Explanation of Uncovering the Doubts by Khaled Al-Mosleh
شرح كشف الشبهات لخالد المصلح
Noocyada
شرح كشف الشبهات [١]
الشبهة هي وارد يرد على القلب يحول بينه وبين انكشاف الحق، وذلك بسبب التباس الحق بالباطل حتى لا يتبين، وللمشركين شبه كثيرة يتعلقون بها، ويحتجون بها، وهي أوهى من بيت العنكبوت، وقد أبطلها أهل العلم بالحجج البينة، والدلائل الواضحة من كتاب الله، وسنة رسوله ﷺ.
1 / 1
ثناء العلماء على كتاب كشف الشبهات
بسم الله الرحمن الرحيم قال المؤلف شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتابه كشف الشبهات: [بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، وعلى سائر عباد الله الطيبين الصالحين.
أما بعد: اعلم -رحمك الله- أن التوحيد هو إفراد الله سبحانه بالعبادة، وهو دين الرسل الذين أرسلهم الله به إلى عباده، فأولهم نوح ﵇، أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين ودًّا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا، وآخر الرسل محمد ﷺ، وهو الذي كسّر صور هؤلاء الصالحين، أرسله إلى أناس يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيرًا، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده؛ مثل الملائكة، وعيسى، ومريم، وأناس غيرهم من الصالحين] .
نبدأ بهذه الرسالة المباركة، التي ألفها الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ﵀، وسماها كشف الشبهات، وقد أجاد وأفاد ﵀ في هذه الرسالة كعادته في رسائله وكتبه؛ فإنه فند شبه المبطلين، ودحض أقوالهم، وبين زيفها، مستندًا في ذلك كله على الكتاب والسنة، ومعتصمًا بما جاء عن السلف الصالح ﵏.
وهذا الكتاب له منزلة عظيمة، إذ فيه تفنيد أقوال أعداء الله ورسوله من المشركين والمعاندين لدعوة الرسل؛ ولذا فقد أثنى عليه الشيخ سليمان بن سحمان ﵀ ثناءً عاطرًا في كتابه (الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق)، فقال ﵀ في الثناء على هذا الكتاب وبيان منزلته: (صنف الشيخ ﵀ كشف الشبهات، وذكر الأدلة من الكتاب والسنة على بطلان ما أورده أعداء الله ورسوله من الشبهات، فأدحض حججهم، وبين تهافتهم، وكان كتابًا عظيم النفع على صغر حجمه، جليل القدر انقمع به أعداء الله، وانتفع به أولياء الله، فصار علمًا يقتدي به الموحدون، وسلسبيلًا يرده المهتدون، ومن كوثره يشربون، وبه على أعداء الله يصولون، فلله ما أنفعه من كتاب، وما أوضح حججه من خطاب، لكن لمن كان ذا قلب سليم، وعقل راجح مستقيم) .
وهذا الثناء العاطر في محله، وسيتبين لنا هذا إن شاء الله تعالى من خلال استعراض ما في هذا الكتاب من شبه، وكيف أجاب الشيخ ﵀ على هذه الشبه، وفندها شبهةً شبهة.
1 / 2
معنى الشبهات
الكتاب اسمه (كشف الشبهات) والكشف هو: الإبانة والإزالة، والشبهات جمع شبهة، والشبهة في اللغة هي: الالتباس والاختلاط، وفي الاصطلاح: التباس الحق بالباطل واختلاطه حتى لا يتبين، وقد عرف الشبهة ابن القيم ﵀ في كتابه مفتاح دار السعادة تعريفًا جيدًا فقال: (وارد يرد على القلب يحول بينه وبين انكشاف الحق) .
والشبهات أحد نوعي الفتن التي ترد على القلوب؛ فإن القلب مغزوٌ بفتنة الشبهة وبفتنة الشهوة، وفتنة الشبهة أخطر إذ أنها إذا أنشبت أظفارها في قلب العبد قلَّ أن ينجو؛ ولذا فإن السلف ﵏ كانوا يتباعدون عن الشبه، ويحرصون على عدم الجلوس في المجالس التي تورد فيها الشبه، بل كان أحدهم لا يسمع من المشبهين المبتدعين أهل الأهواء حتى قول الله وقول الرسول، كما ورد ذلك عن ابن سيرين ﵀، فإنه جاءه رجلان ممن عرفوا بالبدعة والشبهة فجلسا بين يديه يريدان أن يقرأا عليه آية، فقال: (إما أن تقوما وإما أن أقوم) فلا حل وسط، وذلك أن دينهم عزيز عليهم، فكانوا يحرصون على التباعد عن الشبهات إلى هذه الدرجة، بل كانوا لا يسمحون لأهل البدع وأهل الشبهات وأهل الأهواء ولا بكلمة واحدة، وهذا مستفيض، ويمكن الوقوف عليه من خلال مطالعة الكتب التي حفظت أقوال السلف، ككتاب السنة للإمام عبد الله بن أحمد والإبانة للعكبري وغيرهما من الكتب.
1 / 3
منهج السلف في البعد عن الشبهات
كان السلف ﵏ يحرصون على التباعد عن الشبه، وهذا منهج قرآني، فإن الله ﷾ قد أمر العباد بأن يبعدوا عن الذين يخوضون في آيات الله، فقال ﷾: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ [النساء:١٤٠]، وقال جل ذكره: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ [الأنعام:٦٨]، والخوض في الشبهات وإيرادها هو من الخوض في آيات الله؛ ولذلك تدل هذه الآية على ما كان عليه السلف ﵏ من تباعد عن الشبهات، وحرص على النأي عنها.
