يقف هؤلاء موقفا على السواء بين الأمم، فلا عربي أفضل من أعجمي لأنه عربي، ولا أعجمي أفضل من عربي لأنه أعجمي، وليست العربية ولا الأعجمية عاملا من عوامل التفاضل، إنما عامل التفاضل الدين وحده عند قوم، والشرف وسمو الخلق عند آخرين، وفي هذا المعنى جاء القرآن الكريم:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم . وفي الحديث: «ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى.» و«المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.» ويقول المأمون: «الشرف نسب؛ فشريف العرب أولى بشريف العجم من وضيع العجم بشريفهم، وشريف العجم أولى بشريف العرب من وضيع العرب بشريفهم.»
7
وابن قتيبة بعد أن دافع عن العرب وأبان فضلهم على غيرهم من الأمم، عاد فنقد كل ذلك وقرر المساواة فقال في آخر كتابه «تفضيل العرب»: «وأعدل القول عندي، أن الناس كلهم لأب وأم؛ خلقوا من تراب، وأعيدوا إلى التراب، وجروا في مجرى البول، وطرأ عليهم الأقذار، فهذا نسبهم الأعلى الذي يردع به أهل العقول عن التعظيم والكبرياء والفخر بالآباء، ثم إلى الله مرجعهم فتنقطع الأنساب، وتبطل الأحساب إلا من كان حسبه التقوى، أو كانت ماتته طاعة الله.»
8
وحجة هؤلاء أن في كل أمة الطيب والخبيث، ولكل أمة محاسنها ومساوئها، وخير ميزان توزن به الأعمال الدين أو الخلق. ولسنا نستطيع ذلك في الأمم إنما نستطيعه في الأفراد؛ ففرد خير من فرد بدينه أو بخلقه، ولا شيء غير ذلك، وهذا الصنف من الناس يسمون «أهل التسوية»؛ أي الذين يسوون بين الأمم، ولا يجعلون فضلا لأمة على أخرى، ويمثلهم أكثر المتدينين والعلماء من العرب والعجم؛ لأن روح الإسلام وقواعده تؤيد هذا المذهب.
النزعة الثالثة:
تميل إلى الحط من شأن العرب، وتفضيل غيرهم من الأمم عليهم، وحجتهم في ذلك: (1)
أن العرب ليس لها أي ميزة، على حين أن كل أمة لها ميزة تفخر بها؛ فالرومان تفتخر بعظم سلطانها، وكثرة مدائنها، وعظيم مدنيتها. والهند تفخر بحكمتها وطبها، وكثرة عددها وأنهارها وثمارها. والصين تزهى بصناعاتها، وفنونها الجميلة، وما إلى ذلك. ولا نجد العرب تمتاز بشيء يضارع ما ذكرنا؛ جدب في أرض، وبداوة في عيش، كانوا في جاهليتهم يقتلون أولادهم من الفقر، ولا يستقر لهم حال من الغزو والسلب، ويفعلون المكرمة الصغيرة كإطعام جائع، وإغاثة ملهوف فيملئون الدنيا بها شعرا ونثرا، ويتيهون بذلك فخرا. (2)
قالوا: بم يكون الفخر؟ أبالملك؟ فأين ملك العرب من ملك الفراعنة والعمالقة والأكاسرة والقياصرة؟! أو من سليمان الذي أوتي من الملك ما لا ينبغي لأحد من بعده؟! أو من ملك الإسكندر، وقد بلغ مطلع الشمس ومغربها! أم بالنبوة؟ فجميع الأنبياء من غير العرب ما خلا أربعة؛ هودا وصالحا وإسماعيل ومحمدا. أم بالصناعة والعلم؟ فالعرب أضعف الأمم في ذلك شأنا، وأعقمهم يدا، وأجدبهم عقلا. أم بالشعر؟ فلم ينفرد العرب به، فلليونان شعر موزون مقفى، وللرومان شعر كذلك. أم الخطب والبيان؟ فللفرس واليونان والرومان خطب محبرة، وبيان ساحر، فما الذي يفخرون به بعد ذلك؟ يفخرون بالكرم والوفاء؟ وقولهم في ذلك أطول وأعرض من فعلهم، ويفتخرون بالأنساب وقد كانوا في جاهليتهم لا يتقيدون بنوع الزواج المعروف في الإسلام، بل كان من أنواع زواجهم شيوع المرأة بين عدة رجال، وكانوا في حروبهم يسبي بعضهم نساء بعض، ويستمتع بها من غير زواج، فكيف يدري أحدهم أباه! (3)
Bog aan la aqoon