أنا ماضية نحو الشرق، لا أنحرف عن غايتي إلى يمين أو إلى شمال إلا لأقضي ليلة في هذه القرية أو لأستريح ساعات أو لأستريح يوما في هذه القرية أو تلك، ولكني على جناح سفر دائما، متجهة نحو الشرق دائما، ممعنة في الشعور بالأمن كلما ازددت من الغاية دنوا ومن المدينة قربا، فالمدينة إذن هي غايتي من كل هذا السعي، فيها ألتمس الأمن، وبين أهلها ألتمس الحياة الوادعة! وبيت المأمور هو غايتي من المدينة، إليه ألجأ وإلى من فيه أفزع وبمن فيه أستعين، في ظله أريد أن أعيش، وعند أهله أريد أن أودع قلبي، وعند خديجة من أهله خاصة أريد أن ألتمس الراحة لهذه النفس المعذبة، والشفاء لهذا القلب المريض، لن آمن حتى أبلغ هذه الدار، ولن أبل من علتي حتى أرى هذه الوجوه وأسمع هذه الأصوات، وأستأنف حياتي مع الخدم والسادة كعهدها منذ أشهر قبل أن تأمرنا أمنا بذلك الرحيل المشئوم. إذا بلغت هذه الدار فستقصر يد خالي دون أن تبلغني، وإذا اطمأن بي المقام في هذه الدار فلن يجد الروع إلى نفسي سبيلا. ولكن ما خطب أهل الدار وما خطبي إن سألوني أين كنت؟ كيف أجيبهم؟ ... وبم أجيبهم؟ أأقص عليهم حديثي كله أم أطويه عنهم طيا؟ بل ما خطب أهل الدار وما خطبي إن رأوني فأنكروني ثم أبوا أن يفتحوا لي بابهم وأن يلقوني بما أحب أن يلقوني به من الرضا والعطف والابتسام؟ ما خطب خديجة وما خطبي إن رأتني فأعرضت عني لأنها وجدت من فتيات الريف أو من فتيات المدينة من يقوم منها مقامي ويلهيها كما كنت ألهيها، ويشاركها في الجد واللعب كما كنت أشاركها في الجد واللعب؟ أين أذهب إذا نبت بي هذه الدار، وإلى من ألجأ وعلى من أعول إذا تنكر لي أهل هذه الدار؟
الفصل الثالث عشر
كلا! بل هذه الدار كما عرفتها رشيقة أنيقة، مغرية مطمعة، لا ترد طارقا ولا تصد راغبا، ولا تتجهم لزائر ولا تنبو بضيف، وإني لأراها من بعيد فأسرع إليها الخطوة كأنما أدفع إليها دفعا أو كأنما تدعوني ملحة فأستجيب للدعاء، وإني لأرى دخانا يصدر عنها وينشر في الجو فلا أتمثل النار التي يصدر عنها في المطبخ وإنما أتمثل الطباخ ومن حوله من الخدم يذهبون ويجيئون وأسمع ما يقولون، وكأني أشاركهم فيما يأتون من حركة، وأجاذبهم ما يلفظون به من حديث، وإني لأدنو من الدار فأرى نافذة مفتوحة فلا أتمثل غرفة خديجة وما فيها من أداة وأثاث، وإنما أتمثل خديجة نفسها قد جلست إلى بعض ما كانت تلعب به، أو عكفت على درس تستظهره أو كتاب تنظر فيه، وكأني أشاركها في اللعب أو أشاركها في الاستظهار أو أسمع بعض ما تقرأ. وإني لأدنو من الدار فأتمثل حياة الدار كلها كأنها قد غمرتني وكأني قد رجعت إلى مثل ما كنت منذ أشهر جزءا من هذا الكل، وشعاعا منتشرا مستفيضا في هذه الحياة التي تملأ الدار حركة ونشاطا واضطرابا.
