Encyclopedia of Arab Tribes
موسوعة القبائل العربية
Daabacaha
دار الفكر العربي
Lambarka Daabacaadda
الثالثة
Sanadka Daabacaadda
١٤٢١ - ١٤٣١ هـ
Noocyada
الكتاب: موسوعة القبائل العربية بحوث ميدانية وتاريخية
المؤلف: محمد سليمان الطيب
الناشر: دار الفكر العربي
_________
(تعليق الشاملة): ذكر المؤلف في المقدمة أنها الطبعة الثالثة
وأعوام نشرها كالتالي، كما على أغلفة المجلدات
جـ ١ - ٦: ١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
جـ ٧: ١٤٢٣ هـ - ٢٠٠٢ م
جـ ٨: ١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٣ م
جـ ٩ و١٠: ١٤٢٥ هـ - ٢٠٠٤ م
جـ ١١ و١٢: ١٤٣١ هـ - ٢٠١٠ م
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)﴾
صدق الله العظيم
[سورة الحجرات]
1 / 3
الإهداء
* إلى الشعب العربي الكريم متمثلًا في قبائله العربية الأصيلة والعريقة من بني عدنان وبني قحطان.
* إلى سائر الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج.
* إلى كلّ من يعتز بعشيرته، وقبيلته، وقومه، وبلاده العربية العزيزة، ويسعى دومًا لمجد أمته وعزتها ورفعتها بين الأمم.
* إلى هؤلاء جميعًا من بني جلدتي الأعزاء .. أهدي هذه الموسوعة لسرد تاريخ وأنساب القبائل العربية، بتجميع دقيق من أشهر الكتب والمخطوطات لكبار النسَّابين والمؤرخين حديثًا وقديمًا؛ مهتديًا بالبحوث الميدانية لتصحيح ما اعترى مصنفات بعض محققي العصر من خطأ أو سهو أو نسيان. وكذلك لإظهار الترابط الدموي والعرقي بين العناصر أو القبائل العربية في شتى البلاد العربية في المشرق والمغرب العربي في قارتي آسيا وإفريقيا، عبر ما يزيد على ألف وخمسمائة عام.
حفظ الله بلادنا العربية وعامة بلاد المسلمين.
محمد سليمان الطيب
1 / 5
تنويه
أُقدِّم اعتذاري للقارئ العزيز عن الطبعة الثانية للمجلَّدات من واحد إلى خمسة عام ١٤١٨ هـ / ١٩٩٧ م من موسوعة القبائل العربية، وذلك لما اعتراها من سهو أو نقص في بعض المعلومات عن أنساب وتواريخ بعض القبائل المُرشَّحة في هذه المجلَّدات، فقد حالت ظروفي وإمكانياتي المتواضعة حينئذ أن أُلمَّ بجميع التفصيلات عن هذه القبائل في هذا المصنَّف الموسوعي الضخم، والذي سيكون منهلًا ترتوي منه الاجيال العربية في الحاضر والمستقبل إن شاء الله تعالى.
ويعلم الله ﷾ كم كابدت وعانيت من جرَّاء الخوض في هذا العلم الشاف، وكم اعترضتني الصعاب والعقبات في طريقي الوعر .. ورغم هذه المعاناة فما زلت صادق العزم، بل ومُجنِّدًا نفسي لهذه الرسالة العلمية والتاريخية الخالدة لإخراج المزيد من المجلَّدات في الموسوعة خلال السنوات القادمة؛ لتجمع بإذن الله قبائل العرب من المحيط إلى الخليج.
وحقًّا، فقد كان نشر المجلَّد الأول في طبعته الأولى ثم ما تلاه من مجلَّدات في الطبعة الثانية بادرة خير، حيث تلقيت العديد من الملاحظات والإضافات والاستدراكات الهامة من أبناء القبائل في أنحاء وطننا العربي الكبير، مما دفعني إلى عمل المزيد من البحوث الميدانية خلال الثلاث سنوات المنصرمة، إلى جانب اقتناء العديد من المراجع التاريخية الهامة في هذا المضمار، وكانت نتيجة ذلك هو جني ثمرة هذا الجهد المضني والوافر وإخراج هذه الطبعة الثالثة المزيدة والمُنقَّحة التي بين أيديكم عام ١٤٢١ م / ٢٠٠١ م.
1 / 7
وقد قُسِّمت الموسوعة في هذه الطبعة إلى قسمين: القسم الأول يتناول القبائل العربية التي لها امتداد في إفريقيا (مصر والسودان وبلاد المغرب العربي). وستكون في الوقت الحاضر ثلاثة مجلَّدات ضخمة، وسيستدرك بها مجلَّدين أو ثلاثة في المستقبل إن شاء الله لإكمال باقي القبائل العربية في بلاد المغرب والسودان.
أما القسم الثاني فيبدأ من المجلَّد الرابع حتى السابع ويتناول القبائل العربية في الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق وستكونا في الوقت الحاضر أربعة مجلَّدات ضخمة؛ وسيلحق بها ثمانية مجلَّدات أخرى مستقبلًا إن شاء الله لإكمال باقي القبائل في الأقطار العربية بالمشرق العربي.
وهكذا سنسير على الطريق بحول الله لإنتاج باقي مجلدات الموسوعة تباعًا، ومن سار على الدرب وصل.
والله المستعان وبه تعالى التوفيق،
(صاحب الموسوعة)
محمد سليمان الطيب
القاهرة في ديسمبر ٢٠٠٠ م/ شوال ١٤٢١ هـ
1 / 8
مقدمة الكتاب
قال نبينا الكريم ﷺ: "خيركم من تعلَّم العلم وعلَّمه"، وقال أيضًا: "أعوذ باللّه من علم لا ينفع" صدق رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، وإن شاء الله تعالى، هذا العلم الجليل القدر، والذي أخذني حب جارف للتعمق والغوص فيه، ونَهْل المزيد منه عبر سنوات طويلة، سوف ينفع الله بي بني أُمتي وبني جلدتي وقومي الأعزاء الذين أنا فرد منهم، يسعدني ما يسعدهم. وهذا العلم ينمي عند قومي - العرب - الاعتزاز بأنفسهم، وعروبتهم المجيدة، وجذورهم، وفعالهم، ومعدنهم الكريم، والفخر بتاريخ أجدادهم وماضيهم التليد؛ ليكون العرب بحق: خير أمة أخرجت للناس، بعد أن اختارهم الله ليرفعوا راية الحق والعدل والدين القويم لباقي الأمم، وليكن العرب أحرص ما ينبغي بينهم في السعي دومًا وراء الفضيلة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ليكونوا قدوة حسنة لسائر المسلمين بل والبشر أجمعين.
