وعلى ذلك نجد أن الفلسطينيين لم يأخذوا عن البابليين شيئا يذكر من معتقداتهم وآرائهم الدينية سوى ما يتعلق بالأوضاع الظاهرية والشعائر المرعية، أما العقائد الجوهرية المكونة لأركان الدين فلم يكن الأخذ عنها بمثل هذه السهولة. وقد تصور البابليون الأوائل آلهتهم ممثلة في القوى الطبيعية، وهم في ذلك مثل المصريين القدماء، فكانت أقدم معبوداتهم من آلهة الطبيعة؛ ولذلك نجد في أنشودة عظيمة - كانت لا بد مستعملة في عبادة «سن» إله القمر في معبده بمدينة «أور» - أن مؤلفها الكاهن كشف فيها عن أصل عالم الطبيعة حيث رأى عفوا إله القمر يقوم بعمله، ثم يذكر أن عمل ذلك الإله ينتقل في الوقت نفسه إلى دائرة الشئون البشرية. وهو في ذلك لم يسند إليه خلق كل الأشياء المادية فحسب، بل عزا إليه أيضا تأسيس كل النظم البشرية - كتأسيس الدولة - بما في ذلك من الحكومة والديانة الرسمية، وبخاصة حياة الشعب الخلقية، حيث يقول:
إن كلمتك يتولد منها الصدق والعدالة
وعلى ذلك يتكلم الشعب الصدق.
وهذه الأنشودة الرائعة، بما تحويه من صورة سامية تنطق بسؤدد إله القمر، بما في ذلك من إنشائه الحياة الطاهرة وصيانتها، تدل على أنه كانت توجد هناك عقول مفكرة بين الكهنة الذين كانوا يقومون بالواجبات الدينية الرسمية في «بابل» القديمة. على أنه من المؤكد أن الكاهن الذي ألف هذه الأنشودة لم يخصص منها غير جزء يسير جدا لسلطان القمر من الناحية الخلقية؛ فقد كان أكثر اهتمامه موجها لما لذلك الإله من السلطان الذي لا حد له على موارد البلاد المادية، ولذلك كان معظم الأنشودة منصرفا إلى تلك الناحية من الصورة التي صورها لنا. فمن بين الثمانية والأربعين سطرا التي تشملها تلك الأنشودة لا يوجد إلا نحو سطرين - بل سطر واحد على وجه التأكيد - خصصه ذلك المؤلف الكاهن «للصدق والعدالة». والأنشودة هي كما يأتي بعد حذف بعض سطورها:
أيها الأب الرحيم الشفيق
الذي في قبضته
2
حياة الأرض قاطبة
أيها الرب، إن ألوهيتك كالسماء العالية:
نهر عريض مفعم بالأثمار
Bog aan la aqoon