Fahminta Fahminta
فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر
Noocyada
ولكن مهما تكن مزايا «نزع الأسطورية» كحل للمأزق التأويلي فإن المشروع نفسه يشير إلى مشكلة كبرى: كيف يتسنى لنا أن «نفهم» العهد الجديد؟ ما الذي نحاول أن نفهمه؟ إلى أي مدى ينبغي علينا أن ندخل في العالم التاريخي لفكر العهد الجديد وخبرته قبل أن يتسنى لنا أن نؤوله؟ هل بمكنتنا على الإطلاق أن نجد نظائر ومكافئات من أجل فهم العهد الجديد؟ أيكون من الجائز أن يتغير عالمنا خلال قرن من الزمن تغيرا هائلا بحيث لا يعود ممكنا لأحد أن يفهم العهد الجديد؟ إننا لنجد اليوم أن النشء الصغير في المجتمعات الحضرية يجد صعوبة أكثر مما نجد في فهم هوميروس؛ لأن المكونات البسيطة للحياة في زمن هومر (القوارب، الأحصنة، المحراث، الحراب، الفئوس، زقاق النبيذ ...) هي في أغلبها مفردات لم تعد ترى إلا في الكتب أو المتاحف، ليس معنى ذلك أن هومر سوف يبلى ويندثر وشيكا، بل إن الجهد اللازم لفهمه سيكون أكبر وأصعب كلما مضينا في ميكنة أسلوبنا في الحياة.
6
ومشكلة «نزع الطابع الأسطوري» ليست وقفا على اللاهوت، فهي قائمة، بشكل قد يقل إلحاحا ولكن لا يقل دلالة، في محاولة فهم أي عمل قديم عظيم: كيف نفهم مثلا أي مسرحية لسوفوكل ونحس لها أي معنى يخصنا إذا كانت آلهة الإغريق قد ماتت ولم تحل محلها وتقم بعملها علاقات بشرية بديلة، فنحن في زمن ماتت فيه الآلهة القديمة ولم يولد فيه الإله الجديد (العلاقات البشرية) بعد! أتكون المسرحية اليونانية نصبا لإله ميت أو مجموعة آلهة؟ أم تراها، على حد قول أحد النقاد عن «الفردوس المفقود» لملتون «نصبا لأفكار ميتة»؟ ما هي الطريقة التي ينبغي أن تترجم بها المسرحية الإغريقية إلى اللغة الحديثة؟ أو ما هي الطريقة التي ينبغي أن تفهم بها الألفاظ القديمة؟ كيف يمكن أن نحول دون أن تبدو الأعمال القديمة مجرد كوميديات للأخطاء؟ لعل الكثيرين من أساتذة الآداب القديمة كانوا في حقيقة الأمر «ينزعون الطابع الأسطوري» فيما كانوا يبررون أهمية العمل الأدبي لنا بالنظر إلى دلالته الإنسانية الدائمة التي لا تزول.
ومهما يكن من أمر، فإن هذه «الدلالة الإنسانية» يجب تأويلها للأذن الحديثة (المرحلة التفسيرية للتأويل)، وفي سبيل ذلك علينا أن نكون أكثر وضوحا حول ما نعنيه بأن شيئا ما هو ذو «دلالة»، إن التناول النقدي الأدبي الذي يجعل همه حصر الصور البلاغية بأصنافها المختلفة، أو التركيز على «الشكل» في العمل الأدبي، أو تحليل الموضوع الرئيسي داخل عمل ما أو بين عدة أعمال، إنما هو تناول يغفل مسألة «الدلالة»، فالتناول الذي يرى العمل كموضوع بمعزل عن الذوات المدركة هو تناول يتجنب آليا السؤال عما يشكل الدلالة الإنسانية للعمل، وكل نقد يغفل السؤال عن الدلالة الإنسانية للعمل ويصرف كل طاقته في تمرينات معقدة حول تحليل الصور البيانية أو الشكل أو الموضوع الرئيسي، لن يعدو أن يكون نشاطا كسولا لحلقة مغلقة من أساتذة الأدب أو تزجية فراغ لثلة مغتربة من الأدباء المتعطلين، إن تحليلهم وتشريحهم الدقيق ليفقد جدواه إذا «مات الأدب»؛ مات لأن مفسريه مأخوذون بمعرفة بنيته الخاصة ونشاطه المكتفي بذاته عن كل دلالة إنسانية نابضة حية، فالأدب أيضا يمكن أن «يموت صبرا» إذا طال حرمانه من الصلة الحقيقية الواضحة بالقارئ، هكذا يتبين أن أمام التأويل اللاهوتي والأدبي أحد خيارين: إما أن يكون متصلا بنا ودالا بالنسبة لنا اليوم وإما أن يذوي ويموت.
على أساتذة الأدب ومعلميه أن يكونوا خبراء في «الترجمة» أكثر مما هم خبراء في «التحليل»، ذلك أن مهمتهم هي أن يحولوا ما هو غريب وملغز وغير مألوف إلى شيء مفهوم، شيء «منا»، شيء «يتحدث لغتنا»، ليس معنى ذلك أن يحقنوا الأعمال القديمة بمقويات حديثة أو أن يلبسوا «تشوسر» رداء من الإنجليزية المعاصرة، إنما يعني أن يدركوا مشكلة تضارب الآفاق المختلفة وصراعها، وأن يتخذوا خطوات ملموسة لمواجهتها، لا أن يضربوا عنها صفحا وينصرفوا إلى ألعابهم التحليلية، ثمة «رؤية للعالم»
World View
قابعة في صميم القصيدة ومفترضة مسبقا في أسطرها وداخلة من ثم في فهمها وتقديرها، ولا بد للناقد من أن يستل هذه النظرة ويأخذها مأخذ الجد وألا ينصرف عنها باعتبارها من أغاليط النقد التاريخي البائد.
7
من الشروط الأساسية مثلا لفهم «الأوديسة» أن ندرك منذ البداية أن الأشياء الطبيعية، في «رؤية العالم» القابعة في الأوديسا، هي أشياء حية قاصدة مريدة، وأن العالم هو مدى من الأرض والماء بقدر ما يمكن للمرء أن يرى، وأن كل عملية طبيعية هي من فعل كائن خارق للطبيعة، وأن الآلهة هي مجموعة من سراة الكائنات فوق البشرية التي لها كل ما للبشر من مواطن ضعف وإن تكن تعمل وفقا لصيغة عليا من الدستور الخلقي الخاص بالبطل اليوناني. ليس قبل أن نلج إلى هذا العالم الغريب عن عالمنا، يمكننا أن نلتفت إلى ذلك الرجل الحول القلب، ملاعب الموت وغازل الحكايا التي كاد يخدع بها راعيته «أثينا»، ذلك الباحث النهم عن المعرفة المغامرة؛ أوديسيوس، لا بد أن يعلم كل محلل للنصوص أن هناك «حسا بالواقع» يتبطن كل نص وأن «حس الواقع» هذا هو مفتاح فهم النص، ومن ثم فإن حس الواقع وطريقة «الوجود-في-العالم» الممثلة في العمل ينبغي أن تكون في بؤرة اهتمام أي تأويل أدبي يريد أن يكون مجديا، وأن تكون الأساس لكل قراءة للعمل تريد أن تفهم دلالته الإنسانية، وبعبارة أخرى يمكننا القول بأن ميتافيزيقا العمل (تعريفه للواقع) وأنطولوجيا العمل (طبيعة الوجود-في-العالم) هما أمران أساسيان لأي تأويل يريد أن يجعل الفهم الحقيقي للعمل أمرا ممكنا.
8
Bog aan la aqoon