وإن علم النسب وتاريخ القبائل وتعريفه للناس أرى فيه العلم الذي يؤلف أبناء المجتمع ولا يُنفِّرهم، ويجعلهم كثر تماسكًا واحترامًا وتقديرًا لأنفسهم أولًا ولغيرهم من إخوانهم العرب ثانيًا، ويُقرِّبهم ولا يباعد بينهم. وإن ذلك نراه في حكمة الخالق ﷾ أن جعل النّاس شعوبًا وقبائل مختلفة؛ ليتعارفوا فيما بينهم، ولعلَّ الهدف الأساسي الذي يرمز له مولانا ﷾ من وراء هذا التعارف أو ذلك التآلف هو غاية نبيلة يأمرنا بها الله ﷿، ألا وهي الاختلاط مع الآخرين وليس الانطواء والانعزال، لإثارة غريزة التنافس بين القبائل والشعوب في فعل الخير، وتقليد الشِّيم، والعادات الكريمة، ونبذ الآخرى غير المستحبة أو غير النبيلة؛ لأنَّ الله جَبَل النّاس على الخير وفعله وجعله في الفطرة الإنسانية؛ ولأن الشيء القبيح أو المكروه والسعى ينفر منه النّاس، وتزدريه النفوس البشرية، وتبغضه القلوب، وترفضه العقول، هذا في البشر بصفة عامة.
ونحن العرب أولى النّاس في التمسُّك بالخير، ونبذ الشر وكل ما هو مُشين بعد أن هدانا الخالق بنور القرآن وبعث فينا خير الوري، وقد اصطفاه منا - نحن العرب - دون سائر الأمم، ليظهر دين الحق ويبين الشريعة السمحاء التي يريدها
1 / 9
﷿ لهداية البشرية، ونحمد الله على نعمائه أبين فَضَّلنا على سائر خلقه بنبيه خاتم وأشرف المرسلين محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والتسليم من رب العالمين …
وكما أن النّاس معادن مختلفة تنعكس دائمًا على طباعهم، فقد خلقهم ﵎ درجات بعضها فوق بعض، سواء في الرزق أو في البنين أو الجاه والسلطان أو في الحسب والأصل الكريم، وهذا التفاوت الطبقي بين النّاس حتى يُعرِّفنا الله الحامد من الساخط، والصالح من الطالح، والكريم من اللئيم، والشجاع من الرعديد، والجيد من الرديء، وحتى تسير مركب الحياة على كوكب الأرض بعبقرية إلهية وحكمة لا يدركها العقل البشري.
وكما يُقال وتؤكد التجربة بأن أصل الإنسان فعله (^١)، أي أن الفعال الكريمة هي ترجمة حقيقية واقعية لنقاء الأصل والمعدن، وطيب الجذور، وكرم الحسب والنسب، فالتبر خير المعادن وفعل الرجال بأصلهم كانَ. وهذه بديهية مُسلَّم بها وقد قالها نبينا الكريم: "النّاس معادن وخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام لو فُقِّهوا". وفي نظري أن الفطرة تتغلب دائمًا على طباع النّاس، وتُحرِّك الحميَّة في دمائهم، وتثير النخوة في عقولهم، وتولِّد الإنفة والإباء والشمم في سدوكهم بصفة عفوية تلقائية، وكما يقول المثل العربي: "العرق يمد حتى سابع جد". فحتى لو كان أحدهم أو بعضهم جاهلًا لبعض نسبه، أو حسبه الرفيع، نجد أن الفطرة التي جُبِل عليها ذلك الفرد أو تلك الجماعة مهما كانت عوامل البيئة المحيطة تؤثر قطعًا في السلوك والوجدان، وغالبًا ما نرى بوضوح في مثل هؤلاء، الاعتزاز بالنفس والتحلي بالشِّيم الكريمة والطّوْلات المُشرِّفة التي ترفع الرءوس شامخة، وهذا دائما واضح المعالم عند ذوي المعادن الكريمة، والأحساب الرفيعة، والتي قد تكون مجهولة. لهم ولغيرهم من المخالطين لهم في المجتمع، وهذا لأنَّ المعدن الكريم والنفيس يبقى كما هو ولا يفقد قيمته مهما ران عليه الزمن، فالذهب مهما أحاط به الغُبار نفيس لا يعلوه صدأ، وإعادة البريق إليه وتنقيته سهلة ميسورة ولا تحتاج
_________
(^١) يقول المثل العربي: أصل الفتى فعله.
وهناك مثل في معناه يقول: كلّ إناء ينضح مما فيه.
وقال قائل: ما يُبنى البيت إلَّا وله عمد … ولا عماد إذ لَمْ ترس أوتاد
1 / 10
إلى كبير عناء ولا غير الحدادين، بل فقط لمسات فنية رقيقة من أهل الجوهر والمعادن الكريمة؛ ولذلك فإن الباحثين والمحققين العرب من ذوي الفطن والنظرة الثاقبة لا يكلِّون ولا يتوانون عن البحث والتنقيب عن أصول وأحساب هذه العشائر أو تلك القبائل، لما أنَّها تشتهر بفعالها المكريمة، وقد يلحقها تضارب أو التباس أو تجنٍ أو تشكيك في نقاء وكرم عنصرها أو شرف نسبها - وحسبها بين العرب -.
