Encyclopedia of Ethics - Al-Kharraz
موسوعة الأخلاق - الخراز
Daabacaha
مكتبة أهل الأثر للنشر والتوزيع
Lambarka Daabacaadda
الأولى
Sanadka Daabacaadda
١٤٣٠ هـ - ٢٠٠٩ م
Goobta Daabacaadda
الكويت
Noocyada
مَوْسُوعَةُ الأَخْلَاقِ
تأليف
خالد بن جمعة بن عثمان الخراز
مكتبة أهل الأثر
Bog aan la aqoon
حقوق الطبع محفوظة للؤلف
الطبعَة الأولى
١٤٣٠ هـ - ٢٠٠٩ م
مكتبة أهل الأثر للنشر والتوزيع
الكويت. حولي. شارع المثنى. تلفاكس:
٢٦٥٦٤٤٠/ الخط الساخن: ٦٥٥٤٣٦٩
E.mail:aahel_alather@hotmail.com
1 / 2
مَوْسُوعَةُ الأَخْلَاقِ
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مُقدّمة
إنَّ الحمدَ لله، نحمده ونَستعينُه ونَستغفرُه، ونعوذُ بالله من شُرورِ أنفُسِنا، ومن سَيئاتِ أعمالِنا، من يهدهِ الله فلا مُضلَّ لهُ، ومن يُضلل فلا هادي لَهُ.
وأشهدُ أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد قال رسول الله ﷺ: "إنّما بُعثتُ لأتمِّم صالحَ الأخلاق". وفي رواية: "مكارم" (١).
وفعلًا تمّت بإذْن الله تعالى، إذْ رَبَّى جِيلًا فاق الأمم في كل مجال، وغيَّر ملامح التاريخ، وجعلَ ذلك التاريخ يستدير ليُسطر آيات الحق ومسيرة النور الذى بدَّد الظلام والظلمات، وجاء فَيَّاضًا بِالخَيْرِ صَداعًا بالحقِّ طافِحًا بالخُلُقِ الكريم، وقد أتى منَاسِبًا لكل أمَّة، مجتازًا حدود الزَّمان والمكان؛ ليكون حلًاّ لكل ظرف ولأيِّ ظرفٍ مهما كان، وأيًّا كان، وقد سعَدت أُمَّتنا بهذا النُّور العظيم الذي منحها الهوية والكرامة.
وإنَّ الناظر في هذا الدِّين العظيم ليَعرفُ حقَّ المعرفة أنَّه وُجِدَ للبشرية
_________
(١) صحيح. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (٢٧٣)، وأحمد (٢/ ٣٨١)، وغيرهما عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "الصحيحة" (٤٥).
1 / 5
جَمْعَاء، ولا حياة كريمة لها بدونه، ونستَغْرب كيف يَحْيا الآخَرُون الذين حَرَمُوا أنفسهم الهدايةَ تَعَصُّبًا وضَلالًا وجَهْلًا؟! ولكن الجواب يَأتينا سَريعًا من كتاب الله الكريم: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)﴾ [فصلت: ٤٦].
ومن أهم ما يُمَيّز الإنسان المسلم صورة تعَامُله مع الله سبحانه، ومع إخْوانهِ في الدين، ومع غيرهم، فإن أحسن، أرضى ربَّه ورضي عن نفسه، وأعطى صورة رائعة للآخرين عن هذا الدين، وعن معتقديه، فكأنه دعا بلسان الحال وليس بلسان المقال إلى دينه دعوة أبلغ وأوصل إلى القلب والعقل معًا.
وقد بدا انعكاس الصور السلوكية الرائعة في تأثيرها في انتشار هذا الدين في بعض المناطق التي لم يصلها الفتح الإسلامي؛ إذ دخل في هذا الدين الحنيف شعوب بكاملها لمَّا رأوا القدوة الحسنة مرتسمة خُلُقًا حميدًا يُنيرُ طريقهُ لنفسه بِمصبَاحه، فيرى الآخرون ذلك النور، ويرون به، وبناء على ذلك الإقبال سريعًا دون دافع سوى القدوة الحسنة، فَرُب صفة واحدة مما يأْمر به الدين تُتَرجَمُ حية على يد مسلم صالحٍ، يكون لها أثرٌ لا يمكن مقارنته بنتائج الوعظ المباشرة؛ لأن النفوس قد تَنْفَر من الكلام الذي تَتَصوَّر أن للناطق بهِ مصْلَحة، وأحسن تلك الصفات التَّمسك بِالأخلاق الحميدة التي هي أول ما يُرى من الإنسان المسلم، ومن خِلالِها يُحْكَمُ له أوْ عَلَيه من الله، ثم مِن قِبَلِ النَّاس.
