لقاء العشر الأواخر بالمسجد الحرام (٣)
الفانيد في حلاوة الأسانيد
تأليف
الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (٨٤٩ - ٩١١ هـ)
اعتنى به
رمزي سعد الدين دمشقية
ساهم بطبعه بعض أهل الخير بالمدينة المنورة
دار البشائر الإسلامية
Bog aan la aqoon
الفانيد في حلاوة الأسانيد
1 / 2
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
١٤٢٠ هـ - ١٩٩٩ م
دار البشائر الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع
هاتف:٧٠٢٨٥٧ - فاكس: ٧٠٤٩٦٣/ ٠٠٩٦١١
بيروت - لبنان ص ب: ٥٩٥٥/ ١٤
e-mail: [email protected]
1 / 3
بسم الله الرحمن الرحيم
1 / 4
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة المعتني
الحمد لله فالق الحبِّ والنوى، والصَّلاة والسَّلام على رسوله إمام الهدى، وعلى آله وأصحابه أهل التُّقى، ومن تبعهم وسار على دربهم ومشى.
أما بعد، فهذه رسالة لطيفة فريدة للِإمام الحافظ جلال الدِّين السيوطي ﵀، جمع فيها أحاديث نبوية شريفة مما في إسناده لطيفة فريدة: من اتصال سند أهل الإِسلام بنبي الله إبراهيم الخليل ﵊، واجتماع صحابة أربعة أو خمسة في سند واحد يروي بعضهم عن بعض، وكذلك اجتماع أربعة صحابيات ثنتان من أزواج النبي ﷺ وثنتان ربيبتان له في إسناد، ورواية صحابي عن تابعي عن صحابي، ورواية أئمة الفقه المجتهدين أحمد بن حنبل عن الشافعي عن مالك، أو أبي حنيفة عن مالك، أو الشافعي عن محمَّد بن الحسن عن أبي يوسف، أو الشافعي عن مسلم عن ابن جريج عن الثوري عن مالك، ورواية أئمة اللغة المازني عن سيبويه عن الخليل بن أحمد، أو ابن أبي دُريد عن أبي حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء، ومن اجتمع في إسناده جماعة من الشعراء أو الكُتَّاب أو الخلفاء.
1 / 5
فهذه الرسالة على وجازتها جمعت كل إسناد حوى فرائد، أو انتظم أفراده كالجواهر في القلائد. وكانت مناسبة العمل على تحقيقها والعناية بها اجتماع الشمل بإخوة أحبة في بيت الله الحرام بمكة المكرمة في العشر الأواخر من شهر الخير والبركات رمضان (١)، وصَرْف الوقت خلال الاعتكاف بما يفيد وينفع.
اسم الرسالة:
وقد سمى الحافظ السيوطي رسالته هذه: "الفانيد في حلاوة الأسانيد".
والفانيد: اسم نوع من الحلوى، قال المرتضى الزَّبيدي في "تاج العروس" مستدركًا على القاموس ٢/ ٤٥٥: فانيد: نوع من الحلواء يعمل بالنشا، وكأنها أعجمية؛ لفقد فاعيل من الكلام العربي، ولهذا لم يذكرها أكثر أهل اللغة. قلت -أي المرتضى-: وسيأتي في المعجمة -أي فانيذ-، ولكن قال شيخنا -تقي الدِّين الفاسي-: إنه بالمهملة أليق. اهـ.
وعند ذكر الفيروزأبادي "الفانيذ" في حرف الذال المعجمة، قال الزبيدي ٢/ ٥٧٤: الفانيذ أهمله الجوهري، وقال الأزهري: هو ضرب من الحلواء معروف، فارسي معرّب بانيد بالدال المهملة، وقد مرَّ أنهم يقولون فانيد بالدال المهملة، وسمَّى الجلال -يعني السيوطي- كتابه "الفانيد في حلاوة الأسانيد" قاله شيخنا. اهـ.
_________
(١) تراجع مقدمة الشيخ الفاضل نظام يعقوبي في أول عدد من السلسلة للمزيد من التفصيل.
1 / 6
والخلاصة أن السيوطي نعت كتابه بالفانيد تشبيهًا لأسانيده الفريدة بالحلواء المشهورة (١) -في عصره-.
