49

Ilmooyinka Bilyatsho

دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة

Noocyada

قال صادق متوعدا: هي على الأقل تملأ جيبي وحسابي في البنك، لكن يا عيني على الرحالة في التاريخ وما قبل التاريخ!

ضحك محمود وهو يفرك عينيه ليثبت أنه أفاق تماما: بل كنت مع الماضي الحي ومع الحاضر الذي لا يطاق، ألم تسمع أن الماضي يحيا في الحاضر، وأن الحاضر ... قاطعه صادق: لا يا عم، كل ما سمعته أن البيت والحديقة ... هتف محمود ولم يستطع أن يخفي جزعه: ماذا سمعت عن الحديقة؟ إنها التاريخ الحي في قلبي، الخضرة الوحيدة المتبقية، الأمل ... قاطعه صادق بهدوء: أخشى أن هذا التاريخ سيموت قريبا جدا بالسكتة أو بالقتل العمد، صاح محمود في غضب لم يقصده: تقصد بالغدر؟ هذا شيء غير جديد علي. شوح صادق بيده متخلصا من ورطته: أنا يا عم لا أحب التدخل بينك وبين أهلك، البلد كله يتحدث عن المشروع الكبير، شده محمود من كم سترته وسأل بعصبية: البلد والمشروع؟ أرجوك تكلم، الجميع يعلمون أن الحديقة والبيت ملكي، تنازلت عن نصيبي من الأرض مقابل هذا البيت القديم والحديقة المهجورة، أنت نفسك تتذكر هذا، ربما تتذكر أيضا ما قلته لك عن مشروعاتي الفنية والثقافية التي أفكر فيها. قال صادق وهو ينهي حديثا طال أكثر مما قدر له: أتذكر أو لا أتذكر، لا تدخلني أرجوك في أموركم الخاصة، نحن الآن في السوق، ألم تكن تريد أن تقابل الشيخ؟

سأل محمود في غيظ وهو يعالج فتح الباب الأمامي: أظن أن كتابه هنا. قال صادق بلهجة فضحت سخريته: البلد كله يعرف مكانه، اسأله بنفسك فربما يعرف، مع السلامة، سأمر على نورة الليلة أو صباح الغد، لا تنس الدواء!

4

لم يتوقع، عندما خرج من السيارة أن الصدمة الكبيرة ستكون في انتظاره: مكبرات الصوت الزاعقة بالأغاني الهابطة، أضواء النيون الصارخة بالألوان الفاقعة كالأراجيح المجنونة على واجهات البوتيكات والتوكيلات ومحلات الفيديو والكازينو الرابض على حافة السوق كحيزبون متصابية تستعرض مفاتنها الفجة وتتخلع على شاطئ بحر هادر بالضجيج المنطلق من فكوك الراديو والتلفاز المفترسة، وضربات الشيش واليك فوق صناديق الطاولة التي يتحلق حولها الزبائن من كل صنف ولباس: عمال المصنع الوحيد بالحلل الزرقاء، وشباب عاطل بالقمصان المفتوحة والبناطيل الجينز، وسائقو سيارات الأجرة والباص والحناطير، وفلاحون - نعم فلاحون - ربطوا حميرهم في الأشجار المواجهة أو أوقفوها أمام البيوت الجديدة تحت حراسة أطفال وصبية جذبهم السحر الملعون واكتفوا بالفرجة عليه من بعيد.

قال في نفسه: لأتمشى قليلا في الشارع الوحيد المسفلت الذي لم أره منذ سنين لا أعرف عددها، كنت أحضر إلى البلد في المناسبات الضرورية، ولم تكن تتاح الفرصة للتجول والاطلاع على الأحوال، أنزل من السيارة لأدخل سرادق المأتم أو سرادق الزفاف وأعود إلى السيارة في الصباح الباكر بمجرد الانتهاء من تقبل العزاء أو تقديمه، أو تهنئة الأهل والعروسين بالقران الميمون، وها هي الأيام والشهور والسنون تمر وأنا غارق تحت سطح الماضي البعيد، غافل عن أمواج الحاضر التي ترغي وتزبد بالحيتان وأسماك القرش وبقع الزيت والنفايات، وتلقي على الرمال بحطام المراكب والقوارب الآمنة قطعة قطعة فتتراجع أمامها مذعورة.