والباحثون مهما اختلفوا في التحقيقات أو الإسناد التاريخي بخصوص أنساب أو تاريخ مثل هذه القبائل، فإنهم حتمًا بلا ريب يكملون بعضهم البعض كالبنيان المرصوص. فمن أبدع وتألق في السرد أو البحث عن قبيلة أو عن عدة قبائل معينة، وقد ترك قبيلة أو عدة قبائل أخرى دونما إيضاح في تاريخها أو حسم بيان عنصرها أو نسبها، حيتثذ يهبُّ باحث آخر يكمل ما نقص عنده، ويتألق في ذلك، كما تألق زميله؛ ومن هنا يكون الكمال والإنصاف شاملًا لجميع عناصر المجتمع القَبَلي؛ وهذا العدل من إعطاء كلّ ذي حق حقه، يرضاه الله قطعًا، ويحبه المجتمع وتسعد به نفوس النّاس من أبناء مجتمعنا الذي هو مثل العضو الواحد كما قال النَّبِيّ ﷺ ما معناه: إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحُمى. وهكذا نجني الثمرة الطيبة وهي محو الغبن والضغينة بيننا نحن العرب، وأصعب غُبن هو ظلم النّاس في أنسابها أو التعاليِ عليهم رغم رفعتهم، وقال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ … (١١)﴾ [الحجرات: ١١]. فإذا تجنبنا الغُبن بيننا في هذا الشيء كانت نعم المروءة، وأين تكون المروءة إن لَمْ تكن فينا نحن العرب؟! والباحثون هم الذين يحسمون أو يدفعون الظلم في هذا المجال، ولأن الباحث لابد له من التمسك بالحق لأنه قدوة المجتمع كله، فهو وأقرانه يفيضون بنفحات المُثل العليا والعلم، وذلك بعرض تلك الأمور في مصنفات كلّ منهم لكافة طوائف المجتمع، وهكذا العلماء والباحثون هم الذين ينيرون للمجتمع كله ويظهرون الحق، فبهم يهتدي الضال، ويعرف الجاهل ما لم يعرفه عن نفسه أو عشيرته أو مجتمعه ككل بتاريخه وتراثه ومبادئه، والباحثون كالنجوم في السماء كلّ يضيء بقدر علمهُ الذي علَّمه الله له .. وكما أن أي باحث مثله كسائر البشر مُعرَّض للسهو والخطأ
1 / 11
والنسيان وليس معصومًا، ولا يمكن أن يستبد مخلوق بعلم الأنساب أو التاريخ للقبائل القديمة والحديثة جمعاء، كما أن الباحث بشر كسائر البشر، وعقله البشري له طاقة معينة لا يتعداها، وكما أن هناك أنسابًا وتواريخ وأحداثًا لا يمكن أن يضل فيها أحد إلى عين اليقين التام أو التأكيد لها، وسوف تظل مثل هذه الأشياء وحتى يوم القيامة في علم الواحد القهار علَّام الغيوب والذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ومهما أوتي عالم في أي مجال من العلوم من فراسة أو فطنة فلن يصل إلى قطرة في بحر علم الله الذي لا حدود له ولا نهاية، وإنه بقدر مجهود الباحث وراء العلم وبقدر مجالدته وتفكيره يفتح الله على هذا الباحث كما يريد الله له وبقدر معلوم .. فسبحان الوهاب، يمنح لمن يشاء العلم، ويعطي لمن يشاء سحر البيان .. وحلاوة المنطق وجمال التعبير هما نعمة يهبهما الله ويمن بهما على بعض العلماء، لا كلهم، كي يكون علمهم غزيرًا وسلسبيلًا متدفقًا كالدرر، ويلقى في عقول النّاس استحسانًا وتهوي إليه قلوبهم وتتوق إلى النهل منه، والإقبال عليه، وقال النَّبِيّ ﷺ عن نفسه الكريمة ما معناه: "أنا مدينة العلم وعليٌّ بن أبي طالب بابها"، وقال أيضًا عن حلاوة المنطق وحسن الكلام: "إن من البيان لسحرًا" صدق رسول الله .. ولا بيان فوق القرآن العظيم الذي أعجز العرب أن يأتوا بآية واحدة مثله، وسيظل يعجزهم إلى آخر الزمان، رغم أن الله أعطاهم الفصاحة والبلاغة ونظم الشعر - بلغة الضاد - التي هي أقوى لغة تكلَّم بها بنو آدم على وجه الأرض، وندعوا ونبتهل إلى العلي القدير ونقول: اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا وشفاء صدورنا، وارزقنا بكل حرف من القرآن حلاوة وبكل كلمة كرامة وبكل آية سعادة وبكل سورة سلامة لنا في الدنيا والآخرة.
إن علم النسب من أصعب العلوم الإنسانية والاجتماعية مسلكًا، وأشدها وعورة، ومما يدلُّ على صعوبة هذا العلم الجليل القدر، هو أن أمة كبيرة كأمتنا العربية لَمْ يطرق منها باب هذا العلم سوى عشرات قلائل من الرجال، ومن تقصى منهم فقط هم الذين أفلحوا واشتهروا ونالوا أسمى آيات التشريف، وهم يُعدُّون على الأصابع، وما زالت مخطوطاتهم تُطبع أو تُحقق حتى الآن رغم مرور مئات السنين على بعضهم، وأبرزهم ابن الكلبي وابن حزم وابن خلدون والقلقشندي والسويدي وغيرهم فهم رجالات قلائل، أما أغلب الذين خاضوا في هذا العلم
1 / 12
فقد طواهم الزمان وخمد ذكرهم، وببساطة القول: "إن الأمر الواجب والحتمي لأي محقق أو باحث يريد التشريف والعرفان، والتقدير والخلود في التاريخ للأجيال أو أن يكتب له وسام بحروف من نور، لابد لهذا الباحث أن يتحرى جميع المصادر لا أن يتعصب لمصدرٍ واحد، وأن يمارس البحث الميداني بقدر المُستطاع كي يغوص في أخبار وأنساب القبائل وخاصة تلك الكيانات الحديثة في القرون الأخيرة، وحتى يأخذ البينة عن الثقات بعد أن يجمع رأيًا موحدًا في الروايات، والتي يتقارب فيها الصحيح المتفق عليه من عدة مصادر، وكما لابد للباحث في هذا المجال ميدانيًّا أن يتجنب أرباب الهوى الإمعات، حيث إن الشق الميداني هام ومفيد بالنسبة لمن يريد حسم الرأي فيما تضاربت فيه الأقوال، وتناقضت لتلك القبائل الحديثة التكوين والتي لَمْ يجمع فيها المحقِّقون رأيا مرجحًا على الأقل في أطوار نمائها الأولى. وكان دغفل بن حنظلة (^١) النسابة الشهير الذي يُضرب به المثل في علمه وذكائه وجمال تعبيره في هذا الميدان، وتشبيهاته العبقرية لأسماء بطون وقبائل العرب في زمانه حتى يحفظها النّاس وتكون ممئر شهرة، ودغفل هو أحد بني شيبان ثم بني بكر بن وائل وهم من قبائل ربيعة بن نزار التي انضوت تحت اسم عَنزَة الآن.
