ومن أجمل أو أحكم الكلمات التي خلفها لنا نيتشه قوله: «كل ما لا يقتلني يقويني»، وأيضا قوله: «عش في خطر». وذلك أن الحياة اختبارات، فإذا واجهنا خطرا وخرجنا منه دون أن يقتلنا فقد كسبنا الاختبار، وازددنا بذلك عرفانا بالدنيا، وحكمة في الحياة. وإذا عشنا في خطر زال عنا الذهول الذي تتسم به العامة، وصرنا في يقظة وتنبه وذكاء وفهم، فتكون الدقائق عندنا بمثابة الساعات عند غيرنا، والساعات بمثابة الأيام.
والحياة القصيرة الحافلة بالمغامرات والاقتحامات خير من حياة طويلة هزيلة يعيشها الإنسان في ذهول كأنه بلا وجدان. والمخترع والمكتشف كلاهما يعيش مغامرا لأنه يسير في أرض مجهولة لا يعرف نهايتها، وهو في هذا الاكتشاف أو الاختراع يحس من لذة الحياة ما يجعله ينسى جميع المشقات والمصاعب. ومن منا لا يحب مغامرة كولومبية يعيش فيها شهرين أو ثلاثة أشهر فقط وهو يتطلع إلى قارة جديدة، ويكاد يهبط عليها، بدلا من قضاء مائة سنة وهو منزو في شارع لا تضيق حدوده الجغرافية فقط، بل تضيق فيه أيضا حدوده الذهنية والنفسية؟!
ونحن نعجب بحياة نابليون أو غاندي؛ لاقتحامات الأول الحربية، واقتحامات الثاني الروحية، ونقرأ سير القديسين والمصلحين والمخترعين في شوق؛ لأننا نطابق بينها وبين أنفسنا في رغبة حارة للاقتحامات التي امتحنت حياتهم فخرجوا منها أوفر حكمة وأعمق فهما.
ولنا مما قلنا مغزيان؛ المغزى الأول: ألا نلتزم الدعة والطمأنينة فنحجم ونتقلص ونتراجع أمام الأخطار، والمغزى الثاني: ألا نبالغ في شأن الكوارث التي تصادفنا؛ لأننا ما دمنا لم نمت فيها سنعيش وقد كسبنا اختبارها ومعرفتها اللذين ازددنا بهما فهما وحكمة.
وكتب الأدب العالي تكسبنا من الاختبارات ما لا نحصل عليه في مجتمعنا. والشعر العالي هو أحسن ما في الأدب؛ لأن الشاعر يعرف أنه لن يثير في القارئ حماسة أو يلهب فيه نارا، إلا إذا ارتفع عن المبتذل المألوف من الاختبارات، سواء في الموضوع أم في التعبير، فهو يحملنا على اقتحامات ذهنية حتى ولو كانت هذه الاقتحامات مقصورة على التعبير، واستخراج المعنى الخفي الفذ من الموضوع الواضح المبتذل.
واسأل - أيها القارئ - أي إنسان متقدم في السن؛ فإنه لا بد آسف على تلك الفرص التي عرضت له ولم يغامر فيها، بل آثر الدعة والطمأنينة. وهو لا يأسف لأن الفرصة كانت تلوح له من الفرص الكاسبة؛ بل لأنه يحس أنه كان يكون أسعد لو أنه اختبرها وعاش فيها.
وقد كان المتنبي يقول:
وكل شجاعة في المرء تغني
ولا مثل الشجاعة في الحكيم
الشجاعة مع الحكمة تغني في النهاية، العاطفة مع الوجدان أي الشراع مع الدفة؛ العاطفة تدفع والوجدان يوجه.
Bog aan la aqoon