ففي القرن الثلاثين ق.م مثلا حول الملك «سنفرو» نفسه إلى أحد أشراف رجاله مائة رغيف يوميا من أوقاف المعبد الجنازي الخاص بأم أولاد الملك المسماة «نيما عتحب»، وكانت هذه الملكة قد توفيت في ختام الأسرة الثانية؛ أي قبل العهد الذي عاش فيه «سنفرو» المذكور بنحو جيلين. وبذلك نرى أن الملك «سنفرو» نفسه، إن لم يكن قد اغتصب دخل تلك الملكة الجنازي، فإنه قد تصرف فيه بمكافأة أحد رجاله من دخل ذلك الوقف، بعد أن أدى الدخل المهمة التي خصص من أجلها نحو قبر تلك الملكة.
وكذلك نجد بنفس تلك الطريقة أن الملك «سحورع» عندما أراد أن يكافئ «برسن» (أحد رجال الأشراف المقربين إليه)، حول إليه دخلا من الخبز والزيوت التي كانت فيما سبق تصرف كل يوم للملكة «نفرحتبس»، وقد اضطر الملك إلى اتخاذ ذلك الإجراء لعدم وجود أي مورد آخر تحت تصرفه.
ومن تلك الإجراءات السالفة الذكر يتضح لنا أن القرابين الجنازية لم تمح من الوجود، بل كانت مستمرة سارية الاستعمال بعد وقفها قربة لأي قبر كان. غير أننا نجد فيما فعله كل من الملك «سنفرو» والملك «سحورع» تلميحا للطريقة الوحيدة الممكنة الحصول للتخلص من تلك الالتزامات المورطة التي نشأت من تضاعف عدد المقررات الموقوفة على القبور، وذلك بتحويل القرابين التي كانت ملتزمة فيما مضى لقبور عتيقة تقادمت عليها العهود إلى قبور أخرى جديدة حديثة العهد ، وحتى مع اتباع تلك الطريقة فإن عدد القبور الملكية الذي كان آخذا في الازدياد جعل استعمالها باطراد أمرا صعبا، بل كان مجرد الإشراف على تلك القبور ومباشرة إدارتها بقصد المحافظة عليها أمرا صعبا أيضا، ومن ثم وجد كهنة الملك «سحورع» في ختام القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد عندما أصبحوا غير قادرين على المحافظة على معبد هرم الملك، أن الأفضل والأكثر اقتصادا أن يقيموا جدرانا على مداخل المعبد الجانبية، ويتركوا للدخول بابا واحدا هو الذي في طرف الطريق المؤدي للمعبد، والظاهر أن ذلك كان في اعتقادهم عملا صالحا؛ لأنهم دونوا أسماء طائفة الكهنة الذين قاموا بهذا العمل على جدران الأبواب التي سدوها بهذه الطريقة، ثم عثر بعد ذلك على صورة للإلهة «سخمت» رسمت في المعبد فقدست عرضا؛ إذ كانت تلك الإلهة موضع احترام وعبادة من أهالي القرى المحيطة بالمعبد، وقد بقيت تلك القرى تقوم باحترام تلك الإلهة وعبادتها عدة قرون، فكان ذلك سببا في صيانة جزء كبير من المعبد كان لا بد من مصيره إلى الخراب والدمار منذ زمن طويل لولا حرمة تلك الإلهة. وقد كان حظ الملك «نفر أركا رع» خلف «سحورع» أسوأ من ذلك؛ إذ هدم أحد خلفائه «نوسررع» بعد وفاته ببضع سنين، الطريق المؤدية إلى المعبد الجنازي حتى يتمكن من تحويلها إلى طريق لمعبده القريب من تلك الجهة. وقد نتج من ذلك أن كهنة «نفر أركا رع» لما صاروا غير قادرين على الإقامة في أسفل الوادي هاجروا إلى الهضبة، وأقاموا مساكنهم المبنية من اللبن حول ذلك المعبد تارة أو ملاصقة لواجهته تارة أخرى، وكانوا لا يزالوا يقومون بتأدية وظائفهم بالمعبد، ولما كانت مواردهم آخذة في النقصان والتقلص فقد كانت مساكنهم المذكورة تتحول تبعا لذلك إلى أكواخ حتى انتهى أمرها بالزحف إلى ردهة المعبد وحجراته. ولما صار الكهنة إذ ذاك في حالة فقر باد فقد استولوا على جميع المعبد وجعلوه حيا لهم، ولما صاروا في نهاية الأمر ولا عائل لهم هجروا أكواخهم المتداعية نهائيا، فاختلطت أنقاضها بأنقاض المعبد نفسه ، ولما جاء عصر الدولة الوسطى بعد وفاة الملك «نفر أركا رع» بنحو 600 سنة كان معبد هذا الملك قد صار مدفونا على عمق عدة أمتار من التراب المتراكم فوقه، ثم استعملت تلك الأكوام التي تعلوه جبانة للدفن، وقد كشفت الحفائر لنا فيها عن مدافن على عمق متر أو مترين من رقعة ذلك المعبد.
