178

Falsafat Cilm

فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية

Noocyada

المهم أن تكون هذه القواعد دقيقة فتستوعب كل التعبيرات الفيزيائية وتستبعد تماما أي تعبير ميتافيزيقي.

أما الأسس التجريبية التي ترتكز عليها لغة العلم فهي ما يسمى بجمل البروتوكول، ويعرفها كارناب بأنها الجمل التي تشير مباشرة إلى خبرات حسية متاحة، جمل البروتوكول هي المحك الذي نبدأ منه قياس واختبار بقية جمل اللغة العلمية، بغير أن تكون هي ذاتها، بحاجة إلى قياس أو اختبار أو تبرير، وهي جمل أساسية غير قابلة للتعديل.

على هذه الأسس تكون لغة العلم المنطقية التي شيدها كارناب برفقة أوطو نويراث

O. Neurath (1882-1945م) قادرة على حصر التعبيرات داخل حدود العالم التجريبي، وتنغلق دون متاهات الميتافيزيقا التي لا تقبل بحال الصياغة في حدود هذه اللغة، وكل ما هو ذو معنى يمكن التعبير عنه في حدودها، خصوصا علم النفس على قدر ما هو علم، هكذا ترتد العلوم جميعها إلى الفيزياء داخل إطار هذه اللغة، وأي مجال فرعي للعلم يمكن ترجمة عباراته - بصورة مكافئة تماما لصورتها الأصلية - إلى لغة العلم. ونخلص إلى أن العلم نسق واحدي تكاملي مركزي، لا نجد داخله مجالات لمواضيع ذات تباين جوهري، وتبعا لهذا لا نجد هوة بين العلوم الطبيعية والعلوم السلوكية مثلا،

42

وهذا صلب من أصلاب الوضعية المنطقية، إنه الدعوة إلى العلم الموحد في إطار الفيزياء؛ ليغدو أي علم آخر مجرد فرع أو امتداد للفيزياء، فيقول كارناب: إنه مع لغة العلم كلغة عمومية ستتحول جميع العلوم إلى الفيزياء وتستبعد الميتافيزيقا على أنها لغو، وتصبح العلوم المختلفة أجزاء من العلم الموحد.

اتفق الوضعيون المنطقيون جميعا على مشروع العلم الموحد، الذي يبرز مدى تطرفهم في الافتتان بالفيزياء بنفس درجة تطرفهم في الغضب المضري الذي لا يبقي ولا يذر على الميتافيزيقا. لكن الدائرة انقسمت على نفسها انقساما حادا بين فريقين، أحدهما فريق التحقق السيمانطيقي وعلى رأسه شليك وفيزمان، حصر نفسه في الخبرة التجريبية. والثاني هو فريق التركيب اللغوي السينتاطيقي، على رأسه كارناب ونويراث، حصر نفسه في العبارات والأنساق اللغوية. هذا في حين أن الوضعية المنطقية قامت أصلا للربط بين هذين الجانبين: الخبرة التجريبية والتعبيرات اللغوية؛ لتنحصر الثانية في حدود الأولى كوسيلة لاستبعاد الميتافيزيقا وتمييز المعرفة العلمية، استمرارا لمهمة فلسفة العلم منذ أن نشأت في القرن الأسبق من أجل تبرير وتمييز العلم.

في القرن العشرين لم تعد حجة التعميم الاستقرائي تصلح بحال لتمييز وتبرير العلم، فجاء الوضعيون مواصلين لنفس التطرف التجريبي، ويحاولون إنقاذ النزعة الاستقرائية باستخدام سلاح مستجد هو المنطق الرياضي، وعن طريقه كانت محاولاتهم التي رأيناها لتمييز المعرفة العلمية، وبدلا من أن يستخدموه لتطوير التجريبية والكف من غلوائها الاستقرائي بإثبات دور العقل الإنساني كما ينبغي أن تفعل التجريبية المنطقية المتبصرة في القرن العشرين، فعلوا العكس وحاولوا استغلال وتسخير المنطق الرياضي للإبقاء على الحسية التجريبية المتطرفة. هذا بينما كان العلم يواصل السير قدما في الابتعاد عن الحسي المباشر إثباتا لدور العقل الإنساني في صنع التقدم العلمي، فلا غرو أن تنقسم دائرة فيينا على نفسها، وتصل الوضعية المنطقية إلى نفس الطريق المسدود الذي وصلت إليه النزعة الاستقرائية.

كان تطرفهم القاصم حقا في قصر الفلسفة بأسرها فقط على التحليل المنطقي للعلم. لا شك أن منهج التحليل مفيد ومثمر للغاية، لكن غاب عنهم أنه يكون أكثر فائدة إذا تعاون مع المناهج الفلسفية الأخرى، ومتى كان فريق فلسفي واحد يستطيع الزعم باحتكار الحقيقة؟! هذا فضلا عن الحروب الضروس وجبهات الرفض العريضة التي فتحوها على أنفسهم بإثارتهم لحفيظة كل مقدر لدور الميتافيزيقا في ملحمة العقل البشري، وكل رافض لأن تنحسر الفلسفة بجلال قدرها إلى مجرد ظل باهت للعلم. كما أن الماركسيين رأوهم ثبوتيين رجعيين تعمل تحليلاتهم المنطقية على تسكين الأمر الواقع والحيلولة دون الثورة والتغيير.

ومع كل هذا لا مندوحة عن الاعتراف بالجوانب الأخرى الإيجابية. يكفي فضل الوضعيين في تطوير المنطق الرياضي وتطبيقاته الفلسفية. ومنذ الوضعية المنطقية فصاعدا لم تعد فلسفة العلم نشاطا على هامش الفلسفة، ولا تسكعا للعقول المتميزة، بل أصبحت فلسفة العلم نشاطا فنيا احترافيا دقيقا ومرموقا. والحق أن فلسفة العلم كنشاط أكاديمي تخصصي إنما هي ربيبة جامعة فيينا، كانوا تنويريين يشنون الحرب على الخرافة والعقل المنطلق بلا ضوابط، ألقوا في النفوس رهبة من الاسترسال في الأقوال الفضفاضة بغير حساب، وأجبروا الفلاسفة الآخرين على مزيد من الدقة والوضوح في التعبير، حتى بات التعبير الواضح المفهوم من سمات الفلسفة في القرن العشرين، بعد أن اشتهرت طوال تاريخها بالغموض والإلغاز والصعوبة.

Bog aan la aqoon