1 / 4
سبب الشبهة ومآلها
سبب الشبهة أحد أمرين: قلة في العلم أو ضعف في البصيرة، فكل شبهة تنشب أظفارها في قلب عبد إنما هي لأجل ضعف في علمه، أو ضعف في بصيرته، فمن كان على علم راسخ وبصيرة نبوية نجا من الشبهات.
ومآل الشبهات الكفر أو النفاق أو البدعة، فمن أنشبت الشبه أظفارها في قلبه فإما أن يقع في الكفر، وإما أن يقع في البدعة، وإما أن يقع في النفاق، فما كفر من كفر ولا ابتدع من ابتدع ولا نافق من نافق إلا لأجل شبهة في قلبه أوجبت هذا الأمر، ولا نجاة للعبد من الشبهات إلا بتجريد المتابعة للنبي ﷺ، فإذا اقتفى العبد أمر النبي ﷺ وهديه ظاهرًا وباطنًا، وحكّم سنة الرسول ﷺ في دق أمره وجليله، وفي ظاهر أمره وباطنه؛ فإنه ينجو من الشبهة، وقد تكلم ابن القيم ﵀ كلامًا جيدًا في إغاثة اللهفان في المجلد الثاني في صفحة ستين ومئة (١٦٠) عن فتنة الشبهة، وطريق النجاة منها، فمراجعته مفيدة.
1 / 5
تعريف التوحيد
قال الشيخ ﵀: [بسم الله الرحمن الرحيم] تقدم لنا أن البسملة متعلقة بفعل مقدر مناسب لحال الذاكر مؤخرٍ غالبًا، وذكرنا غالبًا لأجل أي شيء؟ لإخراج ما قدم فيه الفعل أو المتعلق قبل البسملة، مثل قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق:١] فإنه قدم الفعل على البسملة وذلك لأهمية الأمر، وأيضًا في مثل قوله: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [النمل:٣٠]، فبين مصدر الرسالة قبل البسملة لأهمية هذا الأمر، وإلا فالغالب أن الفعل يكون مؤخرًا، وفهم هذا يفيدك لأن البسملة ترد في كل كتاب.
قال ﵀: [اعلم -رحمك الله- أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة] افتتح ﵀ رسالته بتعريف التوحيد، فقال: التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وهذا التعريف هو لأهم أنواع التوحيد؛ فإن أهم أنواع التوحيد هو توحيد الإلهية، الذي دعت إليه الرسل، وجاءت به الأنبياء، فإن الرسل دعت إلى إفراد الله بالعبادة، وإن كانت قد دعت إلى توحيد الربوبية واستدلت به وذكرته، وأيضًا ذكرت توحيد الأسماء والصفات، إلا أن أصل البعثة هو لتقرير عبودية الله ﷾: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل:٣٦]، فعرّف الشيخ ﵀ التوحيد بأهم أنواعه وهو توحيد الإلهية.
والتعريف العام للتوحيد هو: إفراد الله تعالى بما يختص به في الربوبية وفي الإلهية وفي الأسماء والصفات، وهذا أشمل ما يقال في تعريف التوحيد، أما تعريفه هنا فهو -كما ذكرنا- بأهم أنواعه، ويمكن أن يقال: إن الشيخ ﵀ اقتصر بذكر تعريف توحيد الإلهية؛ لأنه في هذا الموضع سيجيب على الشبه الواردة على توحيد الإلهية، فهو لن يتكلم على شبه المبتدعة والضالين في باب الأسماء والصفات، إنما سيتكلم على شبه الذين ابتدعوا في باب توحيد الإلهية، ولذلك عرّف التوحيد بقوله ﵀: هو إفراد الله تعالى بالعبادة.
والعبادة هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأعمال الظاهرة والباطنة، وهذا أحد التعاريف التي تعرف بها العبادة، وذكر شيخ الإسلام تعريفًا آخر، وهو مختصر وجامع، فقال: العبادة هي كل ما أمر الله به ورسوله، فكل ما أمر الله به ورسوله فهو عبادة، والأمر إما أن يكون أمر إيجاب أو يكون أمر استحباب.
1 / 6
التوحيد هو دين الرسل
ثم قال ﵀: [وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده] الضمير في قوله: (وهو) المراد به توحيد العبادة، دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده، فالله ﷾ أرسل الرسل إلى عباده بإفراده ﷾ بالعبادة، ودليل هذا قول الله جل وعلا: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:٢٥]، (لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا) أي: لا إله إلا الله، ومعناها: لا معبود بحق إلا الله، وهي تقتضي إفراد الله ﷾ بالعبادة، وأيضًا قال جل ذكره: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾ [النحل:٢]، وقال ﷾: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل:٣٦]، وقال النبي ﷺ في الحديث الذي في الصحيحين: (الأنبياء إخوة لعلات: أمهاتهم شتى، ودينهم واحد)، فهذا يدل على وحدة الرسالة، وأن الرسل جاءوا جميعًا بتقرير توحيد الإلهية، وبدعوة الناس إلى عبادة الله ﷾ وحده دون غيره.
قال الشيخ ﵀: [فأولهم نوح ﵇]، ودليل أوليته قول الله ﷾: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [النساء:١٦٣]، فهذه الآية تشير إلى أن أول من أوحى الله إليه من الرسل هو نوح ﵇، وأصرح من هذا في الدلالة على أولية رسالة نوح ﵇ ما في الصحيحين من حديث أنس وغيره في حديث الشفاعة عن النبي ﷺ قال: (يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء؛ فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناكم، ويذكر ذنبه فيستحي، ائتوا نوحًا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض)، وفي رواية مسلم قال: (فيأتون نوحًا ويقولون: أنت أول الرسل إلى الأرض)، وكل هذا صريح بيّن في أن أول الرسل نوح ﵇.
