وقد عثر الأستاذ «زيته» فيما بعد على مجموعة محادثات منظمة على مثل هذا النمط ومدونة على بردية يرجع تاريخها إلى سنة 2000ق.م، وتلك المحادثات مصحوبة بملاحظات وصور يستدل منها على أنها لا بد أن تكون تعليمات مسرحية؛
1
أي إن البردية التي درسها الأستاذ «زيته» هي مسرحية قديمة، ونجد أن ترتيب أعمدتها مطابق تماما لمتن حجر المتحف البريطاني - الذي نحن بصدده - وهذا جعل الأستاذ «إرمان»
2
يظن أن المدون على هذا الحجر هو مسرحية قديمة أيضا. وقد محيت خاتمة هذه المسرحية التي تعد بلا شك أقدم ما عرف من نوعها، من جراء الثقب الذي حفر في وسط حجر الطاحون المذكور. وفيما وراء الفجوة تجاه الطرف الأيمن من الحجر نجد بحثا فلسفيا يبدو من الصعب أن نربطه بالمسرحية، ويرى «زيته» أنه من الضروري أن نفهم أن أحد رجال الدين المشهورين أو كاهنا مرتلا كان يلقي جزءا كبيرا من الرواية التمثيلية في شكل خطبة مطولة يظهر الآلهة المقصودون خلال إلقائها عند قص حادثة في الأسطورة فيلقون أقوالهم في شكل محاورة، وذلك هو السبب الذي من أجله نجد المحاورات التي كان يقوم بإلقائها الآلهة المختلفون الذين ساهموا في التمثيل منتشرة بين أجزاء المسرحية، بشكل جعل أمثال هذه المحاورات أيضا تمثيلية في شكلها. والوثيقة تشبه كل الشبه بحالة تلفت النظر القصص المقدسة التي مثلت في المسرحيات المسيحية الرمزية في القرون الوسطى، والمسرحية المنفية التي تعد أقدم سلف لها.
ونجد في كل من الجزء المسرحي والبحث الفلسفي أن «بتاح» إله منف يقوم بدور إله الشمس الذي يعتبر إله مصر الأسمى، وذلك يفسر لنا العادة التي أشرنا إليها من قبل في الفصل الثاني [آلهة الطبيعة والمجتمع الإنساني]، والتي كان يسعى بها الإله المحلي للحصول على عظمة إله الشمس وبهائه، بأن يتقلد مركزه ويلعب الدور الذي لعبه في تاريخ مصر الخرافي ومنشئه. وإن سيادة «بتاح» في تلك المسرحية تدل بوضوح على تزعم مدينة «منف» تزعما سياسيا، وتلك الزعامة ترجع في هذه الحالة إلى انتصارات «مينا» مؤسس الأسرة الأولى. وذلك الملك - وإن كان مولده في تنيس بمصر العليا - هو الذي أسس «منف» لتكون عاصمة له ومقرا لملكه. وبالرغم من ظهور أصل تلك المسرحية في منف فإن المنبع الأصلي لمحتوياتها العجيبة كان بلا شك بلدة «هليوبوليس»؛ فإننا نجد فيها تلك الفلسفة اللاهوتية التي اشتهر بها كهنة «عين شمس»، والتي وصلوا بها في عهد الاتحاد الأول إلى المرحلة التي أخذ عنها كهنة «منف» في تمجيد إلههم «بتاح».
فهذه المسرحية تبرز لنا إذن إله الطبيعة القديم وهو إله الشمس «رع» متحولا تماما إلى قاض يحكم في شئون البشر؛ تلك الشئون التي أصبحت ينظر إليها من الناحية الخلقية، فهو يحكم عالما يرى من واجبه توجيه حياة البشر فيه طبقا لقواعد تفصل بين الحق والباطل. وإنه من المدهش جدا أن نجد أن أمثال هذه الأفكار كانت قد ظهرت فعلا في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد.
ويمكن تلخيص محتويات هذه المسرحية بأنها محاولة لتفسير أصل جميع الأشياء، ويدخل في ذلك نظام العالم الخلقي، وأن هذه الأصول جميعا ترجع إلى «بتاح» إله «منف»، أما كل العوامل الأخرى التي ساعدت على خلق العالم أو المخلوقات التي كان لها نصيب في ذلك فلم تكن إلا مجرد صور أو مظاهر لبتاح إله «منف» المحلي المسيطر على أصحاب الحرف والصناعات، والذي يعتبر إله كل الحرف.
وتدلك المسرحية على أن فتح «مينا» مصر واتخاذه «منف» الواقعة في الوسط بين الوجه القبلي والوجه البحري، عاصمة له ومقرا لملكه لم يكن إلا خطوة نحو إظهار بتاح بمظهر الصانع الأعظم الذي خلق العالم. وقد ساعد على إلباس بتاح ثوب هذا الدور مساعدة جدية ما نسب إليه من استيلائه على السلطة والسيادة الفريدة التي كان يتمتع بها الإله «رع» الذي ظل يتزعم مدة قرون طويلة آلهة مصر من مقره الزاهر الممتاز في مدينة هليوبوليس. وتبرز لنا هذه المسرحية المنفية المكانة السامية التي احتلها «بتاح» في الفقرات الختامية التي يجب علينا فحصها الآن، فنجد فيها أولا أن («بتاح» العظيم هو قلب الآلهة ولسانهم). وهذا التعبير الخارق للمألوف يصير أكثر وضوحا لنا عندما نعلم أن القلب معناه «العقل» أو «الفهم»، أما «اللسان» فهو رمز للنطق؛ أي للأداة التي تبرز أفكار العقل وتعبر عن أوامره؛ أي إنها تخرج ما فيه إلى حيز عالم الحقيقة الملموس. ونصبح الآن في مركز يمكننا من تعقب معنى هذه القصة القديمة عندما تشرع القصة في التحدث عن أصل الأشياء: (1)
الفكر والتعبير عنه بصفتهما الأصل والقوة المساعدة لكل من نظام الأرض ونظام السماء:
Bog aan la aqoon