الباب الأول
أخبار الديارات
دير أبلق
دير الأبلق: دير بالأهواز، ثم بكوارا من ناحية أردشير خُرَّة. أخبرني أحمد بن محمد بن الحسن الأسدي وعمرو بن عبد الله العتكي قالا: حدّثنا الرياشي: أنَّ حارثة بن بدر كان بكوارا يتنزه.
وقال العتكي في خبره عن أبي عبيدة ولم يقله الأسدي ولا تجاوز الرياشي به. فقال: كان حارثة بكوارا من أردشير خُرّة فقال:
ألم ترَ أن حارثة بن بدرٍ ... أقام بدير أبلقَ من كُوارا
ثم قال لجندٍ كانوا معه: من أجاز هذا البيت فله حكمة، فقال له رجل منهم: أنا أجيزه على أن تجعل لي الأمان من غضبك، وتجعلني رسولك إلى البصرة، وتطلب لي القَفَل من الأمير.
قال: ذلك لك، ثمَّ ردَّ عليه نشيد البيت، فقال الرجل:
مُقيمًا يشربُ الصّهباء صِرْفًا ... إذا ما قلتُ تصرعُهُ استدارا
فقال له حارثة: لك شرطك، ولو كنتَ قلت لنا شيئًا يسرّنا لسررناك.
وحكى المدائني، فقال: إنه اصطبح في دير الأبلق في جماعة من أصحابه، فلما سكر قال:
يومي بدير الأبلقق الفردِ ... ما أنتَ إلّا جنة الخُلدِ!
به وأمثالٍ له لم يزلْ ... يجوّز العِيس " أبو الهندي "
دير الأعلى
دير الأعلى بالموصل كان تحت الدير عين كبيرة، تعرف اليوم بعين الكبريت، قال عنها ياقوت إنها ظهرت تحت الدير الأعلى في سنة ٣٠١هـ) ٩١٣م (، وإن فيها عدة معادن كبريتية ومرقشيثا وقلفطار. قال الأستاذ كوركيس عواد: ماء هذه العين بارد في جميع فصول السنة، ويقصدها الناس صيفًا ليستحموا بمائها الذي ينفع المصابين منهم ببعض أمراض الجلد. ومنهم من يشرب شيئًا من مائها تخفيفًا من حرارة معدهم.
- والشعانين في هذا الدير حسن، يخرج إليه الناس فيقيمون فيه الأيام يشربون. ومن اجتاز بالموصل من الولاة نزله.
- إلى جانب الدير، مشهد عمرو بن الحمق الخزاعي، وهو صحابي كان من أصحاب علي بن أبي طالب.
- قال فيه سعيد الخالدي:
قمرٌ بدير الموصل الأعلى ... أنا عبده وهواه لي مولى
لثم الصليب فقلتُ من حسدٍ ... قُبل الحبيب فمي بها أولى
دير الأعلى هذا الدير بالموصل في أعلاها، يطل على دجلة والعُروُب. وهو دير كبير عامر، يضرب به المثل في رقة الهواء، وحسن المستشرف. ويقال إنه ليس للنصارى دير مثله، لما فيه من أناجيلهم ومتعبداتهم.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق قال: حدثني أحمد بن صدقة، قال: خرجنا مع المأمون، فنزلنا الدير الأعلى بالموصل لطيبه ونزاهته، وجاء عيد الشعانين، فجلس المأمون في موضع منه حسن مشرف على دجلة والصحراء والبساتين، ويشاهد منه من يدخل الدير. وزُيّن الدير في ذلك اليوم بأحسن زي. وخرج رهبانه وقسانه إلى المذبح، وحولهم فتيانهم بأيديهم المجامر قد تقلدوا الصلبان وتوشحوا بالمناديل المنقوشة. فرأى المأمون ذلك، فاستحسنه. ثم انصرف القوم إلى قلاليهم وقربانهم، وعطف إلى المأمون من كان معهم من الجواري والغلمان، بيد كل واحد منهم تحفة من رياحين وقتهم، وبأيدي جماعة منهم كؤوس فيها أنواع الشراب. فأدناهم، وجعل يأخذ من هذا ومن هذه تحية، وقد شغف بما رآه منهم، وما فينا إلا من هذه حاله. وهو في خلال ذلك يشرب والغناء يعمل. ثم أمر بإخراج من معه من وصائفه المزنّرات، فأخرج إليه عشرون وصيفة كأنّهنَّ البدور، عليهن الديباج، وفي أعناقهن صلبان الذهب، بأيديهن الخوص والزيتون. فقال: يا أحمد، قد قلت في هؤلاء أبياتًا، فغنني بها، وهي:
ظباء كالدنانير ... ملاح في المقاصير
جلاهن الشعانين ... علينا في الزنانير
وقد زرفنّ أصداغًا ... كأذنابِ الزرازير
وأقبلن بأوساطٍ ... كأوساط الزنابير
ثم أخرج نعم جاريته، وكانت وصيفة، فغنّت:
وزعمتِ أني ظالم فهجرتني ... ورميتِ في كبدي بسهمٍ نافذِ
نعم ظلمتك فاصفحي وتجاوزي ... هذا مقام المستجيرِ العائذِ
هذا مقام فتى أضرّ به الهوى ... قرح الجفون بحسن وجهك لائذِ
ولقد أخذتم من فؤادي أنسه ... لا شل ربي كفّ ذاك الآخذ
1 / 1
وطرب وشرب، واستعاد الصوت دفعات، ثم قال لليزيدي: أرأيت أحسن مما نحن فيه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أن تشكر من خوّلك فيزيدك منه، ويحفظه عليك. قال: بارك الله عليك، فلقد ذكّرت في موضع الذكرى. ثم أمر بثلاثين ألف درهم، فتصدق بها للوقت.
دير الأنوار
دير الأنوار: قرب عمورية، بالروم.
حدث أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري قال: خرجت من الأنبار في بعض أسفاري إلى عمّورية من بلاد الروم، فنزلت في بعض الطريق بدير يقال له دير الأنوار بقرية قريبة من عمورية فخرج إليَّ صاحب الدير المقدم على الرهبان به، وكان اسمه عبد المسيح فأدخلني الدير فوجدت فيه أربعين راهبًا فأكرموني تلك الليلة بضيافة حسنة، ثم رحلت عنهم من الغدّ، وقد رأيت من كثرة اجتهادهم وعبادتهم ما لم أره قط من غيرهم، فقضيت غرضي من عمّورية ثم رجعت إلى الأنبار. فلما كان العام المقبل حججت، فبينما أنا أطوف حول البيت الشريف إذ رأيت عبد المسيح الراهب يطوف أيضًا ومعه خمسة نفر من أصحابه الرهبان، فلما أثبت معرفته تقدمت إليه، وقلت له: - أنت عبد المسيح الراهب؟ - قال: بل أنا عبد الله، الراغب في عفو الله.
فجعلت أقبل شيبته وأبكي، ثم أخذت بيده، وملت إلى جانب الحرم. وقلت له: بحق من هداك، ألا أخبرتني عن سبب إسلامك؟ فقال: لقد كان عجبًا! وذلك أن جماعة من زهاد المسلمين وعبادهم مروا بالقرية التي فيها فأرسلوا شابًا منهم يشتري لهم طعامًا فرأى في السوق جارية نصرانية تبيع الخبز وهي من أحسن النساء، وأجملهن صورة، فلما نظر إليها افتتن بها وسقط لوجهه، مغشيًا عليه، فلما أفاق رجع إلى أصحابه وأخبرهم بما أصابه وقال لهم: - أمضوا لشأنكم، فلست بذاهب معكم فعذلوه ووعظوه، فلم يلتفت إليهم، فانصرفوا وتركوه، فدخل القرية، وجلس على باب حانوت تلك المرأة، فسألته عن حاجته فأخبرها أنه عاشق لها، فأعرضت عنه، فمكث في موضعه ثلاثة أيام لم يطعم طعامًا، وهو شاخص إلى وجهها، فلما رأته لا ينصرف عنها، ذهبت إلى أهلها وجيرانها فأخبرتهم، فأطلقوا عليه الصبيان يرجمونه بالحجارة، فرجموه حتى رضخوا رأسه، وهشموا وجهه، وأدموا أضلاعه، وهو مع ذلك لا ينصرف. فعزم أهل القرية على قتله فجاءني رجل منهم، وأخبرني بحاله، فخرجت إليه، فرأيته طريحًا، فمسحت الدم عن وجهه، وحملته إلى الدير، وداويت جراحه، فأقام عندي أربعة عشر يومًا، فلما قدر على المشي خرج من الدير، وأتى باب حانوت المرأة، وجلس ينظر إليها، فلما أبصرته، قامت إليه وقالت له: - والله قد رحمتك فهل لك أن تدخل في ديني حتى أتزوجك؟ فقال: معاذ الله أن أنسلخ من دين التوحيد، وأدخل في دين الشرك، فقالت: - قم وادخل معي داري، واقض مني أربك، وانصرف راشدًا. فقال: ما كنت بالذي أُذهب عبادة اثنتي عشرة سنة بشهوة لحظة واحدة! فقالت: - انصرف عني حينئذ. قال: لا يطاوعني قلبي. فأعرضت عنه بوجهها، ففطن له الصبيان، فأقبلوا عليه يرجمونه بالحجارة، فسقط على وجهه وهو يقول: - إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، فخرجتُ من الدير وأتيته فطردت عنه الصبيان، ورفعت رأسه من الأرض فسمعته يقول: - اللهم اجمع بيني وبينها في الجنة، فحملته إلى الدير فمات قبل أن أصل به إليه، فخرجت به عن القرية، وحفرت له قبرًا، ودفنته، فلما دخل الليل، وذهب نصفه صرخت تلك المرأة في فراشها صرخة عظيمة، فاجتمع إليها أهل القرية، وسألوها عن قصتها فقالت:
1 / 2
- بينما أنا نائمة إذ دخل علي ذلك الرجل المسلم فأخذ بيدي، وانطلق بي إلى الجنة، فلما صار بي إلى بابها منعني خازنها من الدخول إليها، وقال إنها محرمة على الكافرين فأسلمت على يده، ودخلت معه الجنة، فرأيت فيها من القصور والأشجار ما لا أُحسن وصفه لكم، ثم إنه أخذني إلى قصر من الجوهر وقال: هذا القصر لي ولك، وأنا لا أدخله إلا بك، وإلى خمس ليال تكونين عندي فيه، إن شاء الله تعالى، ثم مد يده إلى شجرة على باب القصر فقطف منها تفاحتين وقال: كلي هذه الواحدة، وأخبي الأخرى حتى يراها الرهبان، فأكلت التفاحة، فلم أر أطيب منها، ثم إنه أخذ بيدي وأخرجني حتى وصلت إلى داري، ثم إنها أخرجت التفاحة من جيبها، فأشرقت في ظلمة الليل، كأنها كوكب دري، فجاءوا بالمرأة إلينا إلى الدير ومعها التفاحة فلم نر شيئًا مثلها من فواكه الجنة، فأخذت السكين وشققتها على عدد أصحابي، فما رأينا ألذ من طعمها، ولا أطيب من ريحها، فقلنا: لعل شيطانًا تمثل لها ليغويها عن دينها، فأخذها أهلها وانصرفوا. ثم إنها امتنعت من الأكل والشرب، فلما كانت الليلة الخامسة قامت من فراشها وخرجت من بيتها حتى أتت قبره، فألقت نفسها عليه وماتت، ولم يعلم بها أحد من أهلها، فلما كان وقت الصباح أقبل على القرية شيخان مسلمان، عليهما ثياب من الشعر، ومعهما امرأتان كذلك، فقالا: إن لله عندكم ولية من أوليائه قد ماتت مسلمة، ونحن نتولاها دونكم. فطلب أهل القرية تلك المرأة فوجدوها على القبر ميتة، فقالوا: - هذه صاحبتنا ماتت على ديننا ونحن نتولاها، واشتد الخصام والتنازع بينهم، فقال أحد الشيخين: إن علامة إسلامها أن يجمع رهبان الدير " الأربعون " ويجذبونها عن القبر، فإن جاءت معهم فهي نصرانية، ويتقدم منا واحد وجذبها، فإن انجذبت معه فهي مسلمة، فرضي أهل القرية بذلك، فجمعت رهبان الدير الأربعون وأتيناها لنحملها فلم نقدر على حملها، فربطنا في وسطها حبلًا غليظًا، وجذبها " الرهبان الأربعون " أجمعون، فانقطع الحبل، ولم تتحرك، فتقدم أهل القرية، وفعلوا كذلك، فلم تتحرك من موضعها، فلما عجزنا عن حملها بكل الحيل، قلنا لأحد الشيخين تقدم أنت واحملها، فتقدم إليها وجذبها بردائه وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، على ملة رسول الله ﷺ، ثم حملها في حضنه، وانصرف فيها إلى غار هناك، فوضعها فيه، وجاءت المرأتان فغسلتاها وكفنتاها، ثم حملها الشيخان وصليا عليها، ودفناها إلى قبر ذلك الزاهد، وانصرفنا ونحن نشاهد هذا كله، فلما خلا بعضنا إلى بعض قلنا: إن الحق أحق أن يتبع، وقد وضح لنا الحق بالمشاهدة والعيان، ولا برهان على صحة دين الإسلام أوضح لنا مما رأيناه، ثم أسلمت أنا وأسلم رهبان الدير " الأربعون " وجميع أهل القرية، ثم إنّا بعثنا إلى بلد " الجزيرة " نستدعي فقيهًا عالمًا يعلمنا شرائع الإسلام وأحكام الدين، فجاءنا رجل فقيه صالح فعلمنا وجه العبادة وأحكام الإسلام، ونحن اليوم على خير كثير، فلله الحمد والمنة على ذلك.