ومضى في طريقه يتلفت حوله كأنه سائح يهيم في أرض العجائب. حمد الله أن أحدا لا يتذكره ولا يعترض طريقه، وإن لم تغب عنه لفتات الرءوس والعيون المتطلعة في دهشة لا تبلغ حد التطفل والثرثرة المعهودة. كان الميدان خليطا غريبا احتشدت على أرضه كل العصور التاريخية وإن بقيت الفوضى السابقة على بداية التاريخ هي سيدة الموقف، أراد أن يذكر نفسه بكان هنا وكان هناك، ببيوت كان يدخلها لزيارة أصحابه في المدرسة، ودكان بقالة بجوار مكتبة يملكها رجل يربطه به طرف قرابة، وبيت شامخ في المدخل الجنوبي للسوق كان في صباه يسميه القصر، وفي شبابه قلعة الظلم والرأسمالية والإقطاع، وما كان يسمى بالحديقة في وسط الميدان تقلص إلى دائرة يحوطها سلك شائك قبيح وتزدحم بركام المهملات وقطع الأثاث الممزقة الأوصال وأكوام القمامة التي خنقت أنفاس الأعشاب القليلة والجذوع العارية البائسة. نبهه سائق مرسيدس تتبختر في الزحام أن يصحو من نومه، وصاح سائق عربة كارو أنه كان أن يلسعه بالسوط لولا أنه يبدو أفندي محترم، وحين وجد نفسه أمام السينما الوحيدة طالعته الإعلانات الملصقة على جدران المدخل وفوق اللافتة المبهرة الأضواء: كانت تتمطى على صفحتها ممثلة شبه عارية اشتهرت بشراستها وفضائحها الخاصة والعامة، ولكن تفننها الواضح في الإغراء زاد من شهرتها وإقبال الجماهير على أفلامها، ولفتت انتباهه البيوت الجديدة المبهرجة الألوان والشرفات والبوابات والسلالم الرخامية. تلك أموال النفط التي جرت في أيدي الطبقة الجديدة - بنت الفلل السقيمة الذوق وفتحت البوتيكات والأجنسات والسوبر ماركات ومكاتب الاستيراد والتصدير والسمسرة والمقاولات - هل شمت أنوفها رائحة بيوت الطين المغبرة وعشش الغاب والقش والصفيح المتناثرة على أطراف البلد، وهل زارت حارات الأجراء والمهاجرين الذين استوطنوها بعد العدوان الثلاثي والنكسة، وهل فكرت أن تنشئ حديقة عامة أو تقيم مدرسة أو تؤسس مكتبة أو مسرحا أو ناديا رياضيا أو ثقافيا أو قاعة تتوسط البلدة وتقام فيها الاحتفالات والمهرجانات والمحاضرات على نحو ما رأى في المدينة الجامعية الصغيرة التي حصل منها على الدكتوراه، بل في كل قرية ضئيلة زارها وآمن في كل مرة بأنه دخل جنة صغيرة؟

ورجع أدراجه حين لسعت الشمس فروة رأسه التي حفر الصلع دائرة في وسطها وعلمته الخبرة أنها شديدة الضعف أمام ضرباتها المفاجئة. لم ينس هدفه الذي جاء من أجله فاتجه مباشرة من الميدان الصاخب إلى مقهى بلدي في حارة خلفية ضيقة، بدا المقهى صامدا متشبثا بعصره الوسيط في وجه رياح التغير الجهنمي، ودخل على استحياء وسط الوجوه الكابية المتطلعة بعدم اكتراث، والطاولات التي تحلق حولها الزبائن على الرصيف المهشم البلاط، سأل النادل العجوز - الذي أقبل عليه باحترام وهو يكبس طاقيته الملونة على رأسه - عن كتاب الشيخ حامد، فقال له بصوت خبير: هو في آخر الشارع، على اليمين في حارة الصالحين، ثم وهو يضحك: يظهر أن المجلس البلدي سماها على اسمه، بركة سيدنا الشيخ، حضرتك تريده؟

قال محمود مشجعا بابتسامة واسعة: ولماذا سألتك عنه؟

قال النادل مؤكدا علمه ببواطن الأمور: الأولاد روحوا الآن؛ لأن تحفيظ القرآن يبدأ مبكرا، إذا أردت أن تراه فاذهب إلى جامع الشيخ يس، ستجده هناك بالتأكيد، هو خادم المسجد والمؤذن والواعظ إذا غاب واعظ المركز، إن جئت للحق كان من الواجب أن يسموه مسجد الشيخ حامد. لا مؤاخذة من السؤال.

Bog aan la aqoon