1 / 7
غلو قوم نوح في الصالحين وتصويرهم لهم
قال ﵀: [أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين ودًّا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا] غلوا فيهم بأن تجاوزوا الحد الذي جعله الله لهم.
والغلو في اللغة هو: مجاوزة الحد، فكل من جاوز الحد الذي جعل له فقد غلا، وأما تعريفه في الاصطلاح فهو: مجاوزة أمر الله تعالى في العبادات أو العقائد، وقال بعضهم: الزيادة على المشروع في العقائد أو العبادات، ومرد الغلو هو الطغيان، فمن غلا في شيء فقد طغا وتجاوز، وهؤلاء غلوا في الصالحين، في ودٍ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وهؤلاء -كما قال ابن عباس في الصحيح-: (أسماء رجال صالحين من قوم نوح، لما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم أنصابًا، فنصبوا هذه الأنصاب ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت)، فهم في أصل فعلهم إنما نصبوا هذه الأنصاب لأجل تذكر هؤلاء، والتشوق إلى العبادة، والاشتغال بذكر الصالحين الذي يعين على العبودية لله ﷾، فتجاوز الأمر بهم شيئًا فشيئًا إلى أن وقعوا في عبادتهم من دون الله ﷾.
ثم قال الشيخ ﵀: [وآخر الرسل محمد ﷺ]، وهذا لا شك فيه فإن النبي ﷺ آخر الرسل، قال الله جل ذكره: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب:٤٠] فختم الله ﷾ النبوات بمحمد ﷺ فلا نبي بعده.
1 / 8
تكسير النبي ﵊ لصور أصنام الرجال الصالحين من قوم نوح
ثم قال ﵀: [وهو الذي كسّر صور هؤلاء] اسم الإشارة في (هؤلاء) عائد إلى أصنام الرجال الصالحين الذين غلا فيهم قوم نوح، وكيف ذلك؟ بيان هذا ما ذكره البخاري عن ابن عباس ﵁ قال: (صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد: أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجوف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع)، وهذا يدل على أن هذه الأصنام بعثت وأحييت بعد الطوفان، فصارت إلى العرب وتعلقوا بها وعبدوها من دون الله، بل وزادوا أصنامًا وأوثانًا كثيرة عبدوها من دون الله، فالكعبة كان فيها أكثر من ثلاثمائة صنم كما ذكر أصحاب السير.
وقد كسّر النبي ﷺ الأصنام حسيًّا ومعنويًّا، أما حسيًا: فقد باشر هو ﷺ تكسير بعض الأصنام بيده، وأما معنويًّا: فإن رسالته حطمت الأصنام في قلوب الناس فدانت له جزيرة العرب؛ ﷺ، وقد بعث البعوث لتحطيم الأصنام، ولتحطيم ما كان يشرك به العرب من دون الله، وبهذا نفهم أن الأنبياء والرسل جاءوا لتقرير أمرٍ واحد، وهو توحيد الله، فكان أولهم نوح الذي دعا إلى التوحيد، فأولهم نوح دعا إلى التوحيد، وآخرهم محمد ﷺ الذي كسر الأصنام، وفي هذا بيان وحدة رسالة الرسل، وأنهم جاءوا لتقرير أمرٍ واحد، فالذي اعتنى به أولهم هو مضادة الشرك والتحذير منه، والذي عمله آخرهم هو تكسير الأصنام، وإقامة الدين لله ﷾ وحده دون غيره.
1 / 9
حال كفار قريش في العبادة عند بعثة النبي ﵊
ثم قال ﵀: [أرسله إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيرًا] الضمير في (أرسله) عائد إلى النبي ﷺ (إلى قوم) هم قريش (يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيرًا) بل ويصلون الرحم، ويطعمون المسكين، لكن هذه العبادات لم تنفعهم شيئًا، ولم تغن عن بعث رسول؛ لأنها كانت مشوبة بالشرك وعدم الإخلاص لله جل وعلا، فكانوا يلهجون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك، وكانوا يذبحون لغير الله، ويستقسمون بغير الله، ويلجئون إلى غيره، ويسألون جلب النفع ودفع الضر ورفعه من غير الله تعالى، ولذلك كانوا بحاجة إلى أن يبعث إليهم من يقرر التوحيد.
وبهذا نفهم أن الله ﷾ لم يخلق خلقه لمجرد العبادة التي تكون له ولغيره، بل خلق الخلق لإفراده بالعبادة، قال جل ذكره: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦]، قال ابن عباس: (كل موضع أمر الله ﷾ فيه بالعبادة في القرآن فإن المراد به التوحيد)، أي: ما خلق الله الخلق إلا ليوحدوه جل ذكره، وبهذا نفهم أن كثرة العبادة مع عدم الإخلاص لا تغني شيئًا، بل صاحبها في النار؛ ولذلك قال ابن القيم ﵀: (كثير العبادة التي نزع منها الإخلاص لا تنفع، وقليل العبادة مع الإخلاص والتوحيد تعلي قدر العبد عند الله ﷾، وترفعه إلى منازل عليا)، فالإخلاص هو الأصل؛ ولذلك لم يأتِ النبي ﷺ لقوم لا يعبدون الله فأمرهم بالعبادة، بل أتى إلى قوم يعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيرًا، إلا أنهم وقعوا في الشرك، فصحح ﷺ التوحيد وأمر بإفراد العبادة لله جل ذكره.
