فابتسم عبد العظيم؛ لعلمه بأنهم من صميم هؤلاء القوم المتعبين، وقال: أراك تتحدثين عنها كما لو كانت قد ماتت!
فامتعضت تفيدة وتورد وجهها النحيل الشاحب العاطل من الجمال، وغمغمت فيما يشبه الحياء: الأعمار بيد الله وحده!
ولما أخذا يشقان سبيلهما في الدرب الأحمر، طالعهما الحي القديم بوجه يغشاه البلى والذبول. بدا مكتظا بالناس والحيوان والمركبات. وذكرت تفيدة صباها بقوة مؤثرة، ورجع عبد العظيم إلى ملعب الطفولة، فنطق كل شيء من حيوان وجماد بلغة القلب. وبدا البيت طويلا على غير المألوف في الحي كله، وبرزت المشربيات كالأحلام، وتناثرت أمام المدخل أكوام من الأتربة والحجارة، على حين تمددت بجوار الجدار جثة قط على حال تعافها النفس. ورقيا في السلم، وهو سلم عالي الدرجات، حتى لهث عبد العظيم، وعندما بلغا الدور الثالث، قالت تفيدة: هنا ولدنا، أنت وأنا، وعلى هذه البسطة كانت تغني الفلاحات: «البحر زاد» في موسم الفيضان.
ووجد عبد العظيم ذكرى أخرى في الدرابزين الذي كان يتزحلق عليه، فأوشك أن يحكيها، لكن رغبته في ذلك فترت فجأة، فلم يخرج عن صمته. ووقفا عند عتبة السطح حتى يستردا أنفاسهما المبهورة. يا له من سطح غطي تماما بالأتربة، وروث الدجاج وقطع الأحجار الحمراء المتناثرة، وامتدت في فراغه فوق ارتفاع القامة حبال الغسيل! وفي الناحية المطلة على الطريق قامت الحجرة الوحيدة، متسلخة الطلاء، باهتة الباب والنافذة، لا يسهل بحال الاستدلال على أصل لونهما. ومضيا إلى الباب، فطرقه ثم دفعه ودخل تتبعه أخته. هاله منظر النسوة المتلاصقات من شدة الزحمة، منهن الجالسات على كنبة ومقعدين قديمين، والباقيات افترشن الأرض. أما السرير ذو العمد السوداء والناموسية المربوطة من الوسط كالبالون؛ فقد بدا بالراقدة عليه وحيدا منعزلا رغم الزحام. ولم يظهر من نظيرة إلا ثلثا وجهها الشاحب، على حين أخفى الغطاء جسمها حتى الذقن، والمنديل البني رأسها وجبينها حتى الحاجبين. والتقت الأبصار عند القادمين. حدجتهما باستطلاع واهتمام، وندت على رغم الحرص همسات، وسرعان ما أخلي المقعدان. واتجه عبد العظيم وأخته نحو المقعدين وهو يرفع يده تحية، ويتلقى في نفس الوقت عشرات التحيات. وشعر بشيء من الاستعلاء لا يعد على أي حال شيئا إذا قيس بما شعرت به أخته. كان على علم تام بتأثير بدلته في النسوة، وكذلك معطف أخته الذي دفع آخر قسط من ثمنه منذ أشهر قلائل. ولم يخفف من غلوائهما انتسابهما آخر الأمر إلى هذا الحي. غير أن ذلك كله لم يدم إلا ثوان؛ إذ ما كادا يستقران على المقعدين، حتى تركز منهما البصر في الراقدة فوق الفراش المنعزل. هذه هي العمة نظيرة. طالما عملت لهذا اليوم ألف حساب. وكان كلما خاطبها أحد في شأن من شئون المال، قالت بحدة: سأموت قريبا وترثونني. وثمة انحراف في جانب الفم يثير الجزع، واستطالة في الذقن المدبب، مع هبوط ملحوظ في اتجاه الفم الفارغ. أما العارض الذابل فما أشبهه بعارض أبيهما عند احتضاره. وعند ذاك تردد عن قلبيهما نفس كالرثاء مفعم بالشجن. ومالت تفيدة نحو أقرب امرأة إليها، وسألتها عما أصاب العمة، فأجاب أكثر من صوت في اختلاط وتسابق: «مسكينة كما ترينها!»، «لكن ربنا قادر على كل شيء»، «جئنا فوجدناها كما ترين». وهزت تفيدة رأسها، كأنما ظفرت بالجواب المطلوب. يا لهؤلاء النسوة، ما أكثرهن! كأنهن يجلسن في مسالك التنفس؛ ساكنات البيت أو من الجيران، ولعل فيهن قريبات لهما. في هذا الحي أقارب لهما يسمعان عنهم ولا يعرفانهم ما عدا الحاج مصطفى الذي يزورهما في بعض المواسم، وهو قريب لأمهما لا لأبيهما. متى وكيف يمكن أن تخلو الحجرة من هذه القناطير من اللحم الآدمي ذي الرائحة المقلقة للأعصاب؟ وأجال عبد العظيم عينيه في الحجرة التي لا يذكر متى رآها آخر مرة، ولا كم كان عمره وقتها. الحق أنها حجرة واسعة، فستقية اللون، يتدلى من سقفها مصباح كبير آن له أن ينطفئ، وتطل بنافذة على الطريق وبأخرى على السطح، وقد أغلقتا بإحكام اتقاء للبرد القارص. وغطيت ببساط باهت منجرد، انحسرت أطرافه عن حصيرة مفروشة تحته. وثمة صوان قديم عكست مرآته الوجوه الكالحة. وصندوق مزركش الغطاء استكان تحت السرير، وترابيزة حملت بموقد كحولي وكنجة قهوة. لكن أين ختم العمة؟ .. وأين نقودها؟ .. أين نقودها بصفة خاصة؟ .. وإلا فمن أين له بنفقات الدفن والمأتم؟ .. وتطلع قليلا إلى صورة للبسملة في إطار فضي معلقة بالجدار المواجه للفراش، ثم عاد يتساءل: ترى أين توجد نقودها؟ وشعر بأن الحجرة رغم برودة الشتاء تفور بروائح المطبخ والعرق وصنان الأطفال. وانزعج انزعاجا خاصا لتطلع الأنظار إليه، تكاد تمضغه مضغا، ولم تكن تخلو من إكبار وإعجاب، ولكنه كان يعلم من ناحية أخرى بأنه لا يملك حتى آخر الشهر سوى النقود اللازمة السجائر والمواصلات.
وتساءل: ألم يكشف عليها طبيب؟
وقبل أن يتحرك لسان للإجابة فتح الباب وامتلأ فراغه بشخص جديد. كان ربعة، يرتدي معطفا غليظا فوق جلباب مقلم، ملفوف العنق بكوفية، مغطى الرأس بطربوش طويل. وسرعان ما ارتطمت الأصوات، وهي تحييه قائلة: أهلا بالحاج مصطفى.
رد الباب ودخل دون أن يرد تحية، لكن ما إن وقع بصره على عبد العظيم وتفيدة، حتى تهلل وجهه وأقبل عليهما مصافحا بحرارة، وهو يقول: أهلا وسهلا، قضى ربنا ألا يرى بعضنا البعض إلا كل حين ومين.
ولما فرغ من المجاملات المعهودة تراجع إلى حافة الفراش، وجلس عليها بتؤدة وحرص؛ خشية أن يصيب الراقدة بأي اهتزاز. وآنس من وجه الأخ تطلعا إلى معرفة كل شيء عن العمة نظيرة، فأنشأ يقول: كان الله في عونها، لآخر لحظة حافظت على نشاطها اليومي المعهود، وحتى هذا السلم المرتفع المخيف لم يكن ليحول بينها وبين الخروج كل يوم إلى السوق، وكم رجوتها أن تستعين على وحدتها بخادمة ولكنها ... على أي حال أنت تعرف كل شيء عن هذا الموضوع، واليوم خرجت للتسوق كالعادة، قابلتها عند عم حسنين البقال وتبادلنا الدعابات، ثم عادت تسير على مهل. ولما صعدت إلى الدور الرابع وقفت تحادث ست حميدة (وأشار إلى امرأة مكومة في الركن) ثم مضت تصعد الدرجات الباقية، ولما بلغت باب السطح ند عنها أنين موجع، فهرعت إليها ست حميدة.
وقاطعته ست حميدة قائلة: لم أكن وحدي! كانت معي أم نرجس، وكانت ست خيرية فوق السطح تطعم الدجاج!
ابتسم الحاج مصطفى ابتسامة غامضة، وقال: هرعن إليها، لكنها أبت أن تستسلم، أبت أن يسندها أحد، حاولت بجهد أن تتم رحلتها وحدها، وجعلت تقول «لا شيء .. لا شيء» .. وما لبثت أن سقطت بين أيديهن! حملنها إلى حجرتها وأنمنها على الفراش، ثم أرسلن في استدعائي من القهوة. جئت مسرعا، ولما اطلعت على الحال عدت إلى الخارج، ثم رجعت بصحبة طبيب حينا، رجل طيب عجوز لا كأطباء هذه الأيام، وكشف عليها باهتمام كبير، استعمل السماعة وأجهزة أخرى، ثم مال علي قائلا: «النقطة» .. ووعد بالحضور مرة أخرى، ولم يأخذ نظير هذا كله سوى خمسين قرشا!
Bog aan la aqoon