كانت الفلسفة قديما تطلق على كل المعارف البشرية؛ من بحث عن الطبيعة في العالم وأصله ونشأته، ومن فلك وطب وهندسة وإلهيات وغيرها، أيام كان العقل كالطفل الغرير يتلمس المعارف تلمسا ولا تنهال عليه انهيالا كما في العصور الحديثة، وكان في مقدوره أن يقوم بها كلها لقلتها وعدم تفرعها كثيرا في ذلك الزمن القديم.
وإذا رجعنا الآن إلى تاريخ الفلسفة نفسها، لا إلى تاريخ اللفظ الدال عليها فحسب، وجدنا أن مسألة المعرفة ومسألة السلوك الإنساني كانتا أهم ما شغل به الفلاسفة أنفسهم، وبعبارة أخرى: كانت هاتان المسألتان على ما يظهر هما العناصر الأساسية للبحث الفلسفي.
نعم، إنه من الحق أن وجدان المرء نفسه وسط هذا العالم الخضم، واضطرابه في أرجائه ووقوع نظره على ما يتألف منه من عناصر وما يكتنفه ويقع تحت حسه من ظواهر؛ من خسوف وكسوف، ورعد ومطر، وليل ونهار يتعاقبان، وبرد وحر يتناوبان، ونحو ذلك من الظواهر الكونية المختلفة، كل ذلك أيقظ ذكاءه ودفعه بإلحاح إلى التفكير عساه يفهم الكون الذي يعيش فيه، والظواهر التي لا تفتأ تتوالى أمام سمعه وبصره، ولا غرو فالمرء مفطور على حب المعرفة والسعي لها، يتجلى هذا في الطفل حينما يسأل باستمرار لماذا، وكيف؛ إرضاء لغريزة حب الاستطلاع الطبعية فيه. ومن أجل ذلك يعلمنا التاريخ أن الرغبة في المعرفة رغبة أساسية لدى الناس جميعا في كل الأزمان والبيئات، ليس هناك أي شعب مهما كانت درجة تأخره وانحطاطه لم يظهر فيه هذا الميل الغريزي والحاجة الطبعية للمعرفة ، مما يجيز لنا بحق أن نعتبرها عريقة في القدم عراقة الإنسانية نفسها.
وبعد فترة من الزمن، علم مقدارها عند الله وحده، أشرب المرء حب التفكير والنظر شوقا للمعرفة الخالصة التي لا تدفع إليها حاجة ملحة، وأدخل ضمن دائرة بحثه وضع شيء من النظام والمنطقية في أعماله وسلوكه. بهذا وذاك أصبحت عناصر الفلسفة - كما قلنا - اثنين: أحدهما نظري عقلي يتعلق بالمعرفة، والآخر عملي أخلاقي يتعلق بالعمل، هذا ما يرينا إياه تماما تاريخ التفكير الإغريقي في العصور القديمة، الذي هو مرجع الفلسفة الغربية.
وعدت العوادي على الفلسفة على يد السوفسطائيين؛ إذ نزلوا بها عن مكانتها وجعلوها وسيلة للارتزاق، حتى جاء سقراط فنجاها مما آل إليه أمرها على يد هؤلاء الذين وجهوا همهم وعلمهم وتفكيرهم لجني أكبر ما يمكن جنيه من الفوائد الذاتية، وصاروا يعلمون الناس طرق النجاح في الحياة غير مقيدين في ذلك بمصالح الآخرين، ولا بشيء من العادات والتقاليد التي كانت معروفة حينذاك، كما أنزلها كما يقول شيشرون: «من السماء للأرض»، أي أنه وجه نظر الفلاسفة إلى التفكير في الإنسان وأعماله من ناحية وضع قواعد تتجه به نحو الفضيلة، بدل أن كانوا يتجهون دائما في أبحاثهم وتفكيرهم نحو العالم وأصله ومنشئه وتفسير ظواهر الكون المختلفة، وبذلك يعتبر المؤسس لعلم الأخلاق على أسس عقلية سليمة مستقيمة. (3) إطلاقها حديثا
هكذا كان الحال في الأزمان القديمة؛ يراد من الفلسفة المعرفة العامة، المعرفة التي كما يقول «شيشرون»: «تضم الأشياء الإلهية والإنسانية، كما تشمل المبادئ والعلل لكل حادث خاص.»
ظلت الحالة كذلك زمنا طويلا، حتى تقدم العقل البشري وكثرت العلوم وتنوعت البحوث، فأخذت الفروع العلمية تنفصل شيئا فشيئا عن الأم الأولى وهي الفلسفة، وأصبحت معارف وعلوما مستقلة عنها، وبذلك حصل التخصص بين العلم والفلسفة.
صارت العلوم مختصة بالبحوث المادية، فكان منها ما يبحث في جسم الإنسان وأعضائه ووظائفها، وهذان هما علما التشريح ووظائف الأعضاء، وما يبحث في الأمراض التي تنتاب الإنسان وطرق الوقاية منها وعلاجها، وذلك علم الصحة وفن الطب، وما يبحث في أحوال الشعوب وماضيها وحاضرها، وهذا علم التاريخ، وما يبحث في وصف البلدان: جوها وسكانها وغلاتها، وهو علم الجغرافيا، وما يبحث في حركة الأرض والأجرام السماوية وأبعادها وسائر أحوالها المادية، وذلك علم الفلك ... إلى آخر العلوم الأخرى التي لا تكاد تتجاوز الجانب المادي من الناحية التي تبحث فيها.
بقي بعد هذا كله الصلات العامة التي تربط العلوم بعضها ببعض، والنواحي غير المادية من الكون والإنسان، والله وما يتصل به؛ للفلسفة.
بقي للفلسفة البحث في مبدأ الكون والنواميس التي يسير عليها والغاية التي ينتهي إليها، والبحث في العلة الأولى أو الموجود الأول، والجواهر الروحانية وهي الملائكة وما يتعلق بها، والوحي والبعث والحياة الآخرة وكيف تكون، وماهية الروح وأصلها وغايتها وكيفية تأثيرها في الجسم وهي من جوهر مغاير له، والبحث في الإنسان من الناحية المعنوية، أي محاولة تعرف العقل وطبيعته وقواه وآثارها ومظاهرها، وكيف يصل إلى ما ينبغي أن يبلغه من كمال، وبعبارة أخرى: بقي للفلسفة هذه النواحي من البحوث وأمثالها التي لا تتناولها العلوم على اختلافها. (4) تقسيم الفلسفة
Bog aan la aqoon