وكان اليوم التالي هو الجمعة. ولما حان وقت الصلاة ازدحم الجامع بالمصلين على غير المألوف كل يوم؛ إذ إن صلاة الجمعة تجذب إليه أناسا من الأطراف البعيدة كالخازندار والعتبة. وتلي القرآن ثم وقف الشيخ عبد ربه لإلقاء الخطبة. وبدا أن المصلين فوجئوا بالخطبة السياسية مفاجأة لم تخطر على بال. تلقت آذانهم متململة الجمل المسجوعة عن الطاعة وواجب الولاء بارتياب وضيق. وما إن حملت الخطبة على الذين يغررون بالشعب ويدعونه إلى التمرد خدمة لمصالحهم الشخصية، حتى سرت في المسجد همهمة، وأصوات احتجاج وسخط، واعترض البعض بأصوات مرتفعة، وسب آخرون الإمام! عند ذاك انقض المخبرون المندسون بين المصلين على غلاة المعارضين، وساقوهم إلى الخارج وسط ضجة هائلة من الاحتجاجات والغضب.
وغادر المسجد كثيرون. ولكن الإمام دعا الباقين إلى الصلاة، وكانت صلاة حزينة تعلوها الكآبة.
في أثناء ذلك كانت حجرة بالبيت الثاني على اليسار من الدرب تضم سمارة وزبونا جديدا. جلست سمارة على حافة السرير نصف عارية، وتناولت خيارة من قدح مملوء إلى نصفه بالماء وراحت تأكلها. وعلى كرسي أمام الفراش جلس الزبون خالعا جاكتته، وهو يجرع الكونياك من الزجاجة. جالت عيناه في الحجرة العارية بنظرة غائبة حتى استقرت على سمارة، فأدنى الزجاجة من فيها فتناولت شربة ثم أعادها. وقرعت التلاوة الآتية من الجامع أذنيه، فارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة لا تكاد ترى، ونظر إلى الأرض. وتمتم في امتعاض: لماذا يبنون جامعا في هذا المكان؟ .. هل ضاقت بهم الدنيا!
فقالت سمارة دون أن تتوقف عن قضم الخيارة: هذا المكان من الدنيا مثل بقية الأماكن.
فجرع مقدار كأسين، وأحد بصره وهو يتفحص وجهها، وقال: ألا تخافين الله؟
فقالت بشيء من الضجر: ربنا يتوب علينا.
فضحك ضحكة مسترخية، وتناول خيارة فدسها في فيه. وفي تلك اللحظة كان عبد ربه يلقي خطبته، فمضى يتابعه برأس متأرجح، ثم ابتسم ساخرا وهو يقول: المنافق! .. اسمعي ما يقول المنافق!
وجالت عيناه في الحجرة، حتى استقرتا على صورة لسعد زغلول قد بهتت من القدم، فتساءل وهو يشير إليها: هل تعرفين هذا؟ - ومن لا يعرفه؟!
فأفرغ بقية الزجاجة في جوفه، وقال بلسان ثقيل: سمارة وطنية، وشيخ منافق!
فقالت متنهدة: يا بخته! بكلمتين يربح الذهب، ونحن لا نستحق قرشا إلا بعرق جسمنا كله!
Bog aan la aqoon