Falsafat Cilm
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Noocyada
يرى بوبر أن هذا التبرير يرتد إلى الحس المشترك
Common Sense
الموقف العادي للإنسان بشعبيته الفائقة. وبوبر يعتبر الحس المشترك خامة فلسفية بالغة الأهمية، لكنه في حد ذاته يفتقر إلى الموقف النقدي، ويا لها من جريمة في عرف بوبر! وبموقفه اللانقدي يتخذ الحس المشترك نظرية معرفية تشبه العقل بالدلو أو السلة، وتقوم الحواس - لا سيما البصر - بجمع المعلومات وتعبئتها في هذا الدلو. وإذا أردنا اكتساب معرفة بأي شيء، فما علينا إلا أن نفتح عيوننا وحواسنا، فيمتلئ الدلو بالمدركات الحسية ونعرف الشيء تماما. هكذا ببساطة وبإهدار القوى الخلاقة للعقل. وتفسر هذه النظرة توقعات العقل، توقع الاطراد في الطبيعة مثلا، بتأثير الملاحظات المتكررة التي حدثت في الماضي. نحن نعتقد أن الشمس ستشرق غدا؛ لأنها أشرقت في الماضي كل يوم. لدينا ملاحظات متكررة، وهي كفيلة بتفسير نشأة الاعتقاد وبتبريره. هكذا نجد الموقف الساذج للحس المشترك هو الأصل الذي صدر عنه منطق التبرير الاستقرائي، فنفس هذه النظرة التي يرسمها تشبيه الدلو، هي التي أخذتها التجريبية الكلاسيكية، وعبر عنها جون لوك قائلا إنه ليس في العقل شيء إلا ودخله عن طريق الحواس، وأخذها بقية التجريبيين، وحتى صاغتها النزعة الاستقرائية في شكل منهج قادر على تبرير العلم وتمييزه.
وفي كل هذا السياق العريض، لم يتوقف أحد لمناقشتها مناقشة نقدية حتى جاء ديفيد هيوم ليقوض أركان العلية فأثار مشكلة الاستقراء. وبوبر يتمسك بالدلالة الإخبارية للنظرية العلمية ومحتواها المعرفي ومعيار الصدق ... وفي هذا لا بد له أن يواجه مشكلة الاستقراء.
لم يتوان بوبر في هذا أبدا، بل يحلو له التأكيد على أن أهم إنجازاته في فلسفة العلم هو حل مشكلة الاستقراء. وقد عني عناية بالغة بفحص تفصيلي مستجد لأعمال يهوم. ويرى بوبر أنه أثار بشأن الاستقراء مشكلتين وليس مشكلة واحدة كما هو شائع. فثمة المشكلة المنطقية المتعلقة بتبرير صحة الاستقراء، فهل لدينا تبرير للانتقال من الحالات التي وقعت في خبرتنا إلى تلك التي لم تقع بعد؟ وأجاب هيوم على هذا بالنفي مثيرا مشكلة الاستقراء. ولكن ثمة أيضا مشكلة ثانية، هي المشكلة السيكولوجية المتعلقة بأثر التكرار على حياتنا النفسية، فلماذا نتوقع جميعا بثقة كبيرة أن الحالات التي لم تقع في خبرتنا سوف تطابق تلك التي وقعت؟ وكما رأينا، أجاب هيوم على هذا بالعادة أو الطبع، وبعد أن نسف التبرير الاستقرائي، أو طرده من الباب المنطقي، عاد ليسمح له بالدخول من الشباك السيكولوجي، فظل الاستقراء جاثما على الصدور.
وبطبيعة بوبر، يصب جام نقده على هيوم، فيجده قد انتهى إلى أن التكرار قد خلق فينا عادة الاعتقاد في قانون، غير أن بوبر يؤكد أن هذا خطأ والعكس تماما هو الصحيح، فالتكرار يحطم الوعي بالقانون ولا يخلق اعتقادا فيه. فمثلا في حالة عزف قطعة موسيقية صعبة على البيانو، يبدأ العازف مركزا وعيه وشعوره، وبعد قدر كاف من التكرار يتم العزف بلا انتباه لقانون. وحين البدء في قيادة الدراجة نتعلم أن ندير الدفة في الاتجاه الذي نخشى السقوط فيه، وتبدأ المحاولات الأولى للركوب وأذهاننا مركزة تماما على هذا القانون، وبعد قدر كاف من التكرار ننساه تماما. إذن فالتكرار يحطم الوعي بالقانون ولا يخلقه كما ذهب هيوم. فنحن لا نشعر بدقات الساعة المنزلية لكن نشعر أن الساعة توقفت. ومن ناحية أخرى نجد أن السلوك - كالأكل أو النوم في ساعة معينة - لكي يكون عادة، فإنه ينشأ أولا ثم يتكرر ثانيا. معنى هذا أن نشأة العادة لا ترجع إلى التكرار كما ذهب هيوم.
وكان التكرار الذي عناه هيوم قائما على التماثل بين الوقائع أو تشابهها، وفي هذا يحرص بوبر على تبيان أن العقل البشري هو الذي يحكم على الوقائع بأنها متشابهة أو متماثلة، وبالتالي بأنها تكرارات. ليس هناك تكرارات في صلب الطبيعة، بل هناك وقائع يحكم العقل عليها بأنها متماثلة، وبالتالي متكررة، وتبعا لمنظور معين في العقل سابق على إدراك الوقائع ذاتها. هكذا نجد بوبر يلف ويدور في نفس محور أسبقية الفرض على الملاحظة والعقل على الواقع.
وينتهي بوبر إلى أن هيوم غرق في متاهات النزعة الذاتية، وانشغل بالاعتقاد في مشابهة الماضي للمستقبل والخبرة والعادة والطبع، وكلها بحوث أليق بعلم النفس وليس بالإبستمولوجيا، أو بمصطلحات بوبر متصلة بالعالم 2، وليس العالم 3، ومع هذا لم تكن صائبة حتى من المنظور السيكولوجي ذاته. لكن في خضم هذه الغياهب السيكولوجية ثمة جوهرة ثمينة تظفر بها المعرفة الموضوعية، وهي ببساطة التفنيد المنطقي لأن يكون الاستقراء تبريرا كافيا للمعرفة العلمية، أو ما يعرف بمشكلة الاستقراء. وهذه المشكلة التي أخرجها هيوم في مصطلحات سيكولوجية ذاتية مثل الاعتقاد والعادة والخبرة سوف يصبها بوبر في قالب المنطق الموضوعي بحيث لا تكون مشكلة الاستقراء مشكلة لمعتقداتنا وتبريرها أو مشكلة العلاقة بين الحالات الماضية التي مرت بخبرتنا والحالات المستقبلة التي لم تمر بعد بخبرتنا، بل هي مشكلة العلاقة المنطقية بين الوقائع التجريبية «أو العبارات الجزئية التي تصفها» وبين النظريات العمومية التفسيرية «أو العبارات الكلية».
وعلى هذا الأساس الموضوعي يطرح بوبر السؤال: هل يمكن للوقائع التجريبية أن تبرر الدعوى بصدق النظرية العمومية التفسيرية؟ وأجاب بوبر على هذا نفس إجابة هيوم، أي بالنفي مهما كان عدد الوقائع كبيرا.
وهنا يصل إلى السؤال الثاني: هل يمكن للوقائع التجريبية أن تبرر الدعوى بأن النظرية العمومية كاذبة؟ وبوبر يرد على هذا بالإيجاب فالوقائع التجريبية لا تبرر الدعوى بصدق النظرية، لكنها تبرر الدعوى بكذبها.
Bog aan la aqoon