ولما سأل معاوية بن أبي سفيان دغفل بن حنظلة بعد أن اختبره ووجده رجلًا علَّامة في أنساب العرب، فقال معاوية: بما نلت ذلك يا دغفل؟ أجاب بحكمة قائلًا: بلسان سئول وقلب عقول، وآفة العلم النسيان. ولدغفل موقف طريف ذكره التاريخ له وكتبه في مصنفه الريحان والريعان أبي القاسم محمد بن إبراهيم ابن خيره، فقد حكي عن أبي بكر الصديق ﵁ أنه كان في علم النسب للقبائل بالمقام الرفيع والجانب الأعلى والقدح المُعلَّي، وقد خرج مع النَّبِيّ ﷺ ذات يوم فوقف على قوم من ربيعة العدنانية فقال لهم أبو بكر: ممن القوم؟ قالوا له من ربيعة. قال: وأي ربيعة أنتم أمن هامتها أم لهازمها؟ قالوا من هاماتها العظمى. قال أبو بكر ومن أيِّها؟ قالوا من ذهل الأكبر قال أبو بكر: أفمنكم بسطام بن قيس ذو اللواء أبو القِرَى ومنتهى الأحياء؟ قالوا لا. قال: أفمنكم
_________
(^١) هو دغفل بن حنظلة بن يزيد بن عبدة بن عبد الله بن ربيعة بن عمرو بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديله بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان.
1 / 13
المزدلف بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان الحر صاحب العمامة الفَرِدة؟ قالوا لا. قال: أفمنكم أخوال الملوك من كنْدة؟ قالوا: لا. قال: أفمنكم أصهار الملوك من لَخْم؟ قالوا: لا. فقال لهم أبو بكر: فلستم بذهل الأكبر بل ذهل الأصغر. حينئذ قام إليه دغفل الشيباني منتفضًا وكان لا يزال غلامًا - وسبحان الوهاب أن يناظر غلام حدث أبو بكر الصديق!! ولكنه ليس كأي غلام ونسبه في حي ليس كأي حي - إنه دغفل (^١) الذي ستسمع به الدنيا وإنه لمن شيبان جبابرة بني عدنان. وقيل أن دغفل قد بقل وجهه، أي انتفخ وتغير لونه من شدة الغيظ من أبي بكر عندما أحرج أقاربه، فقال محتدًّا وفي نيته وقصده أن يثأر في الحال من أبي بكر ﵁ وهو لا يعرفه، فقال دغفل لأبي بكر: إن على سائلنا أن نسأله والعبء لا تعرفه أو تحمله، يا هذا؟ إنك قد سألتنا ولم نكتمك شيئًا من خبرنا، فمن الرجل؟ فلما عرف دغفل أنه أبو بكر القُرَشي قال مكررًا سؤاله فمن أي القُرَشيين أنت؟ قال أبو بكر ﵁ مجيبًا من ولد تيِّم بن مُرَّة. قال دغفل له: أمكنت واللّه من سواء الثغرة! (يعني أنه سوف يصيبه وينول مراده) ثم قال لأبي بكر سائلًا أفمنكم قُصي بن كلاب الذي جمع القبائل من قريش وكان يُدعى مُجمَّعا؟ قال: لا. قال: أفمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مُسْنتون عِجاف؟ قال: لا. قال: أفمنكم شيبة الحمد (يقصد عبد المطلب بن هاشم) مُطْعِمَ طير السماء الذي كأن وجهه قمر يضيء في الليلة الظلماء؟ قال: لا. قال: فمن أهل الحجابة أو السقاية أو الرفادة أنت؟ قال أبو بكر: لا. واجتذب أبو بكر ﵁ زمام ناقته من وجه دغفل مندهشًا من براعته وفصاحته فقال دغفل محتدًّا بنخوة شيبانية فائقة فيها نبرة المنتصر الذي أخذ بحقه في التو قال:
صادف در السيل درًّا يدفعه … يهيضه حينًا وحينًا يصدعه
_________
(^١) ذكر أبو عبيدة أن ما يقارب دغفل الشيباني من بكر بن وائل (ربيعة) فى علم النسب والنجوم، كان ابن الكيس النمري وهو من بني عوف بن سعد بن تغلب بن وائل (ربيعة)، أي كلاهما من وائل ربيعة العدنانية.
وذلك فقد قال مسكين بن عامر الشاعر:
فحكم دغفلًا وأرحل إليه … ولا تدع المطي من الكلال
أو ابن الكيس النمري زيدًا … ولو أمسى بمنخرق الشمال
1 / 14
ثم أردف قائلًا: لو تثبَّت يا أخا قريش لأخبرتك أنك من زمعات قريش أو رعيانها ولست من الذوائب أو ما أنا بدغفل!. فلما أتى أبو بكر النَّبِيّ ﷺ أخبره بما جرى له مع دغفل ورجال ربيعة فتبسَّم النبي ﷺ مسرورًا لما وجد في ربيعة من ولد عدنان هذا العلم وتلك النخوة والفصاحة التي أبداها دغفل في حواره ومناظرته مع الصدِّيق، فقال علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه: لقد وقعْتَ من الغلام على باقعة (أي داهية من دواهي العرب) يا أبا بكر .. فقال الصديق مجيبًا: أجل يا أبا الحسن ما من طامة إلَّا فوقها طامة، وإن البلاء موكل بالمنطق!!.
وإن هذه القصة نستشف منها أن العدنانيين من ربيعَة ومُضَر هما ندٌّ لبعضهما البعض وهما صخرتا العرب تكملان بعضهما البعض، فهما من نزار الذي كان من نسله النَّبِيّ المختار، وكل ملك جبار صيته في الآفاق طار، وكل فارس مغوار يضرب بسيف بتَّار ويحمي الذمار، فرحم الله نزار وإبنيه ربيعَة ومُضَر الأخيار، صفوة وصريحي معد بن عدنان من صلب إسفي عيل الذي كان بأبيه بار، فعليه السلام وعلى أبينا إبراهيم خليل الواحد القهَّار.