نسخ الرسالة:
بحمد الله تعالى أولًا ثم بفضل سعي الأخ المحب الشيخ محمَّد بن ناصر العجمي (٢) تحصَّل لهذه الرسالة أربع نسخ مخطوطة. وهي التالية:
١ - نسخة (أ): وهي نسخة عدد أوراقها ٥ أوراق، ولم يكتب في آخرها اسم ولا تاريخ نسخها، ولكن ورد على صفحة العنوان: "في يوم الأربعاء العشرين من شهر جمادى الآخرة سنة تسعمائة ختمت بخير إن شاء الله تعالى". كما جاء بعد اسم الرسالة ما نصه: "إملاء شيخنا خاتمة الحفاظ والمجتهدين جلال الدِّين أبو الفضل عبد الرحمن بن العلَّامة كمال الدِّين السيوطي ... " وناسخها تلميذ المؤلِّف العلَّامة الداوودي صاحب طبقات المفسِّرين.
_________
(١) جاء في كتاب "كنز الفوائد في تنويع الموائد" نشر المعهد الألماني -بيروت ص ١٠٣: صفة عمل الفانيد: تأخذ السكر تحلُّه وتأخذ له قوام النصف، ويشال من على النار، وتأخذ من الطحين الناعم الأبيض عشرة أرطال، وتخلطه معه بعد أن تنزله من على النار، ولكل عشرة أمنان بعد حلّه نصف رطل عسل، وتقصّر على المسمار ويفتل فتائل.
(٢) وهذه عادته وفَّقه الله لما يحبه ويرضاه وجزاه عن العلم وأهله خيرًا، يحرص أن يفيد إخوانه أو من يسمع أنه يقوم بتحقيق كتاب ما بإتحافه بما تيسر عنده من مخطوطات ذلك الكتاب، حِسبةً لوجه الله تعالى، وقد يتجشم لذلك الصِّعاب ويتكلَّف ما لا يطيق غيره تكلفه، فالله يكافئه على حسن صنيعه، ويجعله يوم القيامة في صحائفه.
1 / 7
٢ - نسخة (م): وهي نسخة مكتبة الحرم المكي الشريف رقم (٧٥٦/ ٣) أسانيد، حديثة العهد، منسوخة سنة ١٣٠٨ هـ، وناسخها أبو الفيض عبد الستار الصديقي الحنفي (١) بمكة المكرمة، وهو شيخ شيخنا الذي أروي هذه الرسالة عنه كما يتبين من الإِسناد الآتي، عدد أوراقها ٧ أوراق.
٣ - نسخة (ب): هي نسخة المكتبة الوطنية بباريس مصورة من مركز الملك فيصل بالرياض، رقمها (٤٥٨٨/ ٧)، بدون تاريخ نسخ أو اسم ناسخ، وعدد أوراقها ٥ أوراق.
_________
(١) هو الشيخ العلَّامة المُسند أبو الفيض عبد الستار بن عبد الوهاب بن محمَّد البكري الصديقي الدهلوي الهندي ثم المكي. وُلد بمكة المكرمة سنة ١٢٨٦ هـ، حفظ القرآن في صغره وحصَّل العلوم على الشيوخ بعناية والده الشيخ عبد الوهاب. تفقه بالمذهب الحنفي، ثم أقبل على الحديث فبرع فيه وصار مُسندًا ماهرًا عارفًا بالأثبات والفهارس. ورحل إلى بلاد الهند والأفغان ودخل مصر فاجتمع بعلمائها وانكب على مخطوطات الجامع الأزهر ودار الكتب فنسخ منها الكثير ولا سيما كتب المشيخات والمعاجم والمسلسلات.
وحصّل في رحلته غير الذي نسخه عشرات المخطوطات التي ضمتها مكتبته الفيضية التي أوقفها لمكتبة الحرم المكي الشريف، وهي الآن تشكِّل ركنًا كبيرًا هامًّا في المكتبة.
صرف عمره في العلم تعليمًا وتدريسًا وتصنيفًا، وعُيِّن أمينًا للفتوى ثم اعتذر عن ذلك وفضل العيش بين كتبه التي جاوزت الآلاف ومع طلبته، فدرَّس في التفسير والحديث والمصطلح. له مؤلفات عدَّة من أهمها: نور الأمة بتخريج أحاديث كشف الغُمة في ستة مجلدات ضخام، ونثر المآثر فيمن أدركت من الأكابر وهو ثبته، وطبقات المذاهب الأربعة، وطبقات القراء، وطبقات الأدباء، وغير ذلك.
