، لم يتعرض التفسير المشار إليه إلا لتعديل بسيط. لا يوجد دليل أيضا على أن بيسنت وليدبيتر وجدا أي حاجة لإدراج مفهوم الأرقام الذرية الذي اخترعه موزلي في تلك الفترة نفسها. إن النماذج التي تستطيع النجاة من هجوم النظريات الحديثة، بما في ذلك ميكانيكا الكم وبياناتها التجريبية الداعمة، لا بد أن تكون قوية بالفعل. ولهذا أنصح بدعم من منحة، وأتخيل طبيعة ميزانية البحث:
المؤسسة الوطنية لتحضير الأرواح
عنوان الطلب: ميزانية الذرات وتفاعلات المستوى النجمي (1)
الأفراد:
مستبصر (100 ٪ عبء أكاديمي).
فنان/مسجل (50 ٪ عبء أكاديمي).
عداد ذرات فيزيائية/عالم رياضيات (50 ٪ عبء أكاديمي). (2)
المعدات:
مجهر استبصار (واحد).
جهاز كشف اتجاه المستوى النجمي (مجموعة خيارات مجهر الاستبصار
Y2K ) (واحد).
آلة حاسبة (واحدة). (3)
المؤن:
أسبرين (10 إجمالا).
مشروبات عشبية (10 إجمالا). (4)
المرافق والإدارة (85 بالمائة من الميزانية الأساسية).
أعترف بأني أواجه صعوبة في إيجاد تفسير ميكانيكي لطريقة الحصول على الصور المستبصرة للذرات. لكني كنت أواجه دوما مشكلات مشابهة عند محاولة فهم كيف يغير حجر الفيلسوف الرصاص إلى معدن الذهب «الأنقى» عبر عملية غامضة تدعى «الإسقاط». ورغم أن روبرت بويل كان متيقنا بشأن الخيمياء، وكتب «سردا كيميائيا غريبا» يصف فيه تحولا عكسيا، لم يكن على الأرجح متحمسا بشأن استخدام الاستبصار كتقنية تجريبية.
10
حسنا، يبدو لي أن السيد ليدبيتر لديه اسم مناسب على نحو رائع، ولن أتفاجأ إذا علمت أنه، على الأقل، كان يفهم كلا من الاستبصار والإسقاط.
في الواقع، نجد المثير أكثر للاهتمام المؤلفة التي شاركته في التأليف، السيدة آني بيسنت (1847-1933)، التي يصفها إمزلي بأنها «مصلحة اجتماعية متقدة الحماس، ولديها ميول اشتراكية وطاقة لا حد لها.»
11
نشرت السيدة بيسنت، التي تزوجت كاهنا في البداية لكنها انفصلت عنه في النهاية، سرا كتيبا يشكك في ألوهية يسوع المسيح، ومقالا فيما بعد عن تنظيم النسل. وساعدت في تنظيم إضراب «لأفقر الفقراء وأدنى الأدنياء» (معظمهم من النساء والأطفال) ضد مصنع للثقاب في لندن في عام 1888 وحققت انتصارا ساحقا لحقوق العمال.
11
وفي عام 1889، تحولت إلى معتقدات الجمعية الثيوصوفية، التي ركزت على خدمة البشرية والروحانية وعملت رئيسا لها من عام 1907 إلى 1933؛ حيث عاشت في مقرها الأصلي في مدينة مدراس، في الهند.
11
كانت السيدة بيسنت أحد المؤيدين الأوائل لاستقلال الهند، وأسست رابطة الحكم الذاتي الهندي في عام 1916.
12
خلاصة القول، كانت سيدة «صعبة» ورائعة. (2) الشكل اللولبي الدوري للعناصر
شكل 8-6: الشكل اللولبي الدوري للعناصر لهاركينز وهول الذي ظهر في عام 1916 (من مجلة «جورنال أوف ذا أمريكان كيميكال سوسايتي»، 1916، بتصريح من الجمعية الكيميائية الأمريكية).
في عام 1869، رتب مندليف الثلاثة والستين عنصرا المعروفة آنذاك وفقا لتزايد الكتلة الذرية، ووضعها في صفوف ترتبط خواصها الكيميائية بعضها ببعض. وسرعان ما حل محل هذا الجدول الدوري الرأسي (الشكل
7-16 ) الشكل الأفقي الذي نألفه أكثر حاليا.
13
كانت ثمة صور أخرى محتملة له، منها الأشكال الحلزونية واللولبية
14 (انظر الشكل الحلزوني على شكل رقم ثمانية الإنجليزي لكروكس في عام 1898، في الشكل
8-5 ). ففي عام 1916 نشر دبليو دي هاركينز وآر إي هول جدولا لولبيا رائعا للعناصر (الشكل
8-6 ).
15
وبعد شهر من تقديم هاركينز وهول بحثهما لمجلة «جورنال أوف ذا أمريكان كيميكال سوسايتي»، قدم جيلبرت إن لويس بحثه «الذرة والجزيء» للمجلة نفسها، وسمحت صيغه البسيطة التي يعبر فيها عن الإلكترونات بالنقط للباحثين بمجرد النظر إلى الجدول الدوري وتوقع طبيعة الرابط (روابط فردية، أو زوجية، أو ثلاثية) بين ذرات عناصر المجموعة الرئيسة.
16
قبل ثلاث سنوات من هذا اكتشف هنري جي جيه موزلي (1887-1915) أن الجذر التربيعي لترددات الأشعة السينية الصادرة من الكاثودات المعدنية المختلفة كانت متناسبة طرديا مع الأعداد الأصلية التي أطلق عليها اسم «الأرقام الذرية».
17
إن الرقم الذري - العدد الصحيح للشحنات الموجبة في نواة الخلية، وليس الوزن الذري - هو المحدد الحقيقي لهوية العنصر؛ فالرقم الذري هو الذي يوفر «التتابع»
18
المستمر للعناصر الواحد تلو الآخر الذي يكمن وراء المفهوم الدوري؛ فالعنصر الثامن بعد الليثيوم (
) هو الصوديوم (
)، ويأتي بعد هذا بثمانية عناصر البوتاسيوم (
). تشترك هذه العناصر الثلاثة في خواص كيميائية متشابهة للغاية. وإذا كانت العناصر التسعة عشر الأولى قد وضعت بترتيب صارم من حيث الأوزان الذرية، فإن العنصر
كان يفترض به أن يكون الأرجون (الوزن الذري = 39,95) ويكون البوتاسيوم العنصر
(الوزن الذري = 39,10). كيميائيا، بالطبع، كان هذا أمرا سخيفا، لكنه لم يكن يمثل مشكلة قط لمندليف في عام 1869؛ لأن الغازات الخاملة، لحسن حظه، لم تكن قد اكتشفت بعد.
أشار «السير» التدريجي لموزلي عبر الجدول الدوري بوضوح، إلى وجود أعضاء مفقودين في العائلة الأكبر والأكثر تعقيدا، المكونة من 85 عنصرا التي كانت معروفة آنذاك. اهبط «سلم» هاركينز (الشكل
8-6 ) إلى أسفل، وستصل في النهاية إلى أثقل عنصر عرفه موزلي - اليورانيوم (الوزن الذري
). (عزل اليورانيوم لأول مرة على أنه أكسيد في عام 1789، وأعلن عن المعدن النقي في عام 1841.)
19
وهذا هو مصدر «الرقم السحري» 92، الذي يعد جزءا من «كابالاتنا الكيميائية» - عدد العناصر «الموجودة طبيعيا» التي رسخها موزلي في أذهاننا. إن الواقع أكثر تعقيدا من هذا. لاحظ وجود فراغ في الجزء الأمامي من الشكل (
8-6 )، مقابل العنصر
تحت السيزيوم مباشرة (
Cs )، ووجود فراغين تحت المنجنيز (
Mn ) مقابل العنصرين
و
، وفراغ أسفل اليود (
I ) مقابل العنصر
. وإذا نزلنا السلم نحو «القبو» المعتم والكئيب والخطير، فسنكتشف، عند مرورنا بالثاليوم (
Tl )، وجود فوضى وارتباك. كان الإشعاع، الذي اكتشفه لأول مرة عام 1898 هنري بيكريل،
20
ناتجا ثانويا للتحولات التي تحدث طبيعيا للعناصر التي تبادل هوياتها أمام أعيننا. يوجد ستة نظائر مختلفة للرصاص (
) في الشكل
8-6 . فنرى أسفل الزينون (
Xe ) عنصرا غامضا
وانبعاثا من الثوريوم (
Th Em )، وأيضا من راديوم
20
ماري كوري (
Ra Em )، وقد سمي الأخير اختصارا «نيتونيوم» (
Nt ).
دعونا نهرب من القبو الإشعاعي ونصعد السلم. يوجد فوق التانتالوم (
Ta, #73 ) مباشرة صدع، وعلينا أن «نتسلق» «سلما حبليا» من 15 عنصرا؛ يرتبط أعلى عنصر فيها، اللانثانوم (
La, #57 ) عبر حلقة غريبة بالعنصر
(السيريوم،
Ce ). لقد قابلنا العناصر «الأرضية النادرة» التي تعرف حاليا باشتمالها على اللانثانوم، «اللانثانيد» الرابع عشر (
)، بالإضافة إلى العناصر الأخف وزنا؛ الإتريوم (
Y, #39 )، والسكانديوم (
Sc, #21 ). عندما نشر هاركينز وهول شكلهما اللولبي لأول مرة، كان يعتقد أن العناصر من
وحتى
كلها عناصر أرضية نادرة.
شكل 8-7: أعيد طبعه بإذن من كتيب «معلم كيميائي تاريخي طبيعي: فصل العناصر الأرضية النادرة، جامعة نيوهامشر، 29 أكتوبر، 1999». حقوق الطبع محفوظة، 1999، الجمعية الكيميائية الأمريكية.
كانت الاختلافات الواضحة في التفاعلية الكيميائية بين العناصر المتجاورة (مثل الكبريت مقابل الكلور) التي أرشدت مندليف، غائبة إلى حد كبير في العناصر الأرضية النادرة السبعة عشر؛ فكان تركيبها الكيميائي متشابها للغاية (شكلت كلها في المعتاد مركبات من نوع
MX
3
تكافؤها 3)، بحيث كان من الصعب للغاية فصلها. وهذا هو أصل الملحمة التي استمرت 150 سنة في تاريخ الكيمياء.
21 ،
22
في عام 1794، حصل جون جادولين على «عنصر أرضي» غير معروف (المصطلح المنقرض حاليا للأكاسيد) من خام أسود يسمى «الإتربيت» في قرية إتربي السويدية، واكتشف معدن الإتريوم. وفي عام 1803، عزل يونس ياكوب بيرسيليوس، وفيلهلم هيسينجر (السويديان) ومارتن كلابروت (الألماني) في الوقت نفسه تقريبا عنصرا جديدا آخر وأعلنوا عنه، السيريوم، من معدن السيريت. أسند الفضل في الاكتشاف إلى كلابروت؛ لأنه كان أول من عمل على تنقيته على ما يبدو. في الواقع، كان للتعديلات في أساليب الفصل، وابتكار أساليب جديدة، واستخدام المطياف الذي اخترعه جوستاف وكيرشوف وروبرت فيلهلم بنسن، دورا في توجيه عزل كل العناصر الأرضية السبعة عشر (الشكل
8-7 ) من «العنصرين» الأصليين. وفي عام 1907، أعلن كل من جورجس أوربين (فرنسا)، وكارل أور فون فيلشباخ (النمسا)، وتشارلز جيمس (الولايات المتحدة)، في الوقت نفسه تقريبا عزل آخر عنصر أرضي نادر. لم يحدث هذا أيضا دون مغامرة وجدال، لكن في النهاية نسب إلى أوربين الفضل في اكتشاف اللوتيشيوم (
Lu, #71 ).
21 ،
22
أكد موزلي وضع هذه العناصر الأرضية النادرة ضمن عائلة العناصر، وأشار إلى عنصر واحد مفقود (رقمه الذري 61)، وتوقع وجوده. في الشكل
8-6 ، يظهر التعبير عن هذا العنصر الغامض 61 في صورة مساحة فارغة بين النيوديميوم (
Nd ) والساماريوم ( “Sa” ). وثمة عنصر آخر مفقود،
افترض أوربين وموزلي وغيرهما أنه من العناصر الأرضية النادرة، جرى البحث عنه هباء من عينات الخام التي أنتجت أسرة العناصر السبعة عشر المترابطة ترابطا قويا.
شكل 8-8: نسخة لاحقة للشكل الدوري اللولبي لهاركينز وهول يشمل الاكتشاف الذي حدث في عام 1923 للهافنيوم (
Hf, #72 ، وهو ليس عنصرا أرضيا نادرا كما اعتقد البعض في البداية)، وفصل الرينيوم (
Re, #75 ) في عام 1925، رغم أن اسمه ليس مذكورا بوضوح هنا (مستخدم بتصريح من مجلة «جورنال أوف كيميكال إديوكيشن»، 1934).
يظهر الشكل
8-8
نسخة محدثة من الشكل اللولبي لهاركينز نشرت في عام 1934.
13
إن السمة المميزة حقا للعلم قدرته على وضع تنبؤات واختبارها، وكلما كانت تلك التنبؤات جريئة، كان هذا أفضل. كانت الأماكن الفارغة في جدول مندليف الدوري الأصلي (الشكل
7-16 ) تنبؤات جريئة بعناصر جديدة، مثل الجاليوم (إيكا-ألومنيوم)، والجرمانيوم (إيكا- سيليكون). وقد اكتشفت جميع العناصر التي تنبأ بها مندليف في غضون الأربع والعشرين سنة التالية. وحل لغز الهافنيوم (
Hf, #72 ) عندما طبق نيلز بور نسخته من أعداد الكم، وأدرك أن العنصر
لم يكن مشابها للعناصر من
حتى
، بل ينبغي أن يكون مشابها إلى حد ما في سلوكه الكيميائي للزركونيوم (
Zr )، المعروف بكونه رباعي التكافؤ. وبمجرد معرفة هذا، عثر على هذا العنصر الجديد بكميات ضئيلة في خامات الزركونيوم، وفصل بمشقة، وأعلن عنه عام 1923.
22
أدت أفكار مشابهة إلى عزل الرينيوم (
Re ) في عام 1925 (رغم أنه ما زال مدرجا بوصفه
في الشكل
8-6 ).
22
البداية الجادة لعصر الكيمياء النووية كانت في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين؛ فعزل التكنيشيوم (
Tc, #43 ) والفرانسيوم (
Fr, #87 ) والأستاتين (
As, #85 )، وآخر العناصر الأرضية النادرة، البروميثيوم (
- انظر الشكل
8-8 ) على مدار عقد من الزمن. كان موزلي سيبلغ من العمر 60 عاما، لو عاش ليشهد اكتشاف البروميثيوم في عام 1947. ولكن مع الأسف، طلب للتجنيد الإجباري في أثناء الحرب العالمية الأولى، وأصيب بطلق ناري وقتل في معركة جاليبولي.
اكتشفت عناصر ما وراء اليورانيوم (التي تزيد أرقامها الذرية عن 92) لأول مرة في عام 1940.
23
ويوجد أول عنصرين منها، النبتونيوم (
Np, #93 ) والبلوتونيوم (
) في الطبيعة بكميات ضئيلة للغاية. غير أنه في أربعينيات القرن العشرين صنعت منهما كميات كبيرة باستخدام القصف النووي. وقدمت سلسلة من العناصر الجديدة المصنعة المتزايدة الوزن وغير المستقرة إلى حد كبير، التي أعلن عنها على مدار العقود الخمسة التالية، جدولا دوريا متسعا للغاية.
