Falsafat Cilm
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Noocyada
رأى رسل الفلسفة تتميز عن العلم في أن القضية الفلسفية لا تتعلق إطلاقا بالشيء المتعين في إطار زماني مكاني محدد، إنها ذات عمومية شاملة، مما جعل الفلسفة العقلانية تعين دائما على فهم العالم ككل ما أمكنها ذلك، أما الفلسفة في جانبها الوجداني، فتضع قيما وغايات للحياة. ويؤكد رسل أن مهام الفلسفة لا تختلف باختلاف العصور، والفلسفة حين تصل إلى تصور عام للعالم، إنما تصل بنا إلى أقصى نقطة ممكنة في الابتعاد عن الموقف الإنساني المحدود المتعين في الهنا والآن، في المكان المحدد بالزمان المعين. كل الأنشطة المعرفية - على رأسها العلم - ترتفع بالإنسان عن قوقعته الزمانية المكانية، وتجعل حياته أرحب بأن يترامى تفكيره إلى سعة الأفق الوجودي، فلا ينحصر في موطئ قدميه. التاريخ والجيولوجيا مثلا يبتعدان بالإنسان عن الآن، الجغرافيا والفلك يبتعدان عن الهنا، أما الفلسفة في نظرتها الأنطولوجية «الوجودية» العامة فينبغي أن تستوعب كل هذا وتتجاوزه حين تغامر بوضع تصور عام للعالم أو الكون؛ فذلك هو البحث الشامل الذي تتميز به الفلسفة ولا يستطيعه سواها. وحين تصبح الفلسفة علمية تغدو هذه المغامرة مأمونة ومحسوبة، وأيضا ضرورية؛ لأن العلم في القرن العشرين طرح أمامنا عالما جديدا تماما ومفاهيم ومناهج لم تعرفها الأزمنة الأسبق، وتعد بسبل أكثر خصوبة وثراء من كل ما أتيح للأقدمين.
19
لكي تكون الفلسفة علمية وتتقي جنوحات الخيال وشاعرية الأحلام عليها الالتزام بحدود المنطق وأطره والعمل بأدواته المشحوذة؛ لهذا أكد أن كل المشاكل الفلسفية في جوهرها مشاكل منطقية. حاول أن يتجاوز المنطق الرياضي إلى ما أسماه بالمنطق الفلسفي الذي يعنى بحصر الصور المنطقية والأنواع المتعددة للقضايا وأنماط الوقائع وتصنيف مكوناتها المنطقية. والمنطق الفلسفي أكثر صعوبة من المنطق الرياضي وأهم؛ لأنه هو الذي جعل من الممكن مناقشة القضايا الفلسفية مناقشة علمية، وهذا الجزء الفلسفي من المنطق في حقيقة الأمر نظرية ميتافيزيقية يحاول رسل أن يجعلها منطقية تبدو وكأنها نتيجة لفلسفة الرياضيات،
20
ولم يصل رسل إلى تصوره للمنطق الفلسفي إلا بعد أن أشبع المنطق الرياضي دراسة وتطويرا وتطبيقا، وكل هذا في إطار نزوعه نحو أن تتمنطق الفلسفة بأسرها لكي تكون علمية. وبالتالي لم يصل إلى تصوره المنطقي الخالص الشامل للفلسفة العلمية دفعة واحدة، بل عبر مراحل متعاقبة من التطور الفلسفي، فكيف كانت هذه المراحل؟