دير بولس
دير بولس بالرملة قال أبو الفرج: هو بناحية الرّملة.
أخبرني الحلبي قال: حدثني أبي قال: نزلت مع الفضل بن إسماعيل بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، دير بولس، ونحن خارجان إلى جهة الرّملة، فرأى فيه جارية حسنة، بنتًا لقسٍّ هناك، فخدمته ثلاثة أيام، وسقته شرابًا عتيقًا، فلما أراد الإنصراف أعطاها عشرة دنانير، وقال في طريقه:
عليك سلام الله يا دير من فتى ... بمهجته شوقٌ إليكَ طويلُ
ولا زال من تَوءِ السِّماكين وابلٌ ... عليك يُروَّى من ثَراكَ هطولُ
يَعلُّك منها بُرهةً بعد بُرهةٍ ... سَحابٌ بإحياء الرياض كفيلُ
إذا جاد أرضًا دَمعُه بانَ مَنظرٌ ... به لعيونن الناظرينن جميلُ
ألا ربَّ ليلٍ حالكٍ قد صَدَعتُه ... وليس معي غيرَ الحُسام خليلُ
ومشمولةٍ أوقدتُ فيها لصُحبتي ... مصابيحَ ما يخبو لهنّ فتيلُ
تُعللِّني بالراح هيفاءُ غادةٌ ... يخال عليها للقلوب وَكيلُ
تجول المنايا بينهنّ إذا غَدَتْ ... لواحظها بين القلوب تجولُ
أيا بنتَ قَسِّ الديرِ قلبي مُولّةٌ ... عليك وجسمي مذ بَعُدتِ عليلُ
وفيه يقول أبو شأس:
1 / 3
يا دير يونس جادتْ سرحَك الدِّيمُ ... حتى تُرى ناظرًا بالنور يبتسمُ
لم يشف في ناجر ماءٌ على ظمأٍ ... كما شفى حرّ قلبي ماؤك الشَّبمُ
ولم يحلّك محزونٌ به سقمٌ ... إلا تحلّل عنه ذلك السُقمُ
أستغفر الله كم لي فيك ذو غَنَجٍ ... جرى عليّ به في رِبعك القَلَمُ
ويقول أيضًا:
لا تعدلنَّ عن ابنة الكرم ... بأبي، ففيها صحة الحِسْمِ!
لو لم يكن في شُربها فرجٌ ... إلا التخلص من يد الهّمِ!
ويقول أيضًا أبو شأس:
أعاذل ما على مثلي سبيلُ ... وعذلُك في المُدامة مُستحيلُ
أليس مطيتي حَقْوي غلامٍ ... ورحلُ أناملي كأسٌ شمولُ؟
إذا كانت بنات الكرم شِربي ... وقبلةُ وجهي الوجهُ الجميلُ
أمنت بذينِ عاقبةَ الليالي ... وهان عليّ ما نقل العَذُولُ!
دير الثعالب
- قال الشابشتي: هذا الدير ببغداد، بالجانب الغربي منها، بالموضع المعروف بباب الحديد وأهل بغداد يقصدونه ويتنزهون فيه، ولا يكاد يخلو من قاصد وطارق. وله عيد لا يتخلف فيه أحد من النصارى والمسلمين، وباب الحديد أعمر موضع ببغداد وأنزهه: لما فيه من البساتين والشجر والنخل والرياحين، ولتوسطه البلد وقربه من كل أحد. فليس يخلو من أهل البطالات، ولا يخلّ به أهل المتطرب واللذاذات. فمواطنه أبدًا معمورة، وبقاعه بالمتنزهين مشحونة.
- وذكر البيروني أن عيد دير الثعالب، هو آخر سبت من أيلول، إلا أن يكون أول تشرين الأول من السنة الآتية يوم الأحد، فيتأخر العيد إليه ويخرج من أيلول، فتتعرى تلك السنة، ويتكرر في الآتية مرتين: في أولها وأخرها.
- وقال ياقوت إنه: دير مشهور، بينه وبين بغداد ميلان أو أقل، في كورة نهر عيسى، على طريق صرصر، رأيته أنا، وبالقرب منه قرية تسمى الحارثية.
- ولمحمد بن عمر ابن دهقانة الهاشمي، أبيات من الشعر ورد فيها اسم الدير منها:
دير الثعالب مألف الضلال ... ومحل كل غزالةٍ وغزالِ
- ومن أقدم من ذكر هذا الدير خليفة بن خياط، فلقد ذكره في حوادث سنة ١٢٧هـ، قبل إنشاء مدينة بغداد، قال في خبر طويل: وأقبل الضحاك بن قيس من المدائن يريد الكوفة، فنزل دير الثعالب في ثلاثة آلاف، والمكثر يقول: في آربعة آلاف.
- وفي كتاب " الحوادث الجامعة " ذكر لهذا الدير، قال في حوادث سنة ٦٨٣هـ: - في هذه السنة زادت دجلة زيادة عظيمة، وغرقت في الجانب الغربي من بغداد عدة نواح، ووصل إلى قباب دير الثعالب.
- وزار سبط ابن التعاويذي، الشاعر المعروف) ٥٨٣هـ (هذا الدير يوم عيده، فرأى شماسًا فيه صبيح الوجه، فقال فيه ارتجالًا:
وغزال علقته ... يوم دير الثعالبِ
من ظباء الصريم ... يخطرُ في زيّ راهبِ
شد زناره فحل ... عقود المذاهب
- وذكر الأب أنستاس ماري الكرملي أن بقايا دير الثعالب، تعرف اليوم باسم عين الصنم.
- ورجح الأب لويس شيخو، أن " دير الثعالب منسوب، على ما نظن، إلى بني ثعلبة المتنصرين، قريب من بغداد عند الحارثية ".
- وأيده في هذا الترجيح د. عبد اللطيف الراوي. انظر: المجتمع العراقي في شعر القرن الرابع للهجرة٢٨٢، وانظر: مسالك الأبصار ١ - ٢٧٧، ٥٧١.
- بغداد في عهد الخلافة العباسية ٩٢، ١٠٨، ١٨٢.
- دليل خارطة بغداد ٤٣، ٦٥، ١٠٢، ١٠٤.
- أحوال نصارى بغداد ١٢٠ - ١٢١، ١٢٣ - ١٢٥.
- ديارات بغداد القديمة ٢٩ - ١٥.
دير الثعالب
قرب بغداد، في كورة نهر عيسى، بالموضع المعروف بباب الحديد.
- خرجت أنا وأبو الفتح أحمد بن إبراهيم بن علي بن عيسى ﵀، ماضيين إلى دير الثعالب، في يوم من سنة خمس وخمسين وثلاث مئة للنزهة ومشاهدة اجتماع النصارى هناك، والشرب على نهر يزدجرد الذي يجري على باب هذا الدير فبينا نحن نطوف الدير، ومعنا جماعة من أولاد الكتّاب النصارى وأحداثهم، وإذا بفتاة كأنها الدينار المنقوش كما يقال، تتمايل وتتثنّى كغصن ريحان في نسيم شمال. فضربت بيدها إلى يد أبي الفتح وقالت: يا سيّدي، تعال اقرأ هذا الشعر المكتوب على حائط بيت الشاهد. فمضينا معها، وبنا من السرور بها وبظرفها وملاحة منطقها ما الله به عالم. فلما دخلنا البيت كشفت عن ذراع كالفضة، وأومأت إلى الموضع، وإذا فيه مكتوب:
1 / 4
خرجتْ يوم عِيدها ... في ثياب الرواهب
فسبت باختيالها ... كلّ جاءٍ وذاهب
لشقائي رأيتها ... يوم دير الثعالبِ
تتهادى بنسوةٍ ... كاعبٍ في كواعبِ
هي فيهم كأنها ال ... بدرُ بين الكواكبِ
فقلنا لها: أنتِ والله المقصودة بمعنى هذه الأبيات، ولم نشك أنها كتبت الأبيات، ولم تفارقنا بقية يومنا.
وقلت فيها هذه الأبيات، وأنشدتها إياها ففرحت:
مرّت بنا في الدير خَمصَانهْ ... ساحرةُ الناظر فتّانهْ
أبرزها الرهبان من خِدرها ... تعظّم الدير ورهبانهْ
مرّتْ بنا تخطرُ في مَشيها ... كأنّما قامتها بانهْ
هبت لها ريحٌ فمالتْ بها ... كما تثنّى غصنُ ريحانهْ
فتيَّمت قلبي وهاجتْ له ... أحزانَه قُدمًا وأشجانه
وحصل بينها وبين أبي الفتح عشرة بعد ذلك. ثم خرج إلى الشام وتوفي بها، ولا أعرف لها خبرًا بعد ذلك.
دير الجاثليق
دير الجاثليق - هما ديران يحملان نفس الاسم: - الأول: دير قديم في رأس الحدّ بين السواد وأرض تكريت.
- الثاني: كان في غربي مدينة بغداد، وصفه الشابشتي قائلًا: هذا الدير، يقرب من باب الحديد، وهو دير كبير، حسن، نَزِه، تحدق به البساتين والأشجار والرياحين. وهو يوازي دير الثعالب في النزهة والطّيب وعمارة الموضع، لأنهما في بقعة واحدة.
- وفي بعض المصادر، أن دير الجاثليق هذا، كان يقع على نهر الرفيل، من أنهار بغداد القديمة في أيام العباسيين، وكان مأخذه من نهر عيسى، ومصبّه في دجلة عند الجسر.
- إن دير الجاثليق البغدادي، كان يسمّى أيضًا " دير كليليشوع " وهي لفظة سريانية بمعنى " إكليل يسوع ".
- ويؤخذ من النصوص التاريخية، أن دير الجاثليق دير قديم يرقى زمن إنشائه إلى ما قبل تأسيس بغداد، بل إلى ما قبل ظهور الإسلام.
- أنظر أيضًا: - أخبار فطاركة كرسي المشرق من كتاب المجدل: لماري بن سليمان) ٧٤، ٧٥، ٧٧، ٨٣، ١١٠ (.
- ابن الأثير ٤ - ٣٢٨.
- البدور المسفرة ٢١.
- بغداد في عهد الخلافة العباسية ١٨٢.
- ري سامراء في عهد الخلافة العباسية ١ - ١٩٦ - ١٩٧، ١٩٨، ١٩٩.
- دليل خارطة بغداد ١٠٤ - ١٠٨.
دير الجاثليق قرب بغداد دير قديم البناء، رحب الفناء من طسوج مسكن، قرب بغداد في غرب دجلة في عرض حربي، وهو في رأس الحد بين السواد وأرض تكريت، وعنده كانت الحرب بين عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير، وعنده قُتل مصعب بن الزبير، فقال عبيد الله بن قيس الرقيات يرثيه:
لقد أورثَ المِصرين حزنًا وذِلةً ... قتيلٌ بدير الجاثليق مُقيم
فما قاتلتْ في الله بكر بن وائلٍ ... ولا صدقت عند اللقاء تميمُ
فلو كان في قيسٍ تعطّفَ حولَه ... كتائب يغلي حميُها ويدومُ
ولكنه ضاع الزمانَ ولم يكن ... بها مضريّ يوم ذاك كريمُ
جزى الله كوفيًا بذاك ملامةً ... وبصريّهم إن الكريم كريمُ
- حدثني عمي عن محمد بن القاسم بن مهرويه، عن علي بن عبد الله بن سعد قال: كان بكر بن خارجة يتعشق غلامًا نصرانيًا يقال له: عيسى بن البراء العبادي الصيرفي، وله فيه قصيدة مزدوجة يذكر فيها النصارى وشرائعهم وأعيادهم، ويسمي دياراتهم، ويفضلهم.
