1 - ضوء الفجر
2 - لآلئ الأفكار
3 - أناشيد الصبا
4 - زهر الربيع
5 - الخطرات
6 - ديوان الأفنان
7 - ديوان أزهار الخريف
8 - قصائد أخرى
1 - ضوء الفجر
2 - لآلئ الأفكار
3 - أناشيد الصبا
4 - زهر الربيع
5 - الخطرات
6 - ديوان الأفنان
7 - ديوان أزهار الخريف
8 - قصائد أخرى
ديوان عبد الرحمن شكري
ديوان عبد الرحمن شكري
تأليف
عبد الرحمن شكري
الفصل الأول
ضوء الفجر
ألا يا طائر الفردو
س إن الشعر وجدان
من قصيدة «عصفور الجنة»
في الجزء الثالث لصاحب الديوان
كسرى والأسيرة (قصة)
يا فتاة الحي قومي فاسمعي
قصة تقتل أطماع الهوى
قصة ذات اعتبار آخذ
بصميم اللب يقريه الهدى
غضب الجبار كسرى غضبة
فنما من شره ما قد نما
غضبة ذات وعيد رائع
ترك العرب كأطيار العرا
ترك العرب على عزتها
تبتغي المنعة ما بين الربى
أرسل الغارة في ذي مرة
ينزع الغل بتقطير الدما
يفقد الطرف لديه لحظه
ويضل السيف فيه والقنا
رام أمرا لم يرمه غيره
رب باغ نال أطراف المنى
فرمى العرب بعزم ناقم
ذي اغتيال لم يمانعه حمى
فغزا من أرضهم ما قد غزا
وسبى من أهلهم ما قد سبى
إن في السبي لخودا علمت
سنة البدر ملاشاة الدجى
جال ماء الحسن في أعضائها
فإذا ناجيته مج الضحى •••
رأت الإيوان في أبهة
تطبي النفس لأوطار الهوى
لو بغير الطهر عين نظرت
لرأت ذاك مقاما للعلى
رام كسرى من هواها بغية
فحسا من حسنها حتى انتشى
وأذلت شهوة مقبوحة
منه حتى رام ما فوق الرضى
أكلت أحشاءه والجة
كولوج النار في عود الغضا
جاء كسرى شاهرا أطماعه
فنضا من حلمه ما قد نضا
سامها كل خسيس كارث
قاتل اللذات يزري بالنهى
ورماها بوعيد حاسر
شرس الإرهاب مجلوب الأذى
ساءه أن قد تأبت فأتت
نقمة في طي ذياك الإبا
فاحتمت عنها بصبر دارع
كاحتماء الحر عن ضيم عرا
إيه لله عفاف مخلص
لك ما سيم الخنى إلا أبى
ثم قالت قولة في أسرها
تبعث الغل وتهفو بالوغى «قيدوني، غللوني، ضربوا
ملمس العفة مني بالعصا»
فأتاها نبأ من قومها
أنهم عافوا لذاذات الكرى
أو تجول الحرب في ميدانها
كمجال الطيش في عهد الصبا
أو يكون السيف في أعدائهم
معملا يودي بهام وطلا
خطرات في المساء (مناجاة يوم مضى)
نحن نبكي كل ميت راحل
كيف لا نأسى على يوم مضى
أشباب لك مرجو الضحى
أم مشيب لك معذول المسا
أنت في حاليك كاس من بهاء
خالب الأنحاء محمود الروا
رحم أنت لما تأتي به
أم ضريح للذي مر بنا
يا حليف الحدث المقدور ما
فعل الحظ بمخلوف المنى
يا سليل الدهر كم من حادث
يجعل البائس محلول العزا
أنت مأواه فهل من عطفة
تدع الناقم مجلوب الرضى
قد عهدناك ملاذا من شقاء
وعهدناك ملاذا للشقا
تبعث الأحداث من مسكنها
بعثة الفارس أطراف القنا
تطلق الأحوال فينا مثلما
يطلق الساحر أقوال الرقى
عاشق المال (خداع الغواني)
نسمات الربيع تخفق كالعت
ب برفق فعل اللبيب الخبير
فهي تغدو ما بين غصن نضير
فاتن حسنه وغصن نضير
كالرسول الأديب بين محب
وحبيب أو كالحكيم السفير
يعقد الصلح في أناة كما يع
قد رب النهى قضاء الأمور
وضياء الشمس المنيرة كالبش
ر إذا ما احتواه وجه البشير
والندى عاشق يدل عليه ال
ورد إدلال فاتنات الثغور
وهناك الطير المغرد كالشا
عر يتلو حمد الزمان النضير
نغمات لم يحوها المطرب البا
رع إلا دعوى نفاق وزور
هي برد على القلوب وعقد
للأماني ومدخل للسرور
تستميل الأغصان بالنغم العذ
ب فتهتز هزة المخمور
لك شأو لم تلتمسه مياه
ما أعدت سوى غناء الخرير
منظر يجعل المهذب يبغي
لب ذاك الأمر الجليل الستير
منظر يبعث الشجون ويحبو
فاتنات المنى ببرد نضير •••
وأتت تخطر المعشقة الحس
ناء تزهى بوجهها المستنير
بقوام ينقد من دونه القل
ب وطرف يسطو بحسن الفتور
خلفها العاشق المتيم يمشي
مشية الظافر الأمير الخطير
هو يتلو آيات حب كريح ال
زهر في طيبه ونشر العبير
وهي ملذوذة به كتملي