ومشكلات الأنساب والأحساب والوصول فيها إلى عين اليقين بين العرب قبل الإسلام وبعده كانت تدور رحاها بين نسَّابة القبائل العربية حين الأزمات التي تفوز النعرات القَبَلية، وقد تضاربت - على سبيل المثال - الأقوال في أشهر القبائل في تاريخ العرب، وهذا الشيء نجده منذ الجاهلية، وأبرز ذلك الخلاف في نسب قُضَاعة والذي هو مذبذب بين عدنان وحِمْير قحطان، ومن أشهر قبائل قُضَاعة: بلِّي وجُهَيْنة، وكذلك نسب ثَقيف، رغم أن التأكيد التاريخي يؤيد نسبهم إلى إياد العدنانيين، إلَّا أن جمهرة العَلماء يقولون: إنهم من هوازن - وهذا ما أخالفه - وسوف نشرح ذلك - إنْ شاء الله - بتحليل مطوَّل، وكذلك نسب خُزَاعة وجُذام وخَثْعم وبُجَيْلة، وبالمثل نرى أمثلة في القبائل التي ظهرت بعد الإسلام مثل: حرب وبني خالد وغيرهما ومما سوف نشرح عنهما في هذا المجلد من الموسوعة مثل: بني عطية والمساعيد والحبريطات. وما زالت الآراء تتضارب من محققي هذا القرن في كثير من القبائل، ويتأرجح رأي كلّ منهم لما يأخذ من إسناد تاريخي أو حجة أو قياس زمني أو بحث ميداني إلى غير ذلك. وسنوضح بتحليل تاريخي ومنطقي نسبها الراجح والأقرب للحق والصحة، واللّه سبحانه هو هادينا ومرشدنا، ونحن
1 / 15
واثقون في الله أنه سوف يعطينا الهداية والحق ولا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ومن يكله إلى نفسه سوف يجف ريقه ويلهث زائغ البصر وراء حاجته دون جدوي، وإننا نستعين باللّه وحده أن نحسم هذه المشكلات التي هي جسيمة على كاهل المحققين جميعًا وأنا فرد منهم، فدعواتنا للّه أن يوفقنا للحق، واللّه لا يخيِّب رجاء من طلب.
ونلفت نظر القارئ العزيز أنه رغم أن هناك قبائلَ عربية صريحة النسب سواء قحطانية أم عدنانية. ومعنى صراحة النسب هو: معرفة الجد المؤسس لمن يرتد في بطون العرب، والجد المؤسس هو الذي تتسمى به القبيلة وهو أب القبيلة التي يعود له تكون هيكلها وكيانها بداية من الأسرة ثم العائلة ثم العشيرة ثم القبيلة - ورغم صراحة النسب هذه - إلَّا أنه من المستحيل أن تظل قبيلة مقتصرة على ذرية جدها المؤسس لها ولا يدخلها عناصر أخرى خارج عمود نسبها، وكم نجد قبائل قحطانية بها عشائر عدنانية، وكم نجد قبائل عدنانية بها عشائر قحطانية؛ وهذا لأنَّ طبيعة المجتمع القَبَلي العربي منذ فجر التاريخ وحتى هذا القرن دائم التنقل والترحال، إما بحثًا عن موارد الحياة أو لظروف اجتماعية قَبَلية أو لظروف سياسية تتعرض لها بعض الكيانات.
ومنذ الجاهلية والعرب على هذا الحال، وطبقًا لهذه السمة السائدة قد نجد قبيلة أو عشيرة تنضم إلى قبيلة أخرى إما رغبة فيها أو رهبة منها، وتنضوي الأولى تحت اسم الثانية ويندثر اسم القبيلة المنضمة، وقد تنتقل قبيلة إلى ديار قبيلة أخرى بعد ضعفها ثم تتوسع في ديارها وتقطن منازلها التاريخية، وقد تنمو القبيلة من جد مؤسس لها في ديار قبيلة، ثم يتكاثر نسل هذا الجد، وقد يطغى اسمه على سائر القبيلة سواء كان يشترك معها في جذوره الأولى أم يختلف نهائيًّا .. وهكذا فقلما نجد قبيلة عربية صافية على عنصرها الأول أو مقتصرة على عمود نسب مؤسسها. ونعود لقوله تعالى في كتابه العزِيز: ﴿… وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)﴾ [الحجرات: ١٣].
فقد أعلن دستور السماء هذا المفهوم بوضوح تام في هذه الآية الكريمة، كي يعرف كلّ امرئ من أي قبيل هو، أما ميزته في المجتمع ومنزلته عند الله ﷿ فتتجلى بالتقوى والصلاح، وإذا كان على القبائل والشعوب أن تتعارف وتتآلف على اختلاف مذاهبها ومشاربها وميولها ولغاتها وأجناسها، فكيف بنا نحن العرب
1 / 16
أن نحجم عن التعارف والتآلف والتآخي ونحن أمة كرمها الخالق ﷾. ونؤكد أن علم النسب أداة للتعارف، لا أداة للتفاضل أو التعالي أو التباغض أو التنافر، بل هذا العلم هو الوسيلة النبيلة التي تنمي في الشعوب الألفة والترابط الاجتماعي، الذي يستمد منه المرء الحميَّة والنخوة والشهامة والقوة لإثبات ذاته أو كيانه الصغير المتمثل في أسرته وعشيرته التي تؤويه ومن ثم بقبيلته التي يُعزى إليها، وأخيرًا في قومه ومجتمعه العربي الكبير الذي يضم أبناء جنسه وجلدته، وهكذا ينمي هذا العلم بعطاء وجداني وعاطفي لكل إنسان عربي أصيل ويجدد العزم والبأس، ليهُبَّ دائمًا إذا دعا الداعي مع قومه ليحمي الحمى والذمار، ويصون المقدسات والحُرُمات، ويذود عن الأرض والعرض والكرامة في أنحاء وطننا العربي العزيز، وهذا ما يحتمه عصرنا في عالم اليوم الذي تتكتل فيه الشعوب والدول رغم اختلاف مشاربها وأجناسها ولغاتها، وذلك من أجل إظهار القوة والهيمنة على الآخرين وذلك بشتى الطرق والوسائل، إذن فلابد لنا - نحن العرب - في هذا العصر أن نطبِّق كلام الله ﷿: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ....﴾ [آل عمران: ١٠٣]، وهذا هو الحل أن نطبق كلامه ونسير بروح القرآن العظيم، وأن نفرَّ إلى الخالق ليمنحنا الثبات والصبر، لننال العزة والرفعة دائمًا كما أرادها الله لنا ومَنَّ بها علينا دون سائر الأمم والشعوب.
