فقال المأمور بنبرة جادة ورقيقة في آن: اطمئن يا حنظل، أنا عارف أنك أخطأت كثيرا ولكنك قاسيت أكثر، وأنت أدرى بذنوبك، والشاويش معذور في قسوته عليك؛ فالقانون هو القانون، ولكن جدت أمور أوجبت تغيير المعاملة، تغير كل شيء، ونحن كما أن لنا جانبا عسكريا؛ فلنا في ذات الوقت جانبنا الإنساني.
وجعل ينظر إلى المأمور بذهول، وهو يغالب بمشقة سلطان الغيبوبة، فرمقه الرجل برثاء وقال: صدقني يا حنظل، صدق كل ما تسمع وما ترى، رأسك لا يقوى على التركيز؛ لأنك لم تحقن؟ نفد آخر نقودك ولم تحقن، وتاجر السم لا يرحم ويطالب بالدفع المقدم، لكنك ستشفى من هذا كله.
فقال حنظل بصوت باك: أنا مسكين، حياتي حظ عاثر، كنت قويا فضعفت، وبياعا فأفلست، وأحببت فتلوعت، وأدمنت، ثم تسولت. - ستخرج من المصحة رجلا جيدا، ولي معك لقاء آخر.
وفي باحة القسم أحاطت به مجموعة من العساكر، فبحكم العادة تكور جسده كأنما يتلقى ضربة، ولكنهم ابتسموا إليه، انفرجت الشفاه الغليظة تحت الشوارب الثائرة. - أنتم؟! - نعم يا حنظل، كل شيء تغير! - بالشفاء يا حنظل. - ليعف الله عما سلف!
وحمل وهو بين النوم واليقظة، وسرعان ما استسلم للنوم في عربة راحت تتأرجح به إلى ما لا نهاية. وفتح عينيه على حجرة غريبة، رآها بياضا ناصعا وضوءا باهرا كما رأى وجها حانيا. وشعر بضعف وتقزز وغثيان ووحدة في الأعماق وخوف، فتوسل قائلا: الحقنة، الحقنة يا عم متبولي!
وداعبت أذنه ضحكة رقيقة، وسطعت أنفه رائحة نفاذة، وعانى جوعا منهكا في الرأس وفي الحواس، وتشققت أركان رأسه، ثم غاب عن الوجود. وغادر حنظل المصحة رجلا جديدا كما وعد المأمور. تجلت صورته الطبيعية لأول مرة، ورفل في جلباب أبيض فضفاض، وحلق ذقنه فتبدت قوة شاربه وانتعل مركوبا أصفر فاقعا، ووضح وشم الأسد فوق معصمه ووشم العصفورة عند سوالفه تحت لاسة مزركشة. ومضى به شاويش كالصديق، كل شيء صديق، فتراءت بشرته سمراء صافية تحت الشمس، وما تمالك أن ضحك، وقال لنفسه إن وزنه سيخف بعد النظافة، وكان صاحيا واعيا يرى الأشياء، ويسمع الأصوات ويحب الشاويش، ولا يستشعر في جوفه الألم. وامتلأ ثقة بالنفس حتى خال أن بقدرته أن يطير، وصدق ما يحيط به، فلم يدهش عندما أقبل عليه العساكر مهنئين، وتصافحوا بحرارة ومودة في شبه مظاهرة في باحة القسم. ولم يدهش كثيرا عندما رأى المأمور يقف لاستقباله، ولكنه تأثر جدا، وبروحه المتواضعة ارتمى على يده يريد أن يقبلها، ولكن المأمور تلقاه بين ذراعيه وشد عليه برحمة، فتذاوب خجلا وامتنانا وفاضت عيناه بالدمع. وأجلسه الرجل على المقعد وعاد إلى كرسيه وراء المكتب، وهو يضحك ضحكة رطيبة صافية، وقال: مباركة عليك الصحة والعافية.
فاغرورقت عيناه فاستطرد المأمور قائلا: الآن تستطيع أن تبدأ من جديد.
فقال بدموعه المنهمرة: بفضل الله وبفضلك. - لا تبالغ! فالفضل لله وحده.
وفتح المأمور دفترا بين يديه، وأمسك بالقلم وخط عبارة في رأس صفحة بيضاء، ثم قال بهدوء وهو يرمقه بنظرة هادئة وعميقة كضوء القمر: اطلب ما تشاء يا حنظل!
فارتبك الرجل ولم يحر جوابا. تحركت شفتاه فتحرك شاربه الفطري ولكنه لم يحر جوابا، فحثه المأمور قائلا: اطلب ما تشاء يا حنظل، هذا أمر! - ولكن ... - لا لكن، اطلب ما تشاء!
Bog aan la aqoon