قال: وحدثني من شهد دعبلًا وقد أنشد قوله في عيسى بن البراء العبادي:
زُنّارهُ في خصره معقودُ ... كأنه من كبدي مقدودُ
فقال دِعبل: ما يعلم الله أني حسدت أحدًا قط كما حسدت بكرًا على هذين البيتين! وقال بكر بن خارجة في عيسى بن البراء العبادي:
فبالأنجيل تتلوه شيوخٌ ... رهابنةٌ بدير " الجاثليقِ "
وبالقربان والصلبان إلّا ... رثيت لقلبيَ الدَنفِ المشُوقِ
أجرني، متُّ قبلك من همومي ... وأرشدني إلى نهج الطريق
فقد ضاقت عليّ وجوه أمري ... وأنت المستجارُ من المضيقِ
وكان بكر بن خارجة كثير المقام بهذا الدير مشتهرًا بالشراب فيه، افتتانًا بهذا الغلام النصراني، وفيه يقول أرجوزة مليحة منها قوله:
من عاشقٍ ناءٍ هواه دانِ ... ناطق دمعٍ صامتِ اللسانِ
موثقِ قلبٍ مطلقِ الجثمان ... معذب بالصدِّ والهجران
من غير ذنب كسبت يداهُ ... إلا هوى نمّت به عيناه
1 / 5
شوقًا إلى رؤية من أشقاه ... كأنما عافاه من أبلاه
يا ويحه من عاشق ما يلقى ... بأدمع منهلّة ما ترقى
ذاب إلى أن كاد يخفي عشقًا ... وعن دقيق الفكر فيه دقّا
لم يبق فيه غير طرفٍ يبكي ... بأدمع مثل نظام السلكِ
كأنه قطر السماء يحكي ... يخمد نيران الهوى ويذكي
إلى غزالٍ من بني النصارى ... عِذارُ خدّيه سبى العذارى
يترك ألباب الورى حيارى ... في ربقة الحبّ له أسارى
ريم بدير الروم رام قتلي ... بمقلةٍ كحلاء لا من كُحلِ
وطُرةٍ بها استطار عقلي ... وحسن دلّ وقبيح فعل
ها أنا ذا من قده مقدودُ ... والدمع من خدّي له أُخدود
ما ضرَّ من قلبي به معمودُ ... لو لم يكدِّر صفوه الصدودُ
يا ليتني كنت له صليبا ... فكنت منه أبدًا قريبًا
أبصر حسنًا وأشمُّ طيبا ... لا واشيًا أخشى ولا رقيبا
أو ليتني كنتُ له قُربانا ... ألثم منه الفمَ والبنانا
أو جاثليقًا كنت أو مطرانا ... كيما يرى الطاعة لي إيمانا
أو ليتني كنتُ له زنّارا ... يدور بي خصراه حيث دارا
حتى إذا الليل طوى النهارا ... صرت له تحت الدجى إزارا
يا ليتني في النحر منه عوذة ... أو خمرة يشربني ملذوذة
أو حلة يلبسني مقدودة ... ليست إذا ما أخلقت مقدودة
يا ليتني كنت لعمروٍ مصحفا ... أو قَلَمًا يكتب بي ما ألّفا
من حسن أشعارٍ له قد صنّفا ... فإن لي من بعض هذا ما كفى
يا للذي بحسنه أضناني ... وابتزَّ صبري والضنى كساني
ظبيّ على البعاد والتداني ... حلَّ محلَّ الروح من جثماني
واكبدي من خده المضرج ... واحزني من ثغره المفلّج
لا شيء مثل الطرف منه الأدعج ... أذهب للنسك وللتحرجِ
إليك أشكو يا غزال الأنسِ ... يا من هلالي وجهُه وشمسي
ما بي من الوحشة بعد الأنسِ ... لا تُقْتل النفسُ بغير النفس
ها أنا في بحر الهوى غريقُ ... سكران من حبّك لا أفيقُ
محترقٌ ما مسَّني حريقُ ... يرحمني العدوُّ والصديقُ
ويقول فيها:
يا عمرو ناشدتك بالمسيحِ ... ألا سمعتَ القول من نصيحِ
يعرِبُ عن قلبٍ له قريحِ ... ليس من الحبِّ بمستريحِ
يا عمرو بالحق من اللاهوتِ ... والروح روح القدس والناسوتِ
ذاك الذي قد خُصَّ بالنعوتِ ... النطق في المهد وبالسكوت
بحق من في شامخ الصوامع ... من ساجدٍ لربه وراكعِ
يبكي إذا ما نام كلُّ هاجعِ ... خوفًا من الله بدمعٍ هامعِ
ثمّ يقسم عليه بكل قسم يعرفه النصارى ويقول:
ألا نظرت يا أميرَ أمري ... محتسبًا فيَّ عظيم الأجر؟!
دير الجماجم
دير الجماجم بالكوفة قال أبو الفرج: هو دير بظاهر الكوفة، على طريق البر الذي يسلك إلى البصرة، وفيه كانت الوقعة بين الحجاج بن يوسف، وبين عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. وذلك أن ابن الأشعث لما رأى كثرة من معه من الجيش بالبصرة، وقد نازله الحجاج بها، خرج يريد الكوفة، ورأى أن أهلها أطوع له من أهل البصرة، لبغضهم الحجاج، ولأنه يجد بها من عشائره ومواليه أنصارًا كثيرة. فسار إليها، وسايره الحجاج، فنزل ابن الأشعث دير الجماجم، ونزل الحجاج بإزائه بدير قُرّة، ووقعت الحرب بينهما، ثّم انهزم ابن الأشعث، فعاد إلى البصرة.
وقد ذكرت الشعراء دير الجماجم كثيرًا.
قال جرير يهجو الفرزدق:
ألم تشهد الجونين والشِّعب والصفا ... وكراتِ قيس يوم دَيرِ الجماجمِ
تحرّضُ يا بنَ القين قيسًا ليجعلوا ... لقومك يومًا مثل يوم الأراقمِ
بسيف أبي رغوان سيف مجاشعٍ ... ضربتَ ولم تضرب بسيف ابن ظالمِ
ضربت به عند الإمام فأُرعشتْ ... يداك وقالوا مُحدثٌ غيرُ صارمِ
وفي هذا الدير يقول الضحاك اليربوعي:
وإن يهلك الحجاج فالمصر مصرنا ... وإلا فمثوانا بدير الجماجمِ
وإن تخرجوا سفيان تخرج إليكم ... أبا حازم في الخيل شعث المقادمِ
وإن تبرزوا للحرب تبرز سراتنا ... مصاليت شوسًا بالسيف الصوارمِ
1 / 6
سفيان هذا: هو ابن الأبرد الكلبي، وكان من فرسان الحجاج.
دير حزقيال
دير حِزقيال قال أبو الفرج: حدثني جعفر بن قدامة قال: قال شريح الخزاعي قال: اجتزت بدير حِزقيال، فبينما أنا أدور به، إذا بكتابة على إسطوانة فقرأتها، فإذا هي:
ربَّ ليلٍ أمدّ نَفَس العا ... شق طولًا قطعتُه بانتحابِ
ونعيمٍ كوصل من كنت أهوا ... تبدّلته ببؤس العِتابِ
نسبوني إلى الجنون ليُخفوا ... ما بقلبي من صَبْوة واكتئابِ
ليت بي ما ادّعوه من فقد عقلي ... فهو خيرٌ من طول هذا العذابِ
وتحته مكتوب " هويتُ فمنعتُ، وطردتُ وشرِّدت، وفُرِّق بيني وبين الوطن، وحُجبتُ عن الإِلف والسَّكَن، وحُبِستُ في هذا الدَّير ظلمًا وعدوانًا، وصُفِّدت في الحديد أزمانًا:
وإني على ما نابني وأصابني ... لذو مرة باق على الحَدَثان
فإن تُعقبِ الأيامُ أظفرْ ببغيتي ... وإن أبقَ مَرميًّا بي الرَّجوانِ
فكم ميّتٍ همًّا بغيظٍ وحسرةٍ ... صبورٌ لما يأتي به المَلَوانِ
قال: فكتبت ما وجدت، وسألت عن صاحبه، فقالوا: رجل هوى ابنة عمٍّ له، فحبسه عمّه في هذا الدير، خوفًا أن يفتضح في ابنته، فتجمع أهله، فجاءوا، فأخرجوه، وزوجوه بها كرهًا.
دير حنة - الأكيراح
دير حنة: بالاكيراح، بناحية البليخ.
وقد ذكر دير حنة أبو الفرج الأصفهاني وقال: ذكره أبو نواس في شعره، يعني في قوله:
يا دير حنَّة من ذات الاكيراحِ ... من يصحُ عنك فإني لستُ بالصاحي
يعتادُه كل مجفوٍّ مفارقه ... من الدِّهان عليه سَحْق أمساحِ
في فِتيةٍ لم يَدَعْ منهم تخوّفهمْ ... وقوعَ ما حذِروهُ غيرَ أشباحِ
لا يَدلُفون إلى ماء بآنيةٍ ... إلا إغترافًا من الغُدْران بالراحِ
قال: والاكيراح: بلد نزِه كثير البساتين والرياض والمياه.
قال: وبالحيرة أيضًا موضع يقال له الاكيراح فيه دير. والاكيراح قباب صغار يسكنها الرهبان. يقال للواحد منها: الكيرح.
وقد ذكر بكر بن خارجة هذا الدير أيضًا. فقال:
دع البساتين من آسٍ وتفّاحِ ... واقصد إلى الروض من ذاتَ الاكيراحِ
إلى الدساكر، فالدير المقابلها ... لدى الاكيراح من دير ابن وضاحِ
منازلًا لم أزلْ حينًا ألازمُها ... لزومَ غادٍ إلى اللذات روّاحِ
وبالحِيرة أيضًا موضع يقال له الاكيراح، وفيه دير بناه عبد بن حنيف من بني لحيان، الذين كانوا مع لخم، وملك الحيرة منهم ملكان، وأظنه الذي عناه بكر بن خارجة، لأنه كوفي في الشعر المتقدم إنشاده.
وفي هذه الاكيراح، يقول علي بن محمد العلوي، الحماني:
كم وقفةٍ لك بالخَوَر ... نق ما تُوازي بالمواقفْ
بين الغَدير إلى السدير ... إلى ديارات الأساقفْ
فمواقف الرّهبان في ... أطمارِ خائفةٍ وخائفْ
دِمَنٌ كأن رياضَها ... يُكسَين أعلامَ المطارفْ
وكأنما غُدرانُها ... فيها عُشُورٌ في المصاحفْ
تلقى أوائلها أوا ... خرها بألوان الرفارفْ
بحرية شتواتها ... بريّة فيها المصايف
درّية الحصباء كا ... فوريّة منها المشارف
باتت سواريها تمخض ... في رواعدها القواصف
وكأنَّ لمع بروقها ... في الجو أسياف المثاقف
ثم انبرت سحًا كبا ... كيةٍ بأربعةٍ ذَوارف
فكأنما أنوارُها ... تهتَزُ في الدرج العواصف
طُرَرُ الوصائف يلتفتن ... بها إلى طُرَر الوصائفْ
دافعتها عن دجنها ... بالقلّب البيض، الغطارفْ
يعبق يوم اليأ ... س شرًا بين في يوم المتارفْ
سمح بحرّ المال وقّا ... فون في يوم المتالفْ
واهًا لأيام الشبا ... ب وما لبسن من الزخارفْ
وزوالهن بما عرفت ... من المناكر والمعارفْ
أيام ذكرك في دوا ... وين الصبا صَدر الصحائفْ
واهًا لأيامي وأيَّا ... م النقياتِ المراشفْ
والغارسات ألبان قُض ... بانًا على كُثُبِ الرّوادفْ
والجاعلاتِ البدرَ ما ... بين الحواجبِ والسوالفْ
أيامَ يُظهرنَ الخلا ... ف بغير نيّات المخالفْ
1 / 7
وقف النعيم على الصِّبا ... وزللت عن تِلكَ المواقفْ
وقال أبو نواس:
دع البساتينَ من وردٍ وتفّاحِ ... واعدِلْ هُديتَ إلى دير الاكيراحِ
اعدِل إلى نَفَرٍ، دقّت شُخوصُهم ... من العبادة، إلا نِضوَ أشباحِ
يكرِّرون نواقيسًا مرجَّعةً ... إلى الزَّبور بإمساءٍ، وإصباح
فعدّ سمعَك عن صَوتٍ تكرَّهه ... فلستُ تسمعُ فيه صوتَ فلّاحِ
إلا الدراسةَ للانجيلِ من كَثَبٍ ... ذِكرَ المسيح بابلاغٍ وإفصاحِ
يا طيبةً، وعتيقُ الراحِ تحفتُهم ... بكل نوعٍ من الطاسات رَحراحِ
يسقيكَها مُدمجُ الخصْرين، ذو هيَفٍ ... أخو مدارع صُوفٍ فوق أمساحِ
حكى أحمد بن عمر الكوفي، قال: كان بالكوفة رجل أديب ضعيف الحال يقبل مهما وقع في يده من شيء، أتي به دير حنَّة فيشرب فيه حتى يسكر، ثم ينصرف إلى أهله، ويقول: يعجبني من الغراب بكوره في طلب الرزق. وربما بات به، ويقول:
تطاولَ ليلُك بالزاويه ... وكان المبيتُ بها عافيهْ
ومن تحت رأسِك آجرةٌ ... وجنبك مُلقىً على باريهْ
وذلك خيرٌ من الانصراف ... فتحكُم فيك بنُو الزانيهْ
وتصبح إما رهين السُّجون ... وإما قتيلًا على ساقيهْ
قال: فوجد - والله - بعد أيام قتيلًا على ساقية! وهو القائل:
ما لَذةُ العيش عندي غيرُ واحدةٍ ... هي البكورُ إلى بعض المواخيرِ
لخامل الذكر مأمونٍ بوائقهُ ... سهلِ القياد من الفُره المدابيرِ
حتى يحلَّ على دير ابن كافرةٍ ... من النصارى يبيع الخمر مشهورِ
كأنما عَقَد الزُنّار فوق نَقا ... واعتمّ فوق دُجى الظَّلماء بالنورِ
وفيه قال الثروانيّ:
يومي بهيكل دير حنّة لم يزلْ ... غرُّ السَّحاب تجود فيه وتمرعُ
متجوشنٌ طورًا وطورًا شاهرًا ... بيض السيوف وتارةً يتدّرعُ
وكذلك قال فيه بكر بن خارجة الكوفي:
ألا سُقي الخورنق من محلٍّ ... ظريفِ الروض مَعشوقٍ أنيقِ!
