قلت: إنك لا تستطيع أن تنال الحظوة عنده إلا إذا نزلت على حكم أهوائه وشهواته؛ أي أن تجعل نفسك جسرا يمشي عليه إليها، وذلك ما تأباه عليك عزة نفسك وأنفتها.
قال: يخيل إلي أني إن قمت بواجبي لأمتي ووطني وأديت للإنسانية العامة خدمة عظمى يرن صداها في جميع الآفاق؛ لا أعدم أن أجد بين الأشراف المحسنين من يتولاني بحمايته ورعايته، ويأخذ بضبعي إلى المنزلة التي أستحقها.
قلت: استمع مني كلمة أقولها لك يا بني، لقد كان اليونان والرومان والمصريون - حتى في أدوار سقوطهم وانحطاطهم - يبجلون الفضيلة ويعظمون شأنها، ويقدسون المواهب والمزايا أعظم تقديس، ويعرفون لأصحابها أقدارهم ومنازلهم، ويبسطون عليهم جناح مودتهم ورحمتهم، ولعلك قرأت من ذلك شيئا في كتب التاريخ، أما اليوم فقد انقضى ذلك كله، وأصبح الشرف محصورا بين الجاه والمال، فلا يظفر به إلا ذو منصب عال، أو مال كثير، وقد يعطف بعض أولئك الذين يسمونهم النبلاء على بعض أصحاب المواهب والمزايا، كالشعراء والكتاب والموسيقيين والمصورين؛ لا لأنهم يحترمونهم ويجلونهم، أو يمجدون ذكاءهم ونبوغهم، بل ليزينوا بهم مجالسهم كما يزينونها بالتحف والذخائر؛ وليمتعوا أنفسهم بمنظر ذلتهم وخضوعهم بين أيديهم كما يمتعونها بمنظر مضحكيهم ومجانهم، وما أحسب أنك ترضى لنفسك بهذه المنزلة، أو أن يكون منتهى آمالك في حياتك أن تصبح خليعا ماجنا.
قال: إن فاتني أن أعيش في كنف رجل شريف، فلن يفوتني أن أعيش في كنف حزب من الأحزاب أو جماعة من الجماعات أخدمها وأخلص لها؛ فأنال الحظوة عندها.
قال: إنك تستطيع أن تفعل ذلك، ولكن على أن تضرب بينك وبين ضميرك سدا إلى الأبد، فالهيئات كالأفراد لا يعنيها إلا مصلحتها وفائدتها، وكثيرا ما تكون مصلحتها في جانب، والحق في جانب آخر، بل ذلك هو الأعم الأغلب في أمرها، فإما جاريتها فهلكت، أو نابذتها فاستهدفت لغضبها ومقتها.
قال: الموت أهون علي من أن أخطو خطوة واحدة لا يرضى بها ضميري.
قلت: إذن ودع جميع آمالك وأمانيك وداعا دائما لا لقاء بينكما من بعده.
قال: وا شقاآه! لقد أخذت علي جميع السبل، وسدت جميع المسالك، ويخيل إلي أنني سأقضي بقية أيام حياتي في ظلمة داجية لا ينفذ إليها شعاع من أشعة الرحمة، ولا يلمع فيها بارق من بوارق الإحسان، وأن قد حيل بيني وبين فرجيني إلى الأبد.
قلت: إنك واهم يا بني، فما أنت بشقي كما تظن، وما الشقاء إلا تلك العظمة التي تطلبها وتسعى إليها، إنك تعيش من حريتك واستقلالك وهدوئك وسكونك وطهارة ضميرك وصفاء سريرتك في سعادة لا يتمتع بها متمتع على ظهر الأرض، فما حاجتك إلى تلك العظمة التي لا سبيل لك إلى بلوغها إلا إذا مشيت إليها على جسر من الكذب والرياء، والملق والدهان، والمواربة والمداجاة، والظلم والإثم، ونصبت نفسك ليلك ونهارك لمحاربة الدسائس بالدسائس، والدنايا بالدنايا، والأكاذيب بالأكاذيب، وملأت فراغ قلبك حقدا وموجدة على الذين يسيئون إليك أو يجترئون عليك، وكنت في آن واحد أذل الناس لمن هم فوقك، وأقساهم على من هم دونك، ثم لا تحصل بعد ذلك كله على طائل سوى أن تطعم لقمة يطعمها جميع الناس، وتستر سوأة لا يوجد في الناس من لا يسترها، وما أحسب أن فرجيني ترضى لك ولا لنفسها أن تكون وسيلتك إليها هذه الوسيلة الدنيئة الحقيرة، وهي الفتاة الشريفة الفاضلة التي لها طهارة الملك في سمائه، وصفاء الكوكب في أفقه، واعلم يا بني أن الفقير يعيش من دنياه في أرض شائكة قد ألفها واعتادها، فهو لا يتألم لوخزاتها ولذعاتها، ولكنه إذا وجد يوما من الأيام بين هذه الأشواك وردة ناضرة طار بها فرحا وسرورا، وأن الغني يعيش منها في روضة مملوءة بالورود والأزهار قد سئمها وبرد بها، فهو لا يشعر بجمالها، ولا يتلذذ بطيب رائحتها، ولكنه إذا عثر في طريقه بشوكة تألم لها ألما شديدا لا يشعر بمثله سواه، وخير للمرء أن يعيش مؤملا كل شيء من أن يعيش غنيا خائفا من كل شيء.
قال: إنما أريد المجد الأدبي لا المجد المالي.
Bog aan la aqoon