إن الإنسان العربي الحر يميل بشدة إلى البحث عن هويته العربية، وحقيقة معدنه وجذوره وشجرة نسبه التي فيها حسبه وأصله وجنسه العربي السامي الكريم، وهذه سمة من سمات العرب منذ فجر التاريخ وحتى الآن، ولأن العرب هم في الأصل أُناس قَبَليون لا شعوبيون، أي لَمْ تذب فيهم الأرومات والأصول والأحساب والأنساب؛ ولذلك نجد أن عنصرهم يتميز بالنقاء، وتتضح الصورة جلية في شتى الأقطار العربية وكما نراها حتى اليوم في تلك الكيانات القبلية المتماسكة والتي ما زالت تحافظ على عنصرها وتراثها وجذورها ونقاء معدنها، وكما أننا نرى أيضًا أن لكل قبيلة عربية مجدها وتاريخها التليد الراسخ في أعماق أبنائها يفاخرون به قولًا أو نثرًا أو شعرًا، وسيظل ذلك التاريخ عن ماضي الأجداد مطبوعًا في العقول لا يُنسى جيلًا وراء جيل، كما كان متناقلًا عن الأسلاف كابرا عن كابر. وحقًّا، فالتنافس الشريف والنبيل بين قبائل العرب والذي يحث على
1 / 17
مكارم الأخلاق والتمسك بالشِّيم الكريمة والخصال الحصِدة، جدير بالقول والرضا من المولى ﷿، وثانيًا فهو مرغوب من سائر المجتمع العربي من المحيط إلى الخليج، وكما أن الاحترام المتبادل بين القبائل العربية يُولِّد الألفة والمودة والمحبة بين أبناء تلك القبائل، وهذا ما يحبذه ديننا الإسلامي، وبالتالي تصبح الشعوب العربية في مجموعها في تعاضد وترابط متين أساسه الأصل واللغة والدين والطباع الواحدة والموطن الممتد والمصير المشترك، وهذا لأنَّ الترابط والالتحام والتآخي هو حجر الأساس القوي لبناء مجتمعنا العربي الإسلامي الحر الأبي، والذي يتمثل في بيت عربي واحد يحمل على كاهله أحمالا كالجبال الراسيات لا يميل ولا يتزعزع له ركن ولا ينقض (^١) له جانب على مدى الدهر حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
إن سمو معدن العرب قد بينه الخالق ﷾ عندما خلق الخلق واختار بني آدم وفضَّلهم على كثير من خلقه تفضيلًا، ثم اختار العرب وكرَّمهم واصطفى منهم سيد المرسلين، خير الورى محمد ﷺ؛ ليكون هداية لسائر البشرية بل وهداية الثقلين من الإنس والجن .. وعلى ذلك فإن بغض العرب نفاق من جهة الشرع، أما من جهة العقل فقد ثبت بالتواتر المحسوس المشاهد أن العرب أكثر النّاس سخاء ومروءة وشهامة وبلاغة وفصاحة، ولسانهم أتم الألسنة بيانًا وتمييزًا للمعاني، وذلك بتجميع المعاني الكثيرة باللفظ القليل، ويُميِّز بين كلّ لفظين متشابهين بلفظ آخر مختصر، إلى غير ذلك من حقائق اللسان العربي الفصيح الذي كرَّمه المولى ﷿ وجعل أهل الجَنَّة يتكلمون به، وعَدَنا وسائر المؤمنين بها إن شاء الله تعالى.
إن تراث ومجد كلّ قبيلة عربية هو في الحقيقة جزء من كلّ تراث ومجد الأمة العربية، وهذا التراث يسطع بنوره في كوكب الأرض، ويجعلنا نحن العرب من بدو وحضر نرفع هاماتنا بين سائر الأمم، ولتبقى بحول الله عروبتنا شامخة دائمًا وأبدًا لينطبق علينا قولٌ الحق ﵎: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ …﴾ [آل عمران: ١١٠]. وهكذا فالحالة الوجدانية والعقلية عند أبناء القبائل العربية تمثل هوية شخصية تُشعر المجموعة المحلية بكيانها كشعب وأمة متماسكة مترابطة الجذور متضامنة مع نفسها متآزرة في السرَّاء والضرَّاء، وهكذا هم العرب
_________
(^١) ينقض: يتقوض أو ينهار، حفظ الله أمتنا من الإنهيار ووفق ولاة أمورها لما فيه الخير والصلاح.
1 / 18
بشهامتهم الفائقة وشيمهم الرفيعة والنبيلة منذ فجر التاريخ وستظل - بإذن الله - ما دامت تشرق الشمس من المشرق.