ذي عناء للظل وقت الهجير
كلمات كأنها الحلم العذ
ب وود يحكي صفاء الطهور
ومواثيق جمة تدع الحر
على حكمها قرين الأسير
لم تذر للفتاة ما يبعث الشك
ويزري بعهده في الضمير
بينما كان جاثيا يرسل البث
بشجو يلين صم الصخور
جاءت الخادم العجوز لأمر
مستجد من طارقات الأمور
أرسلت دمعها الغزير وقالت
أنشب اليأس ظفره في الأمير
أكل الدهر ماله وقواه
فغدا حظه كحظ الفقير
وحليف القمار يدركه الذل
ولو كان في ذمام القصور
أثقل الدين ظهره وعدا الده
ر عليه بقسمة المقمور
فغدا يائسا تكاءده الهم
ببال جو وجد عثور
ثم أهوى إلى الحسام وكان ال
موت منه بموعد مقدور
فاندبي حظك الضيئل وعيشي
بعد هذا عيش الذليل الحقير! •••
من معيني على الحياة وقد ما
ت معيني وراح عني نصيري
حين لم يبق لي سوى الأمل المر
وذكر رث وحظ نزور
جزع القلب يوم مات وما القل
ب على كل نكبة بصبور
هكذا قالت الفتاة ومالت
في التجاء إلى الحبيب الظهير
فرماها بنظرة لو رمي اللي
ث بها لاغتدى بقلب كسير
نظرة ملؤها الخيانة والحق
د تصيب الأحشاء قبل الصدور
نظرة تبعث الغضاضة في النف
س وتصمي بمثل وقع الذكور
ثم قال اذهبي فقد ذهب الما
ل جميعا بأنتي وزفيري
فات عمر الخداع وانكشف الغي
هب مني عن الرجاء القصير
كنت أهواك حين مجدك عال
يأسر الدهر بالدرور المطير
كنت أهواك حين جاهك عذب
وذراك الأغر غير حقير
كنت أهواك حين أنت من الإق
بال والعز بالمكان الأثير
كنت أهواك والزمان مؤاتي
ك وريب الزمان غير مغير
فإذا شئت فالفراق قريب
غير مبك ولا مهيب قدير
قال ما قال ثم مال إلى البا
ب كميل الظمآن نحو الغدير!
هكذا تخدع الرجال الغواني
والغواني قنيصة للغرور
باحتيال أدق من خدع الده
ر وزي غض ودمع غزير!
حنين الغريب عند غروب الشمس
أيهذا الغريب ذو البلد النا
زح ماذا دهاك عند الغروب؟
قد عهدناك مستكينا لريب ال
دهر مستلئما بعزم صليب
وعهدناك لست تعرف ما الحب
ولا لوعة الفؤاد الطروب
وعهدناك ليس يكرثك الضي
م ولا سطوة الزمان العصيب
وعهدناك خاشعا مستقادا
ذاكرا نعمة الأغر النجيب
وعهدناك إن زللت فأدلي
ت بعذر سللت غل القطوب
وعهدناك لا حسودا ولا غرا
طموحا إلى المكان الخصيب
وعهدناك لا بكيا قطوعا
لرجاء المستصرخ المستثيب
أنت واسيتنا وقد أجلب الده
ر علينا بالمستذل الجديب
أنت علمتنا الرجاء بأن كن
ت غريبا مباسلا للخطوب
فسقى الله غربة ألحقتنا
برجاء عذب وصبر لبيب
أنت أعطيتنا الطلاقة والبش
ر وأرفدتنا برأي مصيب
فخليق بنا وقد ظهرت في
وجهك السمح ظلمة التقطيب
أن نفديك بالنفوس اللواتي
هن من جودك الغزير الصبيب •••
أيها النافشون في قلبه الحز
ن ولا تعلمون داء القلوب
قد ذكرتم حالا يروح لها مش
تملا بالشقاء والتعذيب
إنما العز أن يكون بأرض
أنبتت نبع شمله المشعوب
حيث لا يعرف المداراة والضي
م وذل السؤال والتثريب
ما به قلة الولاء ولكن
وده أن يكون غير غريب •••
مستعير من السماء شعار ال
حزن أم مرتد بعيش الأديب
فأخوك الأديب في الأهل والدا
ر له عيشة الغريب الكئيب
ليس في ثوبه سوى طلل با
ل وداء صعب وجرح رغيب
ليس في وجهه من البشر إلا
مدمع مشرق كلمع الضريب
ليس في قلبه سوى الحب والحز
ن وغيظ على الزمان المريب
فاندب النادبات والمرأة الحم
قاء ممن يعددن شق الجيوب
فتنتنا الحسناء بالزبرج المح
ض وغابت في مستقر غريب
أضمر الغرب وجهها فقنعنا
بذؤاباتها قنوع السليب
منظر يبعث الشجون ويحبو
فاتنات المنى ببرد قشيب
مستمد من الجلال جلال
الله والمظهر العظيم المهيب
أذكرتني العيش اللذيذ الذى فا
ت بغصن كاس وعود رطيب
ثم لم يبق لي سوى الذكر الغر
فسحقا لصرفه من غصوب
يا حنينا إلى الحبيب ترفق
بفؤاد أجهدته بالوجيب
يا حنينا إلى الأغر الذى كا
ن خبيرا طبا بداء القلوب
هل يطيب الزمان والأمل المع
سول ناء والصبر غير قريب!
