وهنا يطالبنا القارئ بالبرهان على أن الأفعال العقلية ليست إلا نتيجة تغيرات في خلايا الدماغ وسائر الجهاز العصبي بسبب تفاعلات كيمية فيها، وأن وظيفة الدماغ إصدار تلك الأفعال. فالبرهان الإيجابي منوط بتوفيق الأبحاث العلمية «الفزيكوسيكولوجية» في المستقبل، ولكن عندنا الآن أدلة واضحة وجازمة على صحة هذه الدعوى.
فأولا:
إن هذا العقل العجيب أمره ينمو مع نمو الجسد، بل ينمو متأخرا عنه - إذا صحت نسبة النمو إلى الأفعال. والتعبير الأصح هو أن هذه الأفعال العقلية تتعاظم وتتنوع وتتعقد مجاراة لنمو الجسد. فالجنين خال من العقل حتى من الإحساس، والطفل في بدء شعوره أو إحساسه لا يختلف إحساسه عن إحساس بعض النباتات، ولا يبتدئ أن يميز بين الأشياء إلا بعد بضعة أشهر، ولا يتكامل نمو العقل إلا بعد بضع عشرة سنة، فإذن العقل خاضع لنفس السنن البيولوجية - المادية الحيوية - التي يخضع لها الجسد.
ثانيا:
إنه في حالة راحة أعضاء الجسد في النوم يكون العقل كأنه غير موجود؛ أي: إن الأفعال العقلية كالتفكير والتذكر ... إلخ تكون متوقفة تماما كما تتوقف حركة أدوات العمل؛ لأن خليات الدماغ متوقفة عن الحركة حينئذ، وإن لم تتوقف عن الحركة تماما كما في الأحلام مثلا فتكون خليات الأسلاك العصبية متوقفة عن الحركة؛ فيفكر الحالم وهو نائم، ولكن أسلاكه العصبية لا تنقل هذه الحركة لا ذهابا ولا إيابا، ولهذا لا يعرف الحالم أنه يحلم إلا حين يستيقظ؛ إذ تتحرك خليات أسلاكه العصبية، وتتنبه إلى أن ما كان يراه في النوم لم يكن حقيقة واقعة فعلا، بل كان مجرد أوهام.
ففي النوم دليل على أن الأفعال العقلية هي نتيجة قيام الخليات الدماغية بوظائفها، فلما توقفت هذه الخليات عن الحركة توقفت الأفعال العقلية أيضا، ولم يبق شيء يسمى عقلا.
ثالثا:
في حالة التخدير ب «الكلوروفورم» ونحوه تتوقف معظم مراكز الدماغ عن العمل بتاتا، ويتوقف عمل الأسلاك العصبية الممتدة من الدماغ والحبل الشوكي إلى سطح الجسد، ويفقد الإنسان رشده وإحساسه وشعوره فقدا تاما كأنه ميت، فلا يحس بألم ولا بلذة ولا يفكر ولا يتذكر. ومتى زال فعل المخدر عنه تنبه، وشعر كأنه كان في عالم الفناء، فعاد إلى عالم الحياة؛ يختلف شعوره هذا عن شعوره عند صحوه بعد النوم. وفي أثناء غيبوبته بفعل المخدر قد يتكلم كلاما لا تعقل فيه؛ فيهذر ويهرف ويهذي، كأن بعض مراكز دماغه الخاصة بالنطق لم تتخدر تماما؛ فتبقى تبدي حركات ذاتية ميكانيكية كما يبدي ذيل الورل حركات ذاتية بعد قطعه وفصله عن جسمه. مما تقدم يستدل على أن الأفعال العقلية إنما هي نتيجة أفعال مراكز دماغية، تحدث بفعل تفاعلات كيماوية في خلاياها.
رابعا:
قد يطرأ طارئ مرضي كالزهري مثلا على أحد المراكز الدماغية فيعطله، وبالتالي يتعطل معه الفعل العقلي الذي هو وظيفة ذلك المركز، فقد يتعطل المركز الخاص بالذاكرة مثلا فينسى الشخص كل ماضيه، أو يتعطل مركز التعقل فيصبح الشخص أبله، إلى غير ذلك من النواقص العقلية التي تنتج من تعطل مراكزها الدماغية، ولا يخفى ما في ذلك من الدلالة الساطعة على أن ما نسميه قوى عقلية إنما هو نتيجة حركات فقط تصدر من خلايا المراكز الدماغية.
Bog aan la aqoon