ونظرًا؛ لما لهذا الأمر من أهمية، وحرصًا مني على الإسهام في التأكيد
1 / 6
على الالتزام بالأخلاق لكل إنسان مسلم، وغيرةً على أخلاق الأمة في هذه الأيام التي لَوَت أعناقَ الأخلاق الإسلامية، أو مسختها أو قتلتها، واتبعت صرعات من شرق وغرّب، متخذةً منهم القدوة، وتحت تأثير النجَاحَات المادِّية التي حققتها الأمم غير الإسلامية، والهجمات المحمومة التي ما انفك الأعداء يُوالُونَها في كل حين، قاصدين إطفَاء هذا النُّور، وتدْجِين المسلمين، علمًا بأنَّ كل ما يقترفونه بحق هذه الأمة يَجْري في خطِّ مدروس، تَضَافَرت على إنجاحه أحقاد اليهود، والصليبية، وغيرهم، وبعد أن عَجَزوُا عن تدْمِيرِ الإسلام وأهله في ميادين الحروب، حوَّلُوا الأمر إلى حرْبِ أَخْلاقِية تجرد شبابنا من كلِّ القيم، ولن يفلحوا ما دَامَ في هذه الأمة رجالْ مُخْلِصُون، يُنَافحُونَ عن هذا الدِّين في كل مجال.
وياللأسف فإننا نجد في هذا الزمان المتأخِّر أقوامًا ادعوا التَّمكُن ورجَاحة العقل، غير أنَّهم إلى الشهوات والشُّبُهات يَركُضُون، ومع النِّفاق وسُوء الأَخلاق يَجْرونَ.
وهم بذلك يخالفون حتى مسمى العقل، فما سُمي العقلُ عقلًا إلا أنه يَمْنَعُ الإنْسَانَ مِنْ الإِقْدَامِ عَلَى شَهَوَاتِهِ إذَا قَبُحَتْ، ويلزمه صراط الله المستقيم، والعاقل مَنْ عَقَلَ عَنْ اللهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وتمسّك بشرعه.
قال العلامة ابن قيم الجَوْزية ﵀:
"وحياة العقل: هي صحة الإدراك، وقوة الفهم وجودته، وتحقق الانتفاع بالشيء أو التضرر به، وهو نور يخص الله به من يشاء من خلقه، وبحسب تفاوت الناس في قوة ذلك النور وضعفه، ووجوده وعدمه، يقع
1 / 7
تفاوت أذهانهم وأفهامهم وإدراكاتهم، ونسبته إلى القلب كنسبة النور الباصر إلى العين" (١).
قال أبو حاتم:
"نبغ أقوامٌ يدَّعُون التَّمكن من العَقْل باستِعمال ضِدّ ما يُوجبُ العقل من شهَواتِ صُدُورهم، وَترْك ما يُوجِبُه نَفْسُ العقل بهجَمَات قُلُوبِهِم، جَعَلُوا أسَاسَ العقل الذي يَعقدُون عليه عند المعضلات: النِّفاق والمُدَاهَنَة، وفُرُوعه عند ورُود النائِبَات حُسنَ اللباس والفَصَاحَة، وزَعَمُوا أن من أَحْكَم هذه الأشيَاء الأرْبع فهو العاقل! " (٢).
* من هو العاقل؟
هو الذي يحبس نفسه ويرُدُّها عن هواها، وسُمي العقلُ عقلًا لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، أي يحبسه، وقيل: العقلُ هو التمييز الذي به يتميز الإنسان من سائر الحيوان.