أقمتُ بدير حنَّتهِ زمانًا ... بسُكرٍ في الصَّبوح وفي الغُبُوقِ
ومنّا لابسٌ إكليل زهرٍ ... ومختضبُ السوالف بالخَلُوقِ
كأن رياضَه حُسنًا ونَورًا ... سحائب ذُهّبت بسنا البروقِ
كأن تقاطر الأشجار فيه ... إذا غِسَق الظلامُ، قِطارُ نُوقِ
وماذا شِئتَ من دُرّ الأقاحي ... هناك ومن يَواقيتِ الشَّقيقِ
دير حنة بالحيرة
دير حنة: في الحيرة قال أبو الفرج: هو دير قديم بناه حي من تنوخ، يقال لهم بنو ساطع، تحاذيه منارة عالية كالمرقب، تسمى القائم، لبني أوس بن عمرو، ثم لبطن منهم يقال لهم، بنو مبرق.
وكان فتيان الحيرة يألفونه ويشربون فيه، وإياه عنى الثرواني بقوله:
يا دير حنة عند القائم الساقي ... إلى الخورنق من دير ابن براقِ
ليس السلّو) وإن أصبحتُ ممتنعًا ... من بغيتي فيك (من شكلي وأخلاقي
سقيًا لعافيك من عافٍ معالمه ... قفر وباقيك مثل الوشي من باقي
دير حنة: ذكره أبو نواس:
يا دير حنة من ذات الاكيراح ... من يصحُ عنك فإني لست بالصاحي
وذكر أبو الفرج بن الأصفهاني في كتاب " الديارات ": حنَّة، وأنه غير الذي ذكره أبو نواس، وذكر أن الثرواني قال فيه:
يا دير حنّة عند القائم الساقي ... إلى الخورنق من دير ابن برّاق
دير حنظلة الطائي
دير حنظلة الطائي: بالجزيرة قال أبو الفرج: حدثني هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعي قال حدثني الرياشي: حدثني أبو المحلّم: دير حنظلة بالجزيرة.
نُسب إلى رجل من طيء يقال له حنظلة بن أبي عفراء بن النعمان ابن حية بن سعنة بن الحارث بن الحويرث بن ربيعة بن مالك بن سفر بن هني بن عمرو بن الغوث بن طيء.
وحنظلة هو عم إياس بن قبيصة بن أبي عفراء الذي كان ملك الحيرة ومن رهطه أبو زبيد الطائي الشاعر، وكان من شعراء الجاهلية، وكان قد نسك في الجاهلية وتنصر وبنى هذا الدير فعرف به إلى الآن.
وحنظلة هذا هو القائل:
ومهما يكن ريبُ الزمان فإنني ... أرى قمرَ الليل المغرّب كالفتى
يهلُّ صغيرًا ثم يعظم ضؤوه ... وصورتُه، حتى إذا ما هو استوى
1 / 8
وقرّب يخبو ضوءه وشعاعه ... ويمصحُ حتى يستسرّ فلا يُرى
كذلك زيدُ الأمر ثم انتقاصُه ... وتكرارُه: في دهره بعدما مضى
تُصبّح أهل الدار ... والدارُ زينةٌ وتأتي الجبالَ من شماريخها العُلى
فلا ذا غِنى يرجئن عن فضل ماله ... وإن قال أخّرني وخذ رِشوةً أبى
ولا عن فقير يأتخرن لفقره ... فتنفعه الشكوى إليهنّ إن شكى
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه حدثني أبو نجاح قال: كنت مع عبد الله بن محمد الأمين وقد خرج إلى نواحي الجزيرة. وكانت له هناك ضياع كثيرة حسنة، فاجتزنا بدير حنظلة هذا، وكانت أيام الربيع، وكانت حوله من الرياض ما ينسي حلل الوشي، وبسط خضرة وزهر، فنزلنا فيه وبعث إلى خمار بالقرب من الفرات، فشربنا وكان عبد الله حسن الصوت، حاذقًا بالغناء والطرب، ظريفًا كاملًا فقال:
ألا يا ديرَ حنظلة المفدّى ... لقد أودعتني تعبًا وكدّا
أزفّ من العقار إليك زقًّا ... وأجعل فوقه الورق المندّى
وابدأ بالصّبوح أمام صحبي ... ومن ينشط لها فهو المفدّى
ألا يا دير جادتك الغوادي ... سحابًا حمّلت برقًا ورعدًا
يزيد بناءك النامي نماءً ... ويكسو الروض حُسنًا مستجدًّا
فاصطبحنا فيه عشرة أيام، وعبد الله ومن معنا من المغنين يغنّوننا. ولعبد الله في هذا الشعر لحن من خفيف الرمل، مليح.
وفي هذا الدير يقول الشاعر:
طرقتك سُعدى بين شطيّ بارقِ ... نفسي الفداءُ لطيفها من طارق
يا دير حنظلة المهيّج لي الهوى ... هل تستطيع دواء عشقِ العاشقِ
دير حنظلة اللخمي
دير حنظلة اللخمي: في الحيرة قال أبو الفرج: ومن ديارات بني علقمة بالحيرة، دير حنظلة بن عبد المسيح بن علقمة بن مالك بن ربّى بن نمارة بن لخم بن عديّ بن الحارث بن مرة بن أدد.
وُجد في صدر الدير مكتوب بالرصاص في ساجٍ محفور: " بنى هذا الهيكل المقدس، محبة لولاية الحق والأمانة، حنظلة بن عبد المسيح، يكون مع بقاء الدنيا تقديسه، وكما يذكر أولياؤه بالعصمة، يكون ذِكر الخاطئ حنظلة ".
وفيه يقول بعض الشعراء:
بساحة الحيرة دير حنظلةْ ... عليه أذيالُ السرور مُسْبَلَهْ
أحييتُ فيه ليلةً مُقْتَبله ... وكأسُنا بين النَّدامى مُعْملهْ
والراحُ فيها مثلُ نارٍ مُشْعَلهْ ... وكُلنا مُستنفِدٌ ما خُوِّلهْ
فيها يلذُّ عاصيًا مَن عذَلَه ... مُبادرًا قبل يُلاقي أجلَه
دير الخصيان
دير الخصيان: بغور البلقاء بين دمشق وبيت المقدس حكى أبو زيد الأسدي قال: دخلت على سليمان بن عبد الملك، وهو جالس على دكان مبلّط بالرخام الأحمر، مفروش بالديباج الأخضر، في وسط بستان ملتفة أشجاره، قد أينعت ثماره، وبإزاء كل شقّ من الدكان روض قد أزهر بنبت الربيع ونواره، وعلى رأسه وصائف كل واحدة أحسن من صواحبها، كأنهن اللؤلؤ المنثور، في أيديهن أباريق بألوان الخمور، وطاسات البلور، وقد أخذ منه الشراب، فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، وكان سليمان مطرقًا فرفع رأسه، وقال: أبا زيد، أفي مثل هذا اليوم تصاب حيًا؟ فقلت: يا سيدي، يا أمير المؤمنين أوقامت القيامة؟ قال نعم، على أهل الهوى! ثم أطرق، ورفع رأسه وقال: أبا زيد ما يطيب في يومنا هذا؟ فقلت: قهوة حمراء في زجاجة بيضاء تناولنيها مقدودة هيفاء، لفّاء مصطمرّة قنواء دعجاء، أشربها من كفّها وأمسح فمي بفمها، فأطرق سليمان مليًّا ودموعه تصدر، فلما رأى الوصائف ذلك منه تنحين عنه، وقال: أبا زيد، حللت والله في يوم فيه انقضاء أجلك، وتصرم مدتك، وفناء عمرك، والله لاضربن عنقك أو تخبرني بما أثار هذه الصفة من قلبك. فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، كنت جالسًا على باب أخيك سعيد بن عبد الملك، وإذا جارية قد خرجت إلى رحبة القصر، عليها قميص سكب، تبين منه بياض ثدييها، وتدوير سرتها، ونقش تكتها، وفي رجلها نعلان قد أشرق بياض قدميها على حمرتها بفرد ذؤابة تضرب الحقو منها، وطرة قد زرفنت على جبينها، وصدغين كأنهما نونان على عارضيها، وحاجبين قد تقوسا على محاجر عينين مملؤتين سحرًا، وأنف كأنه قصبة درّ.
1 / 9
وهي تقول: عباد الله ما الدواء لما يشتكى؟ وما العلاج ممّا لا ينسى؟ طال الحجاب، وابطأ الكتاب، فالعقل طائر واللب غائر، والعين عبرى، والأرق دائم، والوجد موجود، والنفس والهة، والفؤاد مختلس، والقلب محتبس، رحم الله قومًا عاشوا تجلدًا، وماتوا كمدًا، لو كان في الصبر حيلة، أو إلى العزاء وسيلة، فقلت: أيتها الجارية إنسية أنتِ أم جنّية؟ وسمائية أم أرضية؟ فقد أعجبني ذكاء عقلك، وأذهلني حسن منطقك، فسترت وجهها بكفِها وقالت: اعذر أيّها المتكلم، فما أوحش الوجد بلا مساعدة، والمقاساة لصدّ معاندة، ثم انصرفت.
فوالله - يا أمير المؤمنين - ما أكلت طيبًا إلا غصصت به، ولا رأيت حسنًا إلا سمج في عيني لحسنها.
فقال سليمان: كاد الجهل يستفزني، والصبابة تعاودني، والحلم يعزب عني، تلك الذلفاء التي يقول فيها الشاعر:
إنما الذلفاءُ ياقوتةٌ ... أُخرجت من كيس دَهقانِ
شراؤها على أخي ألف ألف درهم، وهي عاشقة لفتى ابتاعها منه، والله لا مات من يموت إلا بحسرتها، ولا فارق الدنيا إلا بغصتها، وفي الصبر سلوة وفي توقع الموت بهتة، فاكتم - أبا زيد - المفاوضة، يا غلام: ثقل يده ببدرة.
قال: فلما مات سعيد صارت إلى سليمان، ولم يكن في عصرها أجمل منها، فملكت قلبه وغلبت عليه دون سائر نسائه وجواريه، فخرج يومًا بالقرب من دير الرهبان فضرب فسطاطه في روضة خضراء مونقة الزهر، ذات حدائق وبهجة، تحفها أنواع الزهر النضر الغض، ما بين أصفر فاقع وأبيض ناصع وأحمر ساطع، فهي مثل الثياب الحضرمية، والبرود الأنجمية، تحمل منها الريح نسيم المسك الأذفر ويتضوع عرفها بريًا فتيت العنبر، وكان له مغنٍ يأنس به، ويسكن إليه ويكثر الخلوة معه، ويستمع لحديثه وغنائه، يقال له " سنان "، وكان " سنان " - هذا - أحسن الناس وجهًا، وأظرفهم ظرفًا، فأمره فضرب فسطاطه في روضة خضراء مونقة الزهرات، ذات حدائق وبهجة، يحفها أنواع الزهر النضر الغض بالقرب منه، وكانت " الذلفاء "، قد خرجت مع سليمان إلى ذلك المتنزه، فلم يزل سليمان يومه عند سنان في أكمل سرور وأتم حبور، إلى أن أتى الليل، فانصرف سليمان إلى فسطاطه، وانصرف سنان إلى موضعه، فوجد جماعة قد أناخوا به، فسلموا عليه، فرد عليهم سلام جذلان بوصولهم، فرح بنزولهم، فأحضرهم الطعام فأكلوا، وقدم الشراب فتناولوا منه، وقال: هل من حاجة؟ قالوا: ما جئناك إلا للقِرى.
فقال: بالمنزل الرحب حللتم، وبالجانب الخصب نزلتم.
فقالوا: أما الطعام فقد أكلنا، وأما الشراب حضر، وبقي السماع، قال: أما السماع فلا سبيل إليه مع غيرة أمير المؤمنين ونهيه إياي عن الغناء، إلا ما كان في مجلسه، قالوا له: فلا حاجة لنا في الطعام والشراب عندك ما لم تُسمعنا، فلما رآهم غير مغفلين عنه رفع عقيرته، وغنى بهذه الأبيات:
محجوبةٌ سمِعَتْ صَوْتي فأرّقها ... من آخر الليلِ حتى ملّها السَّهرُ
لم يحجب الصوت أحراس ولا غَلَقٌ ... فدمعها لطروق الصوت ينحدرُ
تدني على فخذيها من معصفرةٍ ... والحلي بادٍ على لبّاتها خَصَرُ
في ليلة البدر لا يدري مضاجعُها ... أوجهها عِندَه أبهى أم القمرُ؟
لو خُلِّيت لمشت نحوي على قَدَمٍ ... تكاد من رقّةٍ بالمشي تنفطرُ
فلما سمعت " الذلفاء " صوت " سنان "، خرجت إلى صحن الفسطاط لتسمع الصوت، وجعلت لا تسمع شيئًا من نفثٍ حسن مع ما وافق ذلك من وقت الليلة المقمرة، إلا رأت ذلك كلّه في نفسها ووقتها وهيئتها، فحرك ذلك ساكنًا كان في قلبها، فهملت عيناها بالدموع وعلا نحيبها، فانتبه سليمان فلم يجدها في الفسطاط، فخرج إلى صحنه فرآها على تلك الحالة، فقال لها: ما هذا يا " ذلفاء " فقالت يا أمير المؤمنين:
ألا ربّ صوتٍ رائعٍ من مشوَّهٍ ... قبيحِ المحيا واضع الأب والجَدِّ
يروعك منه صوته ولعلّه ... إلى أمةٍ يُدعى معًا وإلى عَبْدِ
قال سليمان: دعيني من هذا، فوالله لقد خامر قلبك منه ما خامره. يا غلام: عليّ " بسنان "، فدعت " الذلفاء " خادمًا لها، وقالت: إن سبقت إلى " سنان " فحذرته فلك عشرة آلاف درهم وأنت حر. فسبق رسول سليمان فأحضره، فلما وقف بين يديه وسليمان يرعد غيرة، قال سليمان: من أنت؟ قال: أنا " سنان " فقال:
تثكل في الثّكلى سنانًا أمُّه ... كان لها ريحانةً تشمّه
1 / 10
وخاله يثكلُه وعمُّه ... ذو سَفَهٍ حياتُه تغمّه
فقال سِنان:
استبقني إلى الصباح أعتذرْ ... إنَّ لساني بالشراب مُنْكسر
فارسُك الكلبيُّ في يومٍ يكُر ... فإن يكن أذنب ذنبًا أو عثرْ
فالسيّد العافي أحقّ من غَفَرْ
ثم قال: يا " سنان "، ألم أنهك عن مثل هذا الفعل؟ فقال: يا أمير المؤمنين حملني الثمل، وقوم طرقوني، وأنا عبد أمير المؤمنين، فإن رأى ألا يضيّع حظّه مني فليفعل.