1 / 10
الوسائط بين الله ﷿ وبين خلقه
ثم قال الشيخ ﵀: [ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله]، وفسر هذه الوساطة بقوله: [يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده، مثل الملائكة وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين]، فهؤلاء زعموا أن بين الخلق وبين الله وسائط، والوسائط نوعان: نوع لابد من إثباته، ونوع جاء الشرع بإبطاله ونفيه، أما النوع الأول: فهم الرسل الذين يبلغون رسالات الله، ويدلون على طريق التعبد لله، ويبينون للناس معبودهم، فهؤلاء لابد منهم، ولا تقوم الحياة إلا بهم؛ ولذلك بعث الله ﷾ الرسل إلى كل أمة فقال: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا﴾ [النحل:٣٦]، فكل أمة محتاجة إلى هذا النوع من الوساطة التي يحصل بها تبليغ الدين، وتعريف الناس بحق الله ﷾، وما يجب له من العبادات، وما يجب له من الأسماء والصفات والأفعال، وحق هؤلاء الوسطاء أن يطاعوا ويتبعوا ويقتدى بهم، لا أن تصرف لهم أنواع العبادة.
أما النوع الثاني من أنواع الوسائط: فهو الذي ذكره الشيخ ﵀ هنا في قوله: [ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله يقولون: نريد منهم التقرب] وبهذا نفهم أن المشركين لم يكونوا يعتقدون في هذه الوسائط أنها تخلق من دون الله، ولا أنها تملك من دون الله، ولا أنها تدبر من دون الله، إنما كانوا يعتقدون أن هذه الواسطة وسيلة يتوصلون بها إلى مقاصدهم، ويعتذرون بقولوهم: نحن ليس لنا عند الله جاه، وليس لنا عند الله مكانة، فنسأل الله بمن له جاه عنده، وبمن له مكانة عنده، فوقعوا في الشرك، وهذا هو معنى قول الله ﷾: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر:٣] فإنهم اتخذوا هؤلاء الأولياء ليقربوهم إلى الله زلفى.
1 / 11
الشفاعة والوسيلة هي البوابة الكبرى للشرك قديمًا وحديثًا
هذه القضية هي البوابة الكبرى التي يدخل منها المشركون في الشرك قديمًا وحديثًا، فإن السبب الذي يعتمد عليه ويسوغ به كثير من المشركين وكثير من الواقعين في صرف العبادة لغير الله أفعالهم؛ إنما هي قضية الشفاعة والوسيلة، ولذلك قطع الله ﷾ عليهم الطريق، وأغلق دونهم الباب فقال: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾ [سبأ:٢٢]، فأغلق الباب الذي يعتمدونه ويلجئون إليه، فالشفاعة التي يعتمدون عليها في تسويغ الشرك لا تنفع إلا بإذنه، ويدلك على أن هذا هو أصل الشرك قوله جل ذكره: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس:١٨]، فجعل اتخاذ هؤلاء شفعاء شركًا، ثم قال: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [يونس:١٩]، أي: ما كان الناس إلا ملة واحدة -وهو التوحيد- فاختلفوا، وسبب اختلافهم هو هذه الشبهة المذكورة في الآية المتقدمة، وهي أنهم قالوا: «هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ» [يونس:١٨]، فهذا يدلك على أن السبب الذي أوقع المتقدمين والمتأخرين في الشرك، هو أنهم لجئوا إلى غير الله في طلب حوائجهم، وزعموا أن هؤلاء شفعاء وأنهم لا يصرفون إليهم هذه العبادة لأنهم يخلقون، ولا لأنهم يملكون، ولا لأنهم يدبرون؛ بل لأنهم وسائط وشفعاء.
ثم قال الشيخ ﵀: [ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط] علة هذه الوسائط أنهم يتخذونهم سبيلًا إلى التقرب إلى الله، ويتخذون شفاعتهم سبيلًا إلى تحقيق مطالبهم.
ثم مثّل لهذه الوسائط فقال: [مثل الملائكة وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين] والمشركون -كما سيتبين لنا من خلال كلام الشيخ ﵀ لم يكونوا مقتصرين في عباداتهم على الملائكة والصالحين، بل عبدوا أيضًا الأحجار والأشجار وغيرها، وإنما -كما يبدو لي والعلم عند الله- أضرب الشيخ عن ذكر هذا؛ لأنه إذا كانت عبادة هؤلاء من دون الله لا تصح، وعبادة الملائكة وعبادة عيسى ومريم وغيرهم من الصالحين لا تنفع؛ فانتفاء النفع في عبادة غيرهم من الجمادات من باب أولى.
1 / 12
شرح كشف الشبهات [٢]
كان كفار قريش الذين بعث فيهم النبي ﷺ يؤمنون بربوبية الله ﷿، ولكنهم يكفرون بالألوهية، فجاء النبي ﷺ ليجدد لهم دين أبيهم إبراهيم، ويدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
2 / 1
تجديد النبي ﵊ لدين إبراهيم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف ﵀: [فبعث الله إليهم محمدًا ﷺ يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم ﵇، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله، ولا يصلح منه شيء لغيره ﷾، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، فضلًا عن غيرهما، وإلا فهؤلاء المشركون مقرون ويشهدون أن الله هو الخالق الرازق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي إلا هو، ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات السبع ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيهن كلهم عبيده، وتحت تصرفه وقهره.
فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله ﷺ يشهدون بهذا فاقرأ قوله تبارك تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ [يونس:٣١] وقوله: ﴿قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ [المؤمنون:٨٤-٨٩] وغير ذلك من الآيات] .
قال الشيخ ﵀: [فبعث الله إليهم محمدًا ﷺ يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم ﵇] بعث الله محمدًا ﷺ إلى هؤلاء الذين كانوا يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله ليجدد لهم دين أبيهم إبراهيم، فالذين بعث فيهم النبي ﷺ كان معهم من بقايا دين إبراهيم شيء قليل، فبعث الله ﷾ محمدًا يجدد لهم هذا الدين، ووراثتهم لدين إبراهيم إنما هي بسبب كون ولده إسماعيل بقي في مكة، وإلا فإنهم لم يبعث إليهم رسول خاص كما قال جل ذكره: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ [يس:٦]، فإن قريشًا والعرب لم يبعث إليهم رسول يدعوهم إلى التوحيد، وإنما كانوا على بقايا دين إبراهيم، فلما اشتد الانحراف، وعمت الضلالة، بعث الله ﷾ نبينا محمدًا ﷺ، فجدد الرسالة، وأقام الدين، ونشر التوحيد، فجزاه الله عن الأمة خير ما جزى نبيًا عن أمته.
2 / 2
لا يجوز التقرب بالعبادة لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل
قال: [يخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله، لا يصلح منه شيء لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل، فضلًا عن غيرهما]، ولا شك أن العبادة هي حق الله ﷾ دون غيره ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة:٥]، والآيات الدالة على وجوب إفراد الله ﷾ بالعبادة وعدم صرفها لغيره بأي مسوغ كثيرة جدًا، منها هذه الآية التي ذكرناها، ويشهد لهذا أيضًا حديث معاذ الذي فيه أن النبي ﷺ سأله عن حق الله على العباد، وحق العباد على الله، فقال الله ورسوله أعلم، فقال له ﷺ: (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا) فهذا حق الله الذي لا يجوز صرفه لغيره، وإذا صرف هذا الحق لغيره غضب الله ﷾: (من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) ولذلك كان الشرك أعظم الظلم ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان:١٣]، وذلك أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فإذا صرفت العبادة لغير الله وتقربت بها لغيره؛ فقد وقعت فيما نهى الله ﷾ عنه، وظلمت ووقعت في أشنع وأعظم أنواع الظلم.
ثم قال الشيخ ﵀: [لا يصلح منه شيء] أي: لا يصلح من هذا التقرب وهذه العبادة شيء [لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل] فالواجب أن يفرد الله ﷾ بالعبادة، فلا يصرف شيء لملك مقرب ولا لنبي مرسل [فضلًا عن غيرهما] يشير بهذا إلى الأحجار والأصنام وغيرها مما عبده المشركون.
2 / 3
إيمان كفار قريش بتوحيد الربوبية
ثم بين ﵀ أن الذين بعث فيهم النبي ﷺ كانوا يقرون بتوحيد الربوبية فقال: [وإلا فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي إلا هو، ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات ومن فيهن، والأرضين السبع ومن فيهن كلهم عبيده، وتحت تصرفه وقهره] ولكن هذا الإقرار لم ينفع المشركين؛ إذ أن إقرارهم بأن الله ﷾ هو الخالق، وأنه هو المالك، وأنه هو المدبر، وأنه هو الرازق، لم ينقلهم من الشرك إلى التوحيد، وهذا يفيدك فائدة مهمة، وهي أن من يفسر لا إله إلا الله بأنه لا خالق إلا الله، وأنه لا مدبر إلا الله، وأنه لا مخترع إلا الله؛ فإنه قد ضل ضلالًا مبينًا، إذ أن هذا لا خلاف فيه بين الرسل وأقوامهم؛ فإن الله قد فطر الخلق على الإقرار بربوبيته ﷾، وإنما وقع الخلاف في صرف العبادة لغيره، فالمشركون استساغوا وسوغوا صرف العبادة لغير الله تعالى، والرسل جاءت تأمر الناس بوجوب صرف العبادة له وحده دون غيره ﷾.
وتوحيد الربوبية تقدم الكلام عليه، وهو إفراد الله تعالى بالخلق والملك والتدبير، ودليل هذا ما ذكره الشيخ بقوله: فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء الذين قاتلهم رسول الله ﷺ يشهدون بهذا فاقرأ قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾ [يونس:٣١] فالمشركون يقرون بأن الله هو الخالق، وأنه هو المالك، وأنه هو المدبر، ويطهر هذا الإقرار من هذه الآية: ﴿وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [يونس:٣١] فهذا فيه الخلق، والإقرار بأن الله ﷾ هو المحيي المميت، وأنه لا يحيي إلا هو، ولا يميت إلا هو، وهذا من مستلزمات الإقرار بتوحيد الربوبية، ولذلك يقول بعض العلماء: توحيد الربوبية هو أن تقر بأنه لا خالق إلا الله، ولا مالك إلا الله، ولا مدبر إلا الله، وأن الله هو المحيي المميت، فنحن حين نقول: إن الإحياء خلق، فهذا لا إشكال فيه، لكن كيف تكون الإماتة خلقًا؟ الله ﷿ قال: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك:٢] فالذي قال: إن الموت خلق هو الله جل ذكره، إذًا: هذا هو الدليل على أن الإماتة والإحياء من الخلق، والخلق من مستلزمات الإقرار بأن الله جل ذكره هو الرب.