حمام الكازينو بالإسكندرية
ماذا دهى القلب من ال
أشجان يوم الأحد
حيث الغواني فتنة
آخذة بالجلد
حالية كأنها
آتية عن موعد
خاطرة في مهل
كمشية المقيد
تهتز في مشيتها
كهزة المسود
باسمة ضاحكة
كالبلبل المغرد
خصورها خافية
كأنها لم توجد
ضعيفة ناحلة
كالزاهد المقتصد
ثيابها خافقة
كالنفس المردد
والبحر لا تحده
إلا بطول الأبد
كأنه ذو دولة
مكلل بالزبد
كأنه ذو مهجة
موسومة بالحسد
أمواجه سائرة
كالمثل المطرد
مياهه ممتدة
مثل امتداد الأمد
منبسط منقبض
كالعاذل المفند
ظلالها واقعة
في مائه المرتعد
كأنما أطرافها
دراهم المنتقد
عابثة بمائه
مائلة على اليد
كأنما أعضاؤها
مخلوقة من غيد
فقدها معتدل
مقوم من أود
وخصرها مختبئ
في قدها المنعقد
وشعرها منتثر
كالذهب المبدد!
الحب نائم ويقظان
نبئت أن الحور جئن حديقة
بكرا كحاشية الرداء الأجدد
حيث الندى فتق الزهور بحيلة
أزرت بوقع الصارم المتعمد
والطير مفتون بحسن بيانه
فمغرد يشجو وغير مغرد
والأرض كالحسناء يوم زفافها
رود النواحي بالمحاسن ترتدي
حيث الهوى وهو العظيم قضاؤه
شرك الأبي وعقلة المتعبد
أرخى لواحظه وأطبق جفنه
فعل اللبيب القانص المترصد
فأمن منه صولة عربية
تدع العزيز من الفناء بموعد
يحسبن ذاك وما أمن وإنما
هي حيلة ذهبت بحزم الأرشد
فمشى إليهن الهوى بترقب
مشي الشجاعة في فؤاد القعدد
فعثرن في أذيالهن تخوفا
منه وسوين المطارف باليد
وعدون عدوة خائف متظالع
إن لم يكن متزايلا فكأن قد •••
فكأنهن أزاهر منثورة
نثر المبشر غرة الخبر الندي
وكأنهن صوادفا وشواردا
حبات عقد اللؤلؤ المتبدد
وكأنهن نسائم الصيف التي
تحيى رجاء العاشق المتنهد
وكأنهن كواكب السعد التي
سكنت فؤاد الحندس المتجسد
وكأنهن عزائم النحس الذي
لعب القضاء بسعيه المتجدد •••
إلا فتاة علها ماء الصبا
فتمهلت كبرا بحسن تأود
أأخاف هذا الحب في يقظاته
وأنا التي لعبت بلب الأصيد
وأنا التي شقي السعيد بهجرها
وقضى الجليد بدلها المتوعد؟ •••
قال الغرام ورب قولة ناصح
أبدت لها وجه السبيل الأقصد
يا رب غانية طرقت فناءها
فوصمتها بضراعة المستعبد
كانت تظن فؤادها متأبيا
عني ولم تعلم بسهمي المقصد
فتركتها والنار بين ضلوعها
تدعو علي بلهفة وتلدد
أحسبت أن الحسن يأنف أن يرى
بحنين مفتون وجفن مسهد
مناجاة الحبيب
لو أن أشجان الفؤاد تطيعني
لنظمتها لك في القريض نسيبا
أو ما علمت بأنني لك عاشق
أفنى الزمان صبابة ونحيبا
يا بؤس من سكنت إليك لحاظه
أن كنت أنت على المحب رقيبا
أرنو إليك فتحتويني هيبة
فأرد طرفي خاشعا مغلوبا
ما حيلة الطرف الذليل إذا كبا
أن كان شخصك في الفؤاد مهيبا
يا نظرة تهدي الشجون وتنتضي
سيفا من الطرف الكحيل مصيبا
ويعيذك القلب الذي عانى القلى
من أن تكون على الجفاء معيبا
وإذا وضعتك في الجفون صيانة
أذرت عليك لدى البكاء صبيبا
وإذا رغبت لك الضلوع فإنني
أخشى عليك لهيبها المشبوبا
وإذا وضعتك في الفؤاد فإنني
أخشى عليك من الفؤاد وجيبا
إن كنت تأبى أنني بك هائم
فاردد إلي فؤادي المسلوبا
أو كنت تبعد بالوصال مضنة
فابعث إلي خيالك المحجوبا
هل بعد أن أفنى الغرام حشاشتي
يأبى دلالك أن تكون طبيبا؟
حب كماء المزن حين وقوعه
فوق الزهور مرقرقا مسكوبا
يا ليت حظي منك أني نفحة
تسعى إليك مع النسيم هبوبا
وأود لو ركد النسيم وقد رمى
بي دون قيد الرمح منك قريبا
فأكون منك بحيث يطمع عاشق
لا أتقي هجرا ولا تأنيبا
لو ذاق طعم الحب كل مؤنب
قلبي لصار العاذلون قلوبا
هل نافعي أني أكتم لوعتي
عمن يظل بما أسر لعوبا؟
عجبا لطرفي يستريح إلى البكا
