لم يكن بالشقة شيء غير مألوف يلفت النظر، أو يمكن أن يفيد منه المحقق. كانت مكونة من حجرتين ومدخل، وبصفة عامة كانت غاية في البساطة. أما ما استحق الدهشة حقا فهو بقاء حجرة النوم في حال طبيعية واحتفاظها بنظامها العادي، رغم أن جريمة قتل فظيعة ارتكبت بها. حتى الفراش ظل عاديا، أو لم يتغير إلا بالقدر الذي يطرأ عليه عقب النوم، غير أن الراقد عليه لم يكن نائما، كان قتيلا لما يجف دمه. وهو قد مات مخنوقا كما يدل على ذلك أثر الحبل حول عنقه وجحوظ عينيه، وتجمد الدم حول أنفه وفيه. ولا أثر وراء ذلك لعراك أو لمقاومة، سواء في الفراش أو في الحجرة أو في بقية الشقة، كل شيء طبيعي ومألوف وعادي. وقف ضابط المباحث ذاهلا، يقلب عينيه المدربتين في الأنحاء، يلاحظ ويتفحص، ولا يخرج بطائل. إنه يقف أمام جريمة بلا شك، والجريمة لا توجد إلا بمجرم. والمجرم لا يستدل عليه إلا بأثر. وها هي النوافذ مغلقة جميعا بإحكام. فالقاتل جاء من الباب، ومن الباب خرج. ومن ناحية أخرى، فالرجل مات مخنوقا بحبل؛ فكيف تمكن القاتل من لف الحبل حول عنقه؟ لعله تمكن من ذلك وضحيته نائم، فهذا هو التفسير المقبول لعدم وجود أي أثر للمقاومة. وثمة تفسير آخر، أن يكون غدر به من وراء حتى أجهز عليه، ثم أنامه في فراشه وسجاه وأعاد كل شيء إلى أصله، وذهب غير تارك أي أثر! أي رجل؟! أية أعصاب؟! يعمل بأناة وروية وهدوء وإحكام كما يقع في الخيال. يسيطر على نفسه وعلى القتيل وعلى الجريمة وعلى المكان كله، ثم يذهب في سلام! أي قاتل هذا؟! ورتب خطوات التحقيق في ذهنه، الباعث على الجريمة، التحقيق مع البواب، والخادمة العجوز، وافترض افتراضات شتى، وقاوم ما استطاع انفعالاته الشديدة، ثم عاد إلى التفكير في المجرم الغريب، الذي تسلل إلى الشقة، وأزهق روحا، ومضى بلا أثر، كأنه نسمة هواء لطيفة أو شعاع من الشمس. وفتش الصوان والمكتب والثياب، فوجد حافظة نقود وبها عشرة جنيهات، كما وجد الساعة وخاتما ذهبيا. يبدو أن السرقة لم تكن الباعث على الجريمة، فما الباعث إذن؟!
واستدعى البواب لاستجوابه، وهو نوبي طاعن في السن، يعمل في العمارة الصغيرة بشارع البراد بالعباسية منذ عشرات السنين. وقد أدلى بأقوال لها أهميتها، فقال عن القتيل إنه مدرس بالمعاش، يدعى حسن وهبي، فوق السبعين، يعيش وحده مذ توفيت زوجته، وله بنت متزوجة في أسيوط وابن طبيب يعمل في بور سعيد، وهو أصلا من دمياط. وتقوم على خدمته أم أمينة فتجيئه حوالي العاشرة صباحا، وتغادره حوالي الخامسة مساء. - وأنت ألا تؤدي له بعض الخدمات أحيانا؟
فقال العجوز بسرعة وتوكيد: ولا مرة في السنة، أنا لا أراه إلا أمام الباب عند ذهابه وإيابه. - خبرني عن يوم أمس! - رأيته وهو يغادر البيت في الثامنة. - ألم يكلفك بتنظيف الشقة؟
فقال الرجل بشيء من العصبية: قلت ولا مرة في السنة، ولا مرة في حياته، أم أمينة تجيء في العاشرة، فتطهو طعامه وتنظف الشقة وتغسل الثياب. - هل ترك نوافذ شقته - أو بعضها - مفتوحة؟ - لا أدري! - ألا يمكن أن يدخل أحد من النافذة؟ - شقته في الدور الثالث كما ترى، فالأمر غير ممكن، ثم إن العمارة محاطة بالعمارات من ثلاث جهات، والجهة الرابعة تطل على شارع البراد نفسه! - استمر في حديثك. - غادر البيت في الثامنة ثم رجع في التاسعة، وهذه هي عادته كل يوم منذ أكثر من عشر سنوات، ويبقى بعد ذلك في شقته حتى صباح اليوم التالي. - ألا يزوره أحد؟ - لا أذكر أني رأيت أحدا يزوره عدا ابنه أو ابنته. - متي زاراه لآخر مرة. - في العيد الكبير. - ألا يزوره اللبان أو بائع الجرائد؟ - الجرائد يعود بها بعد مشوار الصباح، أما الزبادي فتتسلمه أم أمينة عصرا. - هل تسلمته أمس؟ - نعم، رأيت الغلام وهو يصعد إلى الشقة، ورأيته ذاهبا. - متى غادرت أم أمينة الشقة أمس؟ - حوالي المغرب. - ومتى جاءت اليوم؟ - حوالي العاشرة، ودقت الجرس فلم يفتح الباب. - هل خرج اليوم كعادته ؟ - كلا! - متأكد؟ - لم أره خارجا، وكنت بمجلسي عند الباب، حتى جاءت أم أمينة .. ثم عادت إلي بعد ربع ساعة لتخبرني بأنه لا يجيب فصعدت معها، ودققت الجرس وطرقت الباب، ولما لم يجب ذهبنا إلى القسم.