توفي رحمه الله تعالى بمكة المكرمة سنة ١٣٥٥ هـ ودفن بالمعلا. تشنيف الأسماع ص ٣٠٣.
1 / 8
٤ - نسخة (ز): هي نسخة المكتبة الأزهرية [٥١٢] ٢٣١٥٥ مجاميع، تاريخ نسخها سنة ١٠٦٤ هـ على يد محمَّد شمس الدِّين بن الحاج إبراهيم الحمصي الشافعي الرفاعي السلمي، وعدد أوراقها ٥ أوراق.
وقد تمَّت المقابلة أولًا للنسختين (أ) و(م) في الحرم المكي، ثم النسخة (ب)، ثم النسخة (ز) لتأخر الحصول عليهما. وقد تم تجاوز ذكر الفروق بين النسخ لكثرتها وعدم أهميتها إلَّا في مواطن قليلة.
التعليق على الرسالة:
وبعد أن تمَّت المقابلة للنسخ المخطوطة قمت بتخريج أحاديث الرسالة والتعليق على مواطن منها استكمالًا للفائدة وتحقيقًا للعناية بها.
هذا، ولم يكن في النية التطويل في التعليقات ولا سيما تراجم رجال الإِسناد، غير أن اختلاف النسخ وتحريف الأسماء أحوجا إلى ذلك.
سندي لهذه الرسالة:
أروي هذه الرسالة وسائر مؤلفات الإِمام السيوطي بالإِجازة (١) عن شيخنا مسند العصر الشيخ محمَّد ياسين الفاداني المكي، عن المسند الشيخ عبد الستار بن عبد الوهاب الصديقي المكي والمُعَمَّر الكِياهي (٢) جمعان بن مأمون التنقراني، كلاهما عن المعمَّر الكياهي نووي بن عمر البنتني، عن المعمَّر الشيخ عبد الصمد بن عبد الرحمن الآشي الشهير بالفلمباني، عن المعمَّر عاقب بن حسن الدين بن جعفر الفلمباني نزيل المدينة المنورة، عن
_________
(١) من كتاب شيخنا الفاداني ﵀: "العقد الفريد من جواهر الأسانيد"، ص ١٦.
(٢) الكياهي: الشيخ الكبير بلغة أهل أندونيسيا.
1 / 9
محمَّد بن سليمان الكردي المدني، عن محمَّد سعيد سنبل العمري، عن أحمد بن محمَّد النخلي المكي، عن الشمس محمَّد بن العلاء البابلي، عن أحمد بن خليل السبكي، عن النجم محمَّد بن أحمد الغَيطي، عن الجمال يوسف بن عبد الله الأرميوني، عن المؤلف الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي.
وفي الختام أرجو من المولى ﷿ أن يتقبل هذا العمل ويجعله خالصًا لوجهه الكريم، والحمد الله رب العالمين.
مصيف بحمدون من جبال لبنان
٥ جمادى الآخرة ١٤٢٠ هـ
١٥ أيلول ١٩٩٩ م
وكتبه
مُحِبُّ السُّنَّة النبويَّة السَّنيّة
رمزي سعد الدين دمشقية
1 / 10
ترجمة المؤلِّف الإِمام جلال الدِّين السيوطي
الإِمام السيوطي أشهر من أن يُعرَّف أو أن يترجَم له، وقد صدر حديثًا عن مجمع اللغة العربية بدمشق كتاب عنوانه "بهجة العابدين بترجمة الحافظ جلال الدِّين السيوطي" لتلميذه الشيخ عبد القادر بن محمَّد بن أحمد الشافعي الشاذلي، فأحببتُ أن أنقل منه ما يتعلق بموضوع علم الحديث، مع مقدمته لترجمة شيخه التي أكثر فيها من التبجيل وبالغ في المديح، غير أنه ساق عباراتها بأسلوب سجع لطيف وترادف فريد.