23
وإذا استمررنا في استخدام تشبيه السلم الحلزوني، فسنجد أن علماء الكيمياء النووية كانوا يحفرون أسفل القبو المشع في قبو تحتي أكثر غرابة. ومع ذلك، لا يوجد سبب لافتراض أن الشكل اللولبي لا بد أن يبدأ من الأخف وزنا في القمة ويزيد الرقم الذري كلما توغلنا إلى أسفل. بالنسبة لي أنا - عالم الكيمياء العضوية - يبدو الترتيب في الشكل
8-8
جيدا لي؛ فعناصري الهيدروجين والكربون والنيتروجين والأكسجين هي الأقرب إلى الجنة. إلا أن جنة شخص ما ربما تكون جحيم شخص آخر؛ فأنا أعتقد أن علماء الكيمياء النووية ربما يفضلون أكثر تزايد الرقم الذري مع الصعود؛ فقد كان هدفهم منذ فترة طويلة إيجاد «جزيرة ثبات» (ربما «سحابة ثبات»؟) للعناصر الفائقة الوزن.
23
وربما يرى عالم كيمياء عضوية مثلي هدفهم هذا مثل «أتلانتس».
23
وفي عام 1999، بدا أنه قد أمكن الوصول إلى هذه الأرض (أو السحابة) الموعودة مع التوليف النووي لعنصر
.
23
إلا أن هذا الزعم سحب فيما بعد، ولا يزال هذا الهدف صعب المنال.
24 (3) برق أبيض داخل الذرة، قبلة أم نجمة
استخدم الكيميائي بريمو ليفي في كتابه المؤثر «الجدول الدوري»،
25 ،
26
21 عنصرا عناوين لفصوله، من أجل استعراض رمزي لتجاربه وذكرياته وأحلامه كيهودي إيطالي المولد يعمل في مدينة تورينو أثناء الحرب العالمية الثانية. على سبيل المثال، في الفصل الافتتاحي، الأرجون، يشبه ليفي أجداده من عصر النهضة الإيطالية وورثتهم بالغازات الخاملة:
27
تحمل المعلومات القليلة التي أعرفها عن أسلافي الكثير من أوجه الشبه بينهم وبين هذه الغازات. فلم يكونوا جميعا خاملين إلى حد كبير؛ إذ كان ذلك رفاهية غير متاحة لهم. على العكس، فقد كانوا - أو كان عليهم أن يكونوا - نشطين إلى حد كبير، حتى يكسبوا عيشهم، وبسبب مبدأ أخلاقي يقول إن «من لا يعمل، لا يأكل.» لكن لا شك في أنهم كانوا خاملين من داخلهم، ويميلون إلى التفكير فيما لا يهم، والحوارات الطريفة، والنقاشات الراقية والمعقدة التي لا مبرر لها ... نبلاء، وخاملون، ونادرون: إن تاريخهم فقير للغاية عند مقارنته بتاريخ المجتمعات اليهودية الشهيرة الأخرى في إيطاليا وأوروبا.
شكل 8-9: الغلاف الأمامي وكعب الكتاب لرواية «البرق الأبيض » الصادرة في عام 1923 لإدوين هيربرت لويس «الغريب الأطوار» نوعا ما. كان المؤلف مطلعا ومواكبا إلى حد كبير لمجال الكيمياء (خاصة الكيمياء النووية)، وكانت روايته المكونة من 354 صفحة مقسمة إلى 92 فصلا، تبدأ بالأكسجين وتنتهي باليورانيوم. كانت الفصول 43 و61 و75 و85 و87 غير معنونة بالطبع، لكن الفصل 72 كان بعنوان «هافنيوم»؛ نظرا للإعلان عن هذا العنصر في عام 1923، وهي السنة التي نشرت فيها الرواية. تمثلت الهديتان الخالدتان اللتان تركهما لويس للأجيال القادمة في جامعة شيكاجو مدرسته الأم، وابنته، الشاعرة والروائية البارزة جانيت لويس، التي توفيت في عام 1998 عن عمر يناهز التاسعة والتسعين. (عرضيا، زعم ليفي خطأ أن الأستاذ نيل بارتليت حصل على جائزة نوبل في الكيمياء لاكتشافه في عام 1962 أن غاز الزينون الخامل يتفاعل ليشكل مركبات كيميائية.
27
ورغم أن معلومات ليفي التاريخية كانت خاطئة، أعتقد أن حكمه كان سديدا.)
قبل خمسين سنة من نشر كتاب «الجدول الدوري»، ألف إدوين هيربرت لويس، «أستاذ اللغة الإنجليزية الغريب الأطوار في معهد لويس في شيكاجو»،
28
كتاب «البرق الأبيض»
29 (الشكل
8-9 )، وهو رواية من 354 صفحة مقسمة إلى 92 فصلا، يحمل كل منها اسم عنصر بحسب ترتيب الرقم الذري (المكتشف حديثا). إنه كتاب جريء يحمل الطابع المندليفي - فالفصول 43 و61 و75 و85 و87 لا تحمل أسماء وتتسم بالغموض على وجه الخصوص.
30
تحكي الرواية بلوغ مارفن ماهان سن الرشد، وتعامله مع القنابل والغاز في الحرب العالمية الأولى، ونشأته في عشرينيات القرن العشرين عالما شابا ذكيا في مجال الكيمياء الإشعاعية. يوظف «البرق الأبيض» استعارة على مدار الكتاب للطاقة المخبأة في المادة - فالمارفن هو «جني هذا البرق المحبوس في زجاجة»؛
31
والأرض تظهر من كوكب الزهرة على أنها «نقطة ثابتة من البرق الأبيض».
32
ولكي يدع الاستعارة تتفجر من الزجاجة، يفكر مارفن متأملا:
33
إن وجنة الفتاة، التي يبدو ملمسها ناعما على الشفتين، هي في الواقع سماء مرصعة بالنجوم، مملوءة بالشموس والأقمار الكهربائية. والجهد بين كل شمس وأقمارها هو الذي يمنع هذه الوجنة من الانفجار عند تقبيلها. وهنا كان يدعوها جميعا «عزيزاتي»! حسنا، ربما كان يعلم أن الفتيات يتكون من الكهرباء؛ فقد كان دوما يشعر بها وهي تسري في ذراعه.
والأخطر من هذا، بتنبأ لويس باستخدام الأسلحة النووية:
34 «البرق دون الذري وحده هو الذي سيعلم الألمان.» وللمفارقة، يتنبأ المؤلف أيضا بنشوب حرب حتمية مع اليابان على الموارد الطبيعية والاستعمار في آسيا. تمثل يد مارفن اليسرى أيضا رمزا قويا؛ نظرا لأنها تحتوي على البرق وتتلقاه وتطلقه (الشكل
8-9 ). تفجر هذه اليد قنبلة في الحرب، ومن ثم تبتر، ويفقد بذلك كمال شبابه وبراءته.
في حين أنني لست «ناقدا أدبيا» معترفا به، فإنني أعتقد أن ناقدا في عام 1916 لكتاب آخر من كتب لويس قد صنفه روائيا كما يستحق: «تتحرك الحبكة بسلاسة بمساعدة صدف رائعة وقصص غرامية مستحيلة.»
35
ومع ذلك، دعونا نشد بالمؤلف إشادة كبيرة بوصفه ملاحظا مطلعا وخبيرا في الكيمياء. فقد كان مطلعا للغاية ومواكبا للثورة المعقدة في فهم تركيب النواة الذرية، التي كانت قد تحركت بالفعل في وقت تأليفه لكتاب «البرق الأبيض». قرأ مارفن عن اكتشاف هنري جي جيه موزلي للأرقام الذرية في عام 1914:
36 «لقد اكتشفها هذا المغمور موزلي - طريقة أكيدة لتحديد مقدار الكهرباء المخبأة في قلب الذرة ... فكر في الأمر - تمثل ذرة الرصاص كونا صغيرا من البرق المضغوط؛ إذ تحمل اثنين وثمانين قمرا كهربائيا في سمائها ... وإذا كان جرام من الراديوم يصدر طاقة تكفي لرفع خمسمائة طن على ارتفاع ميل، فإن جراما من الرصاص المتحلل يفترض به تشغيل كل عجلة في مصنع كبير!» (وعندما تعرض موزلي لطلق ناري وقتل في سن السابعة والعشرين في معركة جاليبولي - «اخترق الرصاص العقل الوحيد الذي فهم الرصاص بحق».)
37
يلتحق مارفن بجامعة ييل ويعمل تحت إشراف الأستاذ (الحقيقي للغاية) بيرترام بوردن بولتوود، مكتشف «الأيونيوم» (الذي سرعان ما اتضح أنه نظير الثوريوم من التحلل الإشعاعي لليورانيوم).
38
في الواقع، يستشهد لويس بعمل سودي وأستون واكتشافهما للنظائر، ويذكر بحماس تحويل روثرفورد النووي للنيتروجين، ويقدم الفهم المعاصر للنظائر الذي يفسر وحدات الكتلة الإضافية بوصفها نتيجة لتحييد البروتونات النووية بفعل الإلكترونات النووية. وقد تحقق اكتشاف النيوترون على يد تشادويك في عام 1932، بعد عقد تقريبا من نشر كتاب «البرق الأبيض».
أحيانا، كان لويس «يصيب الهدف» بالفعل. كانت أول «محبوبتين» لمارفن هما سينثيا وجريشا. تشهد جان، السيدة التي أصبحت زوجته في الفصل 92، وفاة والدتها المبكرة بسبب سكتة دماغية مفاجئة في اليوم نفسه الذي علمت فيه بمقتل أخيها في الحرب. ورغم أن هذا الفصل (10) مفتعل للغاية، فإنه يشبه النيون بكون بارد وغير مبال وغير أخلاقي - «لكن طوال الوقت ظل الغاز النبيل المدعو نيون غير متأثر. مثل كيميائي هادئ العينين ينظر إلى المستقبل، ولم يسمع أي انفجار.»
39
وتتعهد جان، المخدرة عاطفيا، بالعفة في الفصل الثامن عشر (الأرجون)، وبألا تسمح لأي رجل بالتودد إليها - «ستكون مستعدة لهم، وهي خاملة مثل الراهبة.»
40
غير أن مؤلفنا لا يمكنه مقاومة الجنوح نحو مبالغة دورية؛ ولذلك نجد مارفن في الفصل 31 (جاليوم، وهو عنصر تنبأ مندليف بأنه سيشغل فراغا في جدوله الدوري) يضربه البرق من زوجته المستقبلية:
41
تماما مثلما تنبأ مندليف بوجود عنصر مثل البورون وعنصر مثل الألومنيوم، كان يعرف أيضا لا شعوريا أن ثمة فتاة متقدة الحماس مثل سينثيا ومستقلة على نحو رائع مثل جريشا.
ويسوء الوضع أكثر:
الفصل 25: «أصبح وجه جيمي ورديا أكثر من أملاح المنجنيز.» (يا إلهي!)
الفصل 27:
بطريقة ما علمت عندما بدأت أقرأ الفصل 27 أن اللورانسيوم لا بد أن يكون في زرقة الكوبالت. (وماذا أيضا؟)
الفصل 31: «قد لا تذوب تماما في يديه كما يذوب معدن الجاليوم، لكنها ستستسلم.» (النجدة!)
الفصل 38:
يبدأ: «جذف الشاب السعيد إلى جزيرته المستأجرة، ولبعض الوقت جلس يشاهد أضواء المرفأ القادمة من النهر، حمراء مثل نترات العنصر رقم ثمانية وثلاثين.» (كنت أفضل: «كانت ليلة مظلمة وعاصفة ...»)
الفصل 50: (القصدير، إذا كنت ما زلت منتبها): «أنا أحب اللبن المعلب من الدرجة الأولى» (بالطبع كنت ستفعل).
الفصل 59:
براسوديميوم. كيف تستحوذ على اهتمام القارئ بهذا العنصر؟
حسنا، تنتهي الأمور كلها بسعادة. فيستطيع الأرجون تكوين مركب.
42
و(نسيت) ترفض جان في البداية عرض مارفن للزواج منها بازدراء، وتدعوه إلى العودة وزيارتها بعد ثلاث سنوات من هذا اليوم مع زوجته. وفي أثناء السنوات الثلاث التطهيرية هذه، يبدأ مارفن ترك أثره، فتبدأ جان تهتم بالكيمياء وتنشئ مختبرا بسيطا، وتؤدي بها عقليتها الألمعية إلى أن تعجب بماري كوري وتكتشف وحدها بعض التساؤلات الكيميائية الأساسية في هذا الوقت. يعود مارفن ويعلم أنه سيشغل منصبا جامعيا في الكيمياء في بالو ألتو (ستانفورد)، وتقبل جان أخيرا الزواج به. ورغم احتمال ذكر بيير وماري كوري هنا، فإن أنطوان وماري آن بيريت لافوازييه كانا الأنسب على الأرجح.
وماذا عن مؤلفنا المتميز السيد لويس؟ يقال إن أهم إسهاماته الأدبية كانت ابنته - جانيت لويس (1899-1998)؛
28 ،
43
فقد كانت شاعرة وكاتبة مسرحية وروائية ذائعة الصيت، تظل أشهر أعمالها رواية «زوجة مارتن جير». وكتبت كذلك نص كلمات أوبرا ويليام بيرجسما التي تحمل العنوان ذاته، وربما من المنطقي اعتبار عملها أحد المصادر التي قام عليها الفيلم الفرنسي «عودة مارتن جير». ومن الرائع تخيل حوار بين الأب وابنته يشمل اهتمامهما المشترك بالسكان الأمريكيين الأصليين - فهم منتشرون في كتاب «البرق الأبيض»، ويمثلون موضوع أول كتاب شعري للسيدة لويس («الهنود في الغابة»، 1922). وربما احتوى جزء من حوارهما الرائع على مزيج من العلم والشعر كما فعلت على نحو رائع في هذا العمل الموجز:
44
الصباح الباكر
الطريق
الذي يسلكه العنكبوت في الهواء،
غير مرئي
حتى يلمسه الضوء.
المسار
الذي يسلكه الضوء في الهواء،
غير مرئي
حتى يعثر على شبكة العنكبوت. (4) «أقايضك بيب روث بأنطوان لافوازييه!»
يعد بيب روث «أبو لعبة البيسبول الحديثة» بسبب ما أحدثته ضربته المثالية من ثورة في لعبة البيسبول؛ ففي عام 1918، لم يحقق أي من فرق الدوري الرئيسي الست عشرة أكثر من 27 ضربة مثالية.
45
في تلك السنة أهل روث البالغ من العمر 23 عاما فريق بوسطن ريد سوكس إلى بطولة العالم، من خلال فوزه باثنين من انتصاراتهم الأربعة في نهائيات كأس العالم، وكان أفضل لاعب مناصفة في الدوري في الضربات الآمنة مع لاعب آخر (بواقع 11 ضربة لكل منهما).