وقال ابن الأنباري: رجل عاقل، وهو الجامع لأمره ورأيه.
وقال صاحب المحكم كما في "تهذيب الأسماء واللغات": العقل ضد الحمق، والجمع عقول، عقل يعقل عقالًا، وعقالًا فهو عاقل من قوم عقلاء.
* محل العقل:
قيل العقل جوهر روحاني، خلقه الله تعالى متعلقًا ببدن الإنسان، وقيل:
_________
(١) "مدارج السالكين" (١/ ٤٤٦).
(٢) "روضة العقلاء" (ص ١٦).
1 / 8
جوهر مجرد عن المادة يتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف، وقيل: محله الدماغ في الرأس، وقيل: محله القلب.
والتحقيق أن العقل له تعلق فيهما معًا، حيث يكون الفكر والنظر في الدماغ، ومبدأ الإرادة والقصد في القلب؛ ولهذا يمكن أن يقال: "القلب موطن الهداية، والدماغ موطن الفكر" (١).
* نعمة العقل:
والعقلُ نِعْمَة عظيمةٌ من أَجَلِّ النِّعم، ومن خِلالِه يستطيعُ المَرْء أن يدْرِكَ مَا حَوْلَهُ، وما الذي ينبغي عليه أن يأتيه أو يَجتنبُه، وبه يَعرفُ المرء نفسه، ويعرف ربه، وُيبصرُ طريقه ويبني علاقات وطِيدَة، ويَعْقد صِلات حميمة مع من حَولَهُ، والعاقل من اتَّعظَ بِغَيِره، والأَحْمَق أَو الجَاهِل من اتَّعظَ به غيره، والعاقل من يكون حاضر العقل والقلب، فلا طيش ولا ضلال.
والآيات القُرآنية في بيان نِعْمَة من يستخدمون عقولهم ويستدلون بها على الحق كثيرة، ومنها قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الرعد: ٤].
وقوله سبحانه: ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الروم: ٢٨].
وقوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (٤٣)﴾ [العنكبوت: ٤٣].
وأفاض المولى سبحانه في مدح من انتفع بعقله بالمواعظ والعبر
_________
(١) ينظر "التعريفات" للجرجاني (١٩٦)، و"مجموع الفتاوى" (٣٠٣)، و"المختصر الحثيث" (٧٢)، و"منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد" (١/ ١٦٣).
1 / 9
والآيات، فقال سبحانه: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٢٦٩)﴾ [البقرة: ٢٦٩].
وقال سبحانه: ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)﴾ [المائدة: ١٠٠].
وذم الله سبحانه قومًا عطلوا عقولهم، وفي ذلك آيات كثيرة، ومنها قوله ﷿: ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢)﴾ [يس: ٦٢].
وقال ﷿: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (١٠)﴾ [الملك: ١٠].
وقال سبحانه: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (٢٢)﴾ [الأنفال: ٢٢].
أمَّا الأحاديث النَّبوية عُمُومًا، فكُلّها يُسَلَّم لها العقل السليم الذي تَربَّى على الإسلام، ويَنقَادُ لها، كيف لا وهي العَافية للناس، والسَّعادة في الدارين؟! ولا ينقاد للسنة إلا عاقلٌ، ومن نبذ السنة النبوية فإنه أحمق لا عقل له.
قال أبو حاتم: "وأفضل ما وهب الله لعباده العقل"، ولقد أحسن الذي يقول:
وأفضل قسم الله للمرء عقلهُ ... فليس من الخيرات شيء يُقَاربُه
إذا أكمل الرحمنُ للمرءِ عقلهُ ... فقد كمُلَت أخلاقهُ ومآربه
يعيش الفتى في الناس بالعقل إنه ... وإن كانَ محظورًا عليه مكاسبُه
1 / 10
قيل لابن المبارك: "ما خير ما أُعطيَ الرجل؟
فقال: غريزة عقل، قيل: فإن لم يكن؟ قال: أدبٌ حسن، قيل: فإن لم يكن؟ قال: صمتٌ طويلٌ، قيل: فإن لم يكن؟ قال: موت عاجل" (١).
