ويعد تقسيم النمسة إلى ممالك منفصلة باسم مبدأ القوميات مثالا على الخطأ الذي يقترف بتطبيق مبدأ سير على أدوار من التاريخ لا قيمة له في غير أدوار أخرى، وكان يمكن أن يلجأ إلى مبدأ القوميات فيما مضى، ولكنه قام مقامه منذ قرون كثيرة مبدأ أكثر ملاءمة للحاجات الجديدة، أي: مبدأ جمع الدول الصغيرة ضمن دول كبيرة.
ولو كان الألمان غالبين لأمكنهم أن يزعموا، باسم مبدأ القوميات، أن بريتانية ونورماندية وأفرنية وبورغونية، إلخ، إذ كانت تشتمل على عروق مختلفة وجب أن تؤلف دولا مستقلة، وبذلك تكون فرنسة قد قسمت كما وقع للإمبراطورية النمسوية في الوقت الحاضر. •••
ومن بين الأمثلة على نفوذ الأوهام النفسية في التاريخ يمكن ان تذكر السياسة التي اتبعتها أوربة نحو تركية، هذه السياسة التي تظهر بين علل الحرب العظمى.
أجل، ما فتئ بعض ولايات شبه جزيرة البلقان كالبوسنة وبلغارية، إلخ ، يدار منذ فتح القسطنطينية من قبل الترك بإدارة عثمانية شديدة، غير أن هذه الإدارة تتصف بملاءمتها تماما لنفسية أهليها من أنصاف البرابرة الخاضعين لقوانينها. والواقع أن تركية وفقت لإقامة سلم تام بين أمم لم تحلم في الماضي بغير تذابحها وسلب بعضها بعضا.
ولا جدال في هذه النتيجة، بيد أنه كان يساور سياسيي أوربة الذين استحوذ عليهم تخاصم الصليب والهلال التقليدي من حيث لا يشعرون، خيال نزع بعض الولايات من تركية على الدوام، وهكذا قبضت النمسة على البوسنة وقبضت إنكلترة على قبرس، إلخ، وقد أصبحت ولايات أخرى كبلغارية وصربية على الخصوص مستقلة.
واتبعت هذه الدول الجديدة عادة أهل البلقان، فلم تلبث أن اشتبكت في صراع مع جاراتها، وكان أقل هذه الدويلات أهمية يحاول نيل عون دولة كبيرة. ومن ذلك أن صربية وضعت نفسها تحت حماية روسية، فرأت هذه الدولة نفسها ملزمة بتأييد تلك في نزاعها مع النمسة، وهنالك اشتعلت الحرب التي لم يكن أحد ليتمثل بها استمرار الترك على الحكم في البلقان.
إذن فقد انتهى سياسيو أوربة إلى النتيجتين الآتيتين بنزعهم من تركية ولاياتها بالتدريج: (1) انفجار الحرب الطاحنة المخربة لأوربة. (2) توقع نشوب منازعات جديدة بين دويلات البلقان التي أقيمت على حساب تركية، والتي هي من العجز التام ما لا تسود معه سلم كانت تتمتع بمثله أيام الحكم العثماني.
وقد استمرت أوهام أقطاب الدول السياسية حيال تركية على ما كانت عليه قبل السلم، وقد أمل وزير إنكليزي بالغ القدرة أن يطرد المسلمون من أوربة نهائيا، فأغرى بهم الأغارقة الذين كانوا يحتلون إزمير، فلما أبصرت تركية ما يحيق بها من خطر المحو من خريطة العالم السياسية جمعت ما بقي عندها من الكتائب، وانتهت بعد قتال المستميت إلى طرد بغاة اليونان من أراضيها على الرغم من كثرة عددهم.
وقد توج هذا النصر الباهر بمعاهدة لوزان المخزية لأوربة كثيرا، والواقع أن هذه المعاهدة أباحت للترك أن يخرجوا الأجانب من جميع المراكز التي يشغلونها في الإدارة العثمانية، وأنها حرمتهم امتيازاتهم الأجنبية التي هي نتيجة عمل قرون كثيرة، وهكذا تغدو إستنبول مدينة تركية حصرا، مع أنها عادت لا تكون كذلك منذ زمن طويل.
ومن ثم ترى أن أوهام الوزير الإنكليزي السياسية أدت من حيث النتيجة إلى منح تركية - هذا البلد الذي قهر في الحرب العظمى - مركزا ممتازا ما كان ليناله من حلفائه الجرمان لو خرج هؤلاء من هذه الحرب غالبين.
Bog aan la aqoon