Fahminta Fahminta
فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر
Noocyada
أما الفهم عند «هيدجر»، فهو تصور بعيد كل البعد عن التصورات السابقة، الفهم عند «هيدجر» هو قدرة المرء على إدراك ممكنات وجوده ضمن سياق العالم الحياتي الذي وجد فيه. الفهم ليس موهبة خاصة أو قدرة معينة على الشعور بموقف شخص آخر، ولا هو القدرة على إدراك معنى أحد تعبيرات الحياة على مستوى أعمق. «الفهم ليس شيئا نمتلكه بل هو شيء «نكونه»!» الفهم شكل من أشكال «الوجود في العالم»، أو عنصر مكون من عناصر «الوجود في العالم»، الفهم هو الأساس لكل تفسير، وهو متأصل ومصاحب لوجود المرء وقائم في كل فعل من أفعال التأويل.
الفهم إذن أمر أساسي من الوجهة الأنطولوجية وسابق على كل فعل من أفعال الوجود، وللفهم جانب ثان يتمثل في حقيقة أن الفهم دائما يتعلق بالمستقبل، وهذه هي السمة الإسقاطية للفهم، على أن الإسقاط يجب أن يقوم على أساس، كما أن الفهم يرتبط بموقف المرء، غير أن ماهية الفهم تكمن لا في مجرد فهم موقف المرء بل في كشف الإمكانيات الملموسة للوجود داخل الأفق الخاص بموقع المرء في العالم، ويطلق «هيدجر» على هذا الجانب من الفهم مصطلح
Existentiality (Existenzialitat) .
وللفهم، كما يراه «هيدجر»، سمة هامة أخرى، هي أنه يعمل دائما داخل مجموعة من العلاقات المؤولة من الأصل، داخل «كل علائقي»
Bewandtnisganzheit
ولهذه الملاحظة متضمنات واسعة النطاق بالنسبة للهرمنيوطيقا، وبخاصة حين نصلها بأنطولوجيا «هيدجر»، لقد سبق لدلتاي أن أكد أن المعنى هو دائما مسألة إشارة إلى سياق من العلاقات، وهو مثال للمبدأ المعروف القائل بأن الفهم دائما يعمل داخل «دائرة تأويلية»
Hermeneutic Circle
وليس بالتقدم المنتظم من أجزاء بسيطة ومكتفية بذاتها إلى «الكل» المكون من هذه الأجزاء، غير أن هرمنيوطيقا «هيدجر» الفينومينولوجية تتقدم خطوة أبعد؛ فتستكشف متضمنات «الدائرة التأويلية» بالنسبة لبنية كل فهم وتأويل وجودي إنساني، وعلينا بالطبع ألا نتصور الفهم كشيء ميتافيزيقي يتجاوز الوجود الحاس للإنسان، بل كشيء غير منفصل عنه. إن «هيدجر» لا ينفي وجهة نظر دلتاي ذات التوجه الخبروي بقدر ما يضعها في سياق أنطولوجي، ويتجلى ذلك في حقيقة أن الفهم لا ينفصل عن المزاج، وأن الفهم لا يمكن تخيله بدون «عالم» أو «معنى»، والنقطة المحورية هنا هي أن «الفهم عند «هيدجر» أصبح أنطولوجيا»، ولعل نظرة فاحصة إلى مفهوم «العالم» عند «هيدجر» أن توضح ذلك، وهو ما سنحاوله في قسم لاحق، بعد أن نعرض لمفهوم «هيدجر» الثوري الإبداعي عن انتفاء ثنائية الذات والموضوع. (2-2) انتفاء ثنائية الذات/الموضوع
كيف تخرج «الذات» من عالمها الباطن لكي تصل إلى «الموضوع» الموجود في الخارج؟ يبدو أن «هيدجر » لا يحاول فك خيوط هذه العقدة الأزلية، ولا يتردد في إزاحتها بضربة قاضية (مثلما قطع الإسكندر عقدة جورديان) يعلن بها أن مشكلة وجود الواقع الخارجي وإثباته وعلاقة الذات به هي مشكلة زائفة لا تستحق عناء لحظة واحدة من التفكير! لماذا؟ لأن «الآنية» باعتبارها «وجودا في العالم» موجودة دائما في الخارج، أي في العالم المألوف، لنستمع إلى «هيدجر» وهو يقول في «الوجود والزمان»: «إن الآنية، في اتجاهها إلى الموجودات وإدراكها لها، لا تحتاج إلى مغادرة مجالها الداخلي الذي نتصورها حبيسة فيه، وإنما هي بحسب طبيعة وجودها الأولية موجودة دائما «في الخارج»، بالقرب من الموجود الذي تلتقي به في عالم تم اكتشافه بالفعل ... ثم إن إدراك الشيء المعروف ليس بمثابة رجوع بالفريسة التي غنمناها من الإدراك الخارجي إلى «بيت» الوعي والشعور، وإنما تظل الآنية العارفة، في أفعال الإدراك والاحتفاظ بما تدركه والإبقاء عليه، دائما في الخارج بوصفها آنية.» إنها إذن ليست بحاجة لما نسميه ب «العلو»، أو التخطي والتجاوز، إلى العالم؛ لأنها على الدوام «بالخارج» مع الموجودات التي تصادفها في هذا العالم، كما أنها دائما «بالداخل» باعتبارها «وجودا في العالم» يهتم بالأشياء وينشغل بأمرها، وصفوة القول أن المعرفة ليست هي التي تمكننا من إقامة العلاقة التي تربطنا بالعالم، بل إنها تفترض هذه العلاقة من قبل، بحيث لا تعدو أن تكون «تحولا» لهذه العلاقة نفسها: «في فعل المعرفة تكتسب الآنية موقف وجود جديد من العالم الذي سبق اكتشافه في الآنية»، كما أن المعرفة لا تخلق علاقة «تبادل» بين الذات والعالم، ولا هذه العلاقة تنشأ من تأثير العالم على الذات. إن المعرفة حال من أحوال الآنية يقوم على أساس الوجود في العالم، ولا جدال في أن هذا أسلوب جديد في التفكير، ولسنا مبالغين إذا استعرنا لغة كانت وقلنا إنها ثورة كوبرنيقية أذهلت بعض معاصري «هيدجر» وملأت صدور البعض الآخر بالنشوة والحماس.
5 (3) العالم وعلاقتنا بالأشياء الموجودة في العالم
Bog aan la aqoon