قال أبو حاتم: "فالواجب على العاقل: أن يكون بِمَا أحْيَا عقله من الحكمة أكلَفَ (أي أشد تعلقًا وانشغالًا) منه بما أحيا جسده من القوت؛ لأنَّ قوت الأجساد المطاعم، وقوت العقل الحكم، فكما أن الأجساد تموت عند فقد الطعام والشراب، وكذلك العقول إذا فَقَدت قُوتَها من الحِكْمة ماتت" (٢).
قال الماوردي: "واعلم أنّ بالعقلِ تُعرفُ حقائقُ الأمورِ ..، وبه يَمتَازُ الإنسانُ عن سائرِ الحيوانِ، فإذا تَمَّ في الإنسانِ سُميَ عاقلًا، وخرج به إلى حَدِّ الكمال" (٣).
قال بعضهم:
إذ تم عقل المرء تمت أمُورُه ... وتَمَّت أياديه وتم بناؤُهُ
فإن لم يكن عقل تَبيَّن نقْصُه ... ولو كانَ ذا مال كثيرًا عَطاؤُهُ
* ثمرة العقل:
قال العلامة ابن القيم ﵀:
"ثمرة العقل الذي به عُرف الله ﷾، وأسماؤهُ، وصفاتُ
_________
(١) "روضة العقلاء" (١٧).
(٢) "روضة العقلاء" (١٨).
(٣) "أدب الدنيا والدين" (١٢).
1 / 11
كماله، ونعوتُ جلاله، وبه آمن المؤمنون بكتبه، ورسله، ولقائه، وملائكته، وبه عُرفت آياتُ ربوبيته، وأدلهُ وحدانيته، ومعجزاتُ رسله، وبه امتُثلتْ أوامره، واجتنبت نواهيه، وهو الذي يلمح العواقب فراقبها، وعمل بمقتضى مصالحها، وقاوم الهوى، فردَّ جيشه مفلولًا، وساعدَ الصبر حتى ظفر به بعد أن كان بسهامه مقتولًا، وحث على الفضائل، ونهى عن الرذائل، وفتق المعاني، وأدركَ الغوامض، وشدَّ أزر العزم، فاستوى على سُوقه، وقوّى أزر الحزم حتى حظي من الله بتوفيقه، فاستجلبَ ما يزينُ، ونفى ما يشينُ، فإذا ترك وسلطانه؛ أسر جنود الهوى، فحصرها في حبس "من ترك لله شيئًا عوضه الله خيرًا منه"، ونهض بصاحبه إلى منازل الملوك، إذا صير الهوى المَلِكَ بمنزلة العبد المملوك، فهي شجرةٌ عرقُها الفكر في العواقب، وساقها الصبر، وأغصانها العلم، وورقها حسن الخلق، وثمرها الحكمة، ومادتها توفيق من أزمة الأمور بيديه، وابتداؤها منه، وانتهاؤها إليه.
وإذا كان هذا وصفه، فقبيحٌ أن يُدال عليه عدوّه، فيعزله عن مملكته، ويحطه عن رتبته، ويستنزله عن درجته، فيصبح أسيرًا بعد أن كان أميرًا، ومحكومًا بعد أن كان حاكمًا، وتابعًا بعد أن كان متبوعًا، ومن صبر على حكمه أرتعه في رياض الأماني والمنى، ومن خرج عن حكمه؛ أورده حياض الهلاك والرَّدى.
قال علي بن أبي طالب رضى الله عنه: "لقد سبق إلى جنات عدنِ أقوامٌ ما كِانوا بأكثر الناس صلاةَ، ولا صيامًا، ولا حجًّا، ولا اعتمارًا، لكنهم عقلوا عن
1 / 12
الله مواعظه، فوجلت منه قلوبهم، واطمأنت إليه نفوسهم، وخشعت له جوارحهم، ففاقوا الناس بطيب المنزلة، وعلوّ الدرجة عند الناس في الدنيا، وعند الله في الآخرة".
وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: "ليس العاقلُ الذي يعرف الخيرَ من الشر، ولكنه الذي يعرف خير الشرين".
وقالت عائشة رضى الله عنها: " قد أفلح من جعل الله له عقلًا" اهـ (١).