من بعد ما كان البكاء غريبا
ما أخلق الدنف المشوق بسلوة
إن كان لا يرجو المحب حبيبا
شكوى الزمان
كفى حزنا أن التطلب بالصبر
وأن مآقي العين أدمعها تجري
لقد لفظتني رحمة الله يافعا
فصرت كأني في الثمانين من عمري
رضيت بهذا العيش بعد أبوة
لأبلغ شأوا أو أغيب في قبري
وحاول مني الهم صبرا فلم أزل
أدافعه حتى أبحت له صدري
وإني لأدري أن في الموت راحة
وأجنبه حتى كأني لا أدري
ولولا تقى لا يملك اليأس صرفه
لأوردني يأسي على المسلك الوعر
فما أسرع الأحداث إن قلت أبطئي
وما أبطأ الآمال إن سمتها نصرى
فإن كان ذنبي من تناقض خطتي
فعذري إلى الأيام أن ضاق بي عذري
ورب ليال بت أدحو ظلامها
بطرفي وذيل الليل يعثر بالفجر
وزاولت صرف الدهر حتى عرفته
فسيان ما لاقيت في العسر واليسر
دعاني إليه الفضل لما دعوته
فما زال بي حتى التقينا على قدر
فما ساءني ما بت أخفيه جاهدا
ولا سرني ما يعلم الناس من أمري
هل العيش إلا أن تنال بعزمة
مقاما كأن النجم من تحته يسري
فما العزم إلا ما يبلغك المنى
وما العجز إلا أن تنهنه بالزجر
إذا كنت ذا عسر فكن ذا قناعة
فإن احتمال العسر يذهب بالعسر
شكوى الصديق
ومطلب بالعتب هجري لم أزل
أداريه حتى عارضته مذاهبه
يعالج مني باسم الثغر راضيا
وأخبر غرا أنكرته معايبه
أجود بنفسي في هواه سماحة
ويبخل بالنذر الذي أنا طالبه
وما كل أمر تستقيم صدوره
لمن لم يرضه تستقيم عواقبه
لقد سامني أن أقبل الذل ضلة
هل الغبن إلا ما تقل مطالبه
ووكل بي الأعراض حتى ألفته
وما كل صافي الوجه تصفو مشاربه
سأندب عهدا كنت فيه بغبطة
وهل يرجع العهد الذي أنا نادبه
وليل كأغضاء الحليم درعته
لأقضي أو تنجاب عني غياهبه
وصلت به الأوهام حتى كأنما
يراقبها في مكثها وتراقبه
تحية للشمس عند شروقها
أشرقي يا طلعة الشم
س علينا وأنيري
أنت للغرس حياة
وحلى الروض النضير
كيف لا ترتاح نفس
للبهاء المستنير
ما رأى ضوءك غر
بسوى الطرف الحسير
غازلي الغصن برفق
وامسحى وجه الغدير
وسلي الغيد ابتساما
من أقاحي الثغور
واذممي وجه مريب
واحمدي وجه بشير
وسلي المقلة أن تش
رق بالدمع الغزير
إن في الدمع إذا استغ
زر إعلان السرور
وتمشي في فضاء
الله مشي المستغير
مشية الحر المرجي
لعظيمات الأمور •••
وابعثي أبناءك الغر
إلى بيت العليل
سهر الليل ولا مس
عد في الليل الطويل
نظرة منك إليه
خلست بشر الرسول
نظرة غراء تودي
بجوى الداء الدخيل
وكأن الليل لما
خانه وقت الرحيل
ضامن قلب محب
راعه قول عذول •••
وكأن الشمس تجلى
في خمار من لهيب
أقبلت في الأفق تسعى
مثل إقبال الحبيب
منظر يفعل فعل ال
عود بالقلب الطروب
غير أن الليل أدرى
بأحاديث القلوب
شملة العاشق والسا
رق والعادي المهيب
لبس الأفق ضياء
بدل الجنح المريب
وشباب المرء لا يع
قبه غير المشيب
الحب والليل
عمي الدجى عن مطلع الفجر
في ليلة كسريرة الدهر
ولع البكاء بناظري كما
ولع الندى ببدائع الزهر
والروض ممتنع الرقاد وقد
نمت عليه مواقع القطر
والليل مشقوق الجيوب وقد
باح السحاب بطلعة البدر
والطرف بالإفشاء متهم
والقلب مؤتمن على السر
وأكاد أن لا أستقر جوى
فكأنما خلس الدجى صبري
وأملت أن أجد الوسيلة لي
عند الصبا فمنيت بالهجر
لا تلح مشتاقا على شجن
إن الشباب مطية العذر
والسعي رزق والهوى أمل
والهجر يأكل جدة العمر
والحب إن دب السلو به
فكما يدب الشر في الخير
والصفو قد يفضي إلى كدر
واليسر قد يفضي إلى عسر
من ناوشت نظراته حسنا
فقد استثار الموت بالسحر
النغمات
إذا ترنم والآذان ظامئة
خلنا الروي على آذاننا اندفقا
لج من النغمات الغر يحمدها