46
وفي عام 1919، وهو آخر عام له مع الريد سوكس، أحرز روث 29 من إجمالي 33 ضربة آمنة لفريقه في الموسم بأكمله. باع فريق الريد سوكس، الذي كان بحاجة إلى المال، روث سريعا إلى فريق نيويورك يانكيز الثري، ولم يفز بنهائيات كأس العالم منذ عام 1918 («لعنة فينواي» الشهيرة). وفي عام 1920، سدد روث، بعد التحاقه بصفوف اليانكيز، 54 ضربة آمنة - أي أكثر من إجمالي ضربات الموسم الأربع عشرة لفرق الدوري الرئيسي الخمس عشرة. وفي عام 1921 سدد 59 ضربة آمنة، ووضع في عام 1927 الرقم القياسي الحديث، 60، الذي استمر طيلة 35 سنة. وفي عام 1930، وقع روث على راتب 80 ألف دولار في السنة، وعندما قيل له إنه يحصل على أكثر من رئيس الولايات المتحدة، رد قائلا: «حسنا، لقد كان عامي أفضل من عامه.» ويقول التاريخ إن روث كان على الأرجح محقا. أعاد أنطوان لوران لافوازييه «أبو الكيمياء الحديثة» تعريف الكيمياء بالكامل، وأحدث ثورة فيها. وبوصفه واحدا من 40 «ملتزما» في «مؤسسة جمع الضرائب»، يمكن تصور أن لافوازييه كان يتقاضى راتبا في عام 1789 أعلى من راتب لويس السادس عشر، ورغم أنني أشك في هذا، لكنه بالتأكيد لم يكن يجرؤ على التفاخر بالأمر. من المنصف أيضا القول إن لافوازييه حظي في عام 1789 بعام أفضل من الملك. لذلك من المنصف على نحو بارز أن نطلق على بيب روث «أنطوان لافوازييه البيسبول». وربما يفكر المرء حتى في أن يطلق على لافوازييه «بيب روث الكيمياء».
شكل 8-10: بطاقات هواة تصور أشهر علماء الكيمياء صدرت عام 1938 من علامة «لا سيجاريت أورينتال دو بيلجيك» التجارية. انظر الصور الملونة. رغم أن شركة توبس أصدرت بطاقات مبادلة للعلكة في أوائل خمسينيات القرن العشرين تضم صورة ماري كوري ولويس باستير، يبدو أنه لا توجد سوق حالية لسلسلة بطاقات «نجوم الكيمياء» للمبادلة على العلكة. يا للخسارة! (خالص امتناني لجيمي وستيف بيرمان على هذه المعلومات.)
تبدو لي مقايضة بطاقة بيب روث في البيسبول ببطاقة لافوازييه أشبه ب «السرقة». ومع ذلك، فإن الواقع المرير يشير إلى أنه توجد حاليا سوق استثمار نشطة للغاية في مبادلة بطاقات البيسبول، بينما لا تحقق مبادلة بطاقات الكيمياء، الذي كان «مستعرا» في بلجيكا وهولندا منذ أكثر من ستين عاما، «ربحا عند بيعها» في الواقع. ولأنني لم أسمع عن كيميائيين وقعوا عقودا لمدة 10 سنوات بمبلغ 252 مليون دولار
47
ببنود احتكار، فعلى الأرجح لن تحدث نهضة في بطاقات الكيمياء في المستقبل القريب.
48
إن الصور الجميلة الموضحة في الشكل
8-10
مأخوذة من بطاقات المبادلة في مجال التبغ أصدرتها علامة «لا سيجاريت أورينتال دو بلجيك» التجارية في عام 1929 أو 1930 (الكتابات على ظهر هذه البطاقات كانت بالفرنسية والفلمنكية). يظهر الشكل
8-10 (
a ) كارل فيلهلم شيله، وهو صيدلاني سويدي متقد الذكاء، ذو موارد معيشية متواضعة للغاية، استطاع اكتشاف الأكسجين لأول مرة، لكنه فشل في فهم دوره في عملية الاحتراق. وتظهر في الشكل
8-10 (
b ) صورة للأرستقراطي أنطوان لوران لافوازييه، «أبو الكيمياء الحديثة». ويظهر في الشكل
8-10 (
c ) همفري ديفي الوسيم وسامة الأطفال، التي أدت شروحه الكيميائية إلى التحاق النساء، مثل الرجال ب «الأمسيات الكيميائية» في المعهد الملكي بداية من عام 1801. ويعرض الشكل
8-10 (
d ) صورة كلود برتوليه، الذي أدى اكتشافه «لتأثير قانون الكتلة» إلى طرح تساؤلات أثارت حنق نظرية دالتون الذرية فيما بعد حتى أصبحت التناقضات مفهومة بالكامل. في المقابل، دعم قانون دمج أحجام الغازات لجاي-لوساك (الشكل
8-10 (
e )) بشدة، النظرية الذرية للكويكري المتواضع في زينته، جون دالتون (الشكل
8-10 (
f )). كان يوستوس ليبيج (الشكل
8-10 (
g )) أحد مؤسسي «الكيمياء الحيوانية» (الكيمياء الحيوية)؛ فقد ساعد عمله في الكيمياء التحليلية على ترويض «الغابة البدائية» للكيمياء العضوية. أما روبرت بنسن (الشكل
8-10 (
h ))، الكيميائي والفيزيائي الألماني، فقد شرع في صنع المطياف من أجل تحليل المعادن النزرة، لكن أصبح مصدر الضوء المستخدم في هذا الجهاز حاليا هو موقد بنسن المعروف لكل من درس الكيمياء في المدرسة الثانوية. أما الشكل
8-10 (
i ) فهو صورة لألفريد نوبل، الذي حقق ثراءه من صنع المتفجرات، والذي أوصى بثروته لإنشاء أشهر جوائز في العالم تحمل اسمه، التي من بينها جائزة نوبل للسلام.
شكل 8-11: بطاقات مبادلة صادرة في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين تصور مختبرات كيميائية وكيميائيين مشاهير. ظهرت صورة جاي-لوساك التي نشرت لشيكولاتة بولين (ذق وقارن! جودة دون منافس) على نحو رائع على وجه الخصوص. وتمثل البطاقة الموجودة في الجزء السفلي الأيسر نسخة للوحة الشهيرة لمختبر يوستوس ليبيج في جامعة جيسن. والكيميائي الموجود في الجزء الأمامي في منتصف الصورة ويستخدم المدقة والهاون بأسلوب حالم هو جدي الكيميائي الأكبر، أدولف شتريكر.
يعرض الشكل
8-11
ستة مشاهد لمختبرات. رفعت بطاقة شوكولاتة بولين التي تصور جاي-لوساك - في الجانب العلوي الأيمن في الشكل
8-11 - فن بطاقات المبادلة إلى مستوى جديد. ويرجع تاريخ البطاقة الموجودة في المنتصف على الجانب الأيمن إلى ثلاثينيات القرن العشرين، وهي تصوير ألماني على الأرجح لمختبر في مطلع القرن، وتظهر البطاقة في الجانب السفلي الأيسر لويس باستير في مختبره. أما البطاقات الثلاث الملونة على يسار الشكل
8-11 ، فهي من سلسلة نشرتها في ثلاثينيات القرن العشرين شركة إيطالية تروج لشركة ليبيجز ميت إكستراكت. وتصور البطاقة العليا مشهدا تخيليا في المختبر الأسطوري للفيزيائي والكيميائي العربي في القرن الثامن جابر بن حيان.
أما البطاقة الثانية على يسار الشكل
8-11 ، فتصور لافوازييه
49
وبرتوليه في السوربون في باريس، رغم عدم تقلد أي منهما منصبا هناك. دافع برتوليه عن نظرية الفلوجستون بين عامي 1780 و1783. وفي عام 1783 اكتشفت الطبيعة الحقيقية للماء على يد كافنديش وصنع هذا المركب من عناصره بعناية، وتحلل مرة أخرى إلى عناصره على يد لافوازييه. واتضح أن الماء هو مركب يتكون في ثمانية أجزاء بالضبط من وزنه من الأكسجين وجزء واحد من الهيدروجين. فلم يكن، في النهاية، «فلوجستونا منزوع الفلوجستون». وفي أبريل عام 1785 أصبح برتوليه أول كيميائي فرنسي بارز يدعم نظرية لافوازييه الجديدة عن الأكسدة.
50
وظل صديقا للافوازييه، ونجا من الثورة الفرنسية مع الحفاظ على نزاهته، ورافق نابليون في بعثته العسكرية والعلمية إلى مصر في عام 1798. وفي أثناء هذه البعثة أجرى برتوليه اكتشافه المثير للاهتمام لرواسب الصودا (كربونات الصوديوم) على شواطئ البحيرات المالحة، مما أدى إلى صياغته لنظرية قانون الكتلة.
51
وبنزاهته المميزة كأحد أعضاء مجلس الشيوخ، صوت برتوليه لعزل صديقه في عام 1814 من أجل إنهاء الحرب الكارثية التي قادها نابليون.
50
أما المشهد الذي يظهر في البطاقة السفلية على اليسار في الشكل
8-11 ، فهو لمختبر يوستوس ليبيج في مدينة جيسن، ويوجد المختبر الأصلي في متحف جامعة جيسن. تحددت هوية معظم الشخصيات الموجودة في الشكل.
52
فالشخصية الجالسة في الوسط بالأمام والتي يستخدم صاحبها، بأسلوب حالم، المدقة والهاون، هو تلميذ ليبيج، أدولف فريدريك لودفيج شتريكر، جدي الأكبر، من الناحية الكيميائية (نعم؛ فذأنا أيضا أحد الحفدة الكيميائيين لليبيج - انظر خاتمة هذا الكتاب). وعلى يسار شتريكر يقف هاينريش ويل، الذي سيخلف ليبيج عما قريب مديرا في جيسن. وفي أقصى اليمين من هذه الصورة يوجد أوجست فيلهلم هوفمان، أعظم تلاميذ ليبيج، الذي قبل وظيفة أستاذ في الكلية الملكية للكيمياء بعد رفض معلمه لها.
53
شكل 8-12: كان يوستوس ليبيج أحد الرواد الأساسيين في الكيمياء الحيوية (الكيمياء الحيوانية والنباتية والغذائية). وكانت له آراء قوية بشأن أهمية «عصارة اللحم» في النظام الغذائي، وأعار اسمه للأنشطة التجارية. (توجد حاليا شركة تبيع أقراص فيتامين سي للينوس بولينج.) مولت شركة يوستوس ليبيج هذه البطاقات البلجيكية التي طبعت في ثلاثينيات القرن العشرين، وروجت لخطهم من المنتجات الغذائية. انظر الصور الملونة. وأنا أدين بالفضل لجيمي وستيف بيرمان لتزويده لي بهذه المعلومات.
الآن ماذا نفهم من بطاقات المبادلة الست الظاهرة في الشكل
8-12
التي تروج لمنتجات يوستوس ليبيج الغذائية، وعليها نسخة طبق الأصل من توقيعه (تماما مثل التي توجد على بطاقات البيسبول)؟ كان ليبيج يؤلف كتبا علمية عن الكيمياء الغذائية منذ أربعينيات القرن التاسع عشر. وكانت لديه نظرية عن الأهمية الحيوية «لعصارة اللحم» للنظام الغذائي والصحة،
54
كما صنع «شايا من الدجاج» من خلال ترك الدجاج المفروم منقوعا في ماء بارد لساعات مع بضع قطرات من حمض الهيدروكلوريك المضاف من أجل تليين اللحم. واتضح أن تناول جرعات متكررة من هذا المشروب يعالج كل أنواع الأمراض. غير أن أشهر مستحضراته كان خلاصة اللحم التي أعدها. وفي عام 1856 عين مهندس سكة حديد ألماني يدعى جورج كريستيان جيبرت، ليبيج مديرا لشركة ليبيج إكستراكت أوف ميت المؤسسة حديثا. بيعت أسهم الشركة في سوق لندن للأوراق المالية.
54
وحتى يومنا هذا لا يزال مستخلص ليبيج للحم يباع في ألمانيا. صدرت بطاقات المبادلة الموضحة في الشكل
8-12 ، التي كتب تعليقها بالهولندية، في ثلاثينيات القرن العشرين . إنها بطاقات جذابة، ويوجد على ظهرها قصص مفيدة عن الكيمياء.
55
تخبرنا البطاقة الأولى (مكعبات ليبيج، تعطي الطاقة والمذاق اللذيذ) عن «الفن المقدس في مصر القديمة» بأسلوب موجز لكنه غني بالمعلومات المفيدة إلى حد كبير. أما البطاقة الثانية (رافيولي ليبيج مع البيض: أرقى الأطباق الإيطالية) فتصف تاريخ بداية الأدوية العامة الشافية من كل داء في أرض العرب، بما في ذلك عمل كيميائي القرن الثامن جابر بن حيان. وتصف البطاقة الثالثة (بوالون ليبيج النقي (مكعبات): الدجاج المثالي) الكتالوني الصوفي راموند لولي (رامون لول) الذي ظهر في القرن الثالث عشر، والذي ينسب إليه (زعما) عدد كبير من كتب الكيمياء القديمة. وتقدم البطاقة الرابعة (معجون الطماطم المركز لليبيج: مذاق قوي) لمحة معلوماتية عن حياة باراسيليوس، الذي صنع ووصف الأدوية التسعة والتسعين المكونة من مركبات معدنية بدلا من المواد المستخلصة والمقطرة التقليدية المستخرجة من النباتات والحيوانات. وتعرض البطاقة الخامسة (خلاصة اللحم لليبيج: صديق الذواق) نقاشا ممتعا للطبيب الإنجليزي وعضو الجمعية الملكية، الذي ظهر في أواخر القرن الثامن عشر، جيمس هيجينبوثام. ادعى هيجينبوثام أنه اكتشف «حجر الفيلسوف». وعندما أخذته الجمعية الملكية إلى المحكمة حتى يثبت مزاعمه، سمم نفسه أمام زملائه. وتخبرنا البطاقة السادسة (نكهة ليبيج: تنكه الطعام) عن جوزيف بالسامو، المعروف أيضا باسم كونت أليساندور دي كاجليوسترو، الذي أحدث ضجة في بلاط لويس السادس عشر كصانع للمعجزات و«صانع للذهب». لا يسع المرء إلا تخيل أن لافوازييه «يصنع لحما مفروما منه»، لكن يبدو أن الفرصة لم تتح له قط. ونظرا لاشتهاره بعدة فضائح، انتقل بالسامو إلى روما؛ حيث قبض عليه في أثناء محاكم التفتيش وتوفي في الحبس عام 1795.
يصف الجزء الخلفي من بطاقات الصور الشخصية الواردة في الشكل
8-10
تفاصيل حياة هؤلاء الكيميائيين المختلفين، لكننا نحب تنسيق الأسطر في شكل إحصائيات الذي يظهر على الجزء الخلفي من بطاقات البيسبول التي تضم عادة بعض الأسطر القليلة الموجزة الجذابة عن حياتهم المهنية. ولنحاول تقديم استعراض «منقح» للجزء الخلفي من بطاقة يوستوس ليبيج (الشكل
8-10 (
g )):
البارون يوستوس «الحارس» فون ليبيج رقم 57
الميلاد: عام 1803 في دارمشتات،
الطول: 5 أقدام
الوزن: 145 رطلا. ⋆
ألمانيا.
و9 بوصات. ⋆
يكتب على السبورة: باليد اليمنى. ⋆
يمسح السبورة: باليد اليسرى. ⋆
اخترع يوستوس، الذي يفضل أن يطلق عليه «السيد الأستاذ الدكتور» أو أحيانا «البارون» فقط لأصدقائه، فعليا تحليلا دقيقا للمواد العضوية، ووضع أساس فهم الكيمياء العضوية، ويعد أحد رواد الكيمياء الحيوية. وجعلته معاييره الصارمة في عمله كرئيس تحرير لمجلة «أنالين دير شيمي أوند فارماتسي» يحصل على لقب «الحارس». وكان أول كيميائي في دوري النخبة يوقع عقد ترويج مجز لمنتج. وكانت هوايته الجدل الكيميائي «المحتدم» الذي يقول عنه بفخر «لا مكان للتساهل في قاموسي.»
إحصائيات مهنية. ⋆
المحاضرات التي بدأها
المحاضرات التي أتمها
الطلاب المتأثرون
التحليلات المكتملة
عقوبات الجدل (بالدقائق)
المجلة المنشأة
3251
3251
705
2348
3655
1 ⋆
هذه أشياء تخيلية فيما عدا عدد الطلاب الذين أثر فيهم والمجلة التي أسسها.