قلت: هذه ثمرة العقل، وفضل العقلاء، أما من طَالَع أحوالَ الجَهلة يَرى عَجَبًا لسُوء أخْلاقهم مع ما عندهم من نِعَمة العقل.
قال بعضُ الحكماء: الأدب صورة العقل، فصور عقلك كيف شئت.
وقال آخر: العقلُ بلا أدب كالشجر العاقر، ومع الأدب كالشجر المثمر.
وقال بعضُ البلغاء: الفضل بالعقل والأدب، لا بالأصل والحسب؛ لأن من ساد أدبه ضاع نسبه، ومن قلَّ عقلُه، ضلَّ أصلُه.
وقال بعضُ العلماء: الأدب وسيلة إلى كُلِّ فضيلة، وذريعة إلى كل شريعة.
"والواجب على العاقل: أن يكون حسن السَّمْت (أي الهيئة)، طويلَ الصَّمْتِ، فإنَّ ذلك في أخْلاق الأنبياء، كما أن سُوء السَّمت وترك الصَّمت من شِيم الأَشقِيَاء".
قلت: فكل من منعه عقله عما لا ينبغي، فهو من جمله العقلاء، ثم بِأيّ شيء يفخر المرءُ إذا كانت أخلاقُه سيئة، وطِباَعُه قبيحةٌ؟! وعلى ماذا
_________
(١) "روضة المحبين" (٣٨).
1 / 13
يتكبَّر، وبم يفرح إذا كان مسلوب الفضيلة؟!
"فالعاقلُ لا يَغْتبطُ بصفة يَفُوقه فيها سَبُعٌ أو بهيمةٌ أو جمادٌ، وإنَّما يغتبط بتقدُّمه في الفضيلة التي أبانه الله -تعالى- بها عن السِّباع والبهائم والجمادات، وهي التميِيز الذي يُشارك فيه الملائكةَ، فمَنْ سُرَّ بشجاعته التي يضعها في غير حقها لله ﷿، فليعلم أنَّ النمر أَجرأُ منه، وأن الأسدَ والذِّئب والفيل أَشْجعُ منه، ومَنْ سُرَّ بقوة جسمه، فليعلم أن البغل والثَّور والفيل أقوى منه جِسْمًا، ومن سر بحمله الأثقال، فليعلم أنَّ الحمار أحمل منه، ومَنْ سُرَّ بسرعة عَدْوِه فليعلم أن الكلب والأرنب أَسْرعُ عَدوًا منه، ومَنْ سرَّ بحُسنِ صوته فليعلم أن كثيرًا من الطيرِ أحسنُ صوتًا منه، وأنَّ أصوات المزامير ألذّ وأطرب من صوته، فأي فخر وأي سرور فيما تكون فيه هذه البهائمُ متقدِّمةَ له؟! لكن من قويَ تمييزه، واتَّسع علمُه، وحَسُنَ عمله، فلْيَغْتبط بذلك، فإِنه لا يتقدمه في هذه الوجوه إلا الملائكةُ، وخيارُ النَّاسِ" (١).
وأهلُ السنة والجماعة هم الذين أنزلوا العقل منزلته اللائقة به، فهم وسط بين طرفين:
الطرف الأول: من جعل العقل أصلًا كليًا أوليًا، مستقلًا بنفسه عن الشرع، مستغنيًا عنه.
الطرف الثاني: من أعرض عن العقل، وذمه وعابه، وقدح في الدلائل العقلية مطلقًا.
_________
(١) "روضة العقلاء" (ص ١٨)، "الأخلاق والسير" (٨٣) لابن حزم.
1 / 14
والوسط في ذلك -وهم أهل السنة والجماعة- قالوا:
١ - إن العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال الأعمال وصلاحها؛ لهذا كانت سلامة العقل شرطًا في التكليف، فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة، وتدبر القرآن يكون بالعقول؛ قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ [النساء: ٨٢]، فالعقل هو المدرك لحجة الله على خلقه.
٢ - إن العقل لا يستقيم بنفسه، بل هو محتاج للشرع.
٣ - إن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به.