وهأنذا أبلغ باب الحديقة فلا أتردد في ولوجه، وأمضي أمامي مصممة كأنما أعود إلى الدار بعد ليلة من تلك الليالي التي كنت أقضيها مع أمي وأختي في ذلك المنزل الحقير، وإني لأمضي كما تعودت مسرعة لا ألوي على شيء، وإني لأصعد في السلم لا ألتفت إلى يمين ولا إلى شمال، وإني لأبلغ غرفة خديجة فأدخلها وأصادف سيدتي وصديقتي عاكفة على كتاب تنظر فيه، ولكنا كنا نلتقي على الضحك والعبث فمالنا الآن لا نضحك ولا نعبث ...؟! أما هي فواجمة ذاهلة قد أخذت على غرة، وأما أنا فمغرقة في البكاء.
ثم هي تسألني: أين كنت ...؟ ومن أين أقبلت ...؟ وماذا صنعت في هذا الوقت الطويل ...؟ وأنا لا أجيب. وأنى لي أن أجيب بغير هذه الدموع التي تنهمر، وهذه الزفرات التي تنفجر، وهذا الشهيق الذي يتردد في حلقي متصلا بعضه ببعض يزداد شدة وعنفا حتى يكاد ينتهي بي إلى أزمة من هذه الأزمات التي تفسد أعصاب النساء حين يلح عليهن البكاء ...!
وسيدتي وصديقتي قد أقبلت علي فتتلطف لي وترفق بي وتهون علي بعض ما أجد، وإن كانت لا تعرف شيئا مما أجد، ثم يسمع الشهيق وإذا سيدة البيت قد أقبلت، وإذا هي ليست أقل دهشا ولا وجوما من ابنتها، ولكنها تصرف الفتاة عني صرفا شفقة عليها من هذا المشهد الذي قد يؤذي نفسها الشابة الناشئة، ثم تدعوني إلى أن أتبعها، ثم تهدئ روعى وتتلطف لي في الحديث وتسألني عن أمري فلا أجيبها بشيء، أو لا أكاد أجيبها بشيء، إنما هي جمل متقطعة غارقة في الدموع فيها ذكر للرحيل على غير موعد، وفيها ذكر للقرية ورؤية أهلنا فيها، وفيها ذكر لمصاب عظيم قد ألم بنا هنا لم نكن ننتظره ولا نقدره ففقدنا أختي، وفيها ضيق بحياة القرية في ذلك الحزن المتصل، وحنين إلى السادة الذين لم ألق في خدمتهم إلا خيرا وبرا، ثم فيها ذكر العودة المنفردة في الطريق الطويلة الملتوية المخوفة، ثم انهمار للدموع وانكباب على سيدتي أقبل يديها وقدميها كأني أشفق أن تردني ردا أو تدفعني عن الدار دفعا؛ ولكنها حدبة علي، رفيقة بي، تقيمني وتنهضني وتأمرني أن أذهب إلى حيث أصلح من أمري وأستأنف عملي في الدار، كأني لم أفارقها أشهرا، وكأني لم أفارقها فجأة في غير استئذان، وكأني لم أزد على أن غبت يوما أو أياما ثم عدت إلى مثل ما كنت فيه ...! وأنا أذهب إلى حجرتي فأراها كما تركتها لم يشغلها أحد، ولم تسكنها خادم بعدي، ثيابي فيها كما تركتها وأدواتي فيها كما غادرتها لم ينقل شيء منها ولم يحول عن مكانه، ثم ما هي إلا أن ألقى الخدم ويلقوني بشيء من الدهش والوجوم، وآخذ في بعض الحديث، ثم أنظر فإذا كل شيء قد استقر وإذا أنا واحدة في الدار من أهل الدار كأن لم يكن بيني وبين الدار فراق.
ثم أعلم ما أعلم من حزن خديجة علي ووجدها بي، وإبائها على أهلها أن يتخذوا لها خادما غيري ونزول أهلها عند ما كانت تريد.