قال ﵀: هو سيِّدُنا ومولانا الأستاذ الجليلُ الذي لا تكادُ الأعصار تسمحُ له بنظير، الشيخ الإِمام والحبر الهُمام، شيخُ الإِسلام وارِث علوم الأنبياء ﵈، فريدُ دهره ووحيدُ عصره، مميمتُ البِدْعة ومحيي السُّنَّة، ويكفي ما وردَ في إحيائها من عظيم المنَّة من قوله ﵇: "مَنْ أحْيَا سنَّتي فقد أحبَّني، ومَنْ أحبَّني كان معي في الجنَّة" (١).
العالمُ العلَّامة، البحرُ الفهّامةُ، مُفْتي الأنام، وحَسَنَةُ اللّيالي والأيام،
_________
(١) في مختصر شرح الجامع الصغير ٢/ ٢٧٤ ذكره السيوطي عن السجزي عن أنس، وضعَّفه.
1 / 11
جامعُ أشتات الفضائل والفنون، المستخرِجُ من غوامضِ مخبّآتها كلَّ درّ مكنون، فاتحُ أقفال مشكلات العلوم، ومحيي مَوات ما اندرسَ منها من المعالم والآثار والرسوم، ختامُ دائرة الحفاظ، وفارسُ المعاني والألفاظ، رحَّالة الزمان، ومجتهدُ الوقت والأوان، آخرُ المجتهدين وبقيةُ الأئمة المجدِّدين لهذه الأمَّة أمرَ الدِّين.
أستاذُ الأستاذين، وأوحدُ علماءِ الدين، إمامُ المرشدين، وقامعُ المبتدعة والملحدين، والسيفُ الصارم في قَطْع رقابِ المعاندين، حجَّةُ المناظرين، وإنسانُ عين النَّاظرين، سلطانُ العلماء ولسانُ المتكلِّمين وعمدةُ المعلمين، وهدايةُ المتعلمين، شيخُ الإِسلام والمسلمين والدّاعي إلى ربّ العالمين.
إمام المحدِّثين في وقته وزمانه، والفائقُ على نظرائه ومشايخهِ وأقْرانه، والقائمُ بنصرة دينِ الله في سِرّه وإعلانِه، والنَّاصرُ للسُّنَّة الشَّريفة بقلمه ولسانه.
مَنْ له اختيارٌ في المذهب وترجيح، واجتهادٌ وتقويةٌ وتصحيح، ومَنْ اجتمعت فيه شروطُ المجتهد وصفاتُه، وكَمُلَت فيه علومُه وآلاتُه، وانفردَ في زمانه بالاجتهاد، وبلَّغه ربُّه غايةَ السؤال والمُراد.
خادمُ السُّنَّة الشريفة، وحاملُ ألويتها المنيفة، سلالةُ السَّلف الصالح، وخلاصةُ الخلفِ النَّاجح، متبع السُّنَّة النبوية، ومقتفي الآثار المحمدية.
مربِّي المريدين، ومرشدُ السالكين، وعمدةُ المحققين، وقدوةُ النَّاسكين، الورعُ الزاهدُ النَّاصر للشريعة، المجاهدُ الحافظ النَّاسك المجتهدُ المطلق، العالمُ بفنون العلومِ المحقَّقُ منها والمدقَّق، الجامع بين العلمِ والدِّين، والسالكُ سبيلَ السَّادة الأقدمين.
كانَ للعلومِ جامعًا، وفي فنونها بارعًا. ومقدّمًا في معرفةِ عِلل الحديث
1 / 12
على أقْرانه، متفردًا بهذا الفن في زمَانه، بصيرًا بذلك، سديدَ النظرِ في تلك المسالك، لا يُشَقُّ له غبارُ، ولا يَجْري معه سواه في مضمار.
وكانَ حسنَ الاستنباط للأحكام والمعاني من السُّنَّة والكِتاب، بِنُكَت تسْحَر الألباب وفكر يستفتح له ما يستغلق على غيره من الأبواب، مبرّزًا في العلوم النَقْلية والعقلية والمسالك الأثرية والمدارك النظرية.
فهو العالمُ العاملُ المرشدُ المربِّي المكمِّل الكامل، ذو الأخلاق الرضيّة المرضيّة، والأفعال السُنِّية السَّنية، المشهورُ علمُه وإمامتُه وجلالتُه، وزهدُه وورعُه وعفتُه وصيانتُه، المعرِضُ عن الدنيا وعن زينتِها، وعن أهلها ونعيمها ولذَّتها.
