وكانت الطريقة المثلى للانتفاع بهذا «الديوان» أن يعنى العلماء بجمع ما صح عندهم من الشعر الجاهلي، مع نقد السند والمتن، وإبعاد ما لم يصح، كما فعل المحدثون في الحديث، فليس لدينا مجموعة من الشعر الجاهلي ذكر سندها، وعني ببيان رجالها عناية تامة، كالذي عندنا من صحيح البخاري ومسلم وغيرهما، وكان يجب أن يعنى بالشعر الجاهلي هذه العناية متى عددناه «ديوانا» نسجل فيه الحوادث والعادات ونظرنا إليه كأنه وثائق تاريخية، ولكن يظهر أن هذا النظر إلى الشعر الجاهلي لم يكن سائدا عند الرواة والأدباء، إنما كان السائد عندهم أو عند أكثرهم النظر إليه كمادة لتعليم اللغة، أو كأنه طرفة وملهى ومادة لحسن المحاضرة؛ فلم يكن يعنى به هذه العناية التي بذلت في الحديث، ولم ير من يتعمد الكذب فيه أن يتبوأ مقعده من النار.
نعم، إن بعض الأدباء سار في الأدب سيره في الحديث، فكان يروي الخبر معنعنا، ووضع بعضهم مصطلحات لرواية الأدب على نمط مصطلح الحديث، ولكن يظهر لنا أنها كلها محاولات أولية لم تنضج، ولم يسيروا فيها إلى النهاية.
كذلك أكثر ما روي لنا قد عني فيه بالمختارات أكبر عناية، وهم في هذا ينظرون نظرة الأديب لا نظرة المؤرخ، فالقصيدة التي لم يحكم نسجها، ولم تهذب ألفاظها ولم يصح وزنها، قد يعجب بها المؤرخ أكثر من إعجابه بالقصيدة الكاملة من جميع نواحيها، ويرى فيها دلالة على الحياة العقلية أكثر من قصيدة راقية، ولعل هذا هو السبب في أنا مع اعتقادنا أن الشعر كان خاضعا للنشوء والارتقاء، قل أن نرى فيما يروى لنا منه المحاولات الأولية التي بدأ بها الشعراء شعرهم، ثم تدرجوا منها إلى ما وصل إلينا من الرقي، ذلك أن الأديب لم يكن يروقه ذلك فيهمله، أو يستضعف وزنه فيصلحه، وبذلك يضيع كثير من معالم التاريخ. •••
لو كان عندنا هذه المجموعة التي لا يقصد فيها إلى الاختيار، ولكن يقصد فيها إلى الصحة، لكان لنا مادة صادقة للدلالة على أشياء كثيرة، منها الحياة العقلية.
ومع هذا فما لدينا يمثل بعض الشيء - وإن لم يكن وافيا كما ذكرنا من قبل - وأشهر المجموعات التي لدينا مما نسب إلى الجاهليين - عدا دواوين الشعراء - هي: (1)
المعلقات السبع، ويغلب على الظن أن جامعها حماد الراوية. (2)
المفضليات، وجامعها المفضل الضبي، وتشتمل على نحو 128 قصيدة. (3)
ديوان الحماسة لأبي تمام، وفيه مقطعات كثيرة صغيرة من الشعر الجاهلي. (4)
ومثله حماسة البحتري. (5)
وفي كتاب الأغاني، والشعر والشعراء لابن قتيبة أشعار ومقطعات كثيرة للجاهليين. (6)
Bog aan la aqoon