Falsafada Qaaradeed: Hordhac Kooban
الفلسفة القارية: مقدمة قصيرة جدا
Noocyada
يجب ألا يتصور للحظة أن آراء كارناب وحلقة فيينا تمتعت بقبول عالمي بين الفلاسفة التحليليين؛ فالأمر بعيد عن ذلك كل البعد ؛ ففي مناقشة حول المزايا النسبية للوضعية المنطقية مع بريان ماجي في عام 1982، قال آير متهكما: «حسنا، أعتقد أن العيب الأكثر أهمية كان أن جميعها تقريبا كان خاطئا.» وفيما يلي ذكر ثلاث نقاط إشكالية في هذا الصدد على نحو وجيز: (1)
معيار كارناب لتمييز العلم عن الميتافيزيقا هو نظريته التي ترى أن المعنى يقوم على مبدأ القابلية للتحقق. يشير كارل بوبر على نحو مقنع إلى أن فكرة المعنى تلك معيار محدود للغاية بحيث لا يستطيع عمل هذا التمييز؛ لأن العديد من النظريات العلمية يتسم بطابع تأملي على نحو كبير، وكدليل على ذلك قدم مثالا بنظرية أينشتاين؛ فنظرية النسبية هي تخمين تأملي ببساطة لا يمكن اختزاله إلى مجموعة من عبارات الملاحظة التجريبية. في الواقع، يمكن قول الأمر نفسه أيضا عن الديناميكيات النيوتونية، والتي قبلت كنظرية ليس لأنها كان يمكن التحقق منها تجريبيا، ولكن لأنها كانت الفرضية ذات القوة التفسيرية العظمى. وإذا تأكدت نظريات نيوتن أو أينشتاين في وقت لاحق عن طريق الملاحظة، فذلك أفضل بكثير. وإن لم تؤكد، فسيكون قد تم دحضها؛ فصدق التخمين يعتمد على قدرته على الصمود أمام التفنيد. وهكذا، فإن معيار بوبر لتمييز العلم عن الميتافيزيقا هو القدرة على الدحض. إذا كانت النظرية قابلة للدحض، فإنها نظرية علمية، وإذا لم تكن قابلة للدحض، فإنها نظرية ميتافيزيقية. (2)
ثمة مجموعة ثانية من المشاكل تظهر حيال مبدأ التحقق؛ بداية، في مواجهة الهجوم النقدي، اختزل كارناب وجهة نظره من التحقق التجريبي الكامل إلى «مبدأ القابلية للتأكيد». في وجهة النظر تلك، تكون الجمل والكلمات ذات معنى إذا كانت «مبدئيا» قابلة للتأكيد من خلال ملاحظة «ممكنة». لا يزال هذا معيارا تجريبيا للمعنى، على الرغم من أنه أقل تشددا من النسخة السابقة. ومع ذلك، فإن المشكلة الحقيقية هنا هي حالة مبدأ القابلية للتحقق نفسه: إذا كان يجب التحقق من كافة المسائل من خلال مبدأ القابلية للتحقق، فكيف إذن نتحقق من هذا المبدأ نفسه؟ بمعنى، ماذا يعني التحقق من القابلية للتحقق؟ تذكر أنه وفقا لمبدأ القابلية للتحقق ، تكون الكلمات والجمل ذات معنى فقط إذا كانت قابلة للاختزال إلى كلمات أو جمل طوطولوجية، أو يمكن ملاحظتها تجريبيا. ومبدأ القابلية للتحقق لا يمكن أن يكون عبارة تجريبية؛ لأنه هو الذي يكسب مثل هذه العبارات معنى: فلا يمكن ملاحظة المبدأ نفسه. مع ذلك، لا يمكن أيضا أن يكون طوطولوجيا؛ لأنه على الرغم من عدم كونه حقيقة في حد ذاته، فإنه يتعلق بالحقائق لأنه هو المعيار الذي يحكم بموجبه عليها. ولا يمكن أن تكون للعبارات الطوطولوجية المنطقية بطبيعتها علاقة بالحقائق؛ ومن ثم إذا لم يكن عبارة طوطولوجية ولا حقيقة، فكيف يمكن للمرء إذن أن يتحقق منه؟ الخيار الوحيد هو أنه يجب أن يكون بطريقة أو بأخرى ذاتي التحقق؛ مما يعني أنه يجب أن يكون قادرا على تقديم عبارات حول نفسه وتقديم حجته الخاصة. يبدأ كل هذا في أن يبدو إلى حد ما شبيها بالميتافيزيقا القديمة التي أراد كارناب وحلقة فيينا تجاوزها. يمكن صياغة المشكلة على نحو أكثر تبسيطا؛ مبدأ القابلية للتحقق هو نسخة حديثة من مبدأ شفرة أوكام، الذي يزيل الكيانات الميتافيزيقية الزائدة من عالم الحقائق التجريبية. والسؤال هو: كيف يمكن لهذه الشفرة إزالة نفسها؟ إذا لم تكن هذه الشفرة قادرة على إزالة نفسها، فلا يمكننا بالأحرى التحقق من القابلية للتحقق. إن مبدأ التحقق هو تناقض ذاتي أدائي. (3)
ولكن كانت الاعتراضات الأكثر شراسة على كارناب هي التي قدمها تلميذه كواين في بحثه الشهير بعنوان «عقيدتا التجريبية» (1951). تتمثل عقيدة التجريبية الأولى في إمكانية التمييز بين العبارات الطوطولوجية المنطقية وعبارات الملاحظة التجريبية؛ ما يعرف تقنيا باسم التمييز التحليلي الاصطناعي. والعقيدة الثانية هي ما يسميه كواين «الاختزال الراديكالي»؛ أي إن كل عبارة تجريبية يمكن اختزالها إلى عبارة عن الحقائق أو المعلوم. يدعي كواين أن العقيدة الثانية لا يمكن إثباتها، وإذا كانت هذه هي الحال، فإن العقيدة الأولى تسقط أيضا؛ ومن ثم، تنهار صورة كارناب حول المعنى بأكملها. وبكلمات ويلفيرد سيلرز، انخدع كارناب وحلقة فيينا ب «أسطورة المعلوم»؛ بفكرة أن الكلمات والجمل لها علاقة مباشرة بواقع موجود في اللحظة الراهنة. يقدم كواين صورة بديلة عن علاقة المعتقدات بالتجربة، مشبها مجموع معرفتنا «بنسيج من صنع الإنسان يمس التجربة فقط عند الحواف». ونتيجة هذا الرأي هي صورة أكثر شمولية بكثير للعلاقة بين المعتقدات والتجربة، أو المفهوم والحدس، والتي وصفها كواين بأنها «البراجماتية الشاملة». وعلى الرغم من مضي كواين في أعماله اللاحقة بوصف وجهات نظره الأولى بمصطلحات طبيعية أقوى بكثير، فإنه من خلال هذا النقد البراجماتي للتجريبية صنع ريتشارد رورتي صلات رائعة بالتقليد الفلسفي القاري. (6) فيتجنشتاين يعتقد أنه يعرف ما يعنيه هايدجر
كما رأينا، فإن جانبا كبيرا من هذا الجدل ينصب على مسألة الميتافيزيقا، مع اتهام كارناب لهايدجر بأنه ميتافيزيقي، وتلميح هايدجر إلى أن تصور كارناب العلمي للعالم يستلزم وجود ميتافيزيقيا غير مفحوصة؛ ومن ثم، يتهم كل منهما الآخر بالخطأ الميتافيزيقي نفسه. وليس هذا الأسلوب السيئ الواضح شيئا جديدا في تاريخ الفلسفة. ولكن كوسيلة لتوفيق هذين الموقفين المتعارضين، اسمح لي أن أنتقل إلى مقتطف صغير كتبه فيتجنشتاين أيضا في عام 1929؛ حيث يقول ردا على محاضرة هايدجر:
أستطيع بلا ريب أن أعرف بسهولة ما يعنيه هايدجر بالكينونة والقلق؛ فالرجل يشعر بالحاجة للتعامل مع حدود اللغة. فكر، على سبيل المثال، في الدهشة الناجمة عن عدم وجود أي شيء على الإطلاق. لا يمكن التعبير عن هذه الدهشة في شكل سؤال، ولا يوجد جواب على الإطلاق؛ فبديهي أن أي شيء قد نقوله لا بد أن يكون مجرد هراء، ومع ذلك فإننا نحاول التعامل مع حدود اللغة.
