Falsafat Cilm
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Noocyada
ومع رفع لواء البساطة وتحجيم دور التجربة، تظل الأداتية فلسفة تجريبية منطقية بالمعنى الشامل المستخدم على هذه الصفحات. إنها لا بد وأن تكون تجريبية مهما جعلت دور التجربة استشاريا وتاليا للمعايير المنطقية؛ لأنها فلسفة للعلم التجريبي. والواقع أن الأداتيين أخذوا الأساس الوضعي الذي صاغه كونت حين قال إننا لا نبحث عن حقيقة الظاهرة إنما نكتفي بالوقوف عند سطحها الخارجي وعلاقاتها بالوقائع الأخرى. وهذا إرنست ماخ التشيكي المولد النمساوي الجنسية الذي اعتلى لأول مرة في تاريخ الجامعات كرسيا لفلسفة العلوم التجريبية، ويعد ماخ رائدا للأداتية وفي الوقت نفسه رائدا للوضعية المنطقية. إنه وضعي متطرف في فلسفته التي ترتكز على رد كل شيء إلى الإحساسات حتى إنه يرفض الصعود من الإحساسات إلى أية دلالة إخبارية للعبارات العلمية. من هنا رأى ماخ في النظرية العلمية محض أداة نافعة وإجراء مفيد ليس أكثر، والقوانين العلمية مجرد وصف للعالم التجريبي وليست تفسيرا له، وصف لعلاقات بين الظواهر قابلة للملاحظة، ولا مكان في العلم لغير هذا. وكان ماخ يبرر انطباق الرياضة على الواقع الفيزيائي بأن علم الرياضة التطبيقية ميكانيكا، وهو ببساطة وصف مناسب للظواهر. والنظرية الفيزيائية عند ماخ أوصاف من حيث هي تعريفات ضمنية مطابقة للخبرة، وهي في الواقع وصف له دور وقوة الأداة. والقانون العلمي مهما كان مجرد أداة، هو أسلوب للبحث ودالات قضايا توصف بالصلاحية وعدم الصلاحية، ولا توصف بأنها صادقة أو كاذبة.
هكذا انطلق ماخ من الأساس التجريبي الوضعي الحاد ليصل إلى لب الأداتية، وهو في هذا وذاك يهدف إلى نفس هدف الوضعية المنطقية وهو تأمين العلم من أي اختراق ميتافيزيقي أو تسلل لمفاهيم وأبعاد ميتافيزيقية. قصر ماخ وظيفة العلم على الوصف ورفض أن يضطلع العلم بالتفسير؛ لأن التفسير هو الباب الذي تتسلل منه الرؤى الميتافيزيقية إلى نسق العلم. وقد بلغ به الأمر أن حارب النظرية الذرية في الفيزياء؛ لأنها ليست توصيفات قائمة على الخبرة! وبالمثل يجاهر بيير دوهيم بأن «فلسفته تقتصر على إثبات أن الفيزياء ليست مأخوذة من أية رؤية ميتافيزيقية».
47
يقترن اسم بيير دوهيم برفيقه هنري بوانكاريه
H. Poincare (1854-1912م) بوصفهما مؤسسين للأداتية في فلسفة العلم في القرن العشرين في شكل الاصطلاحية. وقد أشاد كارناب بماخ وبوانكاريه بوصفهما من أبطال حركة تحرير العلم من الميتافيزيقا. لكن الأداتيين لم يشنوا حربا هوجاء لا قبل للعلم بها على الميتافيزيقا لتحقيق هذا الهدف، كما فعلت الوضعية المنطقية، بل اقتصروا على حدود العلم وحاولوا تجريدها من الأبعاد الأنطولوجية التي تسمح بتسلل الميتافيزيقا. وعلى أية حال، فإن هذا الموقف من الميتافيزيقا في نظرية العلم لا يتأتى إلا من تجريبية قاطعة.
وتجريبية الأداتيين بدورها تجريبية منطقية، لكن بأسلوبهم المختلف. حقا لم يستخدموا المنطق الرياضي بالتقنية الحرفية التي رأيناها مع الوضعيين المنطقيين والتحليليين، ولم يهتم دوهيم بأبحاث بيانو وفريجه ورسل. درسها بوانكاريه، لكن لم يستفد كثيرا منها، وهاجم إفراطهم في التفاصيل المنطقية، وقال متهكما: «إذا كانوا قد احتاجوا إلى سبع وعشرين معادلة لإثبات أن الواحد عدد، فكم معادلة يحتاجونها لإثبات مبرهنة حقيقية؟!»
48
واستأنف بوانكاريه هجومه على رسل وكواترا وأقرانهما. ومع هذا كانت التجريبية الأداتية تجريبية منطقية في احتكامها لمعايير منطقية مثل البساطة والاتساق والمواءمة، هذا بعد أن أطاحوا بالأساس الاستقرائي لتنفرد المعايير المنطقية بالميدان. وفوق هذا نجد أن الأداتية في جوهرها مد لنطاق فلسفة العلم الرياضي إلى فلسفة العلم التجريبي، على أساس أن أي نسق منطقي أو رياضي متسق ومترابط قابل للتطبيق على الواقع، ولا فارق في نظرهم بين النسق الرياضي والنسق التجريبي. في كلتا الحالتين ثمة حقائق بسيطة ومتسقة وموائمة، أبدعها العقل بحرية ولم تفرضها عليه التجربة ويمكن أن نصطلح عليها لتنظيم وقائع الخبرة، «والرياضيات تصدق على الطبيعة؛ لأن هذا النمط من التفكير يمكننا من التعامل مع الطبيعة بأكثر الصور ملاءمة. وإنها لصورة منتقاة عبر عملية تطور لصور الفكر الكائنة في أذهاننا».
49
هكذا تساهم الأداتية بدورها في إبراز النقلة المحورية لفلسفة العلم في القرن العشرين في اتجاه أبعاد المنطق والرياضيات بحيث أصبحت التجريبية منطقية.
Bog aan la aqoon