207

Falsafat Cilm

فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية

Noocyada

J. Lamarck (1744-1829م) التي ترجع التغيرات البيولوجية إلى تأثيرات البيئة وتجعل دور الكائن الحي سلبيا، فقط يتلقى هذه المؤثرات وإلا حكمت عليه البيئة بالفناء والهلاك. والنظرية الثانية هي نظرية دارون التي ترجع التغيرات البيولوجية إلى فعالية الكائن الحي وقدرته على التكيف مع البيئة فيكون البقاء للأصلح في عملية الانتخاب الطبيعي التي تعني أن الأنواع الأقوى القادرة على الفتك بمنافسيها هي التي تبقى وتحكم بالفناء على الأنواع الأضعف، كما حكمت الفروض العلمية القوية على الفروض الضعيفة بالفناء.

وبوبر يفسر التقدم العلمي بكلمة واحدة هي النقد؛ لأن النقد يبرز ثورية التقدم العلمي، الكشف الجديد تكذيب للفرض المطروح، إنه يحطم ويبدل مجسدا الإيجابية الداروينية، ويلح بوبر على قسوة النقد للفروض والنظريات العلمية، على وعورة محاولات الاختبار التجريبي والتكذيب؛ لأنها تماثل وعورة الظروف البيئية التي تؤدي بالكائن الحي إلى مزيد من التكيف والتحدي، من التطور والارتقاء، أما الاستقرائية فهي اللاماركية، تفسر التقدم العلمي بتراكم النظريات والمعلومات، تراكم تأثيرات البيئة، كمخزن بضائع أو مكتبة نامية باستمرار.

هكذا كان بوبر داروينيا في تفسيره لتطور النظريات العلمية ومنطق تقدمها، وهو أيضا داروني في تفسيره لموقف العالم وطرحه لفروضه، بينما الاستقرائيون لاماركيون في هذا وذاك، إنهم يجعلون دور العالم سلبيا يتلقى وقائع التجريب التي تمليها الطبيعة، فيعممها في فرض علمي. أما بوبر فيجعل للعالم دورا إيجابيا في طرح الفرض وخلق قصة العلم، كما جعل دارون للكائن الحي دورا إيجابيا في خلق قصة الحياة وتطوراتها. إننا لا نعرف - كما يؤكد بوبر - من خلال معطيات البيئة، بل من خلال تحديها ومحاولة فرض تصوراتنا عليها، وكما قدر للداروينية الانتصار وانزوت نظرية لامارك في تاريخ العلم، قدر للبوبرية الانتصار، وفي نهايات القرن العشرين أصبحت النزعة الاستقرائية مرحلة منتهية من مراحل تطور فلسفة العلم، ولم يعد لها نصير.

لكن كان الاستقراء ذا خطوات تبدأ بالملاحظة وتنتهي إلى الفرض العلمي، بينما لم يفض بنا منهج بوبر إلى طريق محدد للكشف العلمي، إلى ذات اللحظة التي تخلق فيها النظرية خلقا. أجل الخطوة «أ أ» تعني طرح فرض جديد، لكنها لم توضح كيف ولا من أين نأتي به.

الواقع أن مثل هذا التوضيح مستحيل، وليس هناك منهج للوصول إلى الأفكار الجديدة، لا استقراء الوقائع ولا غيره، وبالنظر إلى المنهج العلمي من هذه الزاوية نكون في عرف بوبر نتحدث هراء يخلو من المعنى، يقول بوبر:

إذا حاول أحد أن يفكر في منهج علمي يقوده إلى النجاح فلا بد أن يصاب بخيبة أمل، ليس هناك طريق ملكي للنجاح، وأيضا إذا حاول أحد أن يفكر في منهج علمي كطريق لتبرير النظريات العلمية فسيصاب أيضا بخيبة أمل، النظريات العلمية لا يمكن أن تبرر، إنها فقط تنقد وتختبر.

17

لقد اتضح الآن كيف أطاح بوبر بمنطق التبرير وأحل محله منطق التقدم، وفي هذا ليس المنهج العلمي طريقا للكشف، بل هو منطق للعلم، ولا يرسم طريق الوصول إلى النظرية - كما حاول الاستقراء أن يفعل - بل يرسم أسلوب التعامل مع الفرض وكيفية اختباره والتحكم في نتائج الاختبار. نظرية المنهج تبدأ من الفرض، أما ما قبله وأفضى إليه فليس من اختصاص الإبستمولوجيا والميثودولوجيا، بل من اختصاص علم النفس التجريبي الذي يدرس ظاهرة الإبداع.

الكشف العلمي ليس عملية آلية، بل عملية خلق وإبداع، والعبقرية الخلاقة بمثابة العنصر الفاعل، فلا يمكن الوصول إلى الفرض عن طريق خطوات منهجية محددة، بل عن طريق الإلمام بالحصيلة المعرفية السابقة، ثم قدح ذهن العالم ليتوصل إلى حل للمشكلة المطروحة للبحث، وهذا الحل حدس لا تنبته إلا الموهبة العلمية والعبقرية الخلاقة في انشغالها العميق بالمشكلة. هكذا نجد كل كشف علمي يحوي عنصرا إبداعيا حدسيا قائما على الحب العقلاني لموضوع البحث. ليس هذا رأيا لبوبر أو غيره، بل هو الأمر الواقع، يقرر العلماء أنفسهم أنهم توصلوا إلى النظريات العلمية بالعديد من الطرق المختلفة وليس بأي منهج محدد، قد تظهر النظرية كومضة إلهام في حالات الحلم أو ما يشبه الحلم، قد تومض في الذهن فجأة، وقد تهبط رويدا كضياء الفجر، تشرق النظرية العلمية في الذهن كما يشرق أي إبداع إنساني آخر. قد لا يوافق البعض على هذا؛ لأن الإبداع العلمي يعتمد على كم هائل من المعارف التخصصية الدقيقة لا بد أن يكتسبها العالم، والبحث ذاته نشاط تركيبي عظيم بحيث أصبح لا يستغني عن الكومبيوتر، ويتطلب العمل الشاق والصبر العظيم والشجاعة النفسية التي تدفع إلى بذل العمر والاضطلاع لمشكلة بالغة الصعوبة، وإذا فشل الجهد وراح هباء ليس ثمة تعويض.

18

Bog aan la aqoon