Falsafa Siyasiyya
ركائز في فلسفة السياسة
Noocyada
تلك هي الهندسة الاجتماعية القريبة حقا من روح المنهج العلمي بل أيضا من روح التقانة (التكنولوجيا)، حتى يمكن القول إنها الأسس العلمية للسياسة؛ فهي تتوقف على السياسة الواقعية الضرورية لتشييد أو تعديل أو تبديل المؤسسات الاجتماعية وفقا لأهدافنا، سوف تخبرنا بأي الخطوات هي التي يجب اتخاذها فعلا إذا رغبنا مثلا في تفادي الكساد لمؤسسة ما، أو عدالة توزيع الربح الناتج عن مؤسسة أخرى.
المهندس الاجتماعي هنا يتصور شيئا ما يشبه التكنولوجيا الاجتماعية من قبيل تصميم النظم والمؤسسات الاجتماعية الجديدة، وتشغيل وإعادة تركيب ما هو موجود فعلا. النظم الاجتماعية هنا تستعمل بمعنى واسع، فتشمل الهيئات الاجتماعية العامة والخاصة، أي عمل تجاري كبير أو صغير، شركات التأمين والمصارف، الشرطة، مؤسسات الخدمات التعليمية والصحية، الهيئات الدينية والقضائية والإعلامية ... إلخ، كلها تتناولها الهندسة الاجتماعية الجزئية بوصفها وسائل علينا أن نجعلها تحقق أهدافا معينة، ونحكم على كل منها على حدة تبعا لملاءمتها وقدرتها على تحقيق الهدف منها.
طرح بوبر تصوره للهندسة الاجتماعية الجزئية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، في محتدم الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية، فبدت كأسلوب ترقيع جزئي متواضع، عزف عنه المتحمسون من كلا الجانبين، التواقون للإصلاح والكمال ككل لا يقبل تجزئة؛ والآن اتضح أن طريقهم أكثر التواء وأبعد منالا، إن لم نقل مستحيل المنال. •••
كما ذكرنا، شهدت بدايات القرن العشرين انتهاء الرأسمالية المطلقة، رأسمالية «دعه يعمل، دعه يمر، إن العالم يسير من تلقاء نفسه» بلا أي توجيه أو تدخل من الدولة، إنها الرأسمالية التي كانت سائدة في عصر الثورة الصناعية وحاربتها الاشتراكيات الصاعدة آنذاك، وتنبأ ماركس بأفولها، وهذه هي نبوءته الوحيدة التي تحققت وإن لم تحل محلها الشيوعية كما زعم. على أية حال كان اختفاء تلك الرأسمالية المتطرفة أو تكييفها أو تعديلها تقدما إيجابيا بلا شك، وبوبر نفسه يعلن ارتياحه لانتهاء مثل هذه الرأسمالية.
ومثلما شهدت بدايات القرن العشرين انتهاءها، شهد العقد الأخير منه نهاية الاشتراكيات المتطرفة وانهيار الأنظمة الشمولية المغلقة باسم الاشتراكية في شرق أوروبا. لقد ثبت فشل التطرف من كلا الاتجاهين، اليمين واليسار على السواء؛ وتتقدم الهندسة الاجتماعية الجزئية حين تقنينها وصياغتها وتوجيهها وفق أهداف ومثل عليا، وتبدو حلا في متناول كل الأطراف، يصعب أن يستأثر بها أحد الطرفين، إنها فكرة عالجها فيلسوف ليبرالي اقترن اسمه بتطوير ليبرالية النصف الثاني من القرن العشرين في اتجاه خطوط الاشتراكية الديمقراطية التي ما فتئ بوبر يثني عليها.
لهذا نجد الهندسة الاجتماعية الجزئية التي عالجها فيلسوف ليبرالي قد أتت في جوهرها أقرب إلى الاشتراكية الديمقراطية، بل والاشتراكية الفابية التي عرفت كيف تزرع القيم الاشتراكية في صلب الحضارة الإنجليزية، معقل الرأسمالية، حيث ينازع حزب العمال حزب المحافظين ويتغلب عليه كثيرا ويمسك بزمام الحكم.
وفي هذا نلاحظ أن زعماء كلا الحزبين الأكبرين في بريطانيا يقرون بأنهم متأثرون ببوبر الذي هو أشهر وأهم فلاسفة إنجلترا المعاصرين، وبفلسفته السياسية والاجتماعية التي يرونها أول تطوير حقيقي وتغيير لمسار الليبرالية منذ وفاة جون ستيوارت مل، أيضا في إنجلترا العام 1873م.
إنهم الآن يتحدثون كثيرا عن الطريق الثالث، بعد ما رأيناه من أفول التطرف الرأسمالي اليميني والتطرف الاشتراكي اليساري على السواء، وظهر مصطلح الطريق الثالث وكاد يفرض نفسه حتى ظهور مصطلح العولمة كغول ينذر بابتلاع كل ما عداه، وذي صخب عال يطغى على كل ما سواه؛ ودون أن ندور في متاهات العولمة، نكتفي بإيجابيات التفكير العلمي وقد تمثلت في الهندسة الاجتماعية الجزئية، كآلية فعالة في صلب الطريق الثالث، الذي يبدو طريقا مربحا لكلا الجانبين.
ثانيا: الاستعمارية وما بعد الاستعمارية
الاستعمارية
Bog aan la aqoon