فالوثائق القديمة التي تمدنا بالجواب على هذه الأسئلة، وتكشف لنا عن أصول مثلنا الوراثية، قد عرضناها في هذا الكتاب مترجمة ومصحوبة بتعليقات وشروح تجعلها سهلة الفهم، إلى حد لا بأس به . والواقع أن هذه الوثائق تكشف لنا عن فجر الضمير ونشوء أقدم مثل للسلوك، وما نتج عن ذلك من ظهور عصر الأخلاق، وهو تطور لا تنحصر أهميته في كونه خلابا لمن يتتبعه خطوة فخطوة، بل لأنه يعد فضلا عن ذلك رؤيا جديدة للأمل في مثل زماننا هذا. وبعض هذه المصادر القديمة عبارة عن قصص شرقية مشوقة قد تجعل القارئ يتنقل في أرجائها براحة وبهجة وغبطة، وبعضها الآخر مصادر لا يمكن تناولها ولا هضمها بسهولة، فإذا كان القارئ الناشئ الذي وضع هذا الكتاب من أجله خاصة يجد نفسه متعثرا في سيره في تفهم هذه الأصول الأخيرة، ويجنح إلى التخلي عن متابعتها، فإني أقترح عليه أن يقرأ على الأقل الخاتمة التي قصد بها أن تضع التقدم الإنساني المدهش من حالة الوحشية إلى عصر الأخلاق - كما يظهر في هذا الكتاب - في موضعه الصحيح، وعلى أساسه التاريخي المناسب.
لقد حفظت في طفولتي مثل إخواني من الصبية «الوصايا العشر»، وعلمت أن أحترمها؛ لأنه أكد لي أنها أنزلت من السماوات على «موسى»، وأن اتباعها كان من أجل ذلك لزاما علي، وإني أذكر أنني كلما كذبت كنت أجد لنفسي سلوة في أنه لا توجد وصية تقول: «يجب عليك ألا تكذب»، وإن الوصايا العشر لا تحرم الكذب إلا في شهادة الزور فقط؛ أي عندما يؤدي الإنسان شهادة أمام المحاكم يمكن أن تضر بجاره. ولما اشتد ساعدي بدأت أشعر في نفسي بشيء من القلق، وأخذت أحس بأن قانون الأخلاق الذي لا يحرم الكذب هو قانون ناقص، وبقيت هذه الفكرة تجول بخلدي زمنا طويلا قبل أن أضع لنفسي السؤال الهام التالي: كيف ظهر في نفسي الشعور بهذا النقص؟ ومن أين حصلت بنفسي على المقياس الخلقي الذي كشفت به عن هذا النقص في الوصايا العشر؟ ولقد كان يوما أسود على احترامي الموروث للعقيدة الدينية القائلة «بنزول الوحي» حينما بدأت عندي تلك التجربة النفسية، بل قد ظهرت أمامي تجارب أشد إقلاقا لنفسي؛ وذلك عندما كشفت وأنا مستشرق مبتدئ أن المصريين كان لهم مقياس خلقي أسمى بكثير من الوصايا العشر، وأن هذا المقياس ظهر قبل أن تكتب تلك الوصايا بألف سنة.
على أن أمثال هذه التجارب الشخصية قد أصبحت الآن في مخيلتي من الذكريات الضعيفة كلما التفت إلى الوراء ناظرا إليها بعد أن قضيت أكثر من أربعين عاما في البحث محاولا تحديد الأدلة التي وصلت إلينا بين الآثار القديمة الشرقية عن هذه المسألة الأساسية الخاصة بأصل الأخلاق. وعندما تقدمت في هذه البحوث، ازداد اقتناعي بأن نتائج تلك البحوث ستصبح سهلة التناول لأي قارئ عادي، وأن الجيل الحالي من الشباب الذين قد يشغل بالهم بمثل تلك المسائل الأساسية كما حدث لي، يجب أن يكون في متناولهم وسيلة للتثبت من هذه الحقائق.
ولقد وضعت من وقت لآخر موجزات تاريخية عن ارتقاء حياة الإنسان المبكرة قبل ظهور أوروبا المتحضرة، وبخاصة عن الحقائق التي استقيتها من الآثار المصرية، ففي عام 1912 وضعت بعض هذه النتائج في صورة كتاب تاريخ للمدارس الأمريكية، ثم قدمت في نفس العام بحثا أنضج من سابقه عن التطور الأخلاقي والديني عند الإنسان القديم، إلى طلاب اتحاد المعهد الديني في محاضرات «مورس»
Morse Lectures
ثم إلى طلبة جامعة كورنل
Cornell university
في أبحاث تحضيرية عرفت بمحاضرات «مسنجر»
Messenger Lectures
تحت رعاية مؤسسة جديدة خصصت للبحث في «التطور» أسسها الدكتور «مسنجر». من هاتين السلسلتين من المحاضرات طبعت «محاضرات مورس» في ذلك الوقت.
Bog aan la aqoon