وإذ ذاك تكون عقدة عزمه قد استحصفت، وأسباب عزمه قد استحصدت، واستكملت قوة إرادته، وتناهى سلطانه على هواه وشهواته، وأصبح الحاكم المستبد على نفسه؛ فوجهه جامد صلب كأنما قد من صخر، وعيناه النجلاوان المحمرتان من كثرة التدخين في هذا المساء، ومن طول الأرق والسهاد في الليلة السالفة تستقران على شخص الفتاة، وفيهما نظرة استفهام جافة جامدة.
لقد كانت هاتان العينان تنظران إليها مرة نظرة وله وصبابة وهيام، فها هي الآن تبحث في أعماقهما عن شعاع من ذلك الضوء الذائب المذيب، فما إن له من أثر!
لقد أسدل فوقهما، وفوق سائر وجهه أكثف قناع من القسوة والإعراض، وأغلظ لثام من الجفوة والانقباض، فوهى جلدها وخارت قواها.
وكاد يطير من قفص ضلوعها قلبها الخفاق، واكتظ صدرها حتى آذن باختناق، ثم قالت ردا على استفهام نظراته: «نحن ... نحن راحلون.»
فخيل إلى إصطفيان أن قلبه ينكمش، ويتقلص لدى سماع هذه الكلمات التي طالما أوجس خيفة أن يسمعها، وقد سمعها الآن.
فيزداد يأسا على يأسه.
ولكنه لا يجيب بأكثر من قوله: «أحقا ما تقولين؟ أرجو أن لا يكون رحيلكم فورا.»
لم يكن في الوجود شيء هو أمض وأوجع وأذل لعزة الفتاة، وأرغم لشممها وأسحق لآمالها وأمحق لمطامعها، من وقع كلماته الفاترة الباردة على كبدها الحرى، وأحشائها المتسعرة.
أهذا ما يسمونه الحشمة واللياقة وآداب الجماعة وقواعد السلوك؟ فيالله ما أشنع وما أبشع وما أقصى وما أطغى! ويا بعدا ويا سحقا لهذه الآداب الثلجية القاتلة بشدة بردها وجمودها! لأفضل من هذه الآداب المتمدينة قلة آداب الهمج والمتوحشين، وخير من هذه الرقة المتحضرة غلظة سكان الفيافي والقفار والأحراش والأدغال.
لقد أقام إصطفيان من هذه الآداب العرفية بينه وبين الفتاة حاجزا رقيقا دقيقا، فكان أثره السيئ أبلغ مما لو كان قد شق بفنون السحر بينه وبينها أبعد هاوية وأسحقها!
Bog aan la aqoon