بدأت علاقة رسل النظامية بالفلسفة فور انتهائه من دراسة الرياضيات في كمبردج عام 1893م، نفس العام الذي صدر فيه كتاب برادلي «المظهر والحقيقة» ليكون أول ما قرأه رسل، وهو أقوى تمثيل للغزوة المثالية الألمانية التي اجتاحت إنجلترا آنذاك. فوقع رسل بدوره في إسار المثالية الألمانية، ودرس الفلسفة في عامه الجامعي التالي بهذه الروح، وكان أستاذاه هما الفيلسوفان المثاليان ستوت وماكتاجارت الهيجلي الكبير. نمت صداقة بينه وبين ماكتاجارت جعلته يرتاح معه لرؤية هيجل للعالم ككل واحد ومتماسك، ينكر حقيقية المادة أو الزمان والمكان. الحق الوحيد هو المطلق ... إله هيجل، ومن قبل كان أستاذه في الرياضيات وايتهد ميالا إلى كانط. وأيضا سافر رسل مع زوجته الأولى إليس إلى ألمانيا في خريف 1895م، لدراسة الاقتصاد والاشتراكية الديمقراطية. وكان رسل يجيد الألمانية ويتحدثها بطلاقة،
21
لكل تلك العوامل غرق رسل حتى أذنيه في المثالية الألمانية بعملاقيها كانط وهيجل. وسوف نرى كيف كان رسل حتى في هذه المرحلة المثالية الباكرة، التي استمرت فيما بين عامي 1893م و1898م، مخلصا لوعده الصادق بأن تكون الفلسفة علمية، وأن فلسفة العلم هي الممارسة الفلسفية الأصيلة، لنستطيع صياغة المحصلات العلمية بواسطة المناهج الفلسفية.
تجلت المثالية في أول أعمال رسل «مقال في أسس الهندسة 1897م»، وهو بحث نال به رسل درجة الزمالة من كمبردج، بعد أن ناقشه وايتهد وجيمس وارد عام 1896م وأثنيا عليه. وفيه يطرح رسل السؤال الكانطي الشهير: كيف كان علم الهندسة ممكنا؟ وانتهى إلى أنه لا يكون ممكنا إلا إذا كان المكان واحدا فقط من التصورات الثلاثة المطروحة، مكان إقليدس المستوي أو مكان لوباتشيفسكي المقعر أو مكان ريمان المحدب. ولأن الأخيرين لا يستغنيان البتة عن مقياس ثابت للانحناء، بدت الإقليدية هي الهندسة الوحيدة الممكنة، وما كانت الكانطية تسمح بغير هذا. لم تكن نظرية النسبية لآينشتين التي جعلت هندسة ريمان هندسة تطبيقية قد ظهرت بعد لتطيح بكل هذا، فتصور رسل في حينه أنه أرسى التصور الإقليدي للعالم، وأنه حل كل المشاكل الفلسفية المتعلقة بأسس الهندسة!
وإمعانا في الانسياق مع المثالية الألمانية، انتقل رسل من هذا الأساس الكانطي إلى هيجلية ديالكتيكية «أي جدلية تنتقل من القضية إلى النقيض إلى المركب الشامل لكليهما». راح إبان العامين التاليين (1896-1898م) في انشغال عميق بتفسير ديالكتيكي «جدلي» لأسس العلوم الرياضية والفيزيائية على السواء، وخرج مقاله «في العلاقات بين العدد والكمية» ليعلن أنها علاقة انقلابات جدلية، وشرع في معالجة مماثلة لأسس الفيزياء، وانشغل بالمقابلة بين الحركة المطلقة والحركة النسبية، وبأن المادة في حقيقتها تجريد غير واقعي، وليس ثمة علم بالمادة - كالفيزياء - يمكن أن يستوفي الشروط المنطقية، وعلى هذا انتهى إلى تفسير جدلي أو منطق ديالكتيكي لأسس الفيزياء، ينتقل بين الطرفين المقابلين وهما المقولات العقلية والإحساسات، ويرتبط بالمظهر البادي أكثر من ارتباطه بالمنطق الصوري؛ ليكون منهجا لتحويل المظهر إلى حقيقة، بدلا من أن نبني الحقيقة أو الواقع أولا، ثم تواجهنا بعد ذلك ثنائية لا مخرج منها.
Bog aan la aqoon