يشير المؤرخ الكيميائي ويليام إتش بروك إلى أن ليبيج كان عالما معروفا للغاية، اتخذ مواقف قوية فيما يتعلق بقضايا ذات أهمية كبرى للرأي العام، مثل الزراعة والتغذية والصحة العامة.
56
ويقارنه بروك،
56
في هذا الشأن بلينوس بولينج، الذي هيمن على الكيمياء في القرن العشرين، ولعب أيضا دورا مهما في النقاش الدائر حول الاختبار الجوي للأسلحة النووية، وحول البيئة، وفيتامين سي، والسلام، والصحة العامة.
57
لم يكن بولينج أيضا بعيدا عن الجدل، وربما يحتوي الجزء الخلفي من بطاقة مبادلته (الافتراضية) على عدد الطلاب الذي أثر فيهم (عشرات الآلاف)، وجوائز نوبل (2)، والشيوعيين الأرثوذكسيين والمكارثيين الذين أغضبهم (جميعهم). (5) الحياة السرية لواندا ويتي
58
أهدي هذا المقال إلى العدد اللانهائي من طلاب الكيمياء الذين يسمحون أحيانا (أحيانا كثيرة، بالمناسبة) لعقولهم بالانجراف بعيدا أثناء الدرس عندما يرسمون أو يحلمون - مثلا، بالسيدة الشابة التي اقتنت كتاب «الكيمياء» لكولي (الشكل
8-13 )
59
منذ أكثر من قرن وتتحدث إلينا، في يوم جنوبي قائظ في أواخر شهر مايو، ربما عبر رسوماتها.
شكل 8-13: ماذا حدث للسيدة الشابة التي رسمت بإبداع بالغ في كتاب الكيمياء الذي كان يدرس لها في المرحلة الثانوية منذ أكثر من قرن؟ ما الذي كانت تحلم به في يقظتها في قاعة الدرس؟ اقرأ المقال المصاحب واكتشف «حياتها السرية».
حسنا أيها الطلاب، علمنا الآن بالفعل كيف نحصل على الملح الصخري (نترات البوتاسيوم، كما تعلمون) من الحظائر والفحم من خلال حرق الخشب في ظروف تقل فيها نسبة الأكسجين. والآن سنتحدث عن المكون الأخير للبارود وهو الكبريت. الكبريت هو مادة صلبة صفراء غير متبلرة تستخرج عادة من معدن البيريت عن طريق تسخينه في بيئة مغلقة مع مراقبة الأبخرة وهي تصعد بتكاسل إلى الجوانب العلوية من الوعاء، و...
فكرت واندا قائلة: «إنها ذكية للغاية لكنها حادة في أسلوبها. أتساءل عما إذا كان أتيح لها على الإطلاق مزيد من الاختيارات بخلاف التدريس في هذه المدرسة العليا القديمة الصغيرة. نحن نطلق عليها «أستاذة»، لكني أعتقد أنها يمكن أن تكون جنرالا في الجيش وأنا الضابط المساعد لها.» «أيها الكولونيل ويتي، نحن تنقصنا الذخيرة، ولدينا عجز في الطعام والضمادات، ولا توجد متفجرات، وكتيبة يانكي تتقدم نحونا في الوادي أسفل منا!» يمكن سماع صوت المحرك البخاري الذي يحرك قاطرة الكتيبة بصوت خفيف للغاية من على بعد (بوكيتا-بوكيتا- بوكيتا) مع استخدام القوات الزاحفة مدافع الهاون ونيران القناصة للتخلص من مقاومة الجنود الكونفيدراليين بالقرب من مزرعة الألبان. تقول الكولونيل بإصرار عابس «يتحتم علينا إيقاف قطار الذخائر هذا.» «أعرف يا سيدتي، لكننا نتعرض لإطلاق النار ... ويا إلهي! أصيب إد طيب القلب! إن الرجال في غاية الشجاعة، لكن من السهل اختراقهم.» وعندئذ قطعت الكولونيل واندا ويتي أحد كمي قميصها، وجذبت زجاجة ويسكي من أحد الضباط، وركضت وهي تمسك بندقيتها باليد الأخرى إلى إد، واحتست جرعة كبيرة من الزجاجة، وسكبت ما تبقى في الزجاجة على الجرح ، وضمدته بالجزء الممزق من زيها. ما زالت أمامهم ساعتان قبل مرور القطار عليهم، وعندها ستضيع ساليزبوري وكل هؤلاء الجنود الذين أطلق سراحهم من السجن من أجل الانضمام إلى أبناء وطنهم. لا متفجرات - وضع ميئوس منه. ثم كانت الكولونيل ويتي تتذكر عملية تكوين البيريت التي رأتها مصادفة بالقرب من الحظيرة منذ بضعة أيام. فجأة، أعطت أوامر إلى أحد الرجال بجمع بضعة أرطال من البيريت، ووضعها داخل جهاز تقطير من النحاس، وتسخينها على النار. وأمرت جنديا آخر بإحراق بضعة أرطال من الخشب بالكامل داخل وعاء به فتحة صغيرة فقط من أجل التهوية. ثم جندت ثلاثة رجال آخرين لجمع أقدم روث من الأجزاء الرطبة الظليلة في الحظيرة، وعرضتها للهواء لمدة 15 دقيقة، ثم وضعت الكتلة في ماء مغلي. ثم جمعت رماد المعسكر (الغني برماد اللؤلؤ أو كربونات البوتاسيوم) وأضافته إلى إناء التبريد. ظهرت كتلة صلبة بيضاء، وبرد المحلول وسكبته عبر ناموسية. بوكيتا-بوكيتا-بوكيتا، أصبحت الآن أعلى صوتا. حصل كل رجل يرتدي الزي العسكري على أمر من واندا بسكب بعض من هذا المحلول في أدوات الطعام الخاصة به، ويغلي الماء فيها حتى يجف. على هذا النحو، كان الملح الصخري الذي ظهر على نحو عجيب في صورة بلورات بيضاء في كل آنية طعام يكشط سريعا ويجمع. أما مسحوق الكبريت الأصفر فكان يكشط من قمة غلاية تسخين البيريت، وجمع الفحم المتبقي من الخشب في وعاء ضخم. بوكيتا-بوكيتا-بوكيتا. صرخت واندا: «ماذا كانت هذه الصيغة التي علمتنا إياها الأسبوع الماضي أيها الجنرال؟!» وبواسطة هذه الصيغة مزجت البارود، وركضت نحو خط السكك الحديدية، وشعرت بالهواء المندفع مع انطلاق رصاصة القناص التي كادت تصيبها، ووضعت البارود في علبة على القضبان. بوكيتا-بوكيتا-بوكيتا! اتصلت الأسلاك سريعا بالمكبس الذي ضغط في الوقت المناسب تماما - بوكيتا-بوكيتا ... انفجار! ... «انفجار؟!» ... لا ... كابوووووم؟!
انفجار! طرقت «الأستاذة» بالمسطرة مرة أخرى على مكتب واندا والفصل يقهقه. ثم تساءلت: «وماذا كانت جملتي الأخيرة؟ لكن أيها الجنرال ...» وصارت القهقهة عاصفة من الضحك. لاحظت واندا عندها أن قميصها كان سليما، ولم يكن يوجد أمامها أي روث للأبقار. «كم مرة قلت لك «لا تتركي العنان لذهنك يا واندا»؟» وبهذا صرفت «الجنرال» الفصل بنبرة انتصار في هذا اليوم. وهكذا، في يوم ربيعي دافئ منذ أكثر من قرن مضى، جلست واندا تتأمل مصير بطل خارق ولد قبل أوانه بمائة عام وبدأت تحلم. صاحت «جيدي جيرل»: «لقد اختطف البروسيون الجنرال!» وهي تركض إلى داخل الفصل متجهة إلى واندا. فوقفت على الفور وأمسكت بمقبض سيفها وفردت خصلة شعر مجعدة شاردة، ومرة أخرى استعدت للإنقاذ - واندا ويتي - التي لا تقهر ولا تهزم حتى النهاية. (6) كرنفال بولينج الكاريكاتوري
عندما أجرى لينوس تجربة تقليدية، بإلقاء قطع صغيرة من الصوديوم في وعاء من الماء وأشعل الهيدروجين المتكون، أضاف تطويرا تعليميا. وأصبح منفعلا للغاية، في محاكاة لكيميائي مجنون نمطي. فكان يصيح ويقفز ويركض إلى الطرف الآخر من طاولة المحاضرات ويسكب البنزين في وعاء، ويقفز إلى الخلف ويرمي فيه قطعا من الصوديوم. ولدهشتهم من عدم حدوث انفجار، أو أي تفاعل، تعلم طلابه المرعوبون درسا لا ينسى. كان بولينج أيضا يطرح دوما أسئلة على الفصل، وكان أول طالب يجيب يكافأ بالحصول على قطعة حلوى يقذفها لينوس له بحماس.
60 ،
61
كان لينوس بولينج (1901-1994) أول من أوصل ميكانيكا الكم الحديثة التي وضعها شرودنجر وهايزينبرج وباولي في عشرينيات القرن العشرين، فعليا إلى علماء الكيمياء التقليديين في ثلاثينيات القرن العشرين، والطلاب الجامعيين في أربعينيات القرن العشرين.
62
فقد كانت الحجج الرياضية في ميكانيكا الكم بعيدة عن متناول الغالبية العظمى من الكيميائيين المعاصرين في ذلك الوقت. وبالإضافة إلى هذا، كانت المسائل «العنصرية» التي يتعامل معها الفيزيائيون (ذرة
H ، وذرة
He ، وجزيء
H
2 ، وأيون-جزيء ) تفتقر إلى المنفعة والأهمية الكيميائية العملية. ويتمثل أحد جوانب عبقرية بولينج في قدرته على ابتكار أساليب مفاهيمية بسيطة للتعلم - نماذج مفيدة للكيميائيين الذين يفتقرون للأساس النظري الكامل. ولا يزال كثير من هذه المفاهيم والنماذج الإرشادية يزين كتبنا الدراسية في القرن الحادي والعشرين دون تغيير تقريبا على مدى أكثر من ستين سنة. من بين هذه المفاهيم : (1)
السالبية الكهربائية. (2)
التهجين المداري. (3)
الرنين.
شكل 8-14: كان كتاب لينوس بولينج «الكيمياء العامة»، الطبعة الأولى التي نشرت عام 1947، علامة فارقة في تدريس الكيمياء. وهاتان الصورتان (
a
و
b ) الموضحان هنا من مسودته التي نشرها بنفسه، وطبعت في عام 1944، لكتابه الدراسي المستقبلي الشهير [بولينج «الكيمياء العامة» (المنشور على نفقته الشخصية، 1944، بإذن من عائلة لينوس بولينج)].
يحمل كتاب بولينج الكلاسيكي، «طبيعة الرابطة الكيميائية »،
63
الذي صدرت الطبعة الأولى منه عام 1939، والطبعة الثالثة عام 1960، عنوانا على القدر نفسه من الوقار والغموض؛ فهو يستحضر كتاب لوكريتيوس الكلاسيكي «عن طبيعة الأشياء». في الواقع، ربما كان هدفه، على أدنى تقدير، هو قيادة بعثة استكشافية تغوص في أعماق الروابط الكيميائية لتستعرض ملامحها وموجاتها وتياراتها الإلكترونية.
يقال إن كتاب بولينج الجامعي الصادر في عام 1947، «الكيمياء العامة»،
64
كان أكثر تأثيرا حتى من كتاب «طبيعة الرابطة الكيميائية». سوف يظل الأساتذة يستخدمون مسودة أي كتاب دراسي سيصدر قريبا في المقرر الدراسي الذي يدرسونه من أجل اختبار مدى فاعليته. وفي المسودة الصادرة في عام 1944 لكتابه المستقبلي
65
نرى رسمين تخطيطيين أساسيين، وإن كانا يفتقران إلى الإبداع، رسمهما المؤلف على الأرجح - الأول يوضح قانون أفوجادرو لدمج كتل الغازات (الشكل
8-14 (
a ))، والآخر خلية كهروكيميائية (الشكل
8-14 (
b )). وهنا ربما نحاول تخيل بولينج، كالمعتاد، يحاول الوصول بنفاد صبر إلى ما يتجاوز الممكن. وقد وفر علم البلورات وحيود الإلكترونات بيانات عن الترتيبات المكانية للذرات المترابطة، مما سمح برسم نماذج للجزيئات الشبه الثابتة. وسمحت نماذج بولينج الإرشادية باستكشاف الأعماق والخطوط الكفافية الإلكترونية لهذه الجزيئات.
شكل 8-15: جمعت الطبعة الأولى من كتاب بولينج «الكيمياء العامة» بين بولينج والفنان روجر هايوارد. «الكيمياء العامة» للينوس بولينج، حقوق الطبع محفوظة، 1947، لينوس بولينج. استخدم بإذن من دبليو إتش فريمان وشركاه. تتناقض البساطة الراقية والحركة في رسومات هايوارد الموضحة هنا بالتأكيد مع الرسومات الجامدة في الشكل
8-14 . كان بولينج، كالمعتاد، يحاول الوصول إلى ما هو أبعد من التصوير التقليدي في محاولة لتخيل إعادة ترتيب الأنوية وسحب الإلكترونات التي نعرف حاليا أنها تحدث في الفمتوثانية (واحد كوادريليون من الثانية).
شكل 8-16: استمر لينوس بولينج في «احتلال مركز الصدارة» عندما شارك في التأليف مع صديقه القديم الفنان روجر هايوارد لكتاب «بنية الجزيئات» في عام 1964. فقبل عصر رسومات الجرافيك للجزيئات، مثل تصوير جزيء الهيم، وهو واحد من 57 رسما ملونا في هذا الكتاب الرائع، محاولتهما المستنيرة لنقل جمال الكيمياء لعامة الناس. انظر الصور الملونة. (من كتاب «بنية الجزيئات» للينوس بولينج وروجر هايوارد، حقوق الطبع محفوظة، 1964، دبليو إتش فريمان وشركاه. استخدم بتصريح.)
لماذا إذا لا نذهب إلى أبعد من النماذج الثابتة للجزيئات، ونتصور قصص ميلادها ووفاتها - ديناميكياتها - وحالات التصادم، وإعادة الترتيب التي تحدث على أبعاد أصغر بعشرة آلاف مرة من الأبعاد المجهرية، وعلى مقياس زمني من الفمتوثانية (0,000000000000001 ثانية) بسرعة للهواء تقترب من ميل في الثانية؟ كان هذا مستحيلا في أربعينيات القرن العشرين (وعلى مدى عقود تالية!) لكن لماذا لا نتخيل مثل هذه الأحداث - مثلا، تغير خطوط الكفاف لكثافة الإلكترون في أثناء الاصطدام البطيء الحركة لجزيئات الكلور بذرات سطح الصوديوم الفلزي في طريقها لتكوين ملح الطعام المتبلر (الشكل
8-15 (
a )). في هذا المسعى حصل بولينج على مساعدة من المهندس المعماري الفنان روجر هايوارد. لاحظ عرض التحليل الكهربائي للماء (الشكل
8-15 (
b )) وقارنه برسم بولينج التخطيطي السابق عليه (الشكل
8-14 (
b )).
