ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون ! فحينما يعلن العلماء أن الحقائق العلمية تنتج اتفاق جميع العقول، يكون الغرض إما أنها تؤدي لاتفاق جميع العقول الموهوبة القادرة على الحكم الصحيح، أو الأمل في أنها تؤدي حقا ذات يوم لاتفاق جميع العقول بلا استثناء، إذن يكون من الممكن أن نأمل هذا للحقائق الأخلاقية السابق ذكرها هي وأمثالها، فنقول: هناك حقائق أخلاقية تفرض نفسها على الضمائر السليمة، وأنها من الآن مقبولة من كل من وهب القدرة على الحكم الصائب، كما أنها ستكون يوما ما مقبولة من الجميع عندما يرزق المرء رحابة الصدر والنظرة الواسعة التي تنتظم العالم بأسره، وتعتبر الناس إخوة متساوين فيما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات.
هذا الرجاء الذي يجب أن نقنع به الآن، نجد لحسن حظ الإنسانية أنها تقترب منه شيئا فشيئا لعوامل عديدة؛ هناك قوى هامة مختلفة تعمل في الإنسانية الحالية للتقريب بين الضمائر وجمعها على مبادئ واحدة من الناحية الأخلاقية كما من الناحية العلمية، من ذلك انتشار العلم في كل البقاع، وسهولة اتصال الناس في كافة أرجاء الأرض، وسرعة ذلك الاتصال وتزايده يوما فيوما، لا فرق في ذلك بين السود والبيض وغيرهما من الأجناس المختلفة، هذا الاتصال المستمر، الذي طابعه الحدة والعنف بل الوحشية في بعض الأحيان كما في حالات الاستعمار، أنتج كثيرا من المظالم والآلام، ولكنه كان من نتيجته أيضا تعارف الأمم وتفاهم الشعوب والقضاء على التقاليد والعادات الأخلاقية الضيقة الخاصة، وتبادل المبادئ الأخلاقية واختيار أنفعها، وسيؤدي استمراره إلى إتاحة الفرصة إلى أن يوسع الناس جميعا مداركهم ويسموا بتربيتهم حتى يتخطوا بذلك الحواجز الطبيعية من محيطات وبحار وأنهار وجبال، ويصلوا إلى أبعد الآفاق، وحينئذ يجمعون في عقولهم وقلوبهم كل ما أمكن لشعوب العالم قاطبة كشفه أو خلقه من حقيقة وجمال، ويذكرون في ضمائرهم كل ما يوجد في الحياة العامة من عقل وحكمة ومبادئ أخلاقية نبيلة.
والآن، وقد ثبت أن هناك حقائق أخلاقية عامة، نرى الضمير المستقيم مجبرا على قبولها، ونرى أن من الواجب أن يقبلها الجميع يوما من الأيام قريبا كان ذلك أو بعيدا، الآن لنا من غير إسراف أن نقدر أن الأخلاق علم من العلوم، وأن نعتبره عملا من أعمال العقل كسائر العلوم الأخرى، لا وليد التقاليد أيا كان مصدرها، الأخلاق عمل من أعمال العقل الذي يبحث بكل ما يملك من قوى مختلفة للوصول لحقائق أخلاقية صالحة للجميع، وإذن فلننظر مكان هذا العلم من الفلسفة.
المبحث الثالث
مكانة الأخلاق من الفلسفة
لا بد لهذا البحث من أن نقدم له بكلمة قصيرة عن معنى الفلسفة وإطلاقها قديما وحديثا، نخلص بعدها إلى مكان الأخلاق منها ونسبتها إليها، فقد قال بحق الفيلسوف الهولندي: هارالد هوفدنج
Harald Hoffding (1843-1931): «بما أننا نتعلم أن نعرف المرء من تاريخ حياته، يكون إذن من الواجب إذا أردنا أن نعرف أي علم الرجوع إلى تاريخه، وطبيعي أن نسير في هذا الطريق في الفلسفة أيضا.»
1 (1) أصل كلمة «فلسفة»
إذا رجعنا لأصل هذه الكلمة من ناحية الاشتقاق وجدنا أنها تتركب من لفظين معناهما «محبة الحكمة»، وهي كلمة إغريقية اقتبسها العرب واشتقوا منها فعلا فقالوا: «تفلسف، يتفلسف»، أيام إقبالهم على ترجمة ما وصلت إليه قرائح الأمم، التي لها في عالم العلم والعرفان تاريخ معروف، من معارف وعلوم وفنون، وها هو ذا نص عبارة المعلم الثاني أبو النصر الفارابي
2
Bog aan la aqoon