٤ - إن الشرع دلّ على الأدلة العقلية، وبينها، ونبَّه عليها (١).
قال الإمام الشاطبي:
"إذا تعاضد النقلُ والعقل على المسائل الشرعية؛ فعلى شرط أن يتقدَّم النقلُ فيكون مَتْبُوعًا، ويتأخر العقلُ فيكون تابعًا؛ فلا يَسرح العقلُ في مجال النظر إلا بقَدَر ما يُسرِّحه النقل" (٢).
قلت:
وهذا كتاب جمعت فيه من الأخلاق والآداب ما يحسن للعاقل فعله، وما يقبح به إتيانه من الخصال المذمومة، وسَميته (موسوعة الأخلاق)، وجعلتهُ على أربعة أبواب كما يأتي مفصلًا في الكتاب -إن شاء الله-.
وأصل هذا الكتاب سلسلة دروس ألقيتها على بعض طالبات الجامعة من
_________
(١) ينظر " المختصر الحثيث" (٧٥) للأخ الأستاذ عيسى مال الله فرج، سدده الله.
(٢) "الموافقات" (١/ ١٢٥) بتحقيق العلامة الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان، سدده الله.
1 / 15
كلية الشريعة وغيرهنَّ من عصر كل يوم أربعاء لعام ١٤٢٥هـ، ثم أذيعت على حلقات في إذاعة القرآن الكريم في دولة الكويت لشهر رمضان المبارك من نفس العام، وبعدها سلسلة دروس في مسجد عبد الجليل من كل أحد في منطقة الفيحاء العامرة من عام ١٤٢٨ للهجرة النبوية، ضمن برنامج ثقافي تابع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
وها هو اليوم كتاب يقرأ أسال الله تعالى أن يبارك فيه، وقد أضفت إليه بعض الزيادات المهمة، ووضعت في كتابي هذا على قدر ما بلغه علمي، وحواه فكري، وشريطتي على قارئ كتابي "عدم التقصي في البحث عن أخطائي، والصفح عما يقف عليه من إغفالي، والتجاوز عما أهملته، وإن أداه التصفح إلى صواب نشره، أو إلى خطإٍ ستره؛ لأنه قد تقدمنا بالإقرار بالتقصير إذا رأى القارئ أي شيء يُنسب إلى الإغفال والإهمال، وقلما نجا مؤلف لكتاب من راصد بمكيدة، أو باحث عن خطيئة.
وقد كان يقال: من ألف كتابًا فقد استشرف، وإذا أصاب فقد استهدف، وإذا ما أخطأ فقد استقذف، وكان يقال: لا يزال الرجل في فُسحة من عقلهِ ما لم يقل شعرًا أو يضع كتابًا" (١).
ويحضرني قول أبي القاسم الحريري:
وَإِنْ تجدْ عيبًا فَسُدَّ الخَلَلا ... فَجَلَّ مَنْ لا عيبَ فيهِ وَعَلَا
وأسألُ الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، أن يجعل عملي
_________
(١) ينظر "الظرف والظرفاء" لمحمد بن إسحاق الوشاء (ص ١)، و"أدب الدنيا والدين" للماوردي (٥٤٨).
1 / 16
خالصًا لوجهه الكريم، وأن يغفر لي ولوالدي، وأهلي ومشايخي وجميع إخواني، ومن كان سببًا في هذه الدروس، ولجميع المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
والحمد لله رب العالمين.
وكتبه
خالد بن جمعة بن عثمان الخراز
الكويت - الفيحاء
١٤٢٨ هـ-٢٠٠٧ م
1 / 17
قال مخلد بن الحسين لابن المبارك:
"نحنُ إلى كثيرٍ من الأدب، أحوجُ منَّا إلى كثيرٍ من الحديث".
[تدكرة السامع والمتكلم (١٤) لابن جماعة].
1 / 18
الباب الأول
مقدمات وأسس مهمة في الأخلاق
1 / 19
قال الحسن: "كان الرجل يطلب العلم، فلا يَلْبَث أن يُرَى ذلك في تَخَشُّعه وهَدْيه ولسانه وبصره ويده".
[الجامع للخطيب ١/ ١٤٢].
1 / 20