إن النفوس تعاني بينها الغرقا
لو صورت فأقامت غير خافية
كانت أجل الذي يستعبد الحدقا
كأن شيئا من الحب الذي غريت
به الخليقة في أثنائها انبثقا •••
إذا ابتداها عظيم في مهارته
حسبت كل ضجيج لج في الخرس
تظل تفعل بالأحزان ما فعلت
أشعة القمر الوضاح بالغلس
تذوب فيها هموم النفس خافية
كما يذوب الندى في موقع النفس
ينزو الهيام بقلبي حين أسمعها
لعب الرياح بثوب البائس التعس
كعصفها حين لجت في تأوبها
كلجة البحر تطفي شعلة القبس
تثير من نزعات القلب مرحمة
ترد عادية المستأسد الشرس
وتبعث الذكر العهد الذي ضمنت
فتودع القلب وجدا غير ملتبس •••
كأنها ذات حول ليس يعجزها
إحياء منعفر في القبر منفرد
كأنها شاعر جادت مخيلته ال
غراء بالكلم المسعود بالسدد
لا شيء من حسن الألحان يفضلها
إلا الخرير وصوت الطائر الغرد
وأنة النسمة المعطار جاذبة
جيد الغصون بجبل ليس من مسد
الفونوغراف
هل علم الغريد في وكره
شأن الذي خفض من قدره؟
وهل درى المطرب ماذا الذي
يستحضر الملحود من قبره؟
يا عجبا من ناطق أبكم
تأتلف الألحان في صدره
يستخرج اللحن بمسنونة
تزيل ذاك اللبس عن أمره
تخط في أعطافه أحرفا
كأنها تبحث عن سره
يروي أحاديث أناس مضوا
كأنها مرت على فكره
حديقة
فيحاء زان شبابها
لون الربيع الأزهر
حيث الفرائد جمة
تزهو بأروع منظر
من كل محسود البها
ء مكلل ومنور
والورد يقطر بالندى
كالعاشق المستعبر
والنهر يرفل عندها
في ثوبه المتكسر
فكأنه وكأنها
أحوى استكن بمئزر
تجلى بصفحة مائه
صور الربيع الأخضر
فكأن فوق الماء ما
صنعته كف مصور
وكأن صورة درهم
سكنت بخاطر معسر
وكأن طلعة فاتن
أخذت بلب محير
تتردد الأطيار فو
ق غصونها بتخطر
كتردد الآمال في
خلد الطموح الممتري
مرح الطيور أجل من
مرح الخليع الموسر
هذا يدب به الشقا
ء وذاك غير مكدر
مغالبة الهوى
هل قلدوك مدامع الآماق
أم ضمنوك مصارع العشاق!
يا فتنة أخذت علي مذاهبي
وسطت بنقمة هجرة وفراق
إن كنت لا تخشين صولة ظالم
مر الوقيعة صادق الإبراق
فدعي مغالبة الضعيف وناجزي
ذل الهوى وصبابة المشتاق
مطال الهوى
حاذر الطيف أن يلم فيشفي
باتصال الرقاد نضوا صريعا
أودع القلب حبه زفرات
سجرته حتى استحال دموعا
أيها العاذلون قد وضع الحب
على مسمعي حجابا منوعا
قد تبعت الهوى إلى آخر المط
ل فما اسطعت بعد ذاك نزوعا
وتخوفت أن يدب به الخل
ف فطالبت بالوفاء تبوعا
ما يضير الذي يعللني بال
مطل أن أجعل البكاء شفيعا
طالما قد ذممت مطلك قبل ال
خلف حتى فقدت منه صنيعا
وتنبهت حين أعلنت الأق
دار بؤسي ونازعتني الهجوعا
نظرة
نظرت إلي بعين مختبر
جمع الدلال وحيرة الساهي
يا نظرة في طيها نعم
فكأنها من رحمة الله
في سبيل الجامعة
برأي سديد واعتزام مصمم
يقوم ميل الحادث المتجهم
فلا قول يغني عنك غير مؤيد
بفعل حميد الوقع غير مذمم
ألا عصبة غراء يصدق سعيها
تنادي لأمر مدبر غير مبرم
ألا قائل أو باذل أو مؤازر
برأي يقوي عزمة المتبرم
فنبصر إما أسعدت عزماتهم
محاسن تزري بالجمان المنظم
هنالك آمال كأن بطونها
تفتح عن عيش رقيق منعم
فيا حسن ذكر للذين تملكوا
لباب الغنى فاستمسكوا بالتكرم
أيدعى غني القوم سيد قومه
إذا غاب عنه فضل فعل معظم
إذا لم يكن طبع فجودوا تطبعا
فرب جميل جاء من متندم
وأنتم عماد للبلاد مشيد
فلا تتركوها كالبناء المهدم
ألم يكفكم فخرا وعزا وسؤددا
رجاء محلى بالثناء المفخم
فجودوا فقد جاد البهاليل قبلكم
وحظهم الموفور غير المئلم
وإن شنيع العار أعظم سبة
من الفقر إما عادكم من توهم
إذا لم تناصركم حمية ماجد
فيا ضيعة الآمال في الزمن العمي!