الشكل
8-16
من كتاب «بنية الجزيئات» الصادر عام 1964،
66
الذي شارك بولينج في تأليفه مع هايوارد، وهو كتاب فني يهتم بالشكل أكثر من المضمون للعلماء وغير العلماء على حد سواء. في وقت طباعة هذا الكتاب، لم تكن رسومات الجرافيك للجزيئات المصنوعة باستخدام الكمبيوتر إلا مجرد بارقة أمل في أعين علماء الكمبيوتر. غير أن رسومات هايوارد كانت تحتوي دائما على رؤى للحدود والخطوط الكفافية الجزيئية المأخوذة من أفضل الدراسات النظرية في عصره. يصور الشكل
8-16 ، على نحو ملائم بما يكفي، جزيء صبغة الهيم. توجد أربعة جزيئات من هذه الصبغة مدمجة داخل أربع سلاسل بروتينية في جزيء الهيموجلوبين الضخم: سلسلتي
α
تتكون كل منهما من 141 جزءا من بقايا أحماض أمينية، وسلسلتي
β
تتكون كل منهما من 146 جزءا من بقايا أحماض أمينية. اكتشف بولينج والعاملون معه أن فقر الدم المنجلي مرض وراثي يتميز بالاستعاضة عن حمض أميني أحادي القطب في سلسلة
β ، وهو حمض الجلوتاميك، بحمض أميني غير قطبي وهو الفالين. وكان اكتشاف بولينج لتكوين
α
اللولبي للبروتينات، على أساس مبادئ الكيمياء البنيوية التي ساعد في تأسيسها، واكتشاف الأساس الجزيئي المطلق لفقر الدم المنجلي، تتويجا مذهلا لحياة مهنية اشتملت على الفوز بجائزة نوبل في الكيمياء عام 1954، وجائزة نوبل للسلام عام 1962 (تسلمها عام 1963).
62 (7) نخب العمر الطويل!
كتب لينوس بولينج (1901-1994) باستفاضة عن الحفاظ على الصحة الجيدة، وعاش حياته على هذا الأساس.
67 ،
68
أذكر أني حضرت محاضرته في الاحتفال بذكرى مبنى سيلي ماد للكيمياء في كلية فاسار عام 1987. كان عمره حينذاك يناهز السادسة والثمانين وقدم محاضرة حيوية وحماسية استمرت طوال ساعة اشتملت على عدد من الاستطرادات، أعاد ربطها كلها ببراعة بالفكرة الرئيسة لحديثه عن النظام الغذائي والصحة.
ومثلما كانت حياة بولينج وصحته مثيرتين للإعجاب، كذلك الحال بالنسبة لكيميائيين شهيرين عاشا على الأقل حتى عمر المائة عام؛ هما ميشيل أوجين (1786-1889) وجويل إتش هيلدبراند (1881-1983). عاصر الاثنان كل منهما الآخر لمدة ثماني سنوات؛ ومن ثم فإن حياة الكيميائيين مجتمعتين تمتدان طوال الفترة من عام 1786 حتى عام 1983. في أفرودة بارتينجتون في عام 1964 يفكر قليلا في العالم الفرنسي شيفيرول ويتخيله، فيقول: «لقد توفي في حياتي، وربما يكون قد تحدث إلى لافوازييه.»
69
بدأ شيفيرول دراساته الكيميائية تحت إشراف نيكولا فوكلان عام 1803، في متحف التاريخ الطبيعي في باريس وحافظ على ارتباطه بالمتحف طوال نحو 90 عاما.
69 ،
70
ظهر أول إصدار لشيفيرول عام 1806 عندما كان في العشرين من عمره وتناول تحليل العظام. كان هذا قبل عامين من نشر دالتون نظريته الذرية؛ فقد عمل في بدايات الكيمياء العضوية، وكان رائدا في عالم الكيمياء الحيوانية المرعب. وفي غضون عقد بدأ تقريبا في عام 1813، اكتشف شيفيرول الطبيعة الحقيقية لفن صنع الصابون التوراتي. فاكتشف أن عملية التصبن، وهي تفاعل دهن الخنزير مع محلول هيدروكسيد الصوديوم، كانت تنتج عنها أحماض دهنية بالإضافة إلى الجلسرين. وبفحص العديد من الدهون الحيوانية، جمع «مكتبة» (بالمصطلحات التجميعية الحديثة) من الأحماض الدهنية. وضع شيفيرول اختبار درجة الانصهار غير المتغيرة مقياسا لنقاء مواده الجديدة. وفي وقت مبكر يرجع إلى عام 1818، توقع شيفيرول فعليا تعريف بيرسيليوس للأيزومرات، قبل ذلك باثني عشر عاما، عندما «عرف أحد «الأنواع الكيميائية» على أنه يتكون من العناصر نفسها الموجودة بالنسب نفسها وبالترتيب نفسه.»
69
كان التأثير الأعمق لشيفيرول نابعا من دراساته عن الألوان والصبغات؛ فقد فرض الفرنسيون سيطرتهم في صناعة صبغ المنسوجات إبان فترة حكم لويس الرابع عشر في أواخر القرن السابع عشر. وفي عام 1619 أصبحت مباني مصنع عائلة جوبلان الموقع الرسمي لصناعة الصبغة الحكومية، وسيطرت على الصناعة الأوروبية لأكثر من قرن من الزمن. وفي عام 1824 خلف شيفيرول كلود برتوليه كمدير لقسم الصباغة في مصانع جوبلان الملكية. صنع عجلة لونية أدخل فيها بعد ثالث حيث يمثل اللون الأبيض القاعدة واللون الأسود الطرف. كانت هذه العجلة مقسمة إلى 72 قسما، وكان القوس الذي يربط المحيط الخارجي للدائرة بالطرف مقسما إلى 10 أقسام. (يظهر الشكل
8-17
دائرة شيفيرول اللونية، بالأبيض والأسود، مع «القوس الرأسي».)
71
وعند وضع الاثنين معا يشكلان نصف كرة تحتوي على كل الألوان والدرجات اللونية الممكنة. وكان لعمله في تجاور الألوان تأثير عميق على الانطباعيين الجدد مثل جورج سورا.
70
نشر آخر أبحاث شيفيرول (عن الرؤية) في عام 1883، وهو في السابعة والتسعين من عمره، وحدث آخر تواصل علمي له مع متحفه العزيز للتاريخ الطبيعي وهو في عمر 102.
69 ،
70
شكل 8-17: هذه هي العجلة اللونية، بالأبيض والأسود، التي اخترعها في القرن التاسع عشر عالم الكيمياء العضوية المبكر الشهير ميشيل أوجين شيفيرول (1786-1889)، الذي نشر أول عمل له عام 1806، ونشر فيما بعد آخر بحث له وهو في السابعة والتسعين من عمره، وأرسل آخر تواصل علمي مع متحف التاريخ الطبيعي القريب إلى نفسه وهو يبلغ من العمر 102 عاما.
شكل 8-18: أصبح جويل إتش هيلدبراند (1881-1983) عضوا في هيئة التدريس بالجامعة تحت إشراف جيلبرت إن لويس في جامعة كاليفورنيا، في بيركلي، عام 1913. وفي كتابه المؤثر «مبادئ الكيمياء»، الذي نشر لأول مرة عام 1918، كان هيلدبراند أول من استخدم تكوينات لويس الصادرة عام 1916 في كتاب دراسي (تظهر هنا الأشكال المأخوذة من كتاب لويس الصادر عام 1923). نشرت الطبعة السابعة والأخيرة من كتاب هيلدبراند عام 1964، ونشر آخر بحث كيميائي له في غضون عام احتفاله بعيد ميلاده المائة.
نشر جويل إتش هيلدبراند
72
أول بحث له، المأخوذ من رسالته للدكتوراه التي حصل عليها من جامعة بنسلفانيا (1906)، في مجلة «جورنال أوف ذا أمريكان كيميكال سوسايتي» في عام 1907.
73
وورد ملخص له في المجلد الأول من كتاب «ملخصات كيميائية».
74
وبعد عمل هيلدبراند لفترة من الوقت مدرسا في جامعة بنسلفانيا، عينه جيلبرت إن لويس في بيركلي في عام 1913 - وكان هذا بداية ارتباط دام 70 سنة بهذه الجامعة. ركز في جزء من عمله البحثي طوال حياته على الكهارل، أو الإلكتروليتات، التي لم تظهر طبيعتها الأيونية لأول مرة إلا على يد أرهنيوس في عام 1884. ومع ذلك، فإن تأثيره الأكثر عمقا كان في عمله معلما للكيمياء. وفي الطبعة الأولى من كتابه المؤثر «مبادئ الكيمياء»، التي نشرت عام 1918، كان هيلدبراند أول من يذكر تكوينات لويس النقطية التي كانت قد نشرت حديثا (1916) في كتاب دراسي. في الأشكال من
8-18 (
a ) إلى
8-18 (
c ) نرى رسومات من كتاب جي إن لويس الصادر عام 1923،
74
ومعها صفحة من مفكرته نشرت عام 1902. نشر عمل هيلدبراند الشهير في سبع طبعات، مع ظهور الطبعة الأخيرة في عام 1964 - فنشر بذلك على مدار 46 سنة! كان هيلدبراند نفسه يحب الركض والتزحلق؛ فكان مدربا لفريق الولايات المتحدة للتزحلق في أولمبياد برلين عام 1936. وقد احتفل بعيد ميلاده السابع والسبعين بسباحة سريعة لمسافة نصف ميل. كان هيلدبراند رئيسا للجمعية الكيميائية الأمريكية في عام 1955. ونشر آخر عمل له، وكان يتحدث عن تاريخ الإلكتروليتات، في عام 1981،
75
الذي وافق احتفاله بعيد ميلاه المائة. وفي عام 1982، أطلق على مبنى الكيمياء في بيركلي الذي كان يضم مكتبه قاعة هيلدبراند، وعلق الأستاذ المتقاعد البالغ من العمر 101 سنة على هذا قائلا: «سئم أعضاء مجلس الجامعة من انتظار وفاتي قبل إطلاق اسمي عليه.»
73 (8) إذا لم تكن تمزح يا سيد فاينمان!
76
عودة إلى منتصف القرن الماضي (1959، على وجه التحديد)، ألقى الفيزيائي الحاصل على جائزة نوبل ريتشارد بي فاينمان كلمة بعد العشاء (ثمة العديد من الغرف في الأسفل) تحدى فيها العلماء لاستكشاف الحقول المجهولة في تكنولوجيا النانو؛
77 ،
78
فقد لاحظ أن حدود تصغير الأحجام لا تتحقق فعليا إلا على مستوى الجزيئات والذرات. وكان من بين توقعاته التنبؤية الرائعة والجريئة كالمعتاد فكرته التالية:
78
لكني لست خائفا من التفكير في السؤال النهائي عما إذا كنا، أخيرا ... في المستقبل الزاهر ... سنستطيع ترتيب الذرات على النحو الذي نريده، الذرات ذاتها، نزولا إلى الأسفل! ماذا سيحدث إذا استطعنا ترتيب الذرات واحدة تلو الأخرى كما نريد (في إطار المعقول، بالطبع؛ فلا نستطيع وضعها بحيث تكون غير مستقرة كيميائيا، على سبيل المثال).
على هذه المستويات الذرية والأكبر قليلا «المتوسطة الحجم»،
79
ربما تمثل القوانين الفيزيائية مزيجا مثيرا وغير متوقع من الفيزياء الكلاسيكية وميكانيكا الكم.
78
قبل عامين من إلقاء الأستاذ فاينمان خطابه، نجحت روسيا في إطلاق القمر الصناعي سبوتنيك البالغ حجمه 184 طنا إلى مدار الأرض. كانت هذه الحزمة الصغيرة من الأدوات، التي أطلقت فوق صاروخ متعدد المراحل، بشيرا بالتطورات الهائلة التي ستحدث في مجال التصغير في غضون العقد التالي، والتي سيتوجها سير الأمريكان على سطح القمر. نتج عن مجال التصغير، كناتج شبه ثانوي له، تطورات في التكنولوجيا أوجدت أجهزة الكمبيوتر العالية القدرة داخل معظم المنازل الحديثة. في الواقع، أصبحت صناعة الكمبيوتر حاليا المحرك الرئيس على الأرجح لتكنولوجيا النانو، رغم أن علم الطب الحيوي سيعمل بالتأكيد على إعطاء زخم لتلك الثورة خلال القرن الحادي والعشرين. وأدت التساؤلات العميقة بشأن حدود سعة التخزين وسرعة التواصل، من ناحيتها، إلى إثارة أكثر التساؤلات الأساسية عن المادة. على سبيل المثال، تمتلك ذرة الهيدروجين خاصية الدوران المغناطيسي - فيمكن لذرات الهيدروجين الدوران
أو - وهو اختيار مزدوج له فعليا احتمالية متساوية. فهل يمكن لذرات الهيدروجين الفردية المتصلة بجزيئات أن تكون أساسا لأجهزة الكمبيوتر الجزيئية؟ وماذا عن الحمض النووي الريبوزي المنقوص الأكسجين (دي إن إيه)؟
80
ظل يسيطر على تكنولوجيا النانو، حتى وقت قريب، «أسلوب تنازلي».
77 ،
81
على سبيل المثال، يمكن تشكيل مادة كتلية مثل السليكون من أجل تكوين شريحة إلكترونية معقدة، باستخدام الطباعة الضوئية بالأشعة الفوق البنفسجية، حتى مستوى 100 نانومتر.
80
أما الأبعاد الأصغر من هذا فإن الوصول إليها باهظ للغاية.
81
تحقق حلم فاينمان بتحريك الذرات الواحدة تلو الأخرى بعد نحو عقدين من الزمن على يد هاينريخ رورير وجيرد كيه بينيج من شركة آي بي إم زيورخ، اللذين تقاسما فيما بعد جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1986. استخدم مجهر القوة الذرية، وهو تعديل لمجهر المسح النفقي، بنجاح في إعادة ترتيب المادة فيزيائيا عن طريق دفع الذرات واحدة تلو الأخرى. أصبحت صورة مجهر المسح النفقي «للأطواق الكمية»، التي تشكلت باستخدام مجهر القوة الذرية من أجل وضع 48 ذرة حديد الواحدة تلو الأخرى في دائرة، رمزا للعلم الحديث.
82
في الواقع، تخيل الحالمون وحدات تجميع بتكنولوجيا نانوية (روبوتات نانوية) قادرة على تجميع هياكل نانوية من ذرات أو جزيئات. لا يكون هنا بالطبع عدد أفوجادرو مناسبا. فكما أشار ريتشارد إي سمولي، الحاصل على جائزة نوبل - والمشارك في اكتشاف
C
60
0 («بوكمينستر فوليرين» أو كرة بوكي) - فإن تجميع مول واحد من الروابط الكيميائية (العدد الموجود في 9 مليلترات فقط من الماء) سيستغرق من «روبوت نانو» منهك، يعمل على مليار رابطة جديدة في الثانية، نحو 19 مليون سنة،
83
رغم أنني أتوقع أن حوافز الإنتاج وأجر ساعات العمل الإضافية يمكنهما تقليل هذا الوقت بنحو 10٪. يشير سمولي إلى أنه إذا أمكن تصميم «روبوتات النانو» لتستنسخ نفسها ذاتيا بكم هائل، فإن هذه المشكلة ربما يمكن التغلب عليها. ومع ذلك، يمكن لهذا طرح بعض المشكلات المحتملة الخطورة - يستحضر هذا في ذهني الكرتوني صورة مقطع «صبي الساحر» من فيلم «فانتازيا»؛ حيث يتعرض ميكي ماوس للتهديد من نحو تريليون مكنسة بلهاء ومسعورة وربما حتى شريرة. ثمة مشكلات أخرى مثيرة للاهتمام أيضا؛ فيشير سمولي إلى مشكلات «الأصابع السمينة» و«الأصابع الدبقة»؛
83
فهو يلاحظ أن الرابطة الكيميائية الجديدة تتأثر في المعتاد بنحو من 5 إلى 15 ذرة بالقرب من موقع التفاعل. وربما تحتاج «أذرع روبوت النانو»، المصنوعة هي نفسها من ذرات، إلى الاقتراب من موقع صنع الرابطة؛ ومن ثم تدفع جانبا الذرات المجاورة المطلوبة لتحديد مصير الرابطة. ربما يتوقع المرء أيضا أن الذرات التي ستتحرك «ستلتصق» على الأرجح بالأذرع - فتكون تأثيرات السطح أكثر وضوحا على مستوى النانو منها على المستويات العيانية. وأخيرا، يشير سمولي
83
إلى مشكلة «الحب»؛ فربما يحاول المرء إجبار الذرات على الاندماج بعضها مع بعض، لكن كما أشار فاينمان أيضا، فإن قواعد الترابط والديناميكا الحرارية، في الأساس، هي التي ستحدد إن كانت الذرات «ستتزاوجان» أم «ستعيشان معا» «كرفيقين» وحسب.