ثم أستأنف الحياة مع السادة والخدم كما كنت أحياها من قبل، ومع ذلك فما أكثر ما لقيت من الخطوب، وما أشد ما احتملت من الآلام، وما أطول ما أنفقت بعيدة عن الدار من الشهور! وكيف لا تطول هذه الأشهر القصار وقد كان فيها من الأحداث ما كان، وقد لقيت فيها من الشر كل ما لقيت، وقد واجهت فيها الموت، وقد عانيت فيها المرض، وقد تعرضت فيها للجنون أو لمثل الجنون، وقد تعرضت فيها لكل ما تعرضت له من ألوان الفتنة والمحنة والخوف ...؟
إن أهل الدار لا يعلمون من هذا كله شيئا وهم من أجل ذلك لا يكادون يشعرون بأني فارقتهم أو غبت عنهم، ولكن أنا أعلم من هذا كله ما أعلم، وأنا من أجل هذا أشعر بأني قد فارقتهم وقتا طويلا، أو أطول مما يظنون وأطول مما أظن، وأطول مما يحسب الناس. إنهم قد نسوا رحلتي ونسوا عودتي وانصرفوا إلى أمرهم لا يفكرون في ولا يسألون عني، ولكني أنا لم أنس من هذا شيئا. بل أنا أشعر شعورا غريبا، أشعر أني قد أخذت من أهل الدار فتاة فدفنتها هناك في قرية بعيدة من قرى الريف تظلها هضبة من هذه الهضاب التي تلي الصحراء، ثم رددت عليهم فتاة أخرى لا يعرفونها ولا يعلمون من أمرها شيئا، أخذت منهم آمنة الضاحكة في أكثر الوقت، الباسمة دائما؛ أخذت منهم آمنة الغرة الساذجة التي تؤثر اللعب أو تكاد تؤثره على كل شيء، والتي لا ترى في الحياة إلا لعبا، والتي تخدم وكأنها تلعب، وتدرس كأنها تلعب، وتتعلم من الخدمة والدرس ما تتعلم وكأنها تلعب، لا تعرف الهم ولا تتمثله، ولا تعرف أن للحياة أثقالا وتكاليف وإنما تؤمن بأن الحياة ابتسام للنهار إذا أشرق، وابتسام لليل إذا أظلم، وابتسام لما يملأ النهار من نشاط، وابتسام لما يملأ الليل من أحلام؛ أخذت منهم آمنة التي كانت تنشأ وتنمو كما تنشأ هذه الشجيرات في الحديقة وتنمو، فيها نضرة ولين، وفيها بهجة وجمال.
أخذت منهم آمنة هذه ففرقت نفسها تفريقا، في الطريق حين كنت ذاهبة إلى الغرب، تركت بعضها في بيت العمدة الذي ضيفنا، حين سمعت لحديث أختي وحين سمعت لحديث أولئك النساء، وتركت بعضها لهذه الأشباح الحمراء التي كانت تتراءى لنا حين كنا نتحدث على سطح الدار أو حين كان يمضي بنا الجملان في الطريق الصامتة وقد تقدم الليل وثقل، ثم تركت أكثرها في ذلك الفضاء العريض فسال مع الدم الذي سال، ودفن مع الجثة التي دفنت وسوي عليه معها التراب ثم صب عليه معها الماء، ثم تركت سائرها نهبا لتلك العلة التي ذهبت بما بقي من نفسي، وإن أبقت على بقية ضئيلة من جسمي أخذت الحياة تعود إليها بعد البرء قليلا قليلا. أخذت منهم آمنة هذه وفرقتها على هذا النحو بين المدينة والقرية ثم رددت عليهم آمنة أخرى قد تشبه تلك في بعض ملامح الوجه، وقد تشبهها فيما بقي من اعتدال القامة، وقد تشبهها في طبيعة الصوت وبعض الحركات، ولكنها تخالفها بعد ذلك في كل شيء.
Bog aan la aqoon