مصري عربي يخاطب أخاه القبطي
بني البهاليل من علياء شاهقة
ومحتد الصيد لا تمشي له الريب
إذا تناءى بكم عن مجدنا نسب
فأنتم في مراقي مجدكم عرب
إن التآلف لم يترك لنا نسبا
يلوي بكم دوننا من دونه نسب
أما وقومي، وقومي خير ما حلف
إذا حلفت تدانى المجد والحسب
إذا الأواصر لم تجعل لنا سببا
فحرمة الود فيما بيننا سبب
إذا هفوتم رميناكم بمعتبة
فإن هفونا فلا يملككم الغضب
يدان إن تقطعونا تقطعوا يدكم
كذاك نحن لنا في عزكم أرب
إني على شغفي بالأهل يطربني
أني إليكم إذا فاخرت أنتسب
فإن فخرت فبالصيد الأولى أسروا
حوادث الدهر لم يخذلهم الغلب
كانت لكم دولة غراء ثابتة
في مرتقى العز تبغي شأوها الشهب
كنتم تطلون فوق النجم من أنف
حتى تركتم سهيلا قلبه يجب
ضرر اليأس
أخذ القنوط عليك كل وسيلة
من حيث لم يترك لرأيك منزلا
واليأس إن يعرض لعزمة عازم
بلغ الصميم وحال من أن يعملا
لولا مزاولة التجهم ما رأت
هذي الرذيلة في فؤادك مدخلا
فإذا نهجت من التفكر منهجا
فاجعل فؤادك للطلاقة موئلا
كم طالب وجد التجهم مغنما
حتى ثناه اليأس عن طلب العلا
ذكرى
محب حماه الهجر أن يتصبرا
ومن حاجة المهجور أن يتذكرا
وفي الذكر الغر التذاذ بما مضى
ورجعة عيش جل عن أن يكدرا
ذكرت به ليلا كأن نجومه
ثقوب نرى منها الصباح المسترا
يبيت الندى فوق الزهور مرقرقا
كما انبعث الطل الرقيق ليقطرا
وفي ساعدي ريان من نهلة الصبا
كما فتح الشؤبوب زهرا منورا
يبيت يناجيني بسحر لحاظه
ويسمعني ذاك الحديث المغررا
فما إن طلبت الوصل إلا تحرجا
وما إن شكوت الهجر إلا تحسرا
وألتمس العذر الخفي لصده
ولست أريد العذر إلا تعذرا
فأغضيت عن بعض الذي كان في الهوى
وما عشق الفتان إلا ليعذرا
أعمى يرثي بصره
قال الرغيب المواسي لا تكن جزعا
ففتنة العين داء غير مأمون
وفي الظلام عبارات منمقة
تكن في لبها ما ليس بالدون
لو أن كل فتون مثل ما زعموا
وددت أن لنفسي حال مفتون
إذا سمعت حبيبا ليس في نظري
علمت أني بين العز والهون
كان الأمين المرجى يوم كارثة
فأصبح الدهر فيه غير مأمون
أبكي عليه بعين كان يعمرها
كأنها نحر دامي النحر مطعون
لي بعد فقدك سمع كله حذر
يظل يسعدني من حيث يعييني
البخيل
يرعى البخيل ماله لولده
يحرسه في نومه وسهده
يلصقه في نومه بخده
كأنه يحسبه من جلده
يجمعه بكده أو جده
كأنه يجمعه لعده
وبخله داعية لفقده
فعيشه مستعبد لزهده
مجدبه مستجلب من رغده
إن البخيل معدم في سعده
كأنما يطلبه برده
ألومه في التجني
ألومه في التجني ثم أعذره
والدمع يفصح عما كنت أستره
يبيت ممتلئ الأجفان من وسن
منعما وحليف الليل يسهره
يا ليته كان يدري كيف يحرمني
أو ليتني كنت أدري كيف أهجره
لكل صب شفيع من صبابته
ودمعه، وشفيع الحسن منظره
إذا نظرت إليه حرت من وله
يا ليت قلبي يقسو حين أنظره
أبيت أعذل قلبي في محبته
والعين في عبرات الدمع تحدره
فهل تعاون قلبي في حوائجه
يا أيها الأمل الممنوع مصدره
بالله يا نسمات الريح سائرة
نحو الحبيب الذى قد طاب عنصره
استودعيه سلاما كله شجن
من المحب الذي قد مات أكثره!
