منهج أهل السنة والجماعة في نصوص الأسماء والصفات
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لا زلنا في صفة الكلام للرب ﷾، ولعلنا نتكلم عن دليل من أدلة الأشاعرة، ودليل من أدلة المعتزلة مع الرد عليها، ولعلنا نتكلم عن رؤية الرب ﷾ في الآخرة: يقول المؤلف ﵀:
وجميع آيات الصفات أمرها حقًا كما نقل الطراز الأول
بين شيخ الإسلام رحمه الله تعالى منهجه في آيات الصفات، ويقصد بالآيات هنا ما ورد في الكتاب والسنة، أي: أنه يمر النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ ويجريها على ظاهرها.
والإمرار: قال في القاموس: مرّ مرورًا، بمعنى: جاز وذهب، أي: أنه يجيز آيات الصفات كلها، لا يجد في قلبه أدنى حرج من إثبات ما دلت عليه هذه الآيات، ويكون المقصود أنه لا يقف معها باحثًا في كيفياتها، ولا منقبًا فيها، ولا معترضًا عليها، وإنما قابلًا لكل ما دلت عليه هذه النصوص.
قوله: (حقًا) أي: أنه سيأخذ بظاهرها وما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله تعالى.
قوله: (كما نقل) أي: روي، سواء كان ذلك النقل في كتاب، أو دلت عليه نصوص السنة، أو فهمها الصحابة ﵃ وأرضاهم.
قوله (الطراز) يقال: هو البز والهيئة، وقالوا: الطراز هو الجيد من كل شيء.
وذكر بعض أهل اللغة أن هذه الكلمة معربة، وعلى كل حال فإن المقصود بها: الرعيل الأول من الصحابة ﵃ والتابعين لهم بإحسان كـ سفيان الثوري وسفيان بن عيينة وابن المبارك وغيرهم، وقالوا: إن حسانًا ﵁ مدح قومًا وقال فيهم:
بيض الوجوه كريمة أنسابهم شم الأنوف من الطراز الأول
أي: يثني عليهم بما يتميزون به من الصفات.
هذا البيت يبين لنا منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في جميع النصوص الدالة على الأسماء والصفات، وأنه يمرها على ظاهرها ولا يتعرض لها بشيء، ويبين ما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله ﷾.
ثم انتقل شيخ الإسلام بعد ذلك مبينًا أنه يرد عهدتها إلى نقالها فقال:
وأرد عهدتها إلى نقّالها وأصونها من كل ما يُتخيل
قوله: (وأرد عهدتها) الضمير عائد على آيات الصفات وأحاديثها، وأنه يرد آيات الصفات الواردة في نصوص الكتاب والسنة إلى نقالها، (والعهدة) أي: الخروج من تبعتها، أي: أنني لست أنا الذي جئت بها، وإنما أعيد ما دلت عليه إلى من نقلوها، ومفهومه أني أصون اعتقادي عن الخوض فيها بعزوها إلى نقالها، ولذلك دائمًا يقال: (والعهدة على الناقل) أنا أروي لكم والعهدة على الناقل، أي: لست أنا الذي جئت بها، وكأن شيخ الإسلام ابن تيمية يبين أن عقيدته ليس هو الذي جاء بها، وإنما أخذها من نقالها، وأيضًا لم يأتِ بعقيدة جديدة من عند نفسه رحمه الله تعالى، وإنما جاء بها نقلًا عن السلف من الصحابة والتابعين ﵃ أجمعين.
ويقال: عهدة الخبر يقصد به: صدقه أو كذبه، وكأن الآن عهدة الخبر في الصدق والكذب ليست لي، وإنما لرواتها وما نقل عنهم من أئمة السلف، ولذلك ردها إلى نقلتها وهم الأئمة الأثبات رحمهم الله تعالى، والذين أخرجوها من مهرة أئمة الحديث وغيرهم.
يفهم من (العهدة) أنها بمعنى الاستئمان، فإذا قلت: عهدت إليك هذه العهدة، أي: استأمنتك، ونحن نستأمن سلفنا فيما ينقلونه لنا، فالصحابة مستأمنون على الوحي، والرسول ﷺ مستأمن على الوحي، ولهذا يقول كل نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: ﴿وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾ [الأعراف:٦٨] أي: وما أنقله أنا أمين عليه، فهكذا الرواة الذين نقلوا لنا الأحاديث عن النبي ﷺ، ونقل لنا كذلك الصحابة العقيدة مما أخذوه عن النبي ﷺ فهم مستأمنون عليه، ونقلوه لنا كما جاءهم عن الله أو جاءهم عن رسول الله ﷺ.