لم يزلْ طولَ عمره متنزِّهًا في رياضِ العلوم والمعارف، مقتطفًا من أوراقها ثمراتِ الحِكَمِ واللطائف، حريصًا على سلوكِ طريقةِ أهل السُّنَّة والجماعة، مواظبًا على الخير، لا يَصْرِفُ من أوقاتها ساعةً في غير طاعة، محافظًا لأزمانه وأوقاتِه، مقبِلًا على طاعاتِ ربّه وعِباداته، عارفًا بمذاهبِ العلماء المشهورة.
حَسَنَ الصِّيتِ والسِّيرة، نيِّرَ القلبِ والسَّريرة، والعلوم الرفيعة، والفنون البديعة، والتصانيف الباهرة الفائقة، والتآليف الزَّاهرة الرَّائقة النَّافعة الحميدة، والجامعة المفيدة، التي انتشرت في غالب الأَقطار، وعمَّ النفعُ بها في أكثرِ الأمصار، وسارتْ بها الركبانُ، واشتهرت بأقاصي البلدان، حتّى صارتْ كالبدرِ في الإِشراق، وتلقّاها النَّاس بالقَبُول في سائر الآفاق. وظهرَ علمُه فيها، وشَهِدَ له به أهلُ الوِفاق والافتراق، وبلغتْ عدةُ ما أثبتَه منها في فِهرست مؤلفاته إلى وقْتِ السِّياق، نحو خمسمائة وخمسين مؤلَّفًا ممَّا رقَّ وراق، وتشرَّفت بكتابته الدفاتر والأوراق.
1 / 13
ومع كثرةِ هذه المصنّفات وغزارةِ هذه المؤلفات، فليسَ لكلَّ واحدٍ منها نظيرٌ، وحقُّه أنْ يُرقم على السّندس بالنضير. فإنَّه ﵀ انتخبَها بالعلوم القرآنية والتّفْسِيرية والأحاديثِ القَوْلية والفعلية، والقواعد الإِسلامية، والعقائد الإِيمانية واللطائف العِرْفانية، والمعارف الربّانية، والعلوم الأصلية والفَرُعية والدِّينيّة والشرعيَّة والعقليّة والنَقْليّة والعلميَّة والعمليَّة والطبَّيّة والرُّوحانيَّة والجثمانيَّة والأدبيَّة والإِنشائيّة والنثريَّة والشعريَّة واللغويَّة والاصطلاحيَّة. ونشرَ فيها ما كان مطويًّا من الكنوز الخفيَّة، وأتى فيها بغرائبِ الألفاظ السنيّة، وعجائبِ المعاني المرضيّة.
مؤلَّفات السيوطي:
انفردَ في عصره بغزارةِ العلم ومدِّ الباع، وكثرةِ الحفْظِ وسَعَةِ الاطِّلاع، واستحضار كل تصنيف صنَّفه بينَ عينيه، وكذا كلِّ علمٍ سُئل عنه، ساعةَ وروده عليه، فسبحان مَنْ منحه ومَنَّ عليه، فإنَّ العمرَ يقصر عن إدراك ما وصَل إليه، فقد كان ﵀ يصنِّف في اليوم الواحد ثلاثَ كراريس ويكتبها بخطِّه الكريم النفيس. وكانَ يُمْلي عليّ من تصنيفه وهو يُطالع الكتبَ وهي منشورة بين يديه، ويأتي بغرائبَ وعجائب من عِنْديّاته يصدّرها بقلتُ، وأنا مسبوقٌ معه في الكتابة لا ألحقُه ولا أصِلُ إليه.
وكان ﵀ كثيرَ النقْلِ حسنَ التصريف مداوِمًا على المطالعة والتصنيف، عارِفًا بآداب التأليف يؤدي الأمانة، ويعزُو كل قولٍ لقائله، ويخرجُ عن عُهْدة كل نقلٍ بنسبته إلى ناقله.