وقال الضابط لنفسه: إن هذا البواب لا يستطيع أن يخنق دجاجة، ولا أم أمينة، ولكنهما قد يسهلان إدخال شخص ما وإخراجه، لكن لم قتل الأستاذ حسن وهبي؟ هل ثمة سرقة ثمينة خافية؟ .. هل تركت الحافظة سليمة للتضليل؟! وهل وجود مفتاح الشقة بدرج المكتب لعبة أخرى؟
وقالت أم أمينة إنها خدمت في بيت المدرس منذ ربع قرن، خمسة عشر عاما، على حياة زوجه، وعشرة أعوام بعد وفاتها، ولكن المرحوم قرر أن تبيت في منزلها منذ ترمله. وهي أرملة، وأم لست من النساء، كلهن متزوجات من عمال وأصحاب حرف، وأدلت بعناوينهن جميعا. - كان أمس بصحة جيدة، قرأ الجرائد، وتلا جزءا من القرآن بصوت مسموع، وعندما تركت الشقة كان يستمع إلى الراديو. - ماذا تعرفين عن أهله؟ - من دمياط لكنه منقطع الصلة بهم تقريبا، ولا يزوره أحد إلا ابنه وابنته في المواسم والإجازات. - هل تعرفين له أعداء؟ - أبدا! - ألا يزوره أحد في بيته؟ - أبدا، وفي أحوال نادرة كان يجلس صباح الجمعة في القهوة مع بعض زملائه، أو مع بعض تلاميذه القدامى.
وتساءل الضابط: هل يمكن أن تقع جريمة بلا باعث ودون أثر؟ واستكمل الإجراءات الواجبة ففتش بمساعدة معاونيه مسكن البواب، وبيوت أم أمينة وبناتها الست، ثم استدعى أصحاب المرحوم القلائل، ولكن لم يدل أحد منهم بشيء ذي بال، وبدا مصرع الرجل لغزا محيرا للألباب. وشاع الخبر في الشارع، ثم نشر في الجرائد، فعلمت به العباسية كلها وأسف له كثيرون. وأكد الطبيب ابن القتيل أن والده لا يملك شيئا ثمينا على الإطلاق، وأن حسابه في البنك لا يتجاوز المائة جنيه، وفرها لحاجة طارئة ثم لخرجته آخر الأمر. وأكد أيضا أنه ليس له أعداء، وأن قتله قد يكون نتيجة طمع في ثروة وهمية، خمن المجرمون وجودها في مسكنه. وجرى تحقيق دقيق مع البواب وأم أمينة، لكنه لم يؤد إلى شيء فأفرج عنهما بلا ضمان. ووجد ضابط المباحث نفسه في حيرة ضبابية، وعانى إحساسا بالهزيمة لم يمر به من قبل. كان ذا تاريخ مشرف في مكافحة الجرائم شهد به الريف والبنادر، وفي الجملة كان من الضباط ذوي السمعة العالية. وهذه أول جريمة ينهزم أمامها هزيمة مطلقة بلا بارقة أمل، ولا عزاء. وبث عيونه في أوساط المشبوهين في الجبل وأطراف الوايلية وعرب المحمدي، لكنهم لم يرجعوا بفائدة. وقرر الطبيب الشرعي أن الأستاذ حسن وهبي مات خنقا، وتفحص جميع ما يخصه من أشياء؛ بأمل العثور على بصمة أو شعرة أو أي أثر مما يتركه المجرمون، ولكن مجهوداته ضاعت هباء، ووقف الجميع أمام فراغ صامت.
ومن شدة الهزيمة شعر الضابط محسن عبد الباري بالخجل، وتنغص عليه صفوه. وكان يقيم بشارع يشبك غير بعيد من القسم، فلما لاحظت زوجته كربه، قالت له برقة: لا يجوز أن تحرق دمك بلا سبب!
فلاذ بالصمت ومضى يسلي همه بالقراءة. وكان مغرما بقراءة الشعر الصوفي كأشعار سعدي وابن الفارض وابن العربي، وهي هواية نادرة بين ضباط المباحث؛ ولذلك أخفاها حتى عن خاصة الأصدقاء. وظل الحادث حديث العباسية، لغموضه المحير؛ ولأن المرحوم كان مدرسا لكثيرين من شباب العباسية وكهولها. ولكن بمرور أسبوع أو نحوه غاص الخبر في بحر النسيان المخيف، وحتى محسن عبد الباري قيده ضد مجهول، وقال لنفسه وهو يزدرد هزيمته المرة «مجهول! .. هذا هو حقا المجهول!»
وبعد شهر دعي الضابط إلى سراي قديمة بشارع العباسية العمومي؛ بسبب جريمة مشابهة! كأن الجريمة الأولى وقعت من جديد، فلم يكد محسن يصدق عينيه. وكان القتيل لواء قديما من رجال الجيش، وكان يعيش مع أسرته المكونة من زوجة في الستين، وأخت أرملة في الستين أيضا، وابنه الأصغر وهو طالب جامعي في العشرين من عمره، وكان يقيم في السراي أيضا البواب والبستاني وسائق السيارة وطاهية وخادمتان.
Bog aan la aqoon