وقوله: (وأصونها) الصون في اللسان: أن تقي شيئًا، أي أحميها، فالصيانة معناها: الحماية، ولهذا قال: (وأصونها) أي: أصون آيات الصفات وأحاديثها عن الخوض في معناها، ثم ذكر الصيانة لها مبينًا أن الصيانة عن كل ما تخيل، فإن المبتدعة من المعطلة والمشبهة لم يصونوا نصوص الصفات عن التخيل، ولهذا قالوا قاعدة: (كل مشبه معطل، وكل معطل مشبه) فإذًا: كل من المشبهة والمعطلة جاءوا بقضية التخييل، فلم يسيروا على ما سار عليه سلف الأمة، ولهذا قال:
وأصونها عن كل ما يتخيل
فأجعل لها حماية، لا أتخيل بعقلي أي صفة وردت لله تعالى، فإن المعطل شبه الله أولًا ثم عطل، فالمعطل الذي نفى الصفات قال: لا أفهم من مدلول الصفات إلا أنها تشبه صفات المخلوقين والله ليس كالمخلوقين، إذًا أنا أنفيها، والمشبه كذلك معطل، ووجه التعطيل عنده أنه قال: الله له يد مثل يدي، ولو سألناه: هل النص الذي ورد يراد منه أن يثبت لله مثل يد المخلوق؟ الجواب: لا، فمن قال: يد الله مثل يد المخلوق فقد عطل النص عما دل عليه من إثبات الصفة اللائقة بالله تعالى، ولهذا كل من المشبه والمعطل كان عنده شيء من التخييل ومن التشبيه.
ونصل إلى نتيجة أن كل ما خطر في بال الإنسان من شيء حول الصفات فالله على خلافه، ولا يمكن أبدًا أن يكون كما يتصوره الإنسان، فإن العقل قد يتخيل أشياء والله ﷾: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:١١] ولهذا يقول صاحب القاموس: وتخيل الشيء له، أي: تشبه، كأنه أصبح له شبيه.
قال شيخ الإسلام:
قبحًا لمن نبذ القران وراءه
وردت (قبحٌ) ووردت (قبحًا):
قبحًا لمن نبذ القران وراءه وإذا استدل يقول قال الأخطل
(قبحًا لمن نبذ القرآن وراءه) هذه القاعدة تنطبق على الأشاعرة والمعتزلة والجهمية والفلاسفة، لأن كل هؤلاء لم يأخذوا بما دل عليه الكتاب والسنة، وعدم أخذهم لما دل عليه الكتاب والسنة قد يكون شيئًا ظاهرًا، يقول: أنا لا أريد الكتاب والسنة، ولا أحتج بهم، كما نقل عن بشر ونقل عن غيره أنهم عندما يناقشون يقولون: دعونا من نصوص الكتاب والسنة وناقشونا بالعقل، وهذا أشد قبحًا، ويصل إليه هذا الدعاء: (قبحًا لمن نبذ القران وراءه) هذا نبذ كامل.
وقد يكون النبذ غير مباشر كأن يتأول ما دل عليه الكتاب والسنة، وقد ذكرنا سابقًا قاعدة: (أن الأصل إجراء الألفاظ على ظاهرها) ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة:٦٤] نثبت اليدين.
يضحك الله فنعرف مدلول الضحك ونثبته لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، ومن لا يثبته فإن هذا يعتبر قد نبذ القرآن وراءه ولم يحتج به أصلًا، وينطبق انطباقًا كاملًا على المعتزلة الذين عندهم قاعدة يقولون: (إن العقل هو الحاكم على الكتاب والسنة) ولقد رد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى برد عظيم في كتابه: درء تعارض العقل والنقل، بين تأصيلهم وبين بطلان ما ذهبوا إليه ولم يعملوا به، ولهذا قالوا: أي نص في كتاب الله أو سنة رسوله ﷺ لا يقبله العقل فإنه يطرح! وهذا هو النبذ الحقيقي لما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
القبح في اللغة: ضد الحسن، ويكون في الصورة والفعل، أي: قد يكون الإنسان صورته قبيحة، وقد تكون أفعاله قبيحة، وبعضهم يقول: إنه عام في كل شيء، قد يكون القبح في الاعتقاد، وقد يكون في القول، وقد يكون في العمل، وقد يكون في الصورة، وكل هذه يدخل فيها القبح، يقول الأزهري: القبح هو نقيض الحسن، وهو عام في كل شيء.
قوله: (لمن نبذ) قال في اللسان: النبذ طرحك الشيء من يدك، أي: طرحك للشيء من يدك سواء كان طرحك له أمامك أو كان في خلفك، فهذا نبذ، ولهذا قالوا: نبذ النوى: طرحه وإلقاؤه، ونبذت الشيء إذا رميته وأبعدته عنك، ويقال: كل طرح يسمى نبذًا، ونبذ الكتاب وراءه أي: ألقاه، ولهذا قال: نبذوا القرآن، كأنهم غير مبالين بكتاب الله وسنة رسوله، واستحقوا بذلك أن يكونوا مقبوحين، فإن من أعرض عن كتاب الله وسنة رسوله ﷺ يستحق أن يقبح ولا يلتفت إليه.
ذكر: (وراءه) نقول هنا: قد يكون النبذ حسيًا وقد يكون النبذ معنويًا.
والنبذ الحسي هو رمي القرآن فلا يقبله أصلًا، ويقول: هذا القرآن لا يحتج به، وقد يكون النبذ معنويًا بأن لا يعمل به، وإن كان يعظم القرآن، أي: القرآن على العين والرأس، لكن لا نفهم مدلوله ولا نقبله حجة بينا وبينكم، وكل هذه تنطبق على طوائف المبتدعة الذين ينبذون ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
12 / 2