فقال: أما حظي منك فلا أضيّعه، ولكن لا تركت للنساء فيك حظًا، يا " سنان " أما علمت أن الرجل إذا تغنّى أصغت له المرأة، وأن الفرس إذا صهل تودّقت له الحجر، وأن الفحل إذا هدر ضبعت له الناقة، يا غلام ائتني بحجام فجبّه، فعاش بعد ذلك سنة ومات، فسمي ذلك الدير: دير الخصيان، وبه يعرف إلى اليوم.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري - وهذا الخبر أصحّ ما روى في ذلك إسنادًا - قال أخبرنا أبو زيد عمر بن شبّة عن معن ابن عيسى.
وأخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدّثني عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان قال: قال ابن جناح حدثني معن بن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه وعن محمد بن معن الغفاري قالا: كان سبب ما خصي له المخنثون بالمدينة أن سليمان بن عبد الملك كان في نادية له يسمر ليلة على ظهر سطح، فتفرق عنه جلساؤه، فدعا بوضوء فجاءت به جارية له، فبينما هي تصب عليه إذ أومأ بيده وأشار بها مرتين أو ثلاثًا، فلم تصبّ عليه، فأنكر ذلك فرفع رأسه، فإذا هي مصغية بسمعها إلى ناحية العسكر، وإذا صوت رجل يغني، فأنصت له حتى سمع جميع ما تغنّى به، فلما أصبح أذن للناس، ثمّ أجرى ذكر الغناء فلين فيه حتّى ظن القوم أنه يشتهيه ويريده، فأفاضوا فيه بالتسهيل وذكر من كان يسمعه، فقال سليمان فهل بقي أحد يُسمع منه الغناء؟ فقال رجل من القوم: عندي يا أمير المؤمنين رجلان من أهل أبله مجيدان محكمان، قال: وأين منزلك؟ فأومأ إلى الناحية التي كان الغناء منها، قال: فابعث إليهما، ففعل، فوجد الرسول أحدهما، فأدخله على سليمان، فقال: ما اسمك؟ قال: سمير، فسأله عن الغناء، فاعترف به، فقال: متى عهدك به؟ قال: الليلة الماضية، قال: وأين كنت؟ فأشار إلى الناحية التي سمع سليمان منها الغناء، قال: فما غنيت به؟ فأخبره الشعر الذي سمعه سليمان، فأقبل على القوم فقال: هدر الجمل فضبعت الناقة، ونب التيس فشكرت الشاة وهدر الحمام فزافت الحمامة، وغنّى الرجل فطربت المرأة، ثم أمر به فخصي. وسأل عن الغناء أين أصله؟ فقيل: بالمدينة في المخنثين وهم أئمته والحذاق فيه. فكتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وكان عامله عليها، أن اخص من قبلك من المخنثين المغنين - فزعم موسى بن جعفر بن أبي كثير قال أخبرني بعض الكتّاب قال: قرأت كتاب سليمان في الديوان، فرأيت على الخاء نقطة كتمرة العجوة. قال: ومن لا يعلم يقول: إنه صحّف القارئ، وكانت احصِ - قال: فتتبعهم ابن حزم فخصى منهم تسعة، فمنهم: الدلال، وطريف، وحبيب نومة الضحى. وقال بعضهم حين خُصي: سلم الخاتن والمختون. وهذا كلام يقوله الصبيّ إذا ختن. قال: فزعم ابن أبي ثابت الأعرج. قال أخبرني حماد بن نشيط الحسني. قال: أقبلنا من مكة ومعنا بدراقس وهو الذي ختنهم، وكان غلامه قد أعانه على خصائهم، فنزلنا على حبيب نومة الضحى، فاحتفل لنا وأكرمنا، فقال له ثابت: من أنت؟ قال: يا بن أخي أتجهلني وأنت وليت ختاني! أو قال: وأنت ختنتني، قال: واسؤتاه! وأيهم أنت؟ قال: أنا حبيب، فاجتنبت طعامه، وخفت أن يسمّني. قال: وجعلت لحية الدلال بعد سنة أو سنتين تتناثر. وأما ابن الكلبي فإنه ذكر عن أبي مسكين ولقيط أن أيمن كتب بإحصاء من في المدينة من المخنثين ليعرفهم، فيوفد عليه من يختاره للوفادة، فظن أنه يريد الخصاء فخصاهم.
أخبرني وكيع قال: حدثني أبو أيوب المديني قال: حدثني محمد بن سلام قال حدثني ابن جعدبة - ونسخت أنا من كتاب أحمد بن الحارث الخراز - عن المديني عن ابن جُعدُبة واللفظ له:
1 / 11
أن الذي هاج سليمان بن عبد الملك على ما صنعه بمن كان بالمدينة من المخنثين، أنه كان مستلقيًا على فراشه في الليل، وجارية له إلى جنبه، وعليها غلالة ورداء معصفران، وعليها وشاحان من ذهب، وفي عنقها فصلان من لؤلؤ وزبرجد وياقوت، وكان سليمان بها مشغوفًا، وفي عسكره رجل يقال له سمير الأبليّ يغنّي، فلم يفكر سليمان في غنائه شغلًا بها وإقبالًا عليها، وهي لاهية عنه لا تجيبه مصغية إلى الرجل، حتى طال ذلك عليه، فحول وجهه عنها مغضبًا، ثم عاد إلى ما كان مشغولًا عن فهمه بها، فسمع سميرًا يغني بأحسن صوت وأطيب نغمة:
محجوبة سمعت صوتي فأرقها ... من آخر الليل حتى شفها السهرُ
تدني على جيدها ثنيي معصفرة ... والحلي منها على لباتها خصرُ
في ليلة النصف ما يدري مضاجعها ... أوجهها عنده أبهى أم القمر
ويروى:
أوجهها ما يرى ... أم وجهها القمر
لو خليت لمشت نحوي على قدم ... تكاد من رقة للمشي تنفطر
- الغناء لسمير الأبلي رمل مطلق بالبنصر عن حبش.. وأخبرني ذكاء وجه الرزة أنه سمع فيه لحنًا للدلال من الثقيل الأول.
- فلم يشكك سليمان أن الذي بها مما سمعت، وأنها تهوى سميرًا، فوجه من وقته من أحضره وحبسه، ودعا لها بسيف ونطع، وقال: والله لتصدقني أو لأضربن عنقك! قالت: سلني عما تريد، قال: أخبريني عما بينك وبين هذا الرجل؟ قالت: والله ما أعرفه ولا رأيته قط، وأنا جارية منشئي الحجاز، ومن هناك حملت إليك، ووالله ما أعرف بهذه البلاد أحدًا سواك، فرقّ لها وأحضر الرجل فسأله، وتلطف له في المسألة، فلم يجد بينه وبينها سبيلًا، ولم تطب نفسه بتخليته سويًا فخصاه، وكتب في المخنثين بمثل ذلك.
هذه الرواية صحيحة.
دير درزيجان
دير درزيجان: قرب بغداد، على دجلة، بالجانب الغربي منها قال لي أبو الحسن الواسطي الصوفي: قرأت على حائط دير بدرزيجان: حضر فلان بن فلان الدمشقي وهو يقول:
لئن كان شحط البين فرّق بيننا ... فقلبي ثاوٍ عندكم ومقيم
دير الرصافة
دير الرصافة: ذكر ابن عساكر أن اسمه " دير حنينا "، وأن اسم صاحب القصيدة: الفرخ. وأن المتوكل أمر بهدم الدير: ابن عساكر - مخطوطة الظاهرية - ١٩ - ق ١٤٥.
قال البكري: هو بدمشق ٢ - ٥٨٠.
- أوضح ياقوت أن هذا الدير يقع في رصافة هشام وهي تبعد عن دمشق ثمانية أيام.
معجم البلدان) دير الرصافة (.
- يستدل من البكري أنه من بناء الروم.. الروم الملكية.
البكري.
- ذكر ياقوت أنه رأى الدير، وقرر أنه من عجائب الدنيا حسنًا وعمارة.
معجم البلدان) دير الرصافة (- وفي هذا الدير قال شاعر مشيرًا إلى مجده، ومعرضًا بالأمويين:
نراك جزعت يا دير الرصافة ... غداة تحولت عنك الخلافه!
فلا تجزع وتذري الدمع حزنًا ... فإن لكل مجتمعين آفه!
دير الرصافة
في رصافة هشام بن عبد الملك
اجتاز أبو نواس بهذا الدير وقال فيه:
ليس كالدير بالرصافة دير ... فيه ما تشتهي النفوس وتهوى
بته ليلة فقضيت أوطا ... رًا ويومًا ملأت قطريه لهوًا
قال أبو الفرج: حدثني جعفر بن قدامة، قال: حدثني أبو عبد الله بن حمدون قال: كنت مع المتوكل لما خرج إلى الشام، فركب يومًا من دمشق يتنزه في رصافة هشام، يزور قصوره وقصور ولده، ثم خرج، فدخل ديرًا هناك قديمًا، من بناء الروم، بين أنهار ومزارع وأشجار، فبينما هو يدور فيه، إذ بصر برقعة ملصقة، فأمر أن تقلع، فقلعت، فإذا فيها:
أيا منزلًا بالدير أصبح خاليًا ... تلاعب فيه شمال ودبورُ
كأنك لم تسكنك بيض أوانس ... ولم يتبختر في فنائك حورُ
وأبناء أملاك عباشم سادة ... صغيرهم عند الأنام كبيرُ
إذا لبسوا أدراعهم فعنابس ... وإن لبسوا تيجانهم فبدورُ
على أنهم يوم اللقاء ضراغم ... وأنهم يوم العطاء بحورُ
وحولك رايات لهم وعساكر ... وخيل لها بعد الصهيل شخيرُ
ليالي هشام في الرصافة قاطن ... وفيك ابنه يا دير وهو أميرُ
إذ العيش غض والخلافة لدنة ... وأنت طرير والزمان غريرُ
وروضك مرتاض، ونورك نير ... وعيش بني مروان فيك نضيرُ
1 / 12
بلى، فسقاك الغيث صوب غمامة ... عليك لها بعد الرواح بكورُ
تذكرت قومي خاليًا فبكيتهم ... بشجو، ومثلي بالبكاء جديرُ
وعزيت نفسي وهي نفس إذا جرى ... لها ذكر قومي أنة وزفيرُ
لعل زمانًا جار يومًا عليهم ... له بالذي تهوى النفوس يدورُ
فيفرح محزون، وينعم بائس ... ويطلق من ضيق الوثاق أسيرُ
رويدك إن اليوم يتبعه غد ... وإن صروف الدائرات تدورُ!
قال: فلما قرأها المتوكل ارتاع لها وتطير وقال أعوذ بالله من سوء أقداره! ثم دعا بصاحب الدير، فقال له: من كتب هذه الرقعة؟ فأقسم أنه لا يدري. قال: وأنا مذ نزل أمير المؤمنين هذا الموضع، لا أملك من أمر هذا الدير شيئًا، يدخله الجند والشاكرية ويخرجون، وغاية قدرتي أني متوارٍ في قلايتي، فهم بضرب عنقه، وإخراب الدير، فكلمه صحبه إلى أن سكن غضبه، ثم بان بعد ذلك أن الذي كتب الأبيات رجل من بني روح بن زنباع الجذامي، وأمه من موالي هشام بن عبد الملك.
دير الرها
دير الرها: بالجزيرة بين الموصل والشام.
حدثني أبو محمد حمزة بن القاسم الشامي: قال: اجتزت بكنيسة الرها عند مسيري إلى العراق. فدخلتها لأشاهد ما كنت أسمعه عنها. فبينما أنا في تطوافي، إذ رأيت على ركن من أركانها مكتوبًا بالحمرة: حضر فلان بن فلان وهو يقول: من إقبال ذي الفطنة، إذا ركبته المحنة انقطاع الحياة، وحضور الوفاة. وأشد العذاب تطاول الأعمار في ظل الإدبار. وأنا القائل:
ولي همة أدنى منازلها السها ... ونفس تعالت بالمكارم والنهى
وقد كنت ذا حال بمرو قريبة ... فبلغت الأيام بي بيعة الرها
ولو كنت معروفًا بها لم أقم بها ... ولكنني أصبحت ذا غربة بها
ومن عادة الأيام إبعاد مصطفى ... وتفريق مجموع وتنغيص مشتهى
فاستحسنت النظم والنثر وحفظتهما.
دير زرارة
دير زرارة: وهو بين الكوفة وحمام أعين، على يمين الحاج من بغداد، نزه، كثير الحانات والشراب، لا يخلو ممن يطلب اللهو واللعب، ويؤثر البطالة والقصف.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا العباس بن ميمون بن طائع قال حدثني ابن خرداذبة قال: خرج مطيع بن إياس، ويحيى بن زياد حاجين، فقدما أثقالهما وقال أحدهما للآخر: هل لك أن نمضي إلى زرارة فنقصف ليلتنا عنده، ثم نلحق أثقالنا؟ فما زال ذلك دأبهم، حتى انصرف الناس من مكة.
قال: فركبا بعيريهما وحلقا رؤوسهم ودخلا مع الحجاج المنصرفين، وقال مطيع في ذلك:
ألم ترني ويحيى قد حججنا ... وكان الحج من خير التجارة
خرجنا طالبي خير وبر ... فمال بنا الطريق إلى زرارة
فعاد الناس قد غنموا وحجوا ... وأبنا موقرين من الخسارة
وقد روي هذا الخبر لبشار بن برد وغيره.
دير زكَّى
دير زكّى: هو دير بالرها بإزائه تل يقال له: تل زفر، وهو زفر ابن الحارث الكلابي، وفيه ضيعة يقال لها الصالحية، اختطها عبد الملك بن صالح الهاشمي - كذا قال الأصبهاني - فيها بستان موصوف بالحسن، وفيه سروتان قديمتان. وقد ذكره الشعراء، وذكروا بهجته، وتشوقوه. أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن عبد الله بن مالك. وأخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو العباس الكاتب قال: كان الرشيد يحب ماردة - جاريته - وكان خلّفها بالرقة، فلما قدم إلى مدينة السلام اشتاقها، فكتب إليها:
سلام على النازح المغترب ... تحية صبٍّ به مكتئب
غزال مراتعه بالبليخ ... إلى دير زكّى فقصر الخشب
أيا من أعان على نفسه ... بتخليفه طائعًا من أحب
سأستر ... والستر من شيمتي هوى من أحب بمن لا أحب
فلما ورد كتابه عليها أمرت أبا حفص الشطرنجي - صاحب علية - فأجاب الرشيد عنها بهذه الأبيات، فقال:
أتاني كتابك يا سيدي ... وفيه العجائب كل العجب
أتزعم أنك لي عاشق ... وأنك بي مستهام وصب
فلو كان هذا كذا لم تكن ... لتتركني نهزة للكرب
وأنت ببغداد ترعى بها ... نبات اللذاذة مع من تحب
فيا من جفاني ولم أجفه ... ويا من شجاني بما في الكتب
كتابك قد زادني صبوة ... وأسعر قلبي بحرّ اللهب
1 / 13
فهبني نعم قد كتمت الهوى ... فكيف بكتمان دمع سرب
ولولا اتقاؤك يا سيدي ... لوافتك بي الناجيات النجب
فلما قرأ الرشيد كتابها أنفذ من وقته خادمًا على البريد حتى حدرها إلى بغداد في الفرات، وأمر المغنين جميعًا، فغنوا في شعره.
دير سعد
دير سعد بغربي الموصل قريب من دجلة، منسوب إلى سعيد بن عبد الملك بن مروان.
قال أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني: أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال وجدت في كتاب بخط الضحاك قال: خرج عقيل بن علفة وابناه: علفة وجثامة، وابنته الجرباء حتى أتوا بنتًا له ناكحًا في بني مروان بالشام فآمت. ثم إنهم قفلوا بها حتى كانوا ببعض الطريق، فقال عقيل بن علفة:
قضت وطرًا من دير سعد وطالما ... على عرض ناطحنه بالجماجم
إذا هبطت أرضًا يموت غرابها ... بها عطشًا أعطينهم بالخزائم
ثم قال: أنفذ يا علفة، فقال علفة:
فاصبحن بالموماة يحملن فتية ... نشاوى من الادلاج ميل العمائم
إذا علم غادرنه بتنوفة ... تذارعن بالأيدي لآخر طاسم
ثم قال: أنفذي يا جرباء، فقالت: وأنا آمنة؟ قال: نعم. فقالت:
كأن الكرى سقاهم صرخدية ... عقارًا تمشّى في المطا والقوائم
فقال عقيل: شربتها ورب الكعبة! لولا الأمان لضربت بالسيف تحت قرطك، أما وجدت من كلام غير هذا! فقال جثامة: وهل أساءت! إنما أجازت، وليس غيري وغيرك، فرماه عقيل بسهم فأصاب ساقه وأنفذ السهم ساقه والرحل، ثم شد على الجرباء فعقر ناقتها ثم حملها على ناقة جثامة وتركه عقيرًا مع ناقة الجرباء. ثم قال: لولا أن تسبني بنو مرة ما ذقت الحياة.
ثم خرج متوجهًا إلى أهله وقال: لئن أخبرت أهلك بشأن جثامة، أو قلت لهم إنه أصابه غير الطاعون لأقتلنك. فلما قدموا على أهل أبير) وهم بنو القين (ندم عقيل على فعله بجثامة. فقال لهم: هل لكم في جزور انكسرت؟ قالوا: نعم. قالوا فالزموا أثر هذه الراحلة حتى تجدوا الجزور، فخرج القوم حتى انتهوا إلى جثامة فوجدوه قد أنزفه الدم، فاحتملوه وتقسموا الجزور، وأنزلوه عليهم، وعالجوه حتى برأ، وألحقوه بقومه، فلما كان قريبًا منهم تغنى:
ايعذر لاحينا ويلحين في الصبا ... وما هن والفتيان إلا شقائق
فقال له القوم: إنما أفلت من الجراحة التي جرحك أبوك آنفًا وقد عاودت ما يكرهه فأمسك عن هذا ونحوه إذا لقيته لا يلحقك منه شر وعر، فقال: إنما هي خطرة خطرت والراكب إذا سار تغنى.
عمر سفر يشوع
عمر سفر يشوع: أسفل مدينة واسط.
حدثني أبو عبد الله الواسطي، الشاعر المعروف بابن الآجري قال: كنت أعاشر جماعة من أهل الظرف وأولاد الرؤساء ونجتمع على الشراب دائمًا. فدعانا فتى منهم إلى العمر الذي في أسفل مدينة واسط، ويعرف العمر بعمر سفر يشوع. فمضينا ومعنا من الغناء والآلة والشراب كل شيء ظريف، وأقمنا ثلاثة أيام، ومضت لنا به أوقات طيبة، وانصرفنا في اليوم الرابع وتفرقنا بعد ذلك للمعايش والمتصرفات. فلما كان بعد ذلك بشهور دعينا إلى العمر، فلما حصلنا في القلاية التي كنا شربنا فيها في تلك الدفعة قال لنا الفتى: ألا أخبركم بحالي بعدكم؟ قلنا: بلى.
قال: إنكم لما انصرفتم من عندنا جاءني شاب له رواء ومنظر حسن، ومعه غلام نظيف الوجه في مثل زيه، أحسبه حبيبًا له. فقال لي: أين الفتيان الذين كانوا عندك مجتمعين؟ فقد غلسوا في الانصراف. فحزن وتبينت الكآبة في وجهه. ثم سألني عن حالكم، وما صنعتم، وكم أقمتم. فحدثته فانبسط، واستدعى ما أكل هو وصاحبه، وأخذا في الشرب، وطربا، وأقاما على حالهما ثلاثة أيام، ففعل مثل فعلكم. فلما كان في اليوم الرابع ودعني وأخذ فحمة وكتب على حائط البيت شعرًا، وقال: إن عادوا أوقفهم عليه، وانصرف.
فنهضنا إلى البيت فإذا هو:
إخوتي إني سمعت بكم ... قصدت العمر من طرب
فوجدت الدهر فرقكم ... وكذا الدهر ذا نوب
وسألت القس ما فعلوا ... فأجاب القس بالعجب
ففعلنا مثل فعلكم ... وشربنا من دم العنب
بنت كرم عتقت زمنًا ... منذ عهد اللات والنصب
وجنينا الحلو من ثمر ... وأكلنا يانع الرطب
1 / 14
وتفرقنا على مضض ... كلنا يدعو بوا حربي
فلما عدنا إلى واسط بحثنا عن الرجل، فلم نعرف له خبرًا، فعلمنا أنه غريب اجتاز بالبلد.
دير سليمان
دير سليمان بالثغر قرب دلوك مطل على مرج العين، وهو غاية في النزاهة.
أخبرني جعفر بن قدامة قال: ولي إبراهيم بن المدبر بعقب نكبته وزوالها عنه الثغور الخزرية، فكان أكثر مقامه بمنبج، فخرج في بعض أيام ولايته إلى نواحي دلوك رعبان، وخلف بمنبج جارية كان يتحظاها مغنية يقال لها: غادر، فحدثني بعض كتابه أنه كان معه بدلوك وهو على جبل من جبالها فيه دير يعرف بدير سليمان، من أحسن بلاد الله وأنزهها، فنزل فيه، ودعا بطعام خفيف، فأكل وشرب، ثم دعا بدواة وقرطاس فكتب:
أيا ساقيينا وسط دير سليمان ... أديرا الكؤوس فانهلاني وعلاني
وخصّا بصافيها أبا جعفر أخي ... وذا ثقتي بين الأنام وخلصاني
وميلا بها نحو ابن سلام الذي ... أود وعودا بعد ذلك لنعمان
وعما بها الندمان والصحب إنني ... تنكرت عيشي بعد صحبي وإخواني
ولا تتركا نفسي تمت بسقامها ... لذكرى حبيب قد شجاني وعناني
ترحلت عنه عن صدود وهجرة ... وأقبل نحوي وهو باك فأبكاني
وفارقته والله يجمع شملنا ... بلوعة محزون وغلة حرّان
وليلة عين المرج زار خياله ... فهيج لي شوقًا وجدد أشجاني
فأشرفت أعلى الدير أنظر طامحًا ... بألمح آماق وأنظر إنسان
لعلي أرى أبيات منبج رؤية ... تسكن من وجدي وتكشف أحزاني
فقصر طرفي واستهل بعبرة ... وفديت من لو كان يدري لفداني
ومثله شوقي إليه مقابلي ... وناجاه قلبي بالضمير وناجاني
دير سمالو
- دير سمالو في رقة الشماسية ببغداد مما يلي البردان.
حدثني أبو بكر محمد بن عمر قال: خرجت يومًا وقد عرض لي ضيق صدر وتقسم فكر إلى الموضع المعروف بالمالكية. فاجتزت بدير سمالو، على نهر الفضل، فجلست في موضع تحت ظل شجرة في فناء الدار أترنم بأبيات، إذ مر بي غلام أمرد كالقمر الطالع فقلت: - يا فتى، وحدك في مثل هذا الموضع؟ فقال: ما بقلبي حملني على ركوب الغزر، فبالله عليك ألا ما عرفتني هل مضى بك قوم من الأتراك ومعهم مغنية على حمار، عليها كساء نارنجي؟ فقلت: نعم، هم في ذلك البستان، ولكن عرفني، تريد الدخول عليهم؟ فارتعد رعدة عظيمة، ولم يزل لونه يتغير حتى سكن قليلًا. ولم أزل أسليه وأشجعه، وعلمت أنه يهوى المغنية، وأنها قد تركته وخالفته، وخرجت مع الأتراك، فلما هدّأ من زفرته وأفاق من غشيته، قال: لقد من الله تعالى علي بك، وإلا فقد كان ما بقلبي يحملني على دخول البستان وحصولي تحت حال قبيحة، ثم قام وسألني مساعدته والمشي معه إلى أن يصل البلد.
وتبين موضع الخطأ فجزع جزعًا شديدًا. فقمت معه وقويت من نفسه، وأخذت به في طريق بين البساتين حتى لا يراه من يمشي على الجادة، فلما قربنا من البلد، أخذ خرقة فكتب على حائط بستان اجتزنا به:
أين تلك العهود يا غدارة ... والكلام الرقيق تحت المنارة
قد علمنا بأنه كان زورًا ... واختلاقًا ونغشة وعيارة
فاجهدي الجهد كله قد سلونا ... عن هواكم ولو بشق المرارة
فقلت له: كأنك في الجامع عرفتها؟ فقال: أي والله، وظننتها الكلبة تفي، فاستحلفتها تحت منارة جامع الرصافة بأيمان لا تحملها الجبال، فحلفت أنها لا تواصل غيري، ولا تريد سواي. فلما عرفت خروجي إلى زيارة المشهد بالطفوف اغتنمت غيبتي ففعلت ما فعلت، فلما قدمت سألت عنها فخبرت خبرها، فخرجت على وجهي حتى لقيتني فرددتني. أحسن الله جزاءك عني، وتولى مكافأتك، وافترقنا بعد أن عرفت منزله وصار لي صديقًا.
دير سمعان
دير سمعان اشتهر هذا الدير بوفاة عمر بن عبد العزيز فيه، ولكن الاختلاف شديد في موقعه، وفي تعيين المكان الذي مرض فيه الخليفة الأموي، فقيل إنه توفي في " خناصرة "، وقيل إنه توفي بخناصرة ودفن في دير سمعان.
- ذكر صاحب العيون والحدائق أنه توفي بخناصر ودفن بدير سمعان من أرض المعرة.
- قال المسعودي: في ذكر عمر بن عبد العزيز:
1 / 15
وتوفي بدير سمعان من أعمال حمص مما يلي بلاد قنسرين. وقبره مشهور في هذا الموضع إلى هذه الغاية معظّم يغشاه كثير من الناس من الحاضرة والبادية، لم يعرض لنبشه فيما سلف من الزمان.
- وكانت صحة القبر في حمص مشكوكًا فيها في أيام صلاح الدين الأيوبي، ولما مر بحلب سنة ٥٨٤هـ، وتوجه منها قاصدًا معرة النعمان اجتاز بحمص، ولم يقم بها، مما يدل على أن القبر المنسوب إلى الخليفة الأموي كان مشكوكًا فيه تلك الأيام.
- ثمة ديارات عديدة تحمل اسم سمعان اشتهر معظمها في جوار حلب وانطاكية ودمشق وحمص والمعرة، ولذلك لم يوفق المؤرخون في تحديد قبر عمر في أحدها.
- يستدل من وصف أبي الفرج أن دفن عمر بن عبد العزيز كان على جبل قاسيون. قال ابن طولون أثناء كلامه على المدرستين المعظمية والعزيزية، وكان بناء الأولى سنة ٦٢١هـ والثانية سنة ٦٣٥هـ قال: شمالي هاتين المدرستين حوش عظيم بحيطان عالية يقال إنه دير سمعان كان. وله باب يفتح إلى الشرق وداخله عدة قبور معظمة.
دير سمعان
بدمشق
هو بنواحي دمشق، بالقرب من الغوطة، على قطعة من الجبل، يطل عليها، وحوله بساتين وأنهار، وموضعه حسن جدًا، وهو من كبار الديرة، وعنده دفن عمر بن عبد العزيز، بظاهره.
قال راثيه:
قد قلت إذ ضمنوك الترب وانصرفوا ... لا يبعدن قوام العدل والدين
قد غيبوا في ضريح القبر منجدلًا ... بدير سمعان قسطاس الموازين
من لم يكن همه عينًا يفجرها ... ولا النخيل ولا ركض البراذين
وقد ذكر أبو الفرج أن صاحب دير سمعان دخل على عمر بن عبد العزيز بفاكهة يطرفه بها في مرضه، فقبلها منه، وأمر له بدراهم، فأبى أن يأخذها، فما زال حتى أخذها، وقال: يا أمير المؤمنين! إنما هي من ثمر شجرنا، فقال عمر) ﵀ (وإن كان من ثمر شجركم! ثم قال: يا صاحب دير سمعان! إني ميت من مرضي هذا، فحزن وبكى. ثم قال له عمر: بعني موضع قبري من أرضك، سنةً، فإذا جاء الحول، فانتفع به.
دير السوسي
دير السوسي بنواحي سر من رأى بالجانب الشرقي.
قال البلاذري: هو دير مريم بناه رجل من أهل السوسي وسكنه هو ورهبان معه فسمي به، وهو بنواحي سر من رأى بالجانب الغربي.
ذكره ابن المعتز في شعره، فقال:
عللاني بصوت ناي وعود ... واسقياني دم ابنة العنقودِ
أشرب الراح وهي تشرب عقلي ... وعلى ذاك كان قتل الوليدِ
رب سكر جعلت موعده الصب ... ح وساق حثثته بمزيدِ
يا ليالي بالمطيرة والكر ... خ ودير السوسي بالله عودي
كنت عندي أنموذجات من الج ... نّة لكنها بغير خلودِ
قال أحمد بن أبي طاهر: قصدت بسر من رأى رائدًا بعض كبارها بشعر مدحته به، فقبلني وأجزل صلتي، ووهب لي غلامًا روميًا حسن الوجه، فسرت أريد بغداد، فلما سرت نحو فرسخ، أخذتنا السحاب، فعدلت إلى دير السوسي لنقيم فيه إلى أن يخف المطر، فاشتد القطر وجاء الليل، فقال الراهب الذي هو فيه: أنت العشية بائت هنا، وعندي شراب جيد، فتبيت تقصف ثم تبكر. فبت عنده، فأخرج لي شرابًا جيدًا، ما رأيت أصفى منه ولا أعطر، وبات الغلام يسقيني، والراهب نديمي، حتى مت سكرًا، فلما أصبحت رحلت وقلت:
سقى سر من رأى وسكانها ... ودير لسوسيها الراهبِ
فقد بت في ديره ليلة ... وبدر على غصن صاحبي
غزال سقاني حتى الصبا ... ح صفراء كالذهب الذائبِ
سقاني المدامة مستيقظًا ... ونمت ونام إلى جانبي
وكانت هناة لي الويل من ... جناها الذي خطه كاتبي!
دير صليبا
دير صليبا: يقع بنواحي دمشق مقابل باب الفراديس، ويعرف بدير خالد أيضًا، لأن خالد بن الوليد لما نزل محاصرًا لدمشق كان نزوله به.
- قال الخالدي إنه يلي باب الفراديس، والدليل قول جرير:
فقلت للركب إذ جدّ النجاء بهم ... يا بعد يبرين من باب الفراديس!
وأنشد فيه قول الآخر، وهو:
يا دير باب الفراديس المهيج لي ... بلالًاَ بقلاليه وأشجاره
لو عشت تسعين عامًا فيك مصطحبًا ... لما قضى منك قلبي بعض أوطاره
- يعرف هذا الدير أيضًا بدير السائمة.
- قال ابن عساكر: إن دير خالد كان خارج الباب الشرقي مما يلي بيت الآبار فخرب.
1 / 16
- قال ابن الكلبي إن الدير كان على ميل من الباب الشرقي.
- من الشعراء الذين زاروا هذا الدير أبو الفتح محمد بن علي المعروف بأبي اللقاء. قال إنه أقام به شهرًا فقال فيه:
جنة لقبت بدير صليبا .. مبدعًا حسنه كمالًا وطيبًا
جئته للمقام يومًا فظلنا ... فيه شهرًا وكان أمرًا عجيبًا
دير صليبا
بالقرب من دمشق مطل على الغوطة حدثني أبو بكر محمد بن عمر قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل النحوي، قال: حدثني بعض بني حمدون عن شيوخه قال: كنت مع المتوكل لما شخص إلى الشام، فلما صرنا بحمص قال أريد أن أطوف كنائس الرهبان كلها، والموضع المعروف بالفراديس إذا وصلنا إليها فإني كنت أسمع بطيب هذا الموضع، فقلت الرأي ما رآه أمير المؤمنين. ثم أنزلنا منزلًا بين كنائس عظيمة وآثار قديمة، ترتاح النفوس إليها، ويشتهي من ينزلها ألا يرتحل عنها. فلما استراح من نصب الركوب استدعاني وقال: هل لك في التطواف؟ قلت: كما أمر أمير المؤمنين. فأخذ بيدي، فلم يزل يستقري تلك الكنائس والديارات، ويشاهد فيها من عجائب الصور وفاخر الآلة، ويرى من أحداث الرهبان وبنات القسيسين وجوهًا كأنها أقمار في غصون، تتثنى في تلك الأروقة والصحون، وكلما مرّ بنا شيء من ذلك يقول لي: ترى ويحك ما نحن فيه؟ ما شاهدت مثل هذا قط! ثم خلونا براهب من قوام الكنيسة، فلم يزل المتوكل يسأله عن حال كل جارية وغلام يمر به، واسمه ونسبه، وهو يمشي، إذ لمح كتابة على حائط الكنيسة، فقربنا من ذلك فإذا هو: حضر الغريب المشرد الحريب وهو يقول: شتت شملي بعد الإلفة، وشقي جسمي بعد الكلفة، ومشيت من العراق إلى هذا الرواق، وارتحلت عنه في ذي الحجة من سنة إحدى ومائتين، وأنا أقول:
آل أمري إلى أخس الأمور ... وتبدلت كربةً بسرور
واعترتني من الزمان خطوب ... تتبارى في هتكة المستور
نفس صبرًا لحادثات الليالي ... كل شيء يذل للمقدور
فقال: ويحك! ما أطرف هذا المسكين، وما أحرق هذا الأنين ونحن في ذلك، إذ مرت بنا جارية ما رمقت عيني لها شبيهًا، وعليها جوب وفي يدها دخنة تدخن بها ... فقال لها المتوكل: تعالي يا جارية. فأقبلت بحسن أدب وكمال. فقال للراهب: من هذه؟ فقال: ابنتي. قال: وما اسمها؟ قال: سعانين. قال المتوكل: اسقيني ماء. فقالت له: يا سيدي، ماؤنا ها هنا من ماء الغدران، ولست أستنظف لك آنية الرهبان، ولو كانت ترويك لجدت بها لك.
ثم أسرعت، فجاءت بكوز من فضة فيه ماء، فأومأ إلي أن أشربه، فشربته. واشتد عجبه بها وشهوته لها. فقال لها: يا سعانين! إن هويتك تسعديني؟ فتنفست وقالت: أما الآن فأنا عبدتك، وأما إذا عرفت صحة حبك، وتنكنت من قلبك، فما أخوفني من حدوث الطغيان عند تمكن السلطان. أما سمعت قول الشاعر:
كنت لي في أوائل الأمر عبدًا ... ثم لما ملكت صرت عدوا
أين ذاك السرور عند التلاقي ... صار مني تجنبًا ونبوا
فطرب المتوكل وكاد يشق قميصه، ثم قال لها: فهبي لي نفسك اليوم حتى نشرب أنا وأنت، فإني ضيفك. قالت له: بالرحب والسعة.
ثم أصعدت بنا إلى علية مشرفة على تلك الكنائس كلها، فرأينا منظرًا حسنًا، ثم مضت فجاءت بآدام نظاف ورقاق، وكأن المتوكل عافها لعزة الخلافة، فاستأذنها في إحضار طعام، فأذنت. فجيء بخروف وسنبوسج، وأشياء قريبة المأخذ من طعام مثله. فاستظرفت ما جيء به، واستهولت الآلة، ففطنت لأمر المتوكل فقامت قائمة بين يديه تخدمه وتكفر له، فمنعها.
ثم جاءنا أبوها بشراب من بيت القربان، ذكر المتوكل أنه لم ير مثله قط. فشرب وشربت معه، واستعفيته من أجل حمى كانت لحقتني في تلك الليلة. فأعفاني. وسرّ بها وبظرفها، وحلاوة منطقها، سرورًا تامًا. فلما أخذ الشراب منها قالت: أغنيك يا سيدي من غنائنا، على ضعف الصنعة؟ فكاد أن يهيم، وقال: إن فعلت كمل والله ظرفك. فقامت فجاءت بشيء ويسمونه " القيثارة " وضربت واندفعت تغني:
يا خاطبًا مني المودة مرحبًا ... سمعًا لأمر لا عدمتك خاطبا
أنا عبدة لهواك فاشرب واسقني ... واعدل بكأسك عن خليلك إن أبى
قد والذي رفع السماء ملكتني ... وتركت قلبي في هواك معذبا
1 / 17
فنعر المتوكل وقال لي: ويلك! أميت أنت؟ فانتبهت، وعلمت أنني قد أخطأت في ترك مساعدته. فأخذت رطلًا، فلم أزل أشرب حتى لحقته. ومضى لنا يوم كان في الأيام فردًا.
ثم أرغبها المتوكل فأسلمت، وتزوجها. ولم تزل حظية عنده إلى أن قتل وهي في داره.
ورأيت في بعض النسخ أن شحرورًا وقمريًا كانا يصيحان على أعالي أشجار بالدير فأصغى إليهما المتوكل. فلما تحققت إصغاءه أنشدته سعانين:
وكأنما الشحرور راهب بيعة ... ألهاه طيب الوقت عن تزنيره
جعلت له فلك الغصون صوامعًا ... ينعين في إنجيله وزبوره
وكأنما القمري يندب شجوه ... بأنينه وحنينه وزفيره
صب شجته بلابل لما دنت ... منه ديار أنيسه وسميره
فأعجبه ذلك منها وزاد بها سرورًا، ولها محبة.
دير عبد المسيح
دير عبد المسيح: بناه عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة الغساني بالحيرة.
وقد ذكره الأصبهاني قال: وكان - عبد المسيح - أحد المعمرين، يقال إنه عمر ثلاثمائة وخمسين سنة، وهذا الدير بظاهر الحيرة بموضع يقال له الجرعة، وعبد المسيح هو الذي لقي خالد بن الوليد، ﵁، لما غزا الحيرة وقاتل الفرس فرموه من حصونهم الثلاثة حصون آل بقيلة بالخزف المدور، وكان يخرج قدام الخيل فتنفر منه.
فقال له ضرار بن الأزور: هذا من كيدهم، فبعث خالد رجلًا يستدعي رجلًا منهم عاقلًا، فجاءه عبد المسيح بن عمرو وجرى له معه ما هو مذكور مشهور.
قال: وبقي عبد المسيح في ذلك الدير بعدما صالح المسلمين على مائة ألف، حتى مات وخرب الدير بعد مدة فظهر فيه أزج معقود من حجارة فظنوه كنزًا، فإذا فيه سرير رخام عليه رجل ميت وعند رأسه لوح فيه مكتوب: أنا عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة:
حلبت الدهر أشطره حياتي ... ونلت من المنى فوق المزيد
فكافحت الأمور وكافحتني ... فلم أخضع لمعضلة كؤود
وكدت أنال في الشرف الثريا ... ولكن لا سبيل إلى الخلود
دير عدس
دير عدس بالشام، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد قال: أخبرنا المكي عن ابن أبي خالد، عن الهيثم قال: أخبرنا أسامة بن زيد، عن زيد بن أسلم عن أبيه، عن عمر بن الخطاب ﵁ قال: خرجت مع أناس من قريش في تجارة إلى الشام في الجاهلية، فإني في سوق من أسواقها إذا ببطريق قد قبض على عنقي، فذهبت أنازعه فقيل لي: لا تفعل فإنه لا نصف لك منه. فأدخلني كنيسة فإذا تراب عظيم ملقى، فجاءني بزنبيل ومجرفة، فقال لي: انقل ما ها هنا. فجلست امثّل أمري كيف أصنع. فلما كان في الهاجرة جاءني وعليه سبنية أرى سائر جسده منها.