ومما لا ريب فيه أن القبيلة في مفهومها ككيان متماسك، بعكس ما ينعتها البعض من المائلين إلى الشعوبية البحتة، والذين يخالفون قول الحق ﷾: ﴿… وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)﴾ [الحجرات: ١٣]، هنا ربنا ﷿ في كتابه العَزيز قد قرن القبائل مع الشعوب وذكر الأمة على حدة، مما يدلُّ على حتمية وجود الكيانات القَبَلية في المجتمع، ولأن الأمة تتكون من عنصرين: الشعوب والقبائل. وهؤلاء أيضًا ينعتون القبيلة بأنها أداة رجعية قديمة متخلفة تمثل تكتلًا اجتماعيًا موحدًا يكون قائمًا على رابطة الدم والأصل المشترك، للدفاع عن مصلحة مشتركة تهم هذا التكتل فقط في البيئة المحيطة به!، فهذا الرأي باطل ومرفوض؛ لأنَّ الإسلام نظَّم هذا الكيان المتمثل في القبائل وأزال عنه كلّ العادات المستهجنة مثل حمية الجاهلية الأولى، فأصبحت الحمية للحق والخير، هذا لمن ينهجون طبعًا أو يتمسكون بتعاليم الإسلام من شتى القبائل في الوطن العربي الكبير، ثانيًا فلابد من التعريف بأن الكيان القَبَلي كتجمُّع تلقائي متماسك البنيان إذا سخره الرجال المصلحون كان خيرًا للمجتمع بأثره، ولقد سخرهُ المجاهدون والأبطال في جزيرة العرب وجمعوا القبائل بحَميَّة الإسلام والعروبة وقد حَطَّموا أعتى الإمبراطوريات في الماضي قبل ثلاثة عشر قرنًا من الزمان، وقد فتح اللهُ على هذه القبائل التي أصبحت جماعة واحدة بعد أن كانت شتى ومتناحرة، وبفضل الإسلام فتح على أيديهم الأمصار والمدن في مشارق الأرض ومغاربها، وقد انتشر الدين الحنيف في بقاع الأرض على أيدي رجال وفرسان من عدنان وقحطان سجل لهم التاريخ صفحات كُتبت من نور، وكما سخر الكيانات القَبَلية زعماء وقادة العرب على مر تاريخ العرب بعد الإسلام وحتى منتصف هذا القرن، وذلك في مقاومة الغزوات الاستعمارية الشرسة على ترابنا العربي الطهور سواء في المشرق أم المغرب، ولا ينكر ناكر ولا يجحد جاحد بأن الفضل للّه ثم في هذا التكتل الاجتماعي التلقائي المتمثل في تماسك القبائل العربية في نواح كثيرة من البلاد العربية؛ وذلك في المحافظة على ديارنا العربية الإسلامية حُرَّة أبيَّة، كما نتمتع نحن أبناء هذا الجيل بها بعد زوال كابوس
1 / 19
المستعمرين الغرباء عن بلادنا في مختلف الأرجاء. وحقًّا، فقد كانت القبائل العربية وستظل حصنًا وملاذًا في الظروف الحالكة التي مرت بها أمتنا، كما كانت دومًا ينبوعًا وكنزًا ثمينًا يمد المقاومة العربية ضد حملات الغزاة بموجات وموجات من الرجال والأبطال، الذين اقتحموا غمرات الوغى بعزم صادق على أمل النصر أو الشهادة، وقد سقط الآلاف بل الملايين من أبناء العرب في هذين القرنين الأخيرين. فما بالنا في القرون الأولى فلن نحصر آلاف الشهداء العرب الأبرار الذين روت دماؤهم ثرى بلادنا الطهور، وقد سقطوا في ساحة الشرف والجهاد والحق، ذودًا عن الكرامة العربية وذودًا عن أهليهم وديارهم، ورغم بعض التناحر القَبَلي الذي كان فى جهات عديدة من بلادنا العربية وفي أزمان مختلفة، إلَّا أن هذا الشيء لَمْ يَفُت في عضد الأمة العربية في مجموعها وفي شكلها العام كأمة راسخة البنيان قوية الأركان، فالعربي من أقوى وأشد المتعصبين لأبناء قومه وجلدته، لا يقبل ولا ينام على ضيم حل بهم من أي جنس، ونجد أن الحمية والنخوة العربية تجري في عروق أي عربي مجرى الدم، فهذه فطرة فطرها الله لنا وجُبلنا عليها ونراها تترجم دائمًا بصورة تلقائية إلى طاقة هائلة وشحنة متقدة من هبتنا لحماية الذمار والديار العربية في أي وقت، ولا يأبه العربي باي خلاف جانبي عارض مع إخوانه الآخرين سواء عشيرة أم قبيلة أم حتى شعب بأكمله!، هذه المبادئ وتلك الصفات التي تغلب على طابعنا نحن العرب، وما أجملها من صفات، فحيَّا الله العرب على مر الزمان، وعاش كلّ من رفع لمجد وعزة العرب الرايات، وعروبتنا المجيدة - بعون الله تعالى - لن ينطفئ نجمها ولن يخمد ذكرها بين الأمم، ما دام أبناؤها البررة المصلحون يتحلون بالحق والإخلاص والجهاد في شتى الميادين. فلنضع نصب أعيننا تاريخ وأمجاد أجدادنا البهرام ليكونوا لنا قدوة، بهم نقتدي، وبمبادئهم نحتذي، وعلى عهدهم نسير، وعلى نهجهم نخطو في حاضرنا المشرق بالأمل والخير، ومستقبلنا الزاهر إن شاء الله، ونحمد الله .. فأُمتنا العربية ذاخرة دائمًا في كلّ العصور بالقادة والمصلحين والعلماء المفكرين والرجال المخلصين الذين يجعلون سائر الأمم يشيرون للعرب بالبنان ويعطونهم حقهم من التقدير والاحترام.
المؤلف
محمد سليمان الطيب
القاهرة "مصر العربية"
1 / 20
أهمية علم النسب
لقد جعل الله ﷾ للعرب مكانة مرموقة ورفيعة بين الأمم، وكرَّمهم وأعلى قدرهم، حيث قال ﷾ في كتابه العزيز: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ … (١١٠)﴾ [آل عمران: ١١٠].
فعلم النسب للقبائل العربية له منزلة عليَّة ومكان رفيع وجلالة قدر بين العلوم الإنسانية والاجتماعية، وقد كان لأبي بكر الصديق ﵁ وأرضاه - الجانب الأوفر والقدح المُعلَّى والمقام الرفيع في علم أنساب العرب، مما يؤكد شرف هذا العلم وأهميته. وقد حث عليه نبينا الكريم ﷺ في مواضع كثيرة، وأهمية هذا العلم تبرز في عدة أمور منها:
أ - أن العلم بنسب النَّبِيّ ﷺ ضرورة مُلِحَّة لصحة الإيمان بأنه النَّبِيّ الهاشمي القرشي العدناني، وكان يسكن بمكة المكَرمة ثم هاجر إلى المدينة المنورة.
ب - حتمية هذا العلم للناس لحرمة أن ينسب أحد لغير آبائه، أو يُعْزى لغير أصله الذي نبع منه، حتى لو حالف أو دخل في عشيرة أو قبيلة أخرى تحت أي ظروف كانت، فلابد لمثل هذا أن يُلِمَّ أو يعرف جذوره وذوي قرابته وأرحامه. وعلى ذلك فلا يمكن ترتيب حكم الورَاثة إلَّا بمعرفة النسب، وكذلك النِّكَاح فلابد من معرفة ذوي المحارم، ولأجل ذلك فلابد من الرجوع إلى علم النسب.