وكان مفيدَ العلوم ومبيدَ الهموم وكاشفَ الغُمة عمَّا أشكل من المنطوق والمفهوم، ما تزلزل في جواب أجاب به قط ولا رجع عنه، ولا إلى غيره تحوّل. وكان يقول: ما أجبتُ بجوابٍ إلَّا وأعددتُ له جوابًا بين يدي الله
1 / 14
تعالى إنْ أنا عنه أُسأل. وكانَ إذا أجاب عن مسألةٍ وحصل في ذلك الجواب كلامٌ أو إنكار، أردف ذلك الجواب بعدّة أجوبةٍ على التوالي والتكرار. وقد تصدّى للردّ على مَنْ عارضه أو خالفه من علماء عصره في مؤلفات كثيرة، برهن فيها على صواب قوله، وخطّأ المخالفَ في شامِه ومصره.
وقد ألّف في كلِّ فنٍّ من الفنون، وامتحن كل مكلف منه بالدرِّ المكنون، وأتى فيه بما يَبْهَر العقولَ والنّقولَ، وأيّده بالأدلة القاطعةِ، وشيّدَه بالبراهينِ السّاطعة، فعليكَ بمطالعة الفِهرسة المتضمنة لأسماءِ مؤلفاته، لينظرَ في كل فنّ منه ما يعجز الواصفُ عن نعته وصفاته.
فألّف في فنّ التفسير وتعلقات القرآن أربعين مؤلَّفًا.
وألَّف في فنّ الحديثِ وتعلقاته مائتي مؤلف وخمسَ مؤلفات.
وألَّف فيما يتعلّق بمصطلح الحديث ثلاثةً وعِشْرين مؤلَّفًا.
وألَّف في فنّ الفقه سبعين مؤلفًا.
وألف في فنّ أصُول الفقه وأصول الدين والتصوف ثمانية عشر مؤلَّفًا.
وألَّف في فنّ اللغة والنحو والتصريف ثلاثةً وخمسين مؤلَّفًا.
وألَّف في فنّ المعاني والبيان والبديع عشر مؤلفات.
وألَّف في الكتب الجامعة لفنون عديدة عشر مؤلفات.
وألَّف في فنِّ الأدب والنوادر والإِنشاء والعربية سبعين مؤلَّفًا.
وألف في فنّ التاريخ ثلاثين مؤلَّفًا.
هذه المؤلفاتُ هي التي كُتبتْ وشاعتْ وانتشرتْ وذاعت. وأما ما غسلَه من مصنفاته ومحاه لكونِه صنّفه في البداية، وبعد النهاية ما ارتضاه، فهو أيضًا شيء كثير، بل ولا يوجد لكلِّ واحدٍ مما غسلَه نظير.
1 / 15
عناية السيوطي بعلم الحديث وبراعته فيه:
وكان الشيخُ ﵀ أعلمَ أهلِ زمانه بعلوم الحديث وفنونِه وأنواعه كلها، حافظًا متقنًا عالمًا عارفًا بصحيحِه وحَسَنِه وضعيفه وأنواعه كلها: غريبِه وموضوعِه، وطرقِه كلّها وشرح معانيه وغريبِ ألفاظه وإعرابه وحلّ مشكله، واستنباط أحكامه، وفِقْهه، وأسماء رجاله وضبطهم وأَنسابهم ومواليدهم ووفياتهم وبلدانهم، وتجريحهم وتعديلهم، وطبقات الرواة ومراتبهم ومعرفة أزمانهم وتواريخهم. له اليد الطُّولى في هذه الأنواع كلها، بل له فيها مؤلف متكفل لا يُحتاج معه إلى غيره.
واتّفق لشيخ الإِسلام ابنِ حجر رحمه الله تعالى أنه سُئل عن أشياءَ في الحديث وغيره فأجابَ عن بعضها ولم يُجِبْ عن بقيتها بشيء معتذرًا عنها لعدم الوقوف عليها، فأجابَ عنها شيخُنا ﵀ بما دلَّ على حفظه وَسِعَةِ اطِّلاعه.
وقد خَرقَ اللَّه له انتظامَ العوائد، وأعطاه ما لم يُعْطِ أحدًا في زمانِه من الحفظِ وسرعةِ الاستحضار للعلومِ والفوائد، وساعَده على ذلك بعنايته سبحانه وأمدّه، فكان لا يغيب عن ذهنه شيءٌ ولو طالت المدّة.