الخمول
كم وردة ليس لها ناشق
يحفها الروض بواد سحيق
تنبت في زهر كريم الثرى
مستوثق الأصل عزيز العروق
طيبة النكهة لم تبتذل
يخلس رياها النسيم الرقيق
كللها القطر وماء الندى
بلؤلؤ من دمعه ذي بريق
وجدول ينساب بين الربى
يحسبه الذائق كأس الرحيق
وبلبل يعرب عن شجوه
من حيث لا يأخذ سمع المشوق
وخامل والفضل من حظه
قد أحرجوه بالأذى والعقوق
اليسر بعد العسر
إن الشتاء إذا تطاول أمره
دخل الربيع بطيبه وروائه
والليل إما لج في غلوائه
جاء الصباح بضوئه وبهائه
والسحب إما أسقمت وجه السما
برز الهلال يزينها بضيائه
وكذا الشقاء إذا تمادى عهده
جاء النعيم يذل من غلوائه
حسناء ماتت في صباها
أي مهد أهدى المنون إليها
واستعار الربيع من وجنتيها
وهي حسناء مثل لؤلؤة الحا
لي إذا قامت اللحاظ عليها
وسقاها ماء الحياء مريئا
واستبد الفتون في مقلتيها
عظة تبعث الشجون وتجلي
خادعات الصروف في حالتيها
عتاب وأعتاب
ألا مبلغ عني الصديق رسالة
ودون التراضي معتب وغضوب
حمدتك لا أني أردت مثوبة
على الحمد لكن كي يقال مصيب
لقد أعلمتك الحادثات مكانها
فصار على المقدار منك رقيب
وما كنت إلا الدهر في حال سلمه
سوى أنه في الحالتين مريب
وما أخذتك النفس إلا فضائلا
كأنك معنى في الضمير عجيب
أظل ولم أكحل بمرآك ناظري
كأني بين الأقربين غريب
المشنوق
ضاقت الأرض عن مآثمه فاع
تاض عنها برقة الملحود
حملته على الرياح وأعلت
ه عن الناس زاجرا بالوعيد
يعظ الناس بالممات كأن ال
رشد مستجلب من التبعيد
جمعت حوله الورى فله حا
ل حسود ووقفة المحسود
وأقالته من مآثمه فر
قة عيش معجل التنكيد
منظر ما أقام بالعين إلا
راعها بالبكاء والتسهيد
وله في النفوس وقع أليم
ينزع الغل من فؤاد الحقود
ذاك من مله الشقاء وكل ال
بؤس منه فصار صنو الشريد
كان في عيشه من الخبث كالأج
رب يغدو في أهله كالوحيد
رب صحو من سكرة، ورخاء
من عناء، ويقظة في رقود
حسناء تغني
رب لحن كأنه المنظر الغض
يبث الآمال والأوطارا
وغناء عذب يدب إلى حي
ث الأماني فيخرج الأسرارا
وفم لا يكاد ينطق من دق
ته بالغناء إلا اضطرارا
وكأن السكون أصغى إليها
فأفاضت على السكون وقارا
نصيبي من الحياة
هل ألوم المنى وهن ثقاتي
وأسيغ الأسى بغير شكاة؟
يا غريم البكا رويدك لا تم
حى دواعي الهموم بالعبرات
إن يكن حظك القليل فهل تق
ضي عليه بهذه الحسرات
إن عشرين حجة تركتني
لا أرجى سوى الذي هو آت
إن من أخطأ الرجاء يرى الده
ر بعين تقذى بغير قذاة
من دهاه الشقاء في يقظة الده
ر جزاه النعيم في الغفلات
كل يوم يفنى من المرء شيء
ما سمعناه عليه صوت النعاة
كيف أثني على الزمان إذا كا
ن ارتقاب الآمال من عزماتي
إن تراخى الرجاء عني قليلا
فوداعا لما بقى من حياتي
يا لهذي الحياة من لأناس
يدفعون الحقوق بالشبهات
فأناس تسرهم سيئاتي
وأناس تسوءهم حسناتي!