ج - قال رسولنا الكريم محبِّذًا وجود. الحسب والأصل الكريم في المرأة المراد الزواج بها كما ورد في حديثه ﵊: "تنكح المرأة لأربع: لجمالها أو حسبها أو مالها أو دينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" صدق رسول الله ﷺ وهو القائل أيضًا ﷺ مؤكدًا ضرورة الحفّاظ على النسل وصيانته من أوباش النّاس فقد قال: "تخيروا لنطفكم فإن العِرق دساس". وقال ﵊: "إياكم وخضراء الدّمَنْ"، يعني البعد عن زواج المرأة الحسناء والجميلة التي تنبت في منبت السوء، أي في بيئة أو في وسط وضيع، سواء عائلة أم عشيرة حضرية أم بدوية، وأمثال هؤلاء هم سفلة المجتمعات لا حسب لهم ولا خُلُق ولا شرف ولا ذمة، ولا يخافون على تلويث سمعتهم أو المساس بشرفهم .. وبالطبع هنا نجد أن الأصل والحسب العريق مهم .. لماذا؟
1 / 21
والجواب ببساطة أن من له أسرة أو عشيرة أو قبيلة ذات شرف أو سمعة وحسب بين النّاس، فإن أي فرد فيها من رجل أو امرأة يُقدِّر جيدًا لأي تصرف يقدم عليه عضو هذه الأسرة أو تلك العشيرة؛ لأنه قد لا يخشى فقط على نفسه، ولكن ما يخشاه ويتحسب له قد يكون فيه البلاء والشر المستطير الذي يمكن أن يُشوِّه سمعة عائلته وعشيرته من جرَّاء ما اقترفه من إثم، وهذا ما يفكر فيه أهل الأحساب والأنساب في المجتمع العربي، وقطعًا يكونون أكثر حرصًا في أقوالهم وأفعالهم وأشد في كبح جماح أنفسهم، وإن كلّ نفس لأمَّارة .. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا.
د - وقد تكلَّم النَّبِيّ ﵊ في نسبه الشريف والرفيع وقال عن نفسه الذكية: "نحن بنو النضر بن كِنَانة" وهو بذلك يوضح أنه من كِنَانة وفرعه بني النضر أي قريش التي تناسلت منه. وكما قال أيضًا عن نفسه السامية: أنا خيار من خيار من خيار؛ يقصد أنه ﷺ من أشراف العرب وسيطًا في قومه، أي صريح النسب من بني هاشم من قريش من عدنان. وهو ﵊ من صريحي ولد إسماعيل ابن الخليل إبراهيم ﵉. وقال ﷺ أيضًا: أنا سيد ولد آدم ولا فخر. صدق رسول الله فهو خير الورى حقًّا وصدقًا.
وقال الفاروق عمر ﵁: تعلموا من النجوم ما تهتدون به، ومن الأنساب ما تعارفون به وتَواصَلون عليه، ومن الأشعار ما تكون حِكَمًا وتدلكم على مكارم الأخلاق. وقال النسَّابة الشهير ابن حزم (^١) الأندلسي.
إن علم النسب علم جليل رفيع إذ يكون به التعارف بين النّاس.
_________
(^١) هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد ين حزم بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد (الفارسي الأصل)، مولى يزيد بن أبي سفيان بن حرب القرشي، أي قرشي بالولاء. وكان جده يزيد أول من أسلم س أجداد. وكان جده خلف أول من دخل الأندلس من آبائه ولد العلَّامة والنسَّابة الشهير في رمضان عام ٣٨٤ هـ ونشأ في بلاد الأندلس في نعمة وجاه عريض وكان أبوه أحمد بن سعيد عالمًا جليلًا ووزيرًا من وزراء المنصور محمد أبي عامر وابنه المظفَّر، وتوفى ابن حزم عام ٤٥٦ هـ بعد سجل حافل من المؤلفات، وروى ابنه الفضل أنه اجتمع عنده بخط أبيه أبي محمد أربعمائة مجلد تحتوى على نحو ثمانين ألف ورقة".
ويذكر التاريخ أن معظم كتب ابن حزم قد أُحرق علانية ولم يبق سوى سبعة وثلاثين مؤلفًا في شتى العلوم من بينها علم النسب (جمهرة أنساب العرب).
1 / 22
أنواع العرب
معنى كلمة عرب بإيجاز واختصار:
قال العلَّامة والمؤرخ الكبير عبد الرَّحمن بن خلدون (^١):
إن كلمة العرب مشتقة من الإعراب وأُخذت من قولهم أعرب الرجل عن حاجته: أي أبانها، وسُموا عربًا؛ لأنَّ العرب قد اشتهروا بالفصاحة والبلاغة وسحر وروعة البيان بين سائر الأمم، وكل جنس عدا العرب فهو أعجمي.
والعرب نوعان: (عاربة)، و(مستعربة).
فالعاربة: أي الراسخون في العروبية؛ كما يقال: ليل لائل.
والمستعربة: هم الذين دخلوا في العروبة لأنهم ليسوا بخُلَّص. وقد اختلف الرأي فيما بعد في تعريف النوعين، فقال ابن إسحاق والطبرى: أن العاربة هم عاد وثمود وجُديس وجُرهم وغيرهم من تلك الأقوام البائدة، وفي رأيهم أن المستعربة هم بنو قحطان بن عابر وبنو إسماعيل بن إبراهيم ﵇، وهذا لأنَّ بني قحطان تعلموا العربية من الأقوام القديمة البائدة قبلهم، وبالتالي تعلم منهم بنو إسماعيل (العدنانية). وقال ابن خلدون وأيده صاحب حماه أن العاربة هم القحطانية والمستعربة هم العدنانية.
_________
(^١) عبد الرَّحمن بن خلدون - فيلسوف ومؤرخ عربي عظيم.
* أشهر مؤلفاته تاريخ العبر ومبتدأ الخبر (مجلد ١٤ جزءًا).
* أصله حضرمي من القحطانية (عرب اليمن).
* هاجرت أسرته من بلاد الأندلس بعد تغلب الفرنجة عليها في القرن الثامن الهجري إلى تونس، ثم ولد ابن خلدون بتونس عام ٧٣٢ هـ - ١٣٣٢ م.
* تجول في كثير من البلدان والأمصار ومات بمصر عام ٨٠٨ هـ - ١٤٠٦ م.
1 / 23