شكل 8-19: جزيء كاتينان صنعه الأستاذ ستودارت وزملاؤه ليعمل كمحول نانو يمكن التحكم فيه (ثنائي الاستقرار) (انظر النص). [أعيد طبعه بإذن من كتاب «قصص عن الأبحاث الكيميائية» المجلد الأول (2001)، حقوق الطبع محفوظة (2001)، الجمعية الكيميائية الأمريكية.]
ربما يكمن الحل لأوجه القصور هذه في استخدام «الأسلوب التصاعدي» - التنظيم الذاتي للجزيئات. ويمكن لبرنامج مساعدة ذاتية إعادة صياغة هذا الأسلوب كالتالي: «اجعل عدد أفوجادرو يعمل لصالحك!» في الواقع، ربما يكون اصطفاف تريليونات الجزيئات على نحو تكراري ومتناغم مع قواعد الطبيعة للترابط الكيميائي، استراتيجية فعالة في التجميع الشامل للمحركات النانوية في الدوارق الكيميائية. دعونا نفحص مثالا بدائيا واحدا عن الأسلوب التصاعدي - التبادل الجزيئي
84 ،
85
الموضح في الشكل
8-19 .
84
إن هذا الجزيء الموضح مثال على كاتينان بسيط - في هذه الحالة، جزيئان حلقيان متداخلان تماما مثل حلقتين في سلسلة. تمثل كل حلقة جزيئا منفصلا قادرا بالكامل على الوجود مستقلا. صمم هذا الجزيء المعين بحيث يوجد احتمال لحدوث تجاذب (أو تنافر) بين جزء داخلي في إحدى الحلقات وجزء داخلي في الحلقة الأخرى. فعندما يتعرض الجزيء بالشكل [
A° ] (التبادل مفتوح) للأكسدة المتعمدة فيصبح [
A + ]، بحيث يفقد الجزء الأوسط في إحدى الحلقات إلكترونا ويكتسب شحنة موجبة، يحدث تنافر بينه وبين المجموعات الأربع من الشحنات الموجبة في الجزء الداخلي من الحلقة الأخرى، ويدور إلى الشكل [
B + ] حيث يقل التنافر الكهروستاتيكي. وربما من المثير للدهشة قليلا أنه عند اكتساب [
B + ] إلكترونه، عن طريق الاختزال إلى انحياز قرب الصفر، من أجل تكوين [
B° ] (التبادل مغلق)، لا يدور على الفور إلى جزيء [
A° ] الأصلي.
84
ومن ثم يكون «وضعا التبادل» مستقرين، وإضافة إلى ذلك، فإن الاختزال المتحكم فيه لجزيء [
B° ] يعيده إلى [
A° ].
توجد نقطة مثيرة للاهتمام لا بد من الإشارة إليها بشأن الكاتينانات. أولا كان صنع الكاتينان في عام 1960، بأكبر قدر ممكن من التأني متاحا في ذلك الوقت، على يد إيدل فاسرمان.
86
فقد أغلق ببراعة جزيئا مفتوح السلسلة مكونا من 34 ذرة كربون باستخدام روابط إستر تفاعلية عند طرفيه، في وجود مقدار متكافئ المولية من نظيره الألكان الحلقي المكون من 34 وحدة. يصعب تكوين حلقات كبيرة، وتكون الطاقة الإجمالية الصادرة من حلقة مغلقة حديثا مكونة من 34 وحدة عادة أقل من 20٪. لكن من بين ال 20٪ هذه، ينغلق نحو 1٪ من الحلقات الجديدة وهي مرتبطة ب «شريكها» الألكان الحلقي؛ ومن ثم تكون حلقة حول الحلقة الأولى وبذلك ينتج الكاتينان. تعكس هذه الطاقة الصادرة الشديدة الانخفاض الاحتمال الضعيف للغاية للإمساك بسلسلة طويلة عبر مركز إحدى الحلقات ثم إغلاق السلسلة المترابطة في حلقتها الخاصة. ظلت مثل هذه الكاتينانات
87
أكثر من مجرد أشياء مثيرة للاهتمام والفضول لسنوات. فقد أثارت أسئلة بدت مجرد دلالات كيميائية - هل يكون جزيئان محايدان متسلسلان غير متفاعلين من
C
34
H
68
الحلقي فعليا جزيئين متصلين ماديا، أم إن هذا يمثل بالفعل نوعا جديدا؟ أشار فاسرمان إلى سلوك استشرابي مختلف للكاتينان يتعلق ب «أيزومره الطوبولوجي» (الحلقتان المنفصلتان المرتبطان معا). كان هذا بالتأكيد تعريفا «للأيزومر» لم يكن بيرسيليوس ليتصوره قبل 130 سنة. ويعد استخدام الأنواع التي تقتصر على فئة معينة، مثل الكاتينانات، في التعامل مع مشكلات خطيرة في مجال التكنولوجيا، مثالا رائعا على فوائد الأبحاث المجردة التي قد لا تكون مباشرة في جدواها فيما يتعلق ب «أنواع إدارية» عملية. إن أحد الأمثلة التوضيحية المفضلة لدي لهذا المبدأ مستمدة من البحث عن 1,4−ثنائي ألكيل البنزين الغريب والقصير الأمد و«غير الممتع تنظيميا» على يد جونز وبيرجمان في عام 1972.
88
وبعد مرور 15 عاما، اكتشفت فئة جديدة من العوامل الطبيعية والاصطناعية المضادة للسرطان توجد نواة 1,4−ثنائي ألكيل البنزين في مركزها.
89
شكل 8-20: استخدام التعرف الجزيئي والتنظيم الذاتي من أجل تكوين الكاتينانات وروتاكسانات قادرة على التصرف كمحولات نانوية يمكن التحكم فيها (انظر النص). [أعيد طبعه بإذن من كتاب «قصص عن الأبحاث الكيميائية» (2001)، حقوق الطبع (2001) للجمعية الكيميائية الأمريكية.]
صمم الكاتينان الحديث الموضح في الشكل
8-19
بحيث تتفاعل الحلقات الموجودة داخل الحلقات المنفصلة بقوة. بالإضافة إلى هذا، «يتطلب» أحد جوانب هذا التفاعل القوي «تعرف» المركب الطليعي المناسب على مركب الحلقة التكميلية وتحركه إلى داخله (انظر الشكل
8-20 ).
85
يسبق هذا التنظيم الذاتي الخطوة التصنيعية الأخيرة حيث تغلق السلسلة الطويلة لتصبح دائرة وتكون الكاتينان بطاقة صادرة هائلة تقدر بنسبة 70٪. في الواقع، يشبه هذا كثيرا الطريقة التي «تعيق» بها الطبيعة القصور الحراري باستخدام التنظيم المسبق عبر التعرف الجزيئي قبل تفاعل محفز. يوضح الشكل
8-20
أيضا مسارا مشابها للتنظيم الذاتي من أجل تكوين أيزومر طوبولوجي غريب آخر - روتاكسان تتعرض فيه سلسلة طويلة ترتبط بجزيء حلقي (بطاقة صادرة مرتفعة نتيجة للتعرف الجزيئي) عندها للتغطية الكيميائية بمجموعات طرفية ضخمة.
تطرح تكنولوجيا النانو بعض التساؤلات المثيرة للغاية. أولا، هل تكون ذرة واحدة من الذهب ذهبا بالفعل؟ بمعنى، هل تكون فلزية؟ لا بد أن تكون الإجابة لا؛ نظرا لأن «الحالة المعدنية» تتطلب تغيرا كاملا في وضع الإلكترونات على مدار كثير (مئات؟) من الذرات الفلزية. إذا، متى تبدأ مجموعة من ذرات الذهب في الظهور بمظهر يشبه الذهب؟ إليك فكرة أخرى - عندما نفكر في ماكينة تشكل ترسا من لوح معدني، لن نفكر في ماكينة التشكيل على أنها «حافز». فمن الواضح أن هذه الماكينة تحدث تغييرا ولا تتغير هي نفسها بعد العملية فيما عدا أنها تبلى قليلا. مع ذلك، في الحياة الواقعية «تبلى» الإنزيمات في النهاية وتفقد فاعليتها. لكن بالطبع لا تعد ماكينة التشكيل «محفزا» لأنها تحدث تغييرا ميكانيكيا، وليس كيميائيا. ومع ذلك، افترض أن ثمة ماكينة نانو أو «روبوت نانو» يسهل إلى حد ما عملية تجميع سريعة للغاية (مثل، غلق الدائرة الكيميائية بعد تنظيم ذاتي لمكونين) للكاتينان الموجود في الشكل
8-19
من مركباته الطليعية. من الواضح أن هذا سيكون تغيرا كيميائيا، وستصبح ماكينة النانو أو أداة التجميع النانوية أو «روبوت النانو»، محفزا كيميائيا وماكينة في الوقت نفسه.
90
لكن لماذا يبدو هذا غريبا ؟ لقد ظل هذا يحدث طوال مليارات السنين.
90
فيحفز التعرف الجزيئي ترتيب التركيب اللولبي المزدوج، والأشكال الناتجة عن مضاعفته واستنساخه إلى إنتاج بروتينات محددة. في الواقع، يكون التعرف الجزيئي المسئول عن تكوين مجموعة البروتينات والآر إن إيه في الريبوسوم. كما أن التعرف الجزيئي هو الذي يجذب الحمض النووي الريبوزي الناقل (آر إن إيه الناقل)، وبروتيناته المحددة المتنقلة إلى سطح الريبوسوم. وتكون النتيجة مجموعة جزيئية فائقة تربط الأحماض الأمينية الفردية في سلاسل لتكون بروتينات معينة. ومن الواضح أن الريبوسوم يمكن اعتباره ماكينة وعاملا حفازا في الوقت نفسه.
90
وماذا عن تجميع «روبوتات النانو» باستخدام نفس مبادئ التنظيم الذاتي هذه؟ أين يمكن أن تتوقف «جراي جو» (مصطلح الروائي كيه إريك دريكسلر)
91
التي ستنتج عن هذا؟ هل ستستمر في خدمتنا أم ستتحول إلى مستعمرات فائقة لها جداول أعمالها الخاصة وبرامجها التليفزيونية؟
هوامش
الخاتمة
نختتم هذا الكتاب بمقالين لهما طبيعة شخصية إلى حد ما؛ فرغم توافقهما مع موضوعات ظهرت مسبقا، فإنهما لا يتناسبان بسلاسة مع التدفق التاريخي للكتاب. وربما يبدو وضعهما في النهاية للوهلة الأولى أحد أشكال الخضوع لهوى النفس وتعظيم الذات. في الحقيقة، رغم أن المقال الثاني يصف نسبي الكيميائي، فإنني لست عضوا مهما في تاريخ مجالنا هذا. إن المقصد الفعلي لمقال الأنساب الكيميائية هو إظهار تدفق تاريخ الكيمياء، وتطور التعليم، وحقيقة أنه على مستوى معين توجد أهمية لهذه الصلات، وأخيرا، الفرحة العارمة التي تصاحب الاكتشاف. يصف المقال الأول ذكرياتي عن عبقري شاب يدعى روبرت إي سيلبرجليد، خلال أوائل ومنتصف سنوات المراهقة. ويتناسب هذا مع موضوع الكتاب على مستويين؛ فالكيمياء تصف الحقيقة المخفية. وقد أسهمت دراسات روبرت للتواصل بين الفراشات في كشف الحقيقة المخفية للانتقاء الجنسي في الأشعة فوق البنفسجية، وهو نطاق لوني غير مرئي لنا، لكنه على ما يبدو يشبه إشارات النيون بالنسبة لها. تتحكم الصبغات الكيميائية والبنية المادية لأجنحتها في هذه السلوكيات. لكن السبب الحقيقي لهذا المقال هو متعة تخيل شباب بعض العباقرة الذين سلطنا عليهم الضوء باختصار هنا. (1) عالم طبيعي
هل نكتشف الموهبة العلمية الإبداعية الحقيقية عندما نشهدها في سن مبكرة؟ هل يجب علينا رعايتها أم ينبغي علينا مجرد الابتعاد عن طريقها وتركها تنمو على نحو مستقل؟
توفي روبرت إي سيلبرجليد في 13 يناير عام 1982 في حادث تحطم الرحلة 90 التابعة لطيران فلوريدا في واشنطن العاصمة في السادسة والثلاثين من عمره.
1
كانت آخر مرة رأيته فيها عندما كان في السادسة عشرة من عمره، ومع ذلك يظل يمثل لي قوة حيوية - مزيجا من الغرابة والإبداع المعهودين في عالم بالفطرة.
2
التقينا لأول مرة ونحن في سن الثانية عشرة في مدرسة بروكلين الإعدادية. كنت أعتز إلى حد ما في هذا الوقت بقدراتي العلمية؛ فقد كنت أقرأ كتبا عن التاريخ الطبيعي والحشرات والديناصورات، بالإضافة إلى كتب لإسحاق أزيموف، وكنت أسير في كل مكان وأنا أحمل كتبا معقدة عن الفيزياء النووية، ظاهرة بوضوح، وكنت آمل أن أستنير منها إذا حملتها لفترة طويلة بما يكفي. فعلى الأقل، ربما تثير إعجاب الفتيات! كنت أرسم تصميمات لصواريخ مستحيلة التنفيذ؛ فقد كان «تخصصي» في الوقود السائل، وافترضت أنني في يوم ما سأستطيع التحكم في الهيدرازين والأكسجين السائل أو حمض النيتريك المدخن الأحمر. وكانت تصميمات الصمامات التي أصنعها تتكون من عدة طبقات من الورق المقوى - ضع السوائل (كيف؟) ثم اركض بأقصى سرعة ممكنة. لحسن الحظ، كنت «منظرا» لتصميم الصواريخ، على عكس المتحمسين الآخرين الذين استخدموا الوقود الصلب المتاح، وكانوا أحيانا يؤذون أنفسهم عند إجراء تجارب حقيقية.
3
في هذا الوقت تقريبا، سمعت لأول مرة شائعات عن طفل كان، وفقا لزمرتنا، «عقلية علمية»، وكان لزاما علي أن «أتبين أمره».
كان روبرت قصير القامة، ويرتدي نظارات، وكان ميئوسا منه في فصل اللياقة البدنية. كانت وسائل دفاعه الوحيدة في باحة مدرسة بروكلين ذكاءه وحقيقة أنه لا يوجد ما يدعو للفخر في ضربه. في بدايات صداقتنا أخذني وصعدنا إلى غرفته في عمارة سكنية قديمة ومتواضعة للغاية، وأراني مجموعته من الحشرات. وعلى عكس طريقتي العشوائية في جمع الحشرات، كان روبرت لديه مختبر نظامي به شبكات منزلية الصنع، وبرطمانات لقتل الحشرات ، وسائل لقتلها (أخف وزنا في الواقع - المزيد عن هذا لاحقا)، وسائل يسبب لها الاسترخاء، ولوحات تجميع ودبابيس. وكانت حشراته مثبتة بدقة باستخدام دبابيس مناسبة تمر عبر بطاقات تحمل أسماءها العلمية وأماكن الإمساك بها، مكتوبة بخط صغير للغاية لكنه جميل (المزيد عن هذا لاحقا، أيضا). من الواضح أن روبرت كان يمارس العلم على مستوى أعلى بكثير مما كنت أفعله أنا. طاردنا الحشرات في الحدائق النباتية في بروكلين، وعلمني كيف أصنع شبكة كانسة (حمالة ملابس معدنية مع ستارة دقيقة المسام). كان يحرك فتحة الشبكة ذهابا وإيابا على طول جانب إحدى الشجيرات، ثم يضع هذه الشبكة في وضع مقلوب بحيث تصبح فتحتها على العشب. كانت النتائج مثيرة؛ إذ كنا نحصل على حقيبة من الحشرات - حرفيا مئات الخنافس، والبق، والقمل، ونطاطات الأوراق، والذباب، والزنابير، والنمل، كمحصول في متناول أيدينا.
كان روبرت معروفا أيضا بين مجموعتنا في المدرسة الإعدادية بساعة يده التي على شكل لفافة والتي اشتهر بها. كان قد أزال قلب ساعد يد قديمة، وصنع مكانها لفافات مكتوبة بخط صغير لكنه يتسم بدقة عالم الحشرات ليغش منها. لماذا لم نبلغ عنه؟ أعتقد أن هذا بسبب انبهارنا بمهارته؛ فربما شعرنا بإثارة غير مباشرة من هذا التحدي الجريء - وإن كان سريا - لإدارة المدرسة، وعلى أي حال، نادرا ما كان يحصل على درجات جيدة. في الحقيقة، أعتقد أنه لم يستخدم الساعة قط في الامتحانات، ولكنه كان يحتفظ بها من أجل الشعور بالأمان، تماما مثل الصواريخ العابرة للقارات ذات الرءوس النووية التي تظل الدول محتفظة بها حتى في حالة السلم.
سنستعرض بعض العلامات البارزة الأخرى في أنشطة روبرت؛ على سبيل المثال، كان يحمل معه سائلا خفيفا (قاتلا للحشرات) في كل مكان في الأيام المطيرة، وكان يرش بعضا منه على البرك الصغيرة، ويأمل أن يرى سيدة عجوز متدينة ترمي عقب سيجارة مشتعلا في البركة، فيشهد «معجزة». وحصل على كتالوج من متجر مستلزمات الزواحف في فلوريدا وتخيل إطلاق 750 حرباء (مجرد 15 دولارا!) في المدرسة الإعدادية. وقد «جمع» بالفعل (أنا أعتقد أنه اشترى) كما هائلا من شرانق فرس النبي، ووضعها في أماكن خفية في جميع أنحاء المدرسة، وكان كريما بما يكفي ليعطيني دستة منها. لم تفقس قط في البيئة الخبيثة التي سادت المدرسة الإعدادية، إلا أنها فقست في شهر فبراير الدافئ على غير العادة في غرفة نومي، وغطت الجدران بمئات فرس النبي الصغير، مما سبب صدمة أبدية لأختي الرضيعة روبرتا .
في غضون سنتنا النهائية في مدرسة إرازموس هول الثانوية رأيت روبرت. كنت «مهتما» بالرياضة، بينما أصبح هو تحت تأثير مدرس موهوب لمادة علم الحيوان. وعرفت من الشائعات أنه تخلص من ساعة اليد السيئة السمعة، وكان يصنع الزرنيخ، وقدم طلبا للالتحاق بكلية الزراعة جامعة كورنيل. انتقلت إلى مدينة إنجلوود في نيوجيرسي، في النصف الثاني من سنتي النهائية، وعندما قرأت أنه يمكن العثور على حفريات على طول نهر نافيسينك، دعوته إلى عبور نهر هدسون، وركوب الحافلة إلى بلدة ريد بانك. باء بحثنا عن الحفريات بالفشل، إلا أن روبرت استطاع، بعتاده الموجود دوما، الإمساك بنحلة طنانة، وأزال إبرة اللدغ منها بدقة، وربط أحد طرفي خيط ببطن النحلة المنزوعة السلاح، والطرف الآخر بزر قميصه، وركب منتصرا عائدا إلى المنزل، و«النحلة تطن» طوال الطريق. حدث هذا في ربيع عام 1963، وكانت هذه آخر مرة أرى فيها روبرت.
بعد نحو 18 عاما أعطاني طفلاي، ديفيد وريتشل، اللذان كانا في الثامنة والسادسة من عمرهما، ذريعة للعودة لتجربة جمع الحشرات؛ فقد اشتريت لهما عدة جمع الحشرات التي أردتها دوما. فكرت في روبرت، وبناء على حدسي، بحثت عنه في مرجع «رجال ونساء أمريكان في الكيمياء»، وعثرت عليه - بكالوريوس علوم، كورنيل؛ دكتوراه، هارفارد؛ كان في هذا الوقت عضوا في هيئة التدريس في هارفارد، والمتولي شأن مجموعة الفراشات التابعة للجامعة. كتبت إليه وذكرته بتجاربنا المبكرة معا بتفاصيل موجزة (وإن كانت مؤلمة). كتب إلي في المقابل، وأثنى على ذاكرتي، ودعانا جميعا لزيارته في كامبريدج. كان يوقع في هذا الوقت مستخدما الاختصار «بوب». كانت عائلتي منشغلة للغاية في هذا الوقت فلم نستطع قبول عرضه. وبعد نحو خمس سنوات بحثت عنه مرة أخرى ووجدت كلمة «الراحل»، ولم أعلم إلا بعد سنوات أنه توفي في المياه المتجمدة لنهر بوتوماك.
في مرحلة المراهقة، فاز روبرت في معرض للعلوم بدراسته للتنويعات في العلامات الموجودة على أجنحة الفراشات في الأجزاء المختلفة من مدينة نيويورك. أعتقد أن هذا التكريم كان ذا صلة باهتماماته العلمية، وأنا متأكد من أنه لم يحصل على أي مساعدة من والديه أو من أي مختبر علمي معروف. وقد أخبرني موقع معهد سميثسونيان السابق الذكر، أن روبرت ارتقى إلى درجة أستاذ مساعد وقيم مساعد لحرشفيات الأجنحة في متحف علم الحيوان المقارن في هارفارد. حصل لأول مرة على منصب في معهد سميثسونيان للأبحاث الاستوائية في عام 1976، وأنهى حياته المهنية هناك. كان أيضا ناشطا بيئيا كرس نفسه لحماية جزيرة لينيوم فيتا كي في فلوريدا وإدارتها. وعرف روبرت، من بين كثير من الإنجازات العلمية الأخرى، على وجه الخصوص بدراساته عن أهمية الأشعة فوق البنفسجية في عادات التزاوج لدى الفراشات.
شكل 1: فراشات مصبوغة من أجل إثبات دور الأشعة فوق البنفسجية في سلوك التزاوج لديها. انظر الصور الملونة. هذه الصورة مأخوذة من آخر بحث قدمه الأستاذ روبرت إي سيلبرجليد، صديق الصبا للمؤلف و«شخصية لا يمكن نسيانها». أعيدت طباعتها بإذن من «علم أحياء الفراشات: ندوة الجمعية الملكية لعلم الحشرات بلندن» رقم 11، آر آي فين-رايت وبي آر آكري (محرران)، الصفحات من 207 إلى 223 (1984)، بإذن من الناشر، المطبعة الأكاديمية (يحمل دمغة ناشر تحت اسم إلزيفير ساينس).
الصورتان
A
و
B
في الشكل
1
مأخوذتان من بحثه الأخير «التواصل البصري والانتقاء الجنسي بين الفراشات»، الذي أنهاه قبل بضعة أيام من وفاته، ونشر بعد وفاته.
4 ،
5
أشار سيلبرجليد إلى أن الفراشات تتمتع بأوسع نطاق طيفي للرؤية بين الحيوانات - المنطقة المرئية للإنسان بأكملها بالإضافة إلى الأشعة فوق البنفسجية، وتصل إلى 300 نانومتر. فقد اتضح أن ذكر أبو دقيق الكبريتي البرتقالي (كولياس يوريثيم) يعكس أشعة فوق بنفسجية (لا يراها الإنسان) من السطح الخلفي لأجنحته (ظهرها أو الجزء العلوي منها)، وهذا الانعكاس، وليس لونه، هو الذي يجذب الإناث. في الصورة العليا
A
نرى ذكرا مرجعيا لأبو دقيق الكبريتي البرتقالي (الأعلى يسارا) مصبوغا باللون الأصفر باستخدام قلم تحديد على الجزء السفلي من جناحيه. ورغم أن لونه ومظهره، حتى على السطح الخلفي، قد تغيرا فإنه لا يزال يعكس أشعة فوق بنفسجية من السطح الخلفي، ويتزاوج بنجاح. أما الذكور الخمسة الأخرى في الصورة
A
فقد صبغت بألوان مختلفة على الأسطح الخلفية من أجنحتها، ما يعمل على تغيير ألوانها المرئية، ومنع انعكاس الأشعة فوق البنفسجية. وقد قوبلت هذه الذكور الخمسة برفض من جانب الإناث. وفي الصورة
B
نرى ذكور أبو دقيق الكبريتي الغائم (كولياس فيلودايس)، المعروفة بامتصاصها للأشعة فوق البنفسجية في الجزء الخلفي من أجنحتها بدلا من عكسها. وضعت صبغة صفراء فوق سطح أجنحة الذكر المرجعي (الأعلى يسارا)، ووضعت مجموعة الصبغات اللونية نفسها المستخدمة في الصورة
A
على الأسطح الخلفية من أجنحة الفراشات الأخرى. ولما كانت الأسطح الخلفية الستة كلها امتصت الأشعة فوق البنفسجية، تزاوج الذكور الستة كلهم بنجاح.
في كتاب السيرة الذاتية الذي يحمل اسم «عالم الطبيعة»، أطلق البروفسير الشهير إدوارد أوه ويلسون، المسئول عن رسالة روبرت للدكتوراه، على روبرت لقب «عالم طبيعة موهوب وعالم تصنيف موسوعي».
6
وفي إهداء بعد الوفاة في الكتاب التجميعي الذي يحتوي على آخر بحث كتبه، يقول المحررون في جزء منه:
7 «أسر بوب سيلبرجليد كل من قابله بحماسه المعدي، وطاقته التي لا حدود لها. وقد تجلى هذا في أوضح صوره في اجتماع الندوة؛ حيث كان في أفضل حالاته، ويزخر بالأفكار والمعلومات والدعابة. لم تسلب وفاته المروعة، في كارثة واشنطن الجوية في الثالث عشر من يناير عام 1982، علم الأحياء موهبة كبيرة فحسب، ولكنها سلبتنا أيضا صديقا مبهجا.» لقد كان بالفعل كذلك.
لقد كنت محظوظا لتأثري بهذه العبقرية الوليدة في هذه المرحلة المبكرة من حياتي، وظللت أحاول طوال اشتغالي بالتدريس في شبابي العثور عليه مرة أخرى. (2) منحدر من أنابيب اختبار فالوب؟ (2-1) سؤال طال انتظاره
أشعر بالخجل من الاعتراف بأنني كنت في الخامسة والخمسين من عمري عندما بحثت أخيرا عن نسبي الكيميائي . إلا أن الأمر خطئي بالكامل؛ فقد تلقى «والدي الكيميائي»، بيير لازلو - الذي أشرف على رسالتي للدكتوراه ووقع عليها في جامعة برينستون - تعليمه في فرنسا، وتعرض لبضعة انعطافات غير تقليدية نوعا ما في دراساته العليا، ولم يتحدث فعليا قط مع مجموعتنا البحثية عن أصله الكيميائي، ولم نكن نحن فضوليين بالقدر الكافي لنسأله. إلا أن زيارة بيير لنيوهامشير في أكتوبر عام 2001، وفرت بعض لحظات الاسترخاء، فطرحت السؤال أخيرا: «من كان «جدي الكيميائي»؟» أخبرني أنه كان إدجار ليديرر، في السوربون في باريس، وهو عالم كيمياء عضوية ورائد في الاستشراب. عرفني بيير أيضا على هوية مستشار ليديرر - ريتشارد كون في هايدلبرج.
في هذه الليلة، دخلت على الشبكة العنكبوتية العالمية واكتشفت في غضون دقائق أن كون، الذي حصل على جائزة نوبل، أنهى رسالة الدكتوراه الخاصة به تحت إشراف ريتشار فيلشتيتر، الذي حصل على جائزة نوبل عام 1915، وأن فيلشتيتر درس تحت أدولف فون باير، الحائز على جائزة نوبل عام 1905، والذي درس بدوره مع أوجست كيكوله. غمرني الفرح لعثوري على هذا التاريخ «العائلي» المميز، وكنت فخورا باكتشافي للصفات العائلية في نفسي. كان كيكوله أحد رواد الكيمياء العضوية التركيبية؛ فكان أول من اكتشف أن الكربون يكون أربع روابط، وأن البنزين، الجزيء العطري الأساسي، يتكون من حلقات سداسية. ولطالما اعتبرت نفسي عالم كيمياء عضوية تركيبية، ونشرت مقالات عن المركبات العطرية و«الخاصية العطرية». حتى إنه كان يراودني أحيانا «حلم الثعبان»، رغم أنه لم يكن بنفس نفع حلم كيكوله. ومن بين إنجازات باير العديدة كان وضعه لأول نظرية تشرح القدرة التفاعلية العالية للجزيئات العضوية ذات الإجهاد الزاوي، مثل البروبان الحلقي. وقد شاركت، مع صديقي القديم جويل إف ليبمان، في تأليف كتاب «الجزيئات العضوية المجهدة» في عام 1978، ونشرت أبحاثا أخرى في هذا المجال البحثي؛ ولذلك، كان هذا الاكتشاف السريع للسلالة الكيميائية المميزة هذه - التي تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر (المزيد عن هذا فيما يلي) - مصدر بهجة على وجه الخصوص لشخص تعرض تراثه العائلي الفعلي قبل القرن العشرين للتدمير فعليا، ودفن وسويت به الأرض في بعض القرى اليهودية في شرق أوروبا ووسطها. (2-2) من ألمانيا إلى فرنسا وإلى أمريكا: ملحمة في القرن العشرين
يعد تاريخ أجدادي الكيميائيين في القرن العشرين تاريخا مذهلا، وتأثر كثيرا بالأحداث التي وقعت في ألمانيا في الفترة بين عامي 1920 و1950؛ فعقب فوز ريتشارد فيلشتيتر بجائزة نوبل عام 1915 عن تنقيته للكلوروفيل ووضعه أساس تحديد تركيبه، عين جدي الأكبر هذا، اليهودي، أستاذا للكيمياء في جامعة ميونخ.
8 ،
9
كان فيلشتيتر صديقا مقربا لفريتز هابر، يهودي آخر، صنع معجزة كيميائية ب «تثبيته» للنيتروجين الجوي من أجل صنع الأسمدة (والمتفجرات)، وهذا سبب حصوله على جائزة نوبل عام 1918.
9
كان هابر وطنيا مخلصا، وصنع الغاز السام سلاحا من أجل إنقاذ أرض الأجداد في الحرب العالمية الأولى. وفي عشرينيات القرن العشرين حاول صنع طريقة لاستخلاص الذهب من ماء البحر؛ لتمكين ألمانيا من دفع تعويضات الحرب.
10 ،
11
عندما تولى النازيون السلطة عام 1933، أجبر «هابر اليهودي»
11
على ترك عضويته في مجلس إدارة معهد القيصر فيلهلم للكيمياء الفيزيائية في برلين. قبل منصبا في كامبريدج، في إنجلترا، لكنه توفي إثر أزمة قلبية في العام التالي.