الصغير والكبير
رأيت الكبير ضئيل الطماح
يتبع خاطره ما تولى
وفي الذكر الغر ذخر جليل
لمن جعلته العوادي مقلا
وإن الصغير أبي الطماح
يرجي من الغد عزا ونبلا
وفي الحق إن غني الأماني
يعجز أن يتبع القول فعلا
وفي السعي شيء يعوق الطموح
فيخطي الأجل ويصمي الأفلا
الطموح
بكاء العين علمها السهادا
وهم النفس جشمها الجلادا
وبي ظمأ لو ان الماء ري
له ما بت أفتقد الرقادا
ولو أن الظلام بقدر ما بي
لما عرف الصباح له نفادا
وقد كان الزمان إذا رماني
تطرقني فعلمني السدادا
وناشتني الهموم ولم أرعها
كأن لها على حلمي اعتمادا
أهم إلى العلا وتعاف نفسي
لغير قلى مخافة أن تكادا
وروضها طموحي للتمني
فصيرت الطلاب لها اعتقادا
وزاولت السباق بها فلما
سبقت البرق جاريت المرادا
بلغت بها المدى فلو استزادت
علوا ما وجدت المستزادا
رثاء مصطفى كامل
نفد العمر على طول الليالي
واستباح الموت ذكرا غير بالي
ومجال الدهر في أحواله
ألحق التالين منا بالأوالي
يا ضلوعا دونها حر الجوى
أصبح السلوان بعد الدمع غالي
فاجزعي يا نفس أو لا تجزعي
ما بقاء المرء إلا للزوال
وانقعي الحزن بآماقي إذا
وجد الظمآن ريا عند آل
قد يفيد الحزن في مرزئة
لو يعود المرء بعد الإنتقال
وإذا المقدار لم ينج امرأ
جزع الدرع على ذكر النصال
قد مضى من كان فينا رحمة
لليتامى واعتصاما للعيال
ولقد عاش على غير قلى
فرماه الدهر بالداء العضال
باشر الآمال مبذول اللهى
واستقاد الدهر محمود الجلال
ولقد دك المعالي أنه
فارق الأحوال مفقود المثال
أوحش الموت به أنفسنا
والمنى دانية والمجد عالي
وهب الدهر نفيسا للعلا
واستباح الرد ضنا بالنوال
ولئن أودى فقد أبقى لنا
سيرا في مجده غير بوالي
إنما العيش طريق للردى
وخلود المرء في حسن الفعال
موقف
وليلة كشعار الحزن داجية
لا أستعيذ بها إلا من الأرق
جاءت بأغيد يفري الليل عن وضح
من وجهه كطلوع البدر في الغسق
فبت أودعه النجوى وقد فعلت
بي الصبابة فعل النوم بالحدق
ينأى به الدل عني ثم تعطفه
نحوي الدموع فعطفيه على قلق
وبات أدنى من الأشواق يحرسه
أن لا ألذ سوى مرأى ومعتنق
يد على القلب تستجدي الهوى ويد
على الجفون تصادي عادي الغرق
يقول - والحر في الأنفاس يؤلمه:
ما بال قلبك مطويا على حرق؟
التأليف
أبني أبينا والأمور ضعيفة
أسبابها أن تقطعوا اليد باليد
إن الثريا لو تسر نجومها
غير الوفاق غدت بشمل مشرد
والفرقدين إذا تخلى عنهما
ود تناءى فرقد عن فرقد
هل سركم يوم اللجاجة أننا
ندني على الأحقاد عادية الغد؟
كنا وكنتم في الصميم من العلا
لولا مداهنة الزمان الأنكد
لولا اللجاجة والمراء وعصبة
رصدت لكل محزب وموحد
ومن البلية أن نكون وجمعنا
متقسم والشامتون بمرصد
يا ابن الفراعنة الألى ورثوا العلى
إرث الأماجد سيدا عن سيد
قم نرجع الفضل الصريح ودولة
يمشي عليها الدهر مشي مقيد
هذا مقالي شبته بنصيحة
فتلق فيه رقة المتودد
الشاعر وحبيبته
دعيني وحظي لست أهلا لأن ترى
حبيبة مشبوب الفؤاد معذب
إذا ما رأيت البشر يملأ صفحتي
ضياء فآمالى خديعة خلب
وما بعث الله الأديب ليمتطي
على سروات العز أطيب مركب
تريه مكان الهم عين بصيرة
فيحويه منه كالخباء المطنب
يفر الرجاء العذب من خطراته
فرار الصحيح الجسم من لمس أجرب
مهيجة أشجانه لا يمسها
سوى كل فوار الصبابة أغلب
فهن كأعضاء اللديع إذا دنت
لشيء تأذت من حكاك المقرب
ليلة من ليالى الحب
يا رب ليل بت في جنحه
أستنصر البدر على نده
فزارني زورة ذي رقبة
يرى التداني منتهى جده
فرحت أحكي الدهر في سلمه
وراح يحكي السيف في جهده
وانتزع الرقة من قلبه
وأسكن الرقة في قده
ثم ائتلفنا عند حكم الهوى
مثل ائتلاف الدر في عقده
عين اليقظة وعين الحلم
ما لعيني دمعها قد نفدا
ولجنبي لا يمس المرقدا
آفة العاشق من حيث يرى
كشقاء من نعيم وردا
بعثت عيني منها نظرة
قربتني منه حتى بعدا
قد عرفت الصبر حتى راعني
بالتنائي فعرفت الكمدا
إن عيني - ولها الحمد - لقد
أنجزت بالنوم ما قد وعدا
فأسلي الهم عني بالمنى
ويبيح العتب منه موعدