العقل يبحث عن سر الحياة، ويرى أن هذا البحث مستطاع، ويؤمل أن يقبض على هذا السر، وكذلك يبحث عن أصل العقل نفسه، ويرى أنه يكاد يدرك سر العقل ومصدره، وطالما حار في أمر الكهرباء وسرها إلى أن قبض على سرها أو كاد. ولكن مهما تبحر في تفهم اللانهاية واللابداية لا يرى بارقا من الأمل في فهمها، يرى لغزا لا ينحل أو يستحيل حله. فلماذا؟
هل سبب هذه الاستحالة في اللانهاية نفسها، أو في العقل الذي يغزوها فيعود مندحرا؟ (5) العلة في العقل نفسه
العقل يستمد تصوراته من العالم المادي الخارج عنه بواسطة المشاعر الخمس، وأهمها البصر؛ فجميع المعلومات التي علمتها عقولنا عن العوالم الكونية وردت إليها عن طريق البصر، بواسطة التموجات النورانية وأخواتها من الأمواج الكهرطيسية، وفي كثير من المرئيات القصية والدقيقة نستعين بالآلات البصرية المختلفة كالمقراب - التلسكوب، والمجهر - الميكروسكوب، والمطياف - السبكتروسكوب.
ومن هذا الطريق عرفنا نهاية الحيز المادي أو حدوده، فما ليس ماديا لا يمكن أن يتجاوز المحسوس المنظور مباشرة، أو بواسطة الآلات البصرية؛ فهو إذن محدود بالدماغ الذي ينتجه، وبالجهاز العصبي الذي يعاون الدماغ في إنتاجه.
واللانهاية التي نحن بصددها تتجاوز حدود المادة التي نشأ الدماغ منها، فصدر العقل منه، فلذلك يستحيل على العقل المحدود بالمادة أن يتطاول إلى ما وراء المادة - ما وراء الطبيعة، حسبه أنه استطاع أن يشمل حيز المادة، وأما أن يتخطاه إلى اللانهاية، وهي أوسع منه، فهو حكم منطقي سخيف أخرق.
اللانهاية خارجة عن دائرة المحسوس، لا تقع تحت الحواس ولا تتأثر بها المشاعر الدماغية والعصبية، فكيف يمكن أن يدركها العقل وهو لا يتناول معلوماته إلا عن طريق المشاعر؟ فإذن هذا العقل الذي نتبجح به وبعظمته وقدرته وشموله هو صغير جدا بالنسبة إلى الوجود اللامتناهي، ولا يمكن أن يشمل الصغير العظيم.
فلذلك حين نقول «عقل الله» ننسب لله عقلا من شكل عقلنا وطبيعته، ونقول إنه أعظم من عقلنا، ولكن مهما عظم لا يدرك اللامتناهي ما دامت طبيعته كطبيعة عقلنا، وإن قلنا إن طبيعة «عقل الله» تختلف عن طبيعة عقلنا، فإذن ليس هو عقلا، بل هو شيء آخر لا نعلم ما هو، فليس لنا أن نتكلم عن المجهول المطلق، ولنكف عن محاولة تعريفه، وإلا فنحن نحقره بدل أن نقصد تعظيمه، فلندعه في عالم المجهول المطلق.
إن الإنسان لما عجز عن إدراك اللامتناهي في حين كان يتوق إلى معرفة أسرار الوجود استنبط هذا المجهول، ونسب إليه قدرة وعلما أعظم من قدرته وعلمه.
فالحقيقة أن المجهول والجاهل هما الإنسان نفسه .
الفصل الثالث عشر
Bog aan la aqoon