في عام 1924، في سن الثالثة والخمسين، استقال فيلشتيتر من منصبه الجامعي احتجاجا على العداء المتصاعد للسامية، الذي شعر بأنه سبب حرمان د. فيكتور مورتس جولدشميت من التعيين في منصب في ميونخ.
8 ،
9
وأصبحت حياته المهنية، التي قطعت فجأة، تزداد صعوبة. وبسبب تعرض حياته للخطر بعد حملة النازيين المعادية للسامية في عام 1938، أجبر فيلشتيتر على الهرب، واستقر في سويسرا في عام 1939، لكن بعد أن واجه صعوبات بالغة. ووصف فيلشتيتر الرقيق وصاحب المبادئ حياته المملوءة بالأحداث في عمل رائع لسيرة ذاتية علمية بعنوان «من حياتي»،
12
نشر في عام 1948، بعد نحو ست سنوات من وفاته.
أنهى ريتشارد كون رسالته للدكتوراه تحت توجيهات فليشتيتر في ميونخ عام 1922؛ حيث أجرى تجارب استكشافية مبكرة على الإنزيمات والكاروتين.
13 ،
14
وعقب قضائه فترة في ميونخ، ثم في زيورخ، عاد كون إلى ألمانيا أستاذا ومدير معهد قيصر فيلهلم (أصبح معهد ماكس بلانك فيما بعد) للأبحاث الطبية في هايدلبرج . وأدت أبحاثه على الكاروتين وفيتامين أ إلى حصوله على جائزة نوبل عام 1938، إلا أنه اضطر إلى رفض الجائزة؛ فقد منع هتلر الألمان من قبول جوائز نوبل بعد منح جائزة نوبل للسلام لعام 1935 بعد الوفاة لأحد سجناء معسكرات الاعتقال، وهو أيضا أحد دعاة السلام الألمان ويدعى كارل فون أوسيتزكي، الذي توفي إثر إصابته بمرض السل.
15
في عام 1949، قبل كون أخيرا ميداليته وشهادته في ستوكهولم. توصل تلميذ كون ليديرر لطريقة الاستشراب من أجل فصل الأيزومرات المختلفة للكاروتين. كان ليديرر يهوديا وهرب من ألمانيا في مارس عام 1933، قبل أربعة أيام فقط من زيارة الجيستابو لمعهد القيصر فيلهلم.
16
حصل على مساعدة من مساعد كون أندريه لوف
16
وهاجر إلى فرنسا، وهكذا دخل العنصر الفرنسي في سلالتي الكيميائية. حصل لوف على جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء عام 1965 مناصفة. (2-3) ارتباك وخداع
والآن حان وقت المهمة الممتعة المتمثلة في تتبع تاريخ «أسرتي» المميزة من باير إلى كيكوله إلى ... لكن انتظر! فقد كشفت القراءة المتأنية للمصادر التاريخية أنه عندما حاول فيلشتيتر الانضمام إلى مجموعة باير الملهمة في ميونخ، أرشده الأستاذ العظيم إلى زميله في القسم ألفريد أينهورن، الذي أنهى معه آنذاك رسالته للدكتوراه.
10-12
استنتج أينهورن تركيب الكوكايين، وشك فيلشتيتر أنه غير صحيح وسأل مديره عما إذا كان يستطيع العمل على حل هذه المشكلة. رفض أينهورن وأعطاه مشكلة بحثية لا علاقة لها بالموضوع. استشار فيلشتيتر مستشاره الملهم الحقيقي باير، الذي حل هذه المشكلة في السياسة الأكاديمية بالحيلة. رأى باير أن التروبين يشبه في تركيبه الكوكايين كثيرا واقترح على فيلشتيتر دراسته. وبعد ساعات، إذا صح التعبير، توصل فيلشتيتر إلى حل تركيب التروبين مما أدى في النهاية إلى معرفة التركيب الصحيح للكوكايين. استشاط أينهورن غضبا ورفض التحدث مع فيلشتيتر لسنوات، حتى أصبح تلميذه السابق مديرا للقسم، وعندها هدأت حدة آرائه بعض الشيء.
10 ،
11
لا يأتي ذكر أينهورن إلا على أقصر نحو ممكن في كتاب بارتينجتون الشامل عن تاريخ الكيمياء.
17
ومع ذلك، فإنه مخترع النوفوكاين،
12
وهذا الإرث على الأقل يقلل بعض الشيء من ألم وجود أينهورن الجامد التفكير بدلا من باير المتقد الذكاء ضمن سلالتي.
نرى في العلاقة بين فيلشتيتر وأينهورن مثالا على مشكلة تنشأ أحيانا في أبحاث الأنساب هذه - من «ينسب إليه الفضل» في ظهور عالم شهير - مستشار رسالته العلمية أم العقلية التي كان لها تأثير فعلي؟ ويزداد هذا صعوبة مع تعمقنا أكثر في الماضي. وماذا عن مشرفي ما بعد الدكتوراه ؟ لماذا لا يمكن اعتبارهم «آباء»؟ فربما من المنصف القول إن المشرف على الأطروحة هو أول من يرصد العقبات التي تظهر في المختبر الكيميائي للعالم المبتدئ، ويقدم له الرعاية حتى يصل إلى مكانة كيميائية مرموقة. (2-4) ثلاثمائة سنة من الإرث الكيميائي الألماني
بدأت الدراسة الأكاديمية للعلوم ومنح درجة الدكتوراه لأول مرة في ألمانيا في منتصف القرن التاسع عشر.
18
أما بكالوريوس الطب فهو أقدم من هذا بعدة قرون. أدى بحثي، في هذه المرحلة، إلى وصولي إلى صفحة مفيدة عن الأنساب الكيميائية في موقع جامعة إلينوي الإلكتروني (
www.scs.uiuc.edu/~mainzv/Web_Genealogy ). حصل ألفريد أينهورن على درجة الدكتوراه تحت إشراف فيلهلم شتيدل في مدينة توبينجن، وأنهى شتيدل أطروحته للدكتوراه تحت إشراف أدولف فريدريش لودفيج شتريكر، أيضا في مدينة توبينجن. وأنهى شتريكر رسالته في مدينة جيسن مع يوستوس ليبيج، الذي يقال عنه إنه أهم عالم كيمياء عضوية في القرن التاسع عشر.
اخترع يوستوس ليبيج جهاز تحليل الكربون الذي أحدث ثورة في التحليل العضوي. فلا يمكن الحصول على الصيغ المعقدة للمركبات إلا بعد تحليل دقيق، مما يؤدي في النهاية إلى استنتاجات عن التكافؤ والتركيب لا تظهر إلا بعد عقود لاحقة.
19 ،
20
نرى في الشكل
8-11 (في الأسفل يسارا) تصورا لمختبر ليبيج في جيسن. هل أرى جدي الأكبر شتريكر؟ نعم، فهو يجلس في المنتصف بالأمام، ويمسك المدقة والهاون في يده.
يوستوس ليبيج - أبو الكيمياء الحيوانية والنباتية والغذائية! غنيت من فرحتي: «يا له من يوم مبهج! يا لفرحتي!»
21
كان ليبيج فاشلا في سنوات دراسته الأولى وكان شابا مفرط الشغف والانفعال
22 - فلاحظت تشابها جينيا واضحا بينه وبيني. نلتقي في تاريخ ليبيج بلبس «أبوي» آخر، يشبه كثيرا الموجود لدى فيلشتيتر. فيقر ليبيج نفسه أن جوزيف-لوي جاي-لوساك في باريس كان معلمه الأساسي. ومع ذلك، يخبرنا التاريخ أن ليبيج أنهى رسالته للدكتوراه مع كارل فريدريش فيلهلم جوتلوب كاستنر، الذي لم يكن راضيا عنه في مدينة إرلنجن.
19 ،
20
وهكذا نستمر في عودتنا في الزمن:
يوهان فريدريش أوجست جوتلينج ↑
يوهان كريستيان فيجليب
23 ↑
إرنست جوتفريد بالدينجر ↑
كريستيان أندريس مانجولد ↑
جيورج إرهارت هامبرجر ↑
يوهان أدولف فيدل ↑
جورج فولفجانج فيدل
24 ↑
فيرنر رولفينك
25
شكل 2: صفحة العنوان من كتاب الكيمياء الذي نشر عام 1662 للدكتور جورنر رولفينك، أحد الأسلاف الكيميائيين للمؤلف. مثل رولفينك انتقالا مهما من الأطباء المتعلمين في بادوفا إلى الكيميائيين الذين يدرسون في ألمانيا. حقق نوعا من الشهرة من عمليات تشريحه العلنية في مدينة ينا للمجرمين المنفذ فيهم حكم الإعدام، بغرض التدريس الطبي. ولبعض الوقت كان يشار إلى التشريح البشري بمصطلح «الرولفينكي».
فيرنر (أو جورنر) رولفينك! ولد رولفينك في عام 1599 في هامبورج، وتلقى تعليمه في فيتنبرج ولايدن وأكسفورد وباريس وبادوفا، وحصل على بكالوريوس الطب في عام 1625.
25
وفي عام 1638، أسس المختبر الكيميائي في مدينة ينا، وفي عام 1641 أصبح أول أستاذ كيمياء في الجامعة. عارض كتاب رولفينك «مختصر لفن الكيمياء» (الشكل
2 )، الذي نشر لأول مرة في عام 1661، الكيمياء القديمة وقدم علاجات طبية. حقق رولفينك شهرة لتشريحه العلني، في المسرح التشريحي الذي بناه في ينا، للمجرمين المنفذ فيهم حكم الإعدام. ولفترة من الوقت، كان يشار لعمليات التشريح هذه باسم «الرولفينكية».
25 (2-5) علماء تشريح البندقية في القرن السادس عشر
كان رولفينك الشخصية الانتقالية في تاريخ «عائلتي»؛ فقد ولد في ألمانيا وتمتع بحياة مهنية طبية وعلمية مميزة في ألمانيا، وأتم حصوله على بكالوريوس الطب في بادوفا تحت إشراف أدريان فون دن شبيجل.
26
وبينما يمكن اعتبار رولفينك اختصاصيا في الطب الكيميائي وجراحا بالقدر نفسه، كان فون دن شبيجل ينتمي بوضوح إلى مجالي التشريح والجراحة. وقد ولد شبيجل في بروكسل عام 1578، ودرس في بادوفا على يد جيرولامو فابريتشي وجوليو كساري، وأتم دراسته بين عامي 1601 و1604.
ويواصل الموقع الإلكتروني لعلم الأنساب التابع لجامعة إلينوي نقلي إلى الماضي. فمع دخولي مرة أخرى إلى إيطاليا في أواخر القرن السادس عشر، بدأت أفكر أين سينتهي كل هذا (أو سيبدأ، في واقع الأمر)؛ فمع قربي جغرافيا من الأراضي المقدسة، بدأت أتساءل: هل موسى الذي تعامل مع الذهب، أم توبال قابيل،
27
أقدم متخصص في علم المعادن في العهد القديم، كان جزءا من سلالتي الكيميائية أيضا؟
في الواقع، يغطي نسبي الكيميائي القرن السادس عشر بأكمله تقريبا في بادوفا، ثم يتلاشى. لماذا التحول إذا من جمهورية البندقية الشمالية إلى ألمانيا في الجزء الجنوبي من الإمبراطورية الرومانية المقدسة؟ فقد شكلت مدينة البندقية وجمهوريتها منطقة مزدهرة تجاريا وثقافيا طوال القرن الخامس عشر. عندما غزت فرنسا جمهورية ميلانو الشمالية الغربية في أواخر القرن، وأصبح الإسبان حلفاء لها، بدأت القوتان احتلال إيطاليا، ما أدى إلى إضعاف المنطقة. وبينما ظلت مستقلة طوال القرن السادس عشر، أضعفت دولة البندقية اقتصاديا وثقافيا، وفقدت مكانتها كمركز فكري في أوروبا. حصل كساري
28
على بكالوريوس الطب في بادوفا عام 1580، كما حصل معلمه فابريتشي
29
على درجته العلمية من بادوفا عام 1569 تقريبا. وبصفته أحد أعضاء هيئة التدريس في بادوفا، كان فابريتشي نموذجا للأكاديمي الذي يفتقر إلى القدرة على العمل ضمن فريق بسبب غروره. ففي عام 1588، اتهمه طلابه علنا بإهماله التدريس لصالح أبحاثه. وفي عام 1611 اشتبك مع أحد زملائه بسبب مواعيد المقررات الدراسية. إلا أن، سمعته الأكاديمية وعمله الاستشاري ازدهرا كثيرا وبدأ تولي علاج جاليليو منذ عام 1606.
29
تلقى فابريتشي تعليمه على يد جابريلي فالوبيو (1523؟-1562)
30
في بادوفا. وأصبح فالوبيو شخصية شهيرة للغاية لدرجة أن كثيرا من الكتب نسبت إليه زورا بعد وفاته. ولا يمكن أن ينسب له على سبيل اليقين سوى كتاب «ملاحظات تشريحية» (1561).
30
وقد عملت دراساته الرائدة في التشريح على توسيع عمل رئيس قسم التشريح السابق عليه، أندرياس فيزاليوس. بالطبع يشتهر فالوبيو بكونه مكتشف قناتي فالوب التي توصل البويضات إلى الرحم. ولد أحد معاصري فالوبيو، ريالدو كولومبو
31 (الذي يسمى عادة خطأ ماتيو ريالدو كولومبو) عام 1510 تقريبا. درس هو وفالوبيو على يد جيوفاني أنطونيو لونيجو ، رغم وجود كثير من الشكوك هنا. خلف كولومبو فيزاليوس في رئاسة قسم التشريح في بادوفا. وبعد هذا، واستجابة للشائعات التي روجت لانتقاد كولومبو له، لم يلبث فيزاليوس أن «اتهمه بأنه جاهل ومحتال».
31
وفي عام 1548، زار كولومبو روما ودرس التشريح مع مايكل أنجلو،
31
ووصف فيما بعد دور القلب في الجهاز الرئوي، وبذلك يكون قد سبق ويليام هارفي.
31
خلف فالوبيو كولومبو في رئاسة قسم التشريح في بادوفا، وحظي أيضا بعلاقات مضطربة معه تماما مثل فيزاليوس.
31
تعيد رواية حديثة بعنوان «عالم التشريح»،
32
لفريدريكو أندهاسي، تصوير الجراح الرائد كولومبو وسط المحظورات الدينية والرياء في بادوفا في القرن السادس عشر. فيرد في الرواية، أنه اكتشف الوظيفة الحقيقية لعضو «حب فينوس»، الذي سيصبح التوغل في الحديث عنه خارج سياق كتابي الكيميائي هذا الوقور والمحترم. يثير كولومبو التخيلي في القصة غضب الكنيسة ويلقى نهاية مروعة. ومن حيث الحقائق التاريخية، فقد درس فالوبيو عضو «حب فينوس»، ويتساءل المرء لماذا اخترع أندهاسي شخصية مركب «ماتيو» مركبة من كولومبو وفالوبيو.
ومع ذلك، إذا توغلنا في الماضي أكثر من ذلك، وتحديدا قبل لونيجو، نجد أنطونيو موسى براسافولا (1500-1555)، أحد المساهمين الكبار في علم الصيدلة في عصر النهضة وطبيب البابا بولس الثالث.
33
وبينما ما زال أمامي 2800 سنة أو نحو ذلك لأتحدث عنها في جهودي المستقبلية للربط بين براسافولا وموسى، كانت هذه، إلى الآن، رحلة ممتعة.
هوامش
Bog aan la aqoon