هذا الاحتقار يشغل حيزا كبيرا من فلسفة رنان، فتراه يغدق الثناء على الأرستقراطية وأخلاقها وتساهلها، ويعيب «لامنه» لأنه لم يتماد في احتقاره كما تمادى في غضبه. ما أعظم الفرق في هذا بينه وبين ليبنتز الذي كان يقول: «أنا لا أحتقر شيئا!» وما قولكم بعالم في الطبيعة يحتقر سرطان البحر أو عقرب الماء، ويخص باحترامه الطائر الهندي المسمى عصفور الجنة؟ إن أشكال الحياة البشرية كلها لازمة لأنها موجودة، غير أن منها ما يضر فيجب منع ضرره؛ والاحتقار وحده لا يفي بهذه الغاية، بل هو تعزية العاجزين.
ولكن لرنان عذرا في أنه كتب هذه المحاورات أيام الثورة وإحراق مكتبة اللوفر؛ فرأى في هذا العمل الوحشي نتيجة لفكرة المساواة التي كانت ترمي إلى محو كل تفوق حتى في آثار السلف، وحصر السلطة في دكتاتورية العمال المصبوغة بالدماء، واستنتج منه أن الحضارة لا تقوم إلا على أيدي سلالة جديدة يحق لها الحكم والسيطرة لا بالعلم فحسب، بل بتفوق الدم والدماغ والعضلات.
ما أبعد حلم رنان هذا عن اشتراكيته الأولى التي ترسم لكل فرد عمله، والتي كان مستعدا فيها أن يصطنع بطيبة خاطر حرفة يدوية للارتزاق مع بقاء الفكر حرا، متشبها بالعامل سبينوزا الذي كان يصقل زجاج النظارات، والرواقي كليانس الذي كان سقاء، والفيلسوف الإسكندري سكاس الذي كان حمالا! لقد خابت آماله في فردوس الاشتراكيين، فعاد وهو لا يرى من فضل أو نعمة في غير الأرستقراطية المفكرة.
وقد لقي كتاب «المحاورات» من الإقبال ما دفعه إلى كتابة «المآسي الفلسفية». وهذا اللون يلائم روح رنان الذي لا يعرف أن يبدي فكرة دون أن يقيم نقيضها في رأسه، فكانت أبطاله صورا لأفكاره المتناقضة يطلق لها عنان الكلام كيف شاء. ولا يتسع المجال لشرح هذه المآسي من «كاليبان» الذي استعاره رنان من رواية الزوبعة لشكسبير، إلى «نبع جوفانس» إلى «كاهن غي» وغيرها. كل هذه الكتب عراك بين الديمقراطية والأرستقراطية، أو بالأحرى انتقاد لاذع للأولى وتمجيد للثانية. على أن هذا كله لم يمنع رنان من استجداء صوت الشعب في انتخاب مجلس الشيوخ سنة 1876، وحجته في ترشيح نفسه أن عضوية الشيوخ تعرضه للأخطار والقتل، وهو يفضل ذلك على موت طبيعي أو انحلال بطيء على فراش المرض، ولكن الأقدار أبت إلا أن يموت حتف أنفه، فلم يشعر بلذة السقوط تحت مدية المعتدي أو رصاص القاتل.
لم يكن مثل رنان في البعد عن المخاوف البورجوازية، فيقول في «مستقبل العلم»: إن أشد الأزمنة هولا هي أخصبها إنتاجا، ولا بد من الدم المراق لإرواء العبقرية، وإن الأعمال الخالدة التي صدرت عن أمثال فيدياس وأفلاطون وأرستوفان كانت في عصر يشبه عصر الإرهاب في فرنسا، وإن مونتاني لم يكن يجهل وهو مكب على تآليفه أن القتل ينتظره من ساعة إلى أخرى في منعطف كل طريق، فمن الواجب التشبه بهؤلاء الكرام لنعيش بهدوء وسط المعمعة.
وبعد أن وضع رنان آماله في الدين لتجديد فرنسا، ثم في العلم والديمقراطية، ثم في الإصلاح على منهاج أرستقراطي، وجد من العبث الإلحاح في الباطل، فدخل إلى نفسه وعاش في جو من العزلة الروحانية، سابحا في عالم التأملات، مترفعا عن الناس، هازئا بهم.
وهكذا أدى رسالته للفن والعلم والنقد، بعد أن وفاها قسطها من التحليل والشك والمراقبة. أما كلمته الأخيرة فقد عرفناها من شاهد عيان حضره عند الوفاة؛ فقد تناول قلم الرصاص وهو يحتضر وخط هاتين الكلمتين: «تأييد، معارضة.» فكانت حياته كدفتر حساب توازنت فيه الأرقام بين من وإلى.
هربرت سبنسر
من أعظم مفكري الإنكليز في القرن الماضي، وقد بقي اسمه حتى صدر هذه المائة على لسان كل أديب وعالم، ولكن الشهرة كالأزياء لها عهد وينقضي؛ فقلما تجد اليوم من يستشهد به مع أنه لم يطرق موضوعا إلا ترك فيه أثرا عميقا من تفكيره، ولا سيما في الحرب التي شهرها على الاشتراكية والنظام البرلماني.
كان سبنسر أعدى عدو للاشتراكية، ومع ذلك فالاشتراكيون يستندون إليه في دعم مذهبهم، ويتخذونه على الرغم منه حليفا لهم؛ لأنه أظهر منذ الساعة الأولى ميله إلى جعل الأرض ملكا للأمة. ولكن الذين يستشهدون به ينسون أنه طالب بتعويض عادل للملاك؛ فهو يعترف بحق الأمة في ملكية العقار، ولكنه لا يعترف لها بحق الاستيلاء على كل ما أضافه الإنسان إلى الأرض من عمله الخاص، أو ماله المكتسب بعرق جبينه، وجل ما يحق لها السيطرة عليه هي الأرض الصخرية والمستنقعات والغابات.
Bog aan la aqoon