وأنا مشرفة أنظر مع الناظرات، ولكن ماذا؟ إني لأتراجع مسرعة وقد اضطرب قلبي اضطرابا لا يكاد يستقر معه في صدري، وقد تكلفت جهدا عنيفا لأحبس صيحة كادت تنبعث من فمي، وهذه أمي تجرني إليها لا تقول شيئا ولكنها تهبط معي فناء الدار، ثم تهدئني بعض الشيء، ثم تقول لي كالهامسة: إياك أن تظهري أو أن تدعي هذا المكان فإنه والله إن رآك لم ينصرف حتى يستصحبك. ذلك أني كنت قد رأيت المأمور.
لماذا أكذب نفسي ! لقد هممت غير مرة أن أسعى إليه وأن أسأله عن خديجة، وأن ألح عليه في أن يستصحبني ليردني إلى تلك الحياة الناعمة وليحميني من هذا الظلام الذي كنت أدفع إليه على غير إرادة ولا رأي.
نعم! لقد هممت بهذا كله، ولقد كدت أفعل، ولكني رأيت أمي وما كانت تستصحب من بؤس قديم، ورأيت أختي وما كانت تستقبل من بؤس حديث، فآثرت شقاء هاتين الشقيتين على ما كنت أحب لنفسي من الخير، وبقيت معهما أنتظر ما تضمر لهما الأيام.
الفصل الثامن
آمنة ... آمنة ... أقبلي، هذا صوت أمنا ينتهي إلي، وقد انتحيت ناحية مع زنوبة وخضرة على السطح، نتحدث ألوانا من الحديث، وأختي جالسة غير بعيد قد شغلت عنا بما يملأ نفسها من هم وحزن، فإذا سمعت الصوت أسرعت إلى أمي في الناحية الأخرى من سطح الدار، فإذا هي قائمة قد ظهر عليها النشاط وانجلت عن وجهها سحابة الحزن التي كانت تغشيه، وهي تبتسم وتشير بيديها وتقول لي: انظري انظري! هذه والله إبل «بني وركان»، فأنظر فأرى أعرابيا كأنه الشيطان وقد أناخ قريبا من الدار جملين عظيمين وأخذ يحط عن أحدهما بعض الأثقال، أمي مستبشرة متهللة تشير وتلح في الإشارة وتقول: ألم تعرفي خالك ناصرا؟ ألم تعرفي هذين الجملين؟ عرفت خالي، فما أكثر ما كنت ألقاه أيام الطفولة والصبا، وما أكثر ما كنت أخافه حين ألقاه، وأكره منه هذا العنف الذي يبتدر كل من اتصل به، وهذه اللهجة القاسية التي يمتاز بها حديثه، وهذا الصوت القاطع الذي يلقي إليك الكلمات في حزم وعزم وشدة لا تقبل مراجعة ولا تسمح بجدال!
نعم عرفت خالي ناصرا، وذكرت أني كثيرا ما كنت أتقيه إذا لقيته، ولا أستجيب لدعائه إذا دعاني إلا كارهة، ولا أطمئن إلى ما كان يظهر لي من مودة وعطف وحنان، ولا أقبل إلا راغمة ما كان يقدم لي أحيانا من البلح والعجوة، يريد أن يتملقني ويترضاني.
نعم! عرفت خالي ناصرا، وذكرت أني كنت سيئة الظن به، شديدة النفور منه، وأني كنت ألوم نفسي أحيانا على سوء ظني وشدة نفوري، حتى إذا صرع أبونا ورأيت كيف استقبل أمي بأنباء هذا المصرع وكيف قسا عليها وعلينا، ولم يفكر في أنها أيم وفي أننا يتيمتان، وإنما فكر في الأسرة وحديث الناس عنها، وما يجر عليها هذا الخطب من عار ...
ثم لم تكد تمضي أيام حتى أقبل ذات صباح، مظلم الوجه قاسي اللحظ جافي اللفظ، فأقنع أمنا بوجوب الرحيل، وأنبأها بأنه سيعد لهذا الرحيل عدته وسيصحبنا حتى يعبر بنا البحر ويبلغنا مأمنا في قرية من قرى الريف.
ثم جاء هذا اليوم الذي أخرجنا فيه من دارنا، وأبعدنا فيه عن قريتنا ونفانا فيه من أرضنا، وصحبنا إلى قرية من هذه القرى المنتشرة وراء البحر ثم أسلمنا إلى القضاء، وانصرف عنا راجعا إلى حيث ينعم مع الأسرة بالدعة والخفض وبالأمن والهدوء.
منذ ذلك اليوم لم أشك في أن رأيي فيه لم يكن خاطئا، وأن حكمي عليه لم يكن قاسيا، وأن نفوري منه لم يكن إلا صورة صادقة لما ينبغي لهذا الرجل الغليظ في قلب فتاة ضعيفة بريئة وادعة، لم تجن على أحد شرا، ولا تفهم أن يجني عليها أحد شرا، وكانت أمي وأختي تتبعانه ببصرهما محزونتين لفراقه أشد الحزن، وكأنه كان يمثل في نفسيهما صورة الوطن الذي نفينا عنه. أما أنا فكنت أنظر نحو الغرب الذي كان يوجه بصره شطره، ولكني لم أكن أراه لأني لم أكن أحفل به.
Bog aan la aqoon