لعل من المفيد هنا أن ننظر لفيتجنشتاين كطرف ثالث وسيط في النزاع بين هايدجر وكارناب. وعلى الرغم من أن برنامج حلقة فيينا للتحليل المنطقي استلهم إلى حد كبير من كتاب فيتجنشتاين «رسالة منطقية فلسفية»، فإن العلاقات بين فيتجنشتاين وحلقة فيينا لم تكن قط على ما يرام، وقطع فيتجنشتاين فجأة ولسبب غير مفهوم علاقته بكارناب في عام 1929. وكذلك بعد عودة فيتجنشتاين للفلسفة في أواخر عشرينيات القرن العشرين، خضعت وجهات نظره لتغيير سريع نأى به على نحو متزايد عن حلقة فيينا. واستباقا لكواين، رأى فيتجنشتاين أن آراءه في كتاب «رسالة منطقية فلسفية» دوجماتية. ومن ثم، إذا اعتبرنا أن فيتجنشتاين الشاب كان مأخوذا بصورة للغة تختزل إلى منطق تمكن المرء من قول ما يمكن أن يقال بينما يتجاهل باقي الأمور في صمت، فإن فيتجنشتاين الأكبر سنا سعى للهروب من هذه الصورة من خلال تحليل استخدام اللغة العادية. وكما يقول في كتاب «تحقيقات فلسفية»: «لا تبحث عن المعنى، ابحث عن الاستخدام.» هذا يعني أن الاهتمام الفلسفي الرئيسي يصبح فهم اللغة في استخدامها البراجماتي اليومي. نحن لسنا بحاجة لابتكار لغة جديدة لأن اللغة التي لدينا كافية تماما.
اعتاد فيتجنشتاين رواية حكاية من حواراته مع جي إي مور في كامبريدج؛ حيث تركز حوارهما حول المشكلة التالية: هل يجب أن نفهم التحليل المنطقي لكي نفهم ما نعنيه بعبارات اللغة العادية؟ رد فيتجنشتاين على مور بهذه الكلمات: «يا لها من فكرة جهنمية!» بهذا المعنى، مع وضع فلسفة هايدجر في الاعتبار، ربما نرى فيتجنشتاين الأكبر سنا يسعى إلى الانتقال بعيدا عن اللغة الفوقية الشكلية ونحو تجربة اللغة ذاتها. لذلك، إذا كانت محاولة كارناب لتجاوز الميتافيزيقا تستند إلى وجهات نظر فيتجنشتاين الشاب، فإن فيتجنشتاين الأكبر سنا يمثل ما يمكن تسميته ب «تجاوز التجاوز»؛ حيث نضع جانبا عقائد التحليل المنطقي ونعود إلى اللغة العادية والحياة الاجتماعية البشرية، المعبر عنها بتلك اللغة بكل استخداماتها اليومية الغنية على الرغم من فوضويتها.
شكل 6-3: جاك كالو (1592-1635)، لوحة «عملاقان».
ومع ذلك، لا ينبغي لنا أن نتصور أن فيتجنشتاين كان بنحو ما من معتنقي فكر هايدجر السعداء؛ فهذا أمر بعيد كل البعد عن الحقيقة. من الواضح أن تعليقه ينطوي على نقد كبير لهايدجر؛ ففيتجنشتاين يعتقد أنه يعرف ما يعنيه هايدجر بالكينونة والقلق، ولكن يشير ضمنا إلى أن مثل هذه الأمور لا يمكن أن تقال دون الوقوع في الهراء. ما يحاول هايدجر القيام به في محاضرة 1929 من وجهة نظر فيتجنشتاين، هو قول ما لا يمكن قوله عن طريق محاولة التعامل مع حدود اللغة. وبالنسبة إلى فيتجنشتاين، يعد الهراء الآن عملا جادا ويشهد لرغبات عميقة لدى البشر، وهو ما قد يصفه بأنه أمر أخلاقي. ولكن على الرغم من ذلك ما يقوله هايدجر هراء، وهو ما يمثل رأي كارناب على الرغم من كل شيء. تعد محاضرة «ما هي الميتافيزيقا؟» مثالا كلاسيكيا لسوء استخدام اللغة؛ لذلك، فإن حقيقة أن فيتجنشتاين يعرف ماذا يعني هايدجر بالكينونة والقلق لا تعني بالضرورة أن هذين المصطلحين يعنيان ما يعتقد هايدجر أنهما يعنيانه.
Bog aan la aqoon