ودليل الملك في قوله: ﴿أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ﴾ [يونس:٣١]، ودليل التدبير في قوله: ﴿وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ [يونس:٣١] والرزق داخل تحت هذه الثلاثة الأمور، ولو أضفته مستقلًا فلا بأس.
إذًا: هذه الآية جمعت ما يجب اعتقاده في ربوبية الله ﷾، ولذلك فإن حفظها يجمع لك ما يجب اعتقاده في ربوبية الله ﷾: أنه هو الخالق، وأنه هو المالك، وأنه هو المدبر والآيات في تقرير ذلك كثيرة، منها ما ذكره الشيخ ﵀ وهي قوله تعالى: ﴿قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ [المؤمنون:٨٤-٨٩] .
والمراد بـ (ملكوت) في هذه الآيات: هي خزائن السماوات والأرض، فالله ﷿ أمر نبيه أن يقول للمشركين: من بيده خزائن السماوات والأرض؟ فأقر المشركون بأنها لله ﷾، فالله هو المالك والخالق والمدبر ﷾.
قال: [وغير ذلك من الآيات] أي: الآيات الدالة على ربوبية الله ﷾ والدالة على أن المشركين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية.
2 / 4
شرح كشف الشبهات [٣]
انحرف صنفان من الناس في معنى لا إله إلا الله: صنف ظن أن مجرد قولها يكفي دون معرفة معناها، وما دلت عليه، وصنف آخر، فسرها بأنه لا خالق ولا مالك ولا مدبر إلا الله، وقد بين أهل العلم انحراف هذين الصنفين من الناس، وبينوا الحق في ذلك.
3 / 1
إقرار المشركين بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
وبعد: قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا، وأنه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله ﷺ، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا (الاعتقاد)، كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلًا ونهارًا، ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا لهم، أو يدعو رجلًا صالحًا مثل اللات، أو نبيًا مثل عيسى، وعرفت أن رسول الله ﷺ قاتلهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن:١٨] وكما قال تعالى: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ﴾ [الرعد:١٤]، وتحققت أن رسول الله ﷺ قاتلهم ليكون الدعاء كله لله، والذبح كله لله، والنذر كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع أنواع العبادة كلها لله، وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء يريدون شفاعتهم، والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم؛ عرفت حينئذٍ التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله] .
يواصل الشيخ ﵀ التقديم لهذه الشبهات التي سيجيب عليها، فيقول ﵀: (فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا) أي: بتوحيد الربوبية (ولم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله ﷺ، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا (الاعتقاد)، كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلًا ونهارًا، ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم إلى الله ليشفعوا لهم، أو يدعو رجلًا صالحًا مثل اللات، أو نبيًا مثل عيسى، وعرفت أن رسول الله ﷺ قاتلهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى: ﴿فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن:١٨]) .
هذا فيه بيان أن الإقرار بتوحيد الربوبية لا ينقل الإنسان من الكفر إلى الإيمان، إذ أن الإقرار بتوحيد الربوبية أمر فطر الله ﷾ عليه الخلائق، فكل الخلق يقرون بأن الله هو المالك، وأنه هو الخالق، وأنه هو المدبر، وأنه هو الرزاق، وإنما اختلف الخلق، وتشعبت طرقهم، وتباينت مذاهبهم؛ في صرف العبادة لله ﷾؛ فمن الخلق من أفردوا الله ﷾ بالعبادة، فلم يصرفوها لغيره، وهؤلاء هم المتبعون للرسل، ومنهم من تنكب عن هذا السبيل، وخالف طريق المرسلين؛ فصرف العبادة لغير الله ﷾، وهؤلاء هم أعداء الرسل الذين بعثت الرسل لمحاربتهم، ودعوتهم إلى دين الحق.
يقول ﵀: (وتحققت أن رسول الله ﷺ قاتلهم ليكون الدعاء كله لله، والنذر كله لله، والذبح كله لله، والاستغاثة كلها لله، وجميع العبادات كلها لله) علمت بهذا أن النبي ﷺ قد دعا إلى التوحيد، وأنه ﷺ أمر الناس بألا يصرفوا أي نوع من أنواع العبادة لغير الله، وبهذا تفهم أن الدعوة التي جاءت بها الرسل هي إفراد الله بالعبادة؛ فمعنى لا إله إلا الله أي: لا معبود بحق إلا الله، وبالتالي لا يجوز صرف أي نوع من أنواع العبادة لغيره تعالى، فكل ما ثبت أنه عبادة فصرفه لله ﷾ توحيد جاءت به الرسل، وصرفه لغيره ﷾ شرك نهت عنه الرسل.
يقول: (وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم، والتقرب إلى الله بذلك، هو الذي أحل دماءهم وأموالهم؛ عرفت حينئذٍ التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وأنه توحيد الألوهية الذي مقتضاه إفراد الله ﷾ بالعبادة) .
لا شك أن المشركين أبوا الإقرار بهذا التوحيد، ولذلك وقعت الخصومة بينهم وبين الرسل.
قال ﵀: (هو الذي أحل دماءهم وأموالهم)، فإن النبي ﷺ قد قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام)، وفي حديث طارق بن أشيم عند مسلم قال: (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه وحسابه على الله)، فعلمنا أن الذي جعله الله ﷾ ورسوله محرِّمًا للدم والمال، وعاصمًا لهما؛ هو الإقرار بالتوحيد، الذي هو إفراد الله ﷾ بالعبادة، فمن لم يقم بذلك فإنه مباح الدم والمال، ولا حرمة لدمه وماله.