فقال: إنك على ما أرى ما نقلت شيئًا! ثم جمع يديه وضرب بهما دماغي. فقلت: وا ثكل أمك يا عمر، أبلغت ما أرى! ثم وثبت إلى المجرفة فضربت بها هامته ثم واريته في التراب، وخرجت على وجهي لا أدري أين أسير، فسرت بقية يومي وليلتي، ومن الغد إلى الهاجرة، فانتهيت إلى دير فاستظللت في فنائه، فخرج إلي رجل فقال: يا عبد الله ما يقعدك ها هنا؟ فقلت: أضللت أصحابي.
فقال: ما أنت على طريق، وإنك لتنظر بعيني خائف، فادخل فأصب من الطعام واسترح. فدخلت فأتاني بطعام وشراب وألطفني، ثم صعّد إليّ النظر وصوّبه فقال: قد علم أهل الكتاب - أو الكتب - أنه ما على الأرض أعلم بالكتّاب - أو الكتب - مني، وأني لأجد صفتك الصفة التي تخرجنا من هذا الدير وتغلبنا عليه.
فقلت: يا هذا، لقد ذهبت في غير مذهب. فقال لي: ما اسمك؟ فقلت عمر بن الخطاب، فقال: أنت والله صاحبنا، فاكتب على ديري هذا وما فيه.
فقلت له: يا هذا، إنك قد صنعت إلي صنيعة فلا تكدرها.
فقال: إنما هو كتاب في رق، فإن كنت صاحبنا فذاك، وإلا لم يضرك شيء. فكتبت له على ديره وما فيه، وأتاني بثياب ودراهم فدفعها إلي، ثم أوكف أتانًا وقال لي: أتراها؟ قلت: نعم. قال: سر عليها فإنك لا تمر على قوم إلا سقوها وعلفوها وأضافوك، فإذا بلغت مأمنك فاضرب وجهها مدبرة فإنهم يفعلون بها كذلك حتى ترجع إلي.
قال: فركبتها حتى لحقت أصحابي فانطلقت معهم.
1 / 18
فلما وافى عمر الشام في خلافته جاءه ذلك الراهب بالكتاب، وهو صاحب دير عدس، فلما رآه عرفه ثم قال: قد جاء ما لا مذهب لعمر عنه. ثم أقبل على أصحابه فحدثهم بحديثه، فلما فرغ منه أقبل على الراهب فقال: إن أضفتم المسلمين ومرضتموهم وأرشدتموهم فعلنا ذلك.
قال: نعم يا أمير المؤمنين. فوفى له عمر.
دير العذارى
دير العذارى: للراهبات في المشرق العربي، ديارات عديدة، أشرنا إلى بعضها في المقدمة.
- نوّه الشابشتي بالدير الموجود في قطيعة النصارى ببغداد في عصره، قائلًا: " وببغداد أيضًا دير يعرف ب " دير العذارى " في قطيعة النصارى على نهر الدجاج. وسمي بذلك لأن لهم صوم ثلاثة أيام قبل الصوم الكبير، يسمى صوم العذارى. فإذا انقضى الصوم، اجتمعوا إلى هذا الدير فتعبدوا وتقربوا. وهو دير حسن ".
- قال الخالدي: وشاهدته وبه نسوة عذارى وحانات خمر، وإن دجلة أتت عليه بمدودها فأذهبته حتى لم يبق منه أثر، وذكر أنه اجتاز به في سنة ٣٢٠ هـ وهو عامر.
- دير العذارى: كان ديرًا للرواهب السريانيات في بغداد، في قطيعة النصارى، حيث كانت بيعة مار توما للسريان. ذكره ابن العبري في أحداث سنة ١٠٠٢ هـ، وسماه دير الأخوات، وقال: إن قومًا من السوقة حاولوا نهبه، ثم ولوا عنه هاربين لنبأ أتاهم أن خلقًا من الأوباش هلكوا في حريق نشب في البيعة المذكورة بفعلهم..
- وانظر: المشترك وضعًا ١٩٠ - ١٩١.
- مراصد الإطلاع: ٢ - ٥٦٩.
- مسالك الابصار ١ - ٢٥٨ - ٢٦١ - البدور المسفرة ١٩ - ٢٠ - بغداد في عهد الخلافة العباسية ٨٠ - ١٨١.
- ري سامراء في عهد الخلافة العباسية ١ - ١٨٤، ١٨٥.
- الديارات النصرانية في الإسلام ٢٤.
- دليل خارطة بغداد ٤٢، ٨٢.
- أحوال نصارى بغداد ١١٣ - ١١٥.
دير العذارى
قال أبو الفرج الأصبهاني: هو بين أرض الموصل وبين أرض باجرمى من أعمال الرقة، وهو دير عظيم قديم، وبه نساء عذارى قد ترهَّبن وأقمن به للعبادة فسمي به لذلك، وكان قد بلغ بعض الملوك أن فيه نساء ذوات جمال، فأمر بحملهن إليه ليختار منهن على عينه من يريد، وبلغهن ذلك فقمن ليلتهن يصلين ويستكفين شره، فطرق ذلك الملك طارق فأتلفه من ليلته فأصبحن صيامًا، فلذلك يصوم النصارى الصوم المعروف بصوم العذارى إلى الآن. ودير العذارى بسر من رأى إلى الآن موجود، يسكنه الرواهب.
وقد ذكرت هذا الدير الشعراء فأكثرت. فمنهم أبو الحسن جحظة البرمكي، قال أبو الفرج الحسين بن علي الأصبهاني أنشدني لنفسه قوله فيه:
ألا هل إلى دير العذارى ونظرة ... إلى الخير من قبل الممات سبيلُ؟
وهل لي بسوق القادسية سكرة ... تعلل نفسي والنسيم عليلُ؟
وهل لي بحانات المطيرة وقفة ... أراعي خروج الزق وهو حميلُ
إلى فتية ما شتت العزل شملهم ... شعارهم عند الصباح شمولُ
وقد نطق الناقوس بعد سكوته ... وشمعل قسيس ولاح فتيلُ
يريد انتصابًا للمقام بزعمه ... ويرعشه الإدمان فهو يميلُ
يغني وأسباب الصواب تمده ... وليس له فيما يقول عديلُ:
" ألا هل إلى شم الخزامى ونظرة ... إلى قرقرى قبل الممات سبيلُ؟ "
وثنّى يغني وهو يلمس كأسه ... وأدمعه في وجنتيه تسيلُ:
" سيعرض عن ذكري وينسى مودتي ... ويحدث بعدي للخليل خليلُ "
سقى الله عيشًا لم يكن فيه علقة ... لهم ولم ينكر عليه عذولُ
لعمرك ما استحملت صبرًا لفقده ... وكل اصطبار عن سواه جميلُ
قال: ولما خرج عبيد الله بن عبد الله بن طاهر من بغداد إلى سر من رأى، وكان المعتز استدعاه، نزل هذا الدير، فأقام به يومين واستطابه وشرب به، ثم قال هذه الأبيات:
ما ترى طيب وقتنا يا سعيد ... زمن ضاحك وروض نضيدُ
ورياض كأنهن برود ... كل يوم لهن صبغ جديدُ
وكأن الشقيق فيها عشيق ... وكأن البهار صب عميدُ
وكأن الغصون ميلًا قدود ... وكأن النوار فيها عقودُ
وكأن الثمار والورق الخض ... ر ثياب من تحتهن نهودُ
فاسقنيها راحًا تريح من اله ... م وتبدي سرورنا وتعيدُ
واحثث الكأس يا سعيد فقد حث ... ك ناي لها وحرك عودُ
وافترع عذرة اللذاذات في دي ... ر العذارى، فعلها لا تعودُ!
وذكر ابن قدامة قال:
1 / 19
حضرت جنازة شاجي، فلما انصرفنا، دخلت مع عبيد الله مساعدًا له ومؤنسًا، وهو مطرق ودموعه تجري على خديه، فلم أر باكيًا أحسن منه. ثم رفع رأسه وأقبل علينا، فقال:
يمينًا بأني لو بليت بفقدها ... وبي نبض عرق للحياة وللنكس
لأوشكت قتل النفس عند فراقها ... ولكنها ماتت وقد ذهبت نفسي
قال: ثم حضرت معه لزيارة قبرها، فلما همَّ بالانصراف، قال:
من زار دار أحبة لحياتهم ... ولما يؤمل من لقاء يقدرُ
فليأت دار أحبة سكنوا البلى ... كرمًا وحفظًا واللقاء المحشرُ
قال: ومات ابن لعبيد الله من شاجي، فزار قبره، ثم أنشد:
أيا مجمع الأحباب بعد تفرق ... أراك قريبًا والتلاقي شاسعًا
فيا عجبًا إني أزورك مكرهًا ... وفيك الأولى أهوى وأجفوك طائعًا
قال جحظة: دخلت على عبيد الله بن عبد الله بن طاهر يومًا، فجاءه مشيخة، فأمرهم بالجلوس عن يمينه، وجاء كهول فأمرهم بالجلوس عن شماله، ودخل أحداث فوقفوا بين يديه ولم يأمرهم بالجلوس. فسألته عنهم، فقال: هؤلاء بنيّ، وأومأ إلى الشيوخ، وهؤلاء بنوهم وأومأ إلى الكهول، وهؤلاء بنوهم وأومأ إلى الأحداث.
قلت: بنوك لأم أو لأمهات شتى؟ قال جميعهم: شاجي.
وأنشد:
زرعت وشاجي بيننا في شبيبتي ... غراس الهوى فاعتم بالثمر العذب
فشاب بنو شاجي لظهري وأدركوا ... وشاب بنوهم وهي مالكة قلبي
قال: وهي معي مذ سبعون سنة.
وكان بعض المنجمين حكم بموته قبلها، فماتت قبله، فقال:
فيا عجبًا مني وممن رعيته ... بأوكد أسباب الهوى ورعاني
وكنت أرجي أن أكون فداءه ... فلما أتى وقت الحمام فداني
دير علقمة
دير علقمة بالجزيرة: وبالجزيرة دير علقمة، بناه علقمة بن عدي بن الرميك بن ثوب بن أسس بن ربى بن نمارة بن لخم، الذي يقول فيه عدي بن زيد العبادي يرثيه:
أنعم صباحًا علقم بن عدي ... أثويت اليوم أم ترحل
قد رحل الفتيان عيرهم ... واللحم بالغيطان لم ينشل
وفي هذا الدير أيضًا يقول عدي، وفيه غناء:
نادمت في الدير بني علقما ... عاطيتهم مشمولة عندما
كأن ريح المسك في كأسها ... إذا مزجناها بماء السما
من سره العيش ولذاته ... فليجعل الراح له سلما
علقم ما بالك لم تأتنا ... أما اشتهيت اليوم أن تنعما
وكان هذا الدير متنزهًا لأمراء الحيرة: يأكلون عنده، ويشربون.
دير فطرس ودير بولس
دير فطرس ودير بولس: بظاهر دمشق.
قال أبو الفرج: هذان الديران بظاهر دمشق بنواحي بني حنيفة في ناحية الغوطة، والموضع حسن، عجيب، كثير البساتين والأشجار والمياه.
قال جرير:
لما تذكرت بالديرين أرّقني ... صوت الدجاج وضرب بالنواقيس
فقلت للركب إذ جدَّ الرحيل بنا ... يا بعد يبرين من باب الفراديس!
وفيه يقول أيضًا يرثي ابنه:
أودى سوادة يبدي مقلتي لحم ... باز يصرصر فوق المرقب العالي
إلا تكن لك بالديرين باكية ... فرب باكية بالرمل معوال
قالوا: نصيبك من أجر فقلت لهم: ... كيف القرار وقد فارقت أشبالي؟
دير القائم الأقصى
دير القائم الأقصى على شاطئ الفرات من الجانب الغربي في طريق الرقة من بغداد.
قال أبو الفرج: وقد رأيته، وإنما قيل له القائم، لأن عنده مرقبًا عاليًا كان بين الروم والفرس يرقب عليه على طرف الحدّ بين المملكتين، شبه تل عقرقوف ببغداد، وإصبع خفان بظهر الكوفة، وعنده دير هو الآن خراب. دخلته وليس فيه أحد، ولا عليه سقف ولا باب.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال أخبرني عمي عبد الله بن مالك، عن أبيه قال: إسحاق الموصلي: خرجنا مع الرشيد إلى الرقة، فمررنا بالقائم الأقصى، فاستحسن الرشيد الموضع، وكان الوقت ربيعًا، وكانت تلك المروج مملؤة بالشقائق، وأصناف الزهر، فشرب على ذلك ثلاثة أيام. ودخلت الدير فطفته، فإذا فيه ديرانية حين نهد ثدياها، عليها مسوح، ما رأيت قط أحسن منها وجهًا وقدًّا واعتدالًا، وكأن تلك المسوح عليها حُليّ، فدعوت بنبيذ، فشربت على وجهها أقداحًا وقلت فيها:
بدير القائم الأقصى ... غزالٌ شادِنٌ أحوى
بَرى حُبي له جسمي ... ولا يدري بما ألقى
1 / 20