Falsafat Cilm
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Noocyada
وربما عاقت بعض الأفكار الميتافيزيقية طريق التقدم العلمي، وأبرزها فكرة أفلاطون بتحقير المادة وكل ما يتصل بالحواس كأداة للمعرفة. لكن إذا تركنا الأمثلة القليلة، وأيضا بعضا من الشطحات الميتافيزيقية التي يمكن أن نعدها فعلا ثرثرة ولغوا، وجدنا أفكارا ميتافيزيقية جمة ساعدت على تقدم العلم، بل كانت ضرورية له، وبعضها أوحى بصورة مباشرة بنظريات علمية تطورت عن فروض ميتافيزيقية صريحة أبرزها مركزية الشمس وفرض الذرة ذاته الذي طرحه ديمقريطس في القرن الخامس ق.م وظل حتى عام 1905م غير قابل للاختبار التجريبي، أي أقرب إلى الميتافيزيقا؛ لذلك رفضه هلهولتس وماخ ودوهيم.
يتفق الكثيرون مع بوبر على أن معظم مشكلات العلم لها جذور في الفلسفة، لكن من زاوية أخرى تبرز العلاقة التبادلية. أخرج بوبر مقالا بعنوان «طبيعة المشكلات الفلسفية وجذورها في العلم»،
11
يوضح فيه كيف أن المشاكل الفلسفية والميتافيزيقية دوما ذات جذور علمية واجتماعية ودينية وسياسية، وإنها لتنهار وتتحول إلى لغو إذا ما أنكرت عليها تلك الجذور أو استئصلت منها، ويذهب بوبر إلى إثبات دعواه بشروح مسهبة لأمثلة عديدة لمشكلات من أخص خصائص الفلسفة كالمثل الإفلاطونية والأعداد الفيثاغورية والمقولات الكانطية ... ليثبت جذورها في حدود علم عصرها، وينتهي إلى أن الوضعيين المنطقيين هم الذين قلبوا المشاكل الفلسفية الحقيقية إلى لغو ومشاكل زائفة، حين أنكروا تلك الجذور أو لم يفطنوا إليها وراحوا يتعقبون منطوقات ظاهرية بمنهج التحليل المنطقي ليغووا الفلسفة إلى مستنقع المشاكل الزائفة واللغو. بعبارة موجزة يرى بوبر أن مشاكل الفلسفة حقيقية ومشاكل الوضعيين المناطقة هي التي ينبغي أن تعد ثرثرة بغير معنى ولغوا، والقواعد التي وضعوها لاستعمال اللغة تجعل حياتنا بأسرها لغوا، طالما ترد كل أنشطة العقل بما في ذلك العلم والمناقشات الإبستمولوجية إلى ما لا يمكن قبوله، إلى محض مدركات حسية.
لا يمل بوبر من التأكيد على ضرورة التفلسف وإلا لما كان هو فيلسوفا، وعلى أن المشاكل الفلسفية أصيلة وليست مشاكل مستهلكة
Second hand
متخلفة عن العلم في صياغته اللغوية. وبهذا يرفض كل محاولات الوضعية والتحليلية لإذابة المشاكل الفلسفية، ويرفض أيضا اعتبار المشاكل الفلسفية مشاكل منطقية على أساس أن حلها يمكن فقط بواسطة الأساليب المنطقية، يرد بوبر على هذا بأن كثيرا من مشاكل الفيزياء لا يمكن حلها إلا بأساليب الرياضة البحتة، ولا يؤثر هذا على تصنيفها كمشاكل فيزيائية ما دامت موضوعا لبحوث الفيزيائيين.
وبوبر ككل إبستمولوجي جاد في القرن العشرين، شديد التقدير والإكبار والولاء لبرتراند رسل، ويرى نظريته في الأنماط المنطقية إنجازا عظيما وعالجت مفارقات كانت في حاجة إلى التحليل المنطقي ليكشف عنها، لكن الخطأ جاء من فتجنشتين والوضعيين حين عمموا هذه الفكرة وعدوا جميع المشاكل الميتافيزيقية قائمة على مغالطات منطقية ونتيجة لسوء استعمال اللغة. ونلاحظ أن رسل نفسه انتقد تعميمهم لأفكاره في شكل معيار التحقق الذي وضعوه لتمييز العلم، وكانت معاييرهم لتمييز العلم جبهة ساخنة لهجوم ضار ومفصل من بوبر.
يرى بوبر أن معايير الوضعية لم تهدف إلى تمييز العلم حقيقة، بل لتحقيق الغرض المسبق والمستحيل وهو استبعاد الميتافيزيقا بأسرها بوصفها لغوا بغير معنى، ولا يمكن استبعاد كيان ثري مهيب كالميتافيزيقا بجرة قلم، ولو أرادوا استبعاد اللغو حقا فعليهم أن يقوموا بفحصها فحصا نقديا مفصلا، ولو فعلوا لاكتشفوا كنوز الأفكار الخصيبة التي تحويها الميتافيزيقا. وكما رأينا استبعاد الميتافيزيقا بجرة قلم ألقى بالنظريات العلمية البحتة في نفس هوة العبارات الزائفة؛ لأنها لن ترتد إلى وقائع الملاحظة ولن تقبل التحقق التجريبي أكثر مما تقبله عبارات الميتافيزيقا. وقد نفذ الوضعيون من هذا بالتفسير الأداتي كما أوضحنا.
فكان الخطأ الكبير الذي تعثرت فيه الوضعية ولا مخرج منه هو المطابقة بين العلم والمعنى واللاعلم واللامعنى، هذه المطابقة هي التي ردت سهامهم إلى نحورهم وجعلت مناقشاتهم عن المعنى بغير معنى، وبهذا المنظور يغدو كثيرا مما قيل في العلم والرياضيات - لا سيما - في الكلاسيكيات ينبغي أن يعد بغير معنى. يضرب بوبر مثالا بحساب التفاضل والتكامل في عهوده الأولى حتى القرن الثامن عشر، فكان بلا شك لغوا وتناقضات بغير معنى وفقا لمعايير فتجنشتين وأتباعه الوضعيين، فهل كان عليهم أن يشهروا أسلحتهم في وجه رواد هذا الحساب وينجحوا في استبعاد جهودهم، بينما فشل في هذا نقادهم المعاصرون لهم كجورج باركلي الذي كانت أحاديثه في هذا الصدد ذات معنى ومطابقة تماما لمعايير الوضعية! إن تهمة الخلو من المعنى فضفاضة ولا يمكن وضع خط فاصل قاطع بين المعنى واللامعنى. وكما يوضح المثال إذا أمكن وضع هذا الخط تبعا لتصور مسبق ومحدد لمفهوم المعنى، فلن يكون هذا في صالح التقدم العلمي أبدا.
Bog aan la aqoon