ثم قال ﵀: (وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله)، فمعنى قولك: لا إله إلا الله: إفراد الله ﷾ بالعبادة، وذكرنا لكم أن العبادة هي: كل ما أمر الله به ورسوله، فكل ما أمر الله به ورسوله من العبادة التي لابد من إفراد الله ﷾ بها، فقولك: لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله.
3 / 2
بيان التوحيد الذي جاءت به الرسل
يستطرد الشيخ ﵀ في بيان التوحيد الذي جاءت به الرسل فيقول: [فإن الإله عندهم -يعني: عند العرب- هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور]، لأجل هذه الأمور المراد بها العبادة، وقد تنوعت أقوال العلماء ﵏ في تعريف الإله، فمنهم من قال: الإله اسم جنس يطلق على كل ما عبد بحق أو باطل، فكل ما عبد بحق أو باطل فإنه يطلق عليه إله، لكن غلب استعمال هذا اللفظ فيمن عبد بحق، وعرّفه شيخ الإسلام ﵀ بأنه المعبود المطاع، وعرفه ابن القيم بأنه الذي تألهه القلوب، يعني: تعبده وتحبه، فإله بمعنى مألوه، ككتاب بمعنى مكتوب، وأشمل ما وقفت عليه من التعاريف لهذه الكلمة هو ما ذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب ﵀ وبعض تلاميذه وأتباعه على دعوته حيث ذكروا أن الإله هو الذي يقصد بشيء من العبادة كما هو ظاهر من كلامه هنا، قال: (فإن الإله هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور) أي: لأجل العبادة، فالإله اسم جنس لكل ما قصد بشيء من العبادة، فكل ما توجه إليه العبد بشيء من العبادة أو قصده بصورة من صور التعبد فإنه قد اتخذه إلهًا، ولذلك لما كان النبي ﷺ والصحابة خارجين لغزوة حنين، وطلب منه بعضهم أن يجعل لهم ذات أنواط كما أن للمشركين ذات أنواط؛ جعل ذلك اتخاذًا لهذه الشجرة آلهة، فقال ﷺ: (الله أكبر! إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده! كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ»، وهذا يدل على أن كل من قصد بشيء من التعبد فإنه إله، ولو كان القصد بشيء من التعبد، وليس بكل التعبدات، فمن صرف مثلًا الدعاء لغير الله، فسأل غير الله فإنه قد وقع في الشرك، ولو كان قد أخلص في الصلاة وفي الحج وفي الصيام وفي باقي العبادات، فصرف أي نوع من أنواع العبادة يوقع الإنسان في الشرك الذي هو اتخاذ إلهٍ من دون الله.
فقوله: (فإن الإله هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور) يفيدنا أن الإله هو ما قصد بشيء من العبادة، وعليه نعرف ونفهم بطلان ما ذهب إليه الذين يفسرون كلمة الإله بالخالق، أو بالقادر على الاختراع، أو بالصانع، كما سيتبين بعد قليل من كلام الشيخ.
يقول: (سواء كان ملكًا، أو نبيًا، أو وليًا، أو شجرة، أو قبرًا، أو جنيًا) يعني: سواء كان المقصود بهذه الأنواع من العبادات أو ببعضها ملكًا أو نبيًا أو وليًا أو شجرةً أو قبرًا أو جنيًا، فكل ما قصدته بشيء من العبادة فهو إله.
قال: (لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر) فالعرب لم يكونوا يفهمون من كلمة الإله أنه الخالق الرازق المدبر.
قال: (فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده) أي: يعلمون أن الخلق والملك والرزق والتدبير لله وحده، كما تقدم في الآيات الدالة على أن المشركين كانوا يقرون بأن الله هو المالك، وأن الله هو الرازق، وأن الله هو المدبر، وأن الله هو الخالق، يقول: (وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد) الذي يصرفون له أنواع العبادة، وهذا موجود في بعض البلدان والأماكن فيطلقون على من يصرفون لهم أنواع العبادة: السادة أو الأولياء أو الصالحين، أو بما اصطلحوا عليه من الألفاظ التي سموا بها هؤلاء الذين يصرفون لهم العبادة من دون الله.
قال الشيخ ﵀: [فأتاهم النبي ﷺ يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله] فإنها هي دعوة الرسل، وتقدم الدليل على ذلك، وفي حديث ابن عمر في الصحيحين: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)، فالدعوة التي جاء بها النبي ﷺ هي دعوتهم إلى عبادة الله وحده دون غيره، ولا إله إلا الله معناها الذي يجهله كثير من المسلمين هو: لا معبود بحق إلا الله، وتقدم لنا أن الإله هو المعبود المطاع، فتنزيل هذا المعنى على هذه الجملة يبين لك أن معناها لا معبود بحق إلا الله، واحتجنا إلى تقدير الخبر؛ لأن الجملة الاسمية لا تتم إلا بمبتدأ وخبر، فاحتجنا إلى التقدير، وهنا إذا قلنا: لا إله إلا الله، ولم نقدر خبرًا، فإن الجملة لا تتم، إذ أن (لا) لا تعمل في المعارف، وبالتالي لا يصلح أن يكون لفظ الجلالة في قوله: (إلا الله) خبرًا، فاحتجنا إلى تقدير الخبر، والخبر المقدر أصح ما يقال فيه: إنه حق، يعني: لا إله حق إلا الله، ودليل صحة ذلك التقدير قوله جل وعلا: ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ﴾ [يونس:٣٢] فيكون أحسن ما قدر في هذه الجملة أن تقول: لا معبود حق أو بحق إلا الله، فيكون لفظ الجلالة بدلًا عن الخبر وليس هو الخبر.
إذًا: عرفنا أن هناك تقديرًا، والتقدير أصح ما يقال فيه: إنه حق، ووجه هذا التقدير قوله تعالى: ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ﴾ [يونس:٣٢]، ولو قال قائل: لا حاجة للتقدير، والمعنى: لا معبود إلا الله، قلنا: هذا لا يستقيم على لسان العرب، بل لابد من التقدير، وبعضهم قدر (موجود) وهذا فيه نظر، يعني: لا إله موجود إلا الله، قدر الخبر بموجود، وهذا فيه نظر، وأصح ما يقال في التقدير هو ما ذكرناه قبل قليل، وهو الذي يسلم من الاعتراضات الواردة على تقديره بموجود.
3 / 3
المراد بكلمة الإخلاص معناها لا مجرد لفظها
قال الشيخ ﵀: [والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها]، وهذه أول الانحرافات التي وقعت في هذه الكلمة، وهي أن بعض المنتسبين لملة الإسلام ظنوا أن الكلمة تفيد ما يترتب عليها من أحكام بمجرد نطق اللفظ دون التقييد بالمعنى، ولا شك أن هذا انحراف خطير؛ فإن (لا إله إلا الله) كلمة يطلب لفظها ومعناها؛ ولذلك وقعت الخصومة بين الرسول وقومه؛ فإنه لو كان المطلوب مجرد الكلمة لقالوها وأدوها، لكن علموا أن المراد هو معنى الكلمة، وسيذكر الشيخ عنهم ما يدل على أنهم فهموا أن المعنى هو المراد فقالوا: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص:٥]، ولو كان النبي ﷺ قد طلب منهم مجرد التلفظ بهذه الكلمة لما استعجبوا ولما استغربوا من هذا الطلب، إذ أنه لفظ مجرد عن معناه، ولا إله إلا الله لا تنفع قائلها إلا باستيفاء شروطها، وتقييدها بالقيود كما ورد ذلك عن السلف.
قال الشيخ ﵀: [والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي ﷺ بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق به والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه]، فمعنى لا إله إلا الله: إفراد الله بالعبادة، ومعناها البراءة من الشرك وأهله، ولذلك ذكر الشيخ ﵀ في الثلاثة الأصول أن الذي يفسر معنى هذه الآية هو قوله ﷾: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ [الزخرف:٢٦-٢٧] فجعل تفسير لا إله إلا الله البراءة من الشرك وأهله، وإفراد الله ﷾ بالتوحيد والعبادة؛ ولذلك لا يصح التوحيد إلا بالجمع بين إفراد الله بالتوحيد وبين البراءة من الشرك وأهله، فلو أفرد العبد الله بالتوحيد لكنه لم يقم بالبراءة من الشرك وأهله؛ فإنه لا ينفعه ذلك بشيء، قال الله جل ذكره: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ [البقرة:٢٥٦] .
فرتب الله ﷾ الاستمساك بالعروة الوثقى على أمرين: الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله، فلو آمن بالله: بإلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، ولم يكفر بالطاغوت؛ لم ينفعه ذلك بشيء، إذ أن من مقتضيات إفراد الله بالعبادة الكفر بما يعبد من دونه، كما قال جل ذكره: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ [البقرة:٢٥٦]، ويدل عليه أيضًا ما في صحيح مسلم من حديث طارق بن أشيم أن النبي ﷺ قال: (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه)، فرتب تحريم الدم والمال على قول: (لا إله إلا الله)، والكفر بما يعبد من دون الله، ولذلك فسر الشيخ ﵀ المراد بهذه الكلمة فقال: هو إفراد الله تعالى بالتعلق، والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه، يعني: البراءة مما عبد من دون الله؛ فإنه لما قال لهم: قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص:٥]؛ فاستعظموا واستغربوا -قاتلهم الله- أن يفرد الله بالعبادة، مع أنهم يقرون أنه لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا مالك إلا الله، ولا مدبر إلا الله، ولا محيي ولا مميت إلا الله، ومع ذلك استغربوا كيف تصرف العبادة لواحد؟! وضاقت عقولهم عن أن يتوجهوا لله ﷾ وحده دون غيره فقالوا: (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) يعني: في منتهى العجب، ومنتهى الاستغراب، أن نصرف العبادة لواحد.
ولا شك أن ما استعجبوا منه ليس بعجيب، بل هو الذي تدل عليه العقول الصحيحة؛ فإن من كان يرزق وحده، ومن كان يملك وحده، ومن كان يخلق وحده، ومن كان يدبر وحده؛ فهو المستحق أن يعبد وحده، ولذلك كانت الرسل تستدل بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية، وتقرر توحيد الإلهية بتقرير توحيد الربوبية، ولكن لما فسدت قلوب المشركين فسدت عقولهم.
قال الشيخ ﵀: [فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار!]، ما الذي عرفه جهال الكفرة من هذه الكلمة؟ عرفوا أن تفسير هذه الكلمة: هو إفراد الله بالعبادة، والكفر بما عبد من دونه، والبراءة منه، هذا الذي فهمه الكفار، فالعجيب ممن ينتسب إلى الإسلام ولا يفهم من هذه الكلمة ما فهمه جهال الكفار! قال الشيخ ﵀: [بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني] .
3 / 4