وقد أصاب نفس ذلك المصير جبانة الأسرة الرابعة العظيمة بالجيزة، وذلك أن الكهنة الجنازيين الذين كان أجدادهم يديرون الأوقاف الفخمة التي حبست على أعظم الأهرامات حجما، قد حشروا مدافنهم في الطرقات والمساحات الخالية بين المقابر الملكية القديمة الخاصة بالسلالة البائدة، على أن أولئك الكهنة أنفسهم قد انقرضوا أيضا حوالي سنة 2500ق.م؛ أي بعد أن أسس الملك «خوفو» جبانة بالجيزة بنحو 400 سنة. والواقع أنه لم يمض زمن طويل بعد سنة 2500ق.م حتى صارت منطقة أهرامات الدولة القديمة البالغ طولها نحو 60 ميلا من «ميدوم» جنوبا إلى «الجيزة» شمالا خلاء مقفرا.
وإننا ندرك كنه هذه الحالة المحزنة من آراء رجال الفكر في العهد الإقطاعي الذي جاء بعد ذلك بنحو 500 سنة، وذلك عندما تأملوا في انهيار تلك المقابر الضخمة.
على أن ما صار أمرا واضحا جدا بعد انقراض فراعنة عصر الأهرام العظيم كان أمرا قد أخذ العقل يدركه قبل سقوط الدولة القديمة بزمن طويل؛ فإن أهرامات مصر تمثل ذروة الاعتقاد في كفاءة العتاد المادي التامة لضمان سعادة المتوفى في الحياة الآخرة، فهي المظهر الرائع للكفاح الطويل للتغلب على القوى المادية المحضة، وهذا الكفاح ربما ترجع بدايته إلى نحو مليون سنة قام به صيادو عصر ما قبل التاريخ بمفردهم، أما في ذلك العهد الذي نحن بصدده فقد قامت به قوى أمة مدربة بأسرها؛ فأهرام الجيزة الكبيرة التي تمثل لنا جهودا جبارة استنفدت كل موارد دولة عظيمة ترمي جميعها إلى غرض واحد سام؛ هو وقاية جثمان رجل واحد هو رئيس الدولة ، وقاية أبدية داخل غطاء من المباني الضخمة جدا، حتى يتسنى لذلك الجثمان الملكي أن يقاوم بتلك الطريقة المادية المحضة غائلة كل الآباد، ويقهر بتلك القوة الآلية الأسباب المانعة من الخلود.
على أن التخلي عن بناية الأهرام الضخمة مثل أهرام الجيزة، والاكتفاء في نهاية الأمر بكتابة متون الأهرام منذ عهد آخر ملك في الأسرة الخامسة حوالي سنة 2625 قبل الميلاد داخل أهرام صغيرة، يؤكد لن الاعتقاد بوجود السعادة في الحياة الآخرة في مكان ما آخر؛ أي الاعتقاد في وجود نعيم في مكان ما بعيد لا يعتمد في إدراكه على الوسائل المادية فقط. فهذا الاعتقاد الجديد يؤكد إلى حد ما أن الأكوام من المباني لا يمكنها أن تهب الإنسان الحياة الأبدية، بل يجب أن ينالها بروحانيته؛ وبذلك أخذ أقدم أتباع عقيدة القوة المادية يتعلمون أول درس لهم، وأوشك عصر الأخلاق يظهر ويشل ما عمله بناة الأهرام.
الفصل الخامس
متون الأهرام وصعود فرعون إلى السماء
تمدنا متون الأهرام والمسرحية المنفية بأقدم مصدر وصل إلينا عن التفكير البشري عند الأقدمين، فلدينا في هذين المصدرين أقدم مدى يمكن لنا الآن إدراكه عن تاريخ الإنسان العقلي، وكان الظن السائد أن كل الأهرام كانت عارية من النقوش إلى أن اقتحم العمال المصريون الذين كانوا يعملون في الحفائر تحت إشراف «مريت» في سنة 1880 ميلادية - وهي السنة السابقة لوفاته - هرم «بيبي الأول» ثم دخلوا فيما بعد هرم الملك «مرنرع»، فوجدوا جدران أروقة هذين الهرمين وممراتهما وحجراتهما مغطاة بآلاف الأسطر من النقوش الهيروغليفية، وهذه النقوش هي التي يطلق عليها الآن اسم «متون الأهرام».
Bog aan la aqoon