Falsafat Cilm
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Noocyada
L. Febvre
في كتابه «مقدمة جغرافية للتاريخ» تعبيرا عن الاتجاه الذي أسسه أستاذهفيدال دو لابلاش
V. D. La Blache (1845-1918م) مؤكدا على تحالف الإنسان مع عوامل البيئة، وكان تلميذه فيفر متطرفا في تأكيده على دور الإنسان. مدرسة الإمكانات بجملتها تنطلق من أنه لا توجد في الطبيعة ضرورات أو حتميات، بل توجد إمكانات تنتظر فعالية الإنسان. ولما كانت الجغرافيا علما إنسانيا اتضح لماذا تكون اللاحتمية هي الأنسب لها. وقد بلغت اللاحتمية في الجغرافيا ذروتها بنشأة علم «الجغرافيا الإرادية»، وهي مبحث مستقبلي يقوم على معلومات تتقاطع فيها تحليلات الاجتماع والاقتصاد والسياسة لتكتمل معطيات المواجهة بين الإنسان والبيئة، وتوضع بين أيدي فريق عمل مزود بأدوات تمكنه من التنبؤ بوجوه التطور ونتائجه، ويسهم في إمداد اختيارات واسعة لمصلحة الحريات الجديدة، حرية العمل وحرية الراحة وحرية شغل أوقات الفراغ.
67
إن المنظور اللاحتمي عم فروع العلوم الإنسانية هي الأخرى، وساد مجمل عالم العلم في القرن العشرين، إيذانا بالتقدم المتسارع وأفقه المفتوح في هذا القرن المتوهج.
هكذا لم يكن الانقلاب الإبستمولوجي في القرن العشرين عميقا فحسب، بل أيضا شاملا بقدر ما كان مثمرا. على أن انهيار الأسس الإبستمولوجية التي ارتكن إليها العلم الكلاسيكي وتأكد نجاحها يوما بعد يوم، قد خلق أزمة أضنت العلماء في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين قبل أن تنحسم الأمور. هكذا عادت التساؤلات الفلسفية تلح من جديد في الأفق العلمي، وهذا بدوره بعث قوة دافقة في أعطاف فلسفة العلم، جعلتها أبرز فروع الفلسفة في القرن العشرين. قبيل نشأة فلسفة العلم ساد الاعتقاد بأن الانفصال أصبح نهائيا بين التفكير الفلسفي والتفكير العلمي، وحتى مشارف القرن العشرين نجد علماء أمثال دالتون ورذرفورد ومندليف يتصورون أن العالم عالم بقدر ما لا ينشغل البتة بأية تساؤلات فلسفية. ثم جاءت ثورة الفيزياء الكبرى لتطيح بالأسس التي كانت ثابتة، وتطرح منظورات جديدة لا تستغني عن المعالجات الفلسفية، وتجعل الإبستمولوجيا سؤالا ملحا. وشهد القرن العشرون مجددا فئة متميزة هي فئة العالم/الفيلسوف، مثل ألبرت آينشتين وإرنست ماخ وهنري بوانكاريه وفيرنر هيزنبرج وآرثر إدنجتون وموريتس شليك وجيمس جينز وآرثر هولي كومبتون ... إلخ. وفي كل حال لم تعد الإبستمولوجيا واضحة قاطعة كما كانت في العصر الكلاسيكي، بل هي كيان أكثر عمقا، ملبدا بالتساؤلات الفلسفية، فتظل الفلسفة دائما الأفق الضروري للعقل الإنساني في حركيته المتوثبة.
برزت الفيزياء كل فروع العلم في طرحها للتساؤلات الفلسفية وتأكيد الاحتياج إلى التحليلات المنطقية والميثودولوجية والإبستمولوجية؛ لأن الثورة كانت أساسا ثورة فيزيائية كما رأينا، وعلى عاتقي الكوانتم والنسبية تقع مسئولية الانقلاب الذي حدث في طبيعة التفكير العلمي ومنظور العقل العلمي ورؤاه، وأيضا التقدم المتسارع للعلم. وهذا الزحف التقدمي المظفر جعل القرن العشرين بحق عصر الفيزياء، وفضلا عن هذا تظل الفيزياء - بحكم عمومية موضوعها - ذات موقع استراتيجي في نسق العلم. كل هذه العوامل جعلت فلسفة العلم على مدار القرن العشرين مرتهنة بالفيزياء وتدور في مدارها وبين رحاها، وتستكشف دائما أبعادا أرحب وأكثر خصوبة ودفعا للتقدم في الإبستمولوجيا الجديدة.
ربما لم يعد العلم الآن - بعد أن انتهى القرن العشرون - متصورا بوصفه نسقا راسخ المعالم كما كان، وأصبحت تسود العلوم علاقات بينية وتخصصات متداخلة ومتقاطعة ومزدوجة، يصعب معها الإجماع على موقع معين بوصفه الموقع الاستراتيجي. وشهدت نهايات القرن العشرين دعاوى تزعم أن عصر الفيزياء قد انتهى، وانبثق عصر البيولوجيا بخطاه التقدمية المتسارعة وقفزاته التي تزلزل ثوابت في العلم وفي الحياة على السواء، وأن البيولوجيا أكثر تعقيدا، يمكن أن تحتوي الفيزياء داخلها باعتبار الفيزياء حالة خاصة أبسط، فيرتد البسيط إلى المعقد في مقابل إبستمولوجيا العلم الكلاسيكي التي ترد المعقد إلى البسيط. ولكن سواء أصبحنا في عصر البيولوجيا أو عصر الهندسة الوراثية أو عصر الحاسب الآلي «الكومبيوتر» والمعلوماتية أو عصر الاتصالات ... فإن هذه المنجزات وسواها إنما هي من الثمار اليانعة والقطوف الدانية لثورة الفيزياء الكبرى، ولولا تملك ناصية الإلكترون بفضل الكوانتم لما تطورت فيزياء الموصلات التي حولت ماكينة تورينج النظرية البحتة إلى هذا العملاق المائل: الكومبيوتر، ولولاه لما استطاع العقل البشري أن يتعامل مع عشرات الآلاف من المورثات وأن يشيد عصر الهندسة الوراثية ومشروع الجينوم البشري. بصفة عامة «تقف أشباه الموصلات وراء تكنولوجيا القرن العشرين في تصنيع الإلكترونيات الدقيقة والدوائر المتكاملة التي تحتوي على عدد كبير من الترانزستورات والثنائيات الكهربية والمكثفات والملفات وسواها، مما ساهم في تطوير الصناعات الإلكترونية المسموعة والمرئية والأقمار الصناعية».
68
هكذا تقف ثورة الفيزياء الكبرى وراء تطورات العلم والتقانة «التكنولوجيا» والحضارة الإنسانية على مشارف القرن الحادي والعشرين، وبالتالي - ومن باب أولى - وراء تطورات فلسفة العلم المتوقعة فيه، فإذا شهدت فلسفة العلم منحى مغايرا يعني علاقة أوهى بالفيزياء واتخاذ محاور سواها، فلن يعدو هذا أن يكون امتدادا للازدهار والتوقد الذي بثته ثورة الفيزياء في فلسفة العلم على مدار القرن العشرين.
Bog aan la aqoon