أما حفل التكريم هذا؛ فهو آخر ما يربطه بالماضي، بالناس. وهو حدث له أهميته، على الأقل لتعلم الوزارة خطورة الرجل الذي تقاعست عن مد مدة خدمته، وليعلم أعداؤه من كبار الموظفين وصغارهم أي رجل هو! سوف يقف أمامهم مهيبا جبارا مستهينا باسما، ولن يدري أحد بالذل الذي كابده أمس. إنهم يمقتونه مقتا ولكن خطباءهم سيستبقون إلى الإقرار بمزاياه التي لا يمكن إنكارها، وسيرد على تحياتهم بتحية بارعة يؤكد بها تلك المزايا بطريقته الخاصة، وسيجد فرصا للتهكم من كبار أعدائه بلياقة شيطانية. إنها آخر حلبة ملاكمة يخوضها، ملاكمة بقفازات حريرية لكنها مبطنة بالحديد ، وليخرجن منها ظافرا. استقل المصعد إلى سطح النادي، ومضى نحو مدخل الحديقة في مشيته التقليدية التي كانت تفسح له الطريق في أروقة الوزارة كأنه قاطرة. وامتد بصره إلى الداخل فرأى الموائد على هيئة صدر وجناحين، ولكن المقاعد كانت خالية، أو شبه خالية! وعلى وجه الدقة لم ير إلا السادة: صلاح الدين كامل مدير المستخدمين، وإبراهيم شافعي مدير الحسابات، وأمين هنداوي مدير المخازن، وزيادة عبيد المراقب العام الذي حل محله، أربعة من أعدى أعدائه، وبخاصة الرجل الأخير. ثقلت قدماه وطاف به ما يشبه الدوار. حلوى وورود ولكن أين الآدميون؟! كادت تخذله إرادته لولا الاستماتة في مدافعة الشماتة بأي ثمن. الأوغاد الجبناء قاطعوا الحفل. ترى أهي مكيدة مدبرة؟ ومن المدبر؟ لكنه ابتسم. أجل ابتسم حسين الضاوي كما كان يبتسم في فترات الهزائم الوقتية التي تعقب استقالة وزير صديق، وتقدم نحو أعدائه يصافحهم واحدا واحدا، ثم ألقى نظرة على المقاعد الخالية، وقال وهو ما يزال يبتسم: فيكم الكفاية، تفضلوا بالجلوس.
جلسوا. وجاء الخدم ليؤدوا الخدمات المألوفة، وانتظر الرجل حتى ابتعد الخدم، ثم أطلق ضحكة ميتة، وقال مداريا حرجه: يبدو أن الختام ليس مسكا ولا كالمسك!
فقال مدير المخازن في دهشة بلهاء: لعله وقع خطأ ليس في الحسبان.
فقال مدير الحسابات: ننتظر على أي حال.
ولكن حسين الضاوي قال باستهانة: الانتظار لن يجدي.
فقال صلاح الدين كامل، وكان أقربهم جميعا إلى روح المهادنة، قال وهو ينظر إلى المقاعد الخالية: لم أر في حياتي قلة ذوق كهذه!
فحسا الضاوي حسوة شاي باللبن، ثم قال والغضب يشتعل تحت قبضة إرادته: لا أدري شيئا عما وقع، ولا يهمني كثيرا أمره، وسأصارحكم برأيي كما عودتكم. هنالك طراز واحد من الرجال أحترمه؛ طراز الرجل القوي، وهو غير المحبوب بطبيعة الحال، ولو كنت ممن يلتمسون الحب ما أعجزني!
وعكست عينا زيادة عبيد المستديرتان الصغيرتان الحادتان نظرة ساخرة، سرعان ما فجرت الغضب الكامن في عروق الضاوي، فقال وهو يحدج خصمه في حنق: أنا لا يهمني شيء، لم يوجد رأس لم ينحن لي طويلا.
فتظاهر زيادة بالدهشة لغضب الرجل، وقال ببرود كالموت: طول عمرك مناضل ملاكم، ولكنني لا أذكر أني رأيتك غاضبا مرة واحدة!
فقال الضاوي بصوت ملتهب: لم يحدث أني وجدت أمامي من يستحق أن يثير غضبي!
Bog aan la aqoon