وكان ﵀ إذا سُئِل عن مسألةٍ أجابَ عنها بديهةً في الحال. ثم يقولُ للسّائل: الذهنُ خَوّان، أعطِني ذلك الكتابَ الذي يُشير إليه، فيأخذُه ويفتحه في أول مرة، فكأنَّما ذلك الموضع الذي فيه الجواب مُعلّم معه بعلامة. ويقول للسائل: خذ واقرأ، فيجدُ الجوابَ الذي أجاب به كما ذكره بحروفه.
سُئل ﵀ في بعض الدروس عن محفوظ شيخ الإِسلام ابن حجر من الحديث: ما قدرُه؟ وعن محفوظِ الشيخ عثمان الدَّيمي، وعن محفوظ الشّيخ شمس الدين السَّخاوي، وعن محفوظ القاضي قطب الدِّين
1 / 16
الخضيري (١)، فأجابَ عن الحافظ ابن حجر بأنه كان يحفظُ ما يزيد على مائتي ألف حديث وذكر تفصيلها. ثم أنصفَ الشيخ عثمان من نفسِه على سبيلِ الأدب معه بأن قال عنه: إنَّه يحفظُ أنسابَ الرجالِ بلا مراجعة وأنا أحفظها بمراجعة. ثم ذكرَ من حفظ الخضيري والسّخاوي ما نسيتُه ولا أستحضره الآن ثم سكت. فقلتُ لشخصٍ هو أخصُّ مني بالِإدْلال على الشيخ: سلْه عن محفوظه هو. فسأله، فقال: أحفظ يا بنيّ مائتي ألف حديث، ولو وجدتُ أكثرَ لحفظته.
وكان ﵀ يقول: أكثرُ ما يوجدُ على ظهرِ الأرضِ الآنَ من الأحاديث مائتا ألف حديث. وربَّما قال: ونيّف، لا يوجد غيرها.
قلت: ولعلَّ ذلك القَدْرَ الذي ذكرَه هو الذي أرادَ جمعَه في الكتاب الذي سمّاه "جمع الجوامع" وقصدَ فيه جمعَ الأحاديثِ النبويّة الموجودة على ظهر الأرض بأسرها والحكم على كل حديث منها، فجمع فيه نحوَ مائة ألف حديث أو ما يقاربها في أحدٍ وعشرين جزءًا بخطِّه ﵀، واخترمته المنيَّةُ قبل تمامه.
قلت: وقد وقفتُ على ورقةٍ صغيرةٍ لطيفةٍ بخطِّه ﵀ بعد وفاته فيها مكتوب:
"الحمدُ لله والصَّلاة والسَّلامُ على رسول الله ﷺ؛ رأيتُ في المنام
_________
(١) قطب الدين الخضيري ٨٢١ هـ- ٨٩٤ هـ محمَّد بن محمَّد بن عبد الله الخضيري الدمشقي. وُلِد بدمشق. اشتغل بتحصيل الحديث وتخرج فيه بابن حجر. ولي كتابة السر ووكالة بيت المال. انظر: الضوء اللامع وتعليقات محقق مقامات السيوطي ٢/ ٧٧٥ وعنه [الدارس في تاريخ المدارس ١/ ٧، ودور القرآن في دمشق للنعيمي ٧، ومنادمة الأطلال لبدران ٦].
1 / 17
ليلةَ الخميس ثاني شهر ربيع الأول سنةَ أربعٍ وتسعمائة كأنِّي بين يدي النبي ﷺ، فذكرت له كتابًا شرعتُ في تأليفه في الحديث، وهو "جمعُ الجوامع" وقلت له: أقرأُ عليكم شيئًا منه. فقال لي: هاتِ يا شيخَ الحديث".
ثم كتبَ بعد ذلك بخطِّه: "هذه البُشْرى عندي أعظمُ من الدنيا بحذافيرِها" وهذا آخر ما فيها. ولم يذكر ﵀ هذه الرؤيا لأحدٍ في حياته، وإنِّما رأيتُ هذه الورقةَ بعد وفاتِه، فنقلتُها، ونقلها أصحابُه وطلبتُه من بعده.
* * *
1 / 18
صفحة الغلاف من نسخة (أ)
1 / 19
الورقة الأخيرة من نسخة (أ)
1 / 20