Fahminta Fahminta
فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر
Noocyada
ثمة مع ذلك هامش من الاحتمال، فإذا ما كان النص من الغموض بحيث يكون حمال أوجه، هنالك يستحيل الفهم الكامل، وعلى المؤول في هذه الحالة أن يلجأ إلى قواعد معينة تخص هذا الصنف من «التأويل القضائي» لأنه هو نفس اللون من التأويل الذي يحدث في ساحات القضاء ويكون على القاضي فيه أن يأخذ على عاتقه تأويل مادة غامضة أو متناقضة أو غير محددة. (6) الوجه التربوي للتأويل
وتتضمن الهرمنيوطيقا عند كلادينيوس جانبا بيداجوجيا (تربويا/تدريسيا) أساسيا، «فإن تؤول لا يعدو أن تعلم شخصا ما التصورات الضرورية لفهم عمل مكتوب أو منطوق»، وتتجلى الطبيعة التربوية للتأويل في دعوة كلادينيوس لأن يكون تفسير النص مكيفا بحسب جمهور المتلقين، بذلك يرتبط التأويل عنده بفن الخطابة وعلم التربية ارتباطا وثيقا.
ففي الأحوال العادية، حيث لا غموض في النص ولا التباس، وحيث مفاتيح فهم النص كاملة في يد المفسر، فإن التأويل عند كلادينيوس يصبح لونا من «التربية» أو «التدريس»، أي تعليم القارئ أو المستمع تصورات معينة ضرورية للفهم الكامل لهذا النص، في هذه الحالة يكون على المؤول أن يأخذ بعين الاعتبار درجة استبصار التلميذ ويراعي قصوره المعرفي حين يتخير الصياغة المناسبة، ولما كان هناك درجات من الاستبصار والمستوى المعرفي بعدد قراء النص أو مستمعيه، فإن هناك أيضا تأويلات صحيحة بعدد القراء أو المستمعين، وصفوة القول أن كل شخص تقريبا يلزمه تأويل معين، وأن التأويل منسوب إلى المتلقي بقدر ما هو منسوب إلى المؤول. (7) زاوية الرؤية
يفضي بنا هذا الحديث إلى واحد من أهم إسهامات كلادينيوس، وهو مفهوم «زاوية الرؤية» أو «وجهة الرأي» أو «المنظور»، إن كل شخص يدرك ما يحدث في العالم على نحو مختلف، بحيث إنه لو طلب من عدد كبير من الأشخاص وصف واقعة معينة فإن كل واحد منهم سوف ينتبه إلى شيء بعينه، هذا إذا قدر لهم أن يدركوا الموقف إدراكا صحيحا! يعود هذا الفارق أولا إلى اختلاف موقع الجسم ووضعه وهو يتفاوت بالضرورة من شخص إلى آخر، وثانيا إلى تفاوت الارتباطات حول الموضوع بين واحد وآخر، وثالثا إلى الفروق الفردية في انتقاء الموضوعات التي يلتفت إليها، فمن المسلم به أن الأغراض التي نضمرها لحظة الإدراك هي التي تتحكم في تحديد ما نختاره لكي ننتبه إليه، فأفعالنا هي دائما غرضية تتجه نحو هدف ما؛ ولذا فإنه عندما تكون للأفراد أغراض مختلفة فإنهم يدركون العالم على أنحاء مختلفة، بحيث يقر أحدهم أمورا معينة يتجاهلها غيره أو ينكرها، ذلك أن الاهتمام أو الموقف هو الذي يرشد الانتباه في اتجاهات ذات صلة، ويحجب في الوقت نفسه تلك المنبهات التي لا تتصل بغرضه، بل إن الموقف الفكري والأيديولوجي ليتحكم في طريقة الإصغاء إلى الأشياء وهيئتها المدركة، ويشحن الانتباه في اتجاهات معينة ويصرفه عن المضي في اتجاهات أخرى.
3
ويضرب «كلادينيوس» مثالا بميدان المعركة ليبين كيف تتحكم زاوية الرؤية في التأويل، فإذا ما وضع ملاحظون في مواقع مختلفة حول ميدان قتال كبير، فمن المتيقن أن كلا منهم سوف يقدم أوصافا مختلفة، أي تأويلات مختلفة، لما حدث، ويبقى السؤال الحقيقي الهام هو: كيف يحكم المرء بين هذه المنظورات المتعددة المختلفة ويفصل فيما بينها؟ والجواب عند كلادينيوس هو: باستخدام العقل، فحيث إن هناك حقيقة محددة للأمر المتعلق بما حدث بالفعل في ميدان المعركة، حتى لو كانت هذه الحقيقة قد شوهدت من زوايا مختلفة، فإن هذه المنظورات لا بد أن تكون متسقة مع الأحداث الفعلية كما وقعت، وهذا الاتساق يجب أن يصنعه العقل ويسبغه ويضفيه، ومن ثم يمكن الفصل فيما بين وجهات النظر المختلفة والمتباينة باستخدام العقل.
الفصل الخامس
شلايرماخر
كان «فريدريك شلايرماخر» لاهوتيا وفيلسوفا مثاليا ألمانيا، ولد عام 1768م، وأسس الجامعة في برلين مع همبولت فيما بين عامي 1798م و1810م حيث عمل بالتدريس فيها حتى وفاته عام 1834م، لم ينل شلايرماخر ما يستحق من شهرة في مراجع تاريخ الفلسفة المتداولة، فقد كان منصرفا إلى اللاهوت بشكل رئيسي، ومقلا بالتالي في نشر أعمال فلسفية، رغم أنه لم يتوقف عن تدريس الفلسفة بجميع أفرعها وإلقاء محاضرات متقنة العرض في الفلسفة اليونانية وتاريخ الفلسفة وفلسفة الأخلاق وعلم الجمال والهرمنيوطيقا والفلسفة السياسية وفلسفة التربية، ويعد شلايرماخر مؤسس الهرمنيوطيقا العامة وأبا الدراسات الثيولوجية والدينية الحديثة، وهو المترجم العمدة لأفلاطون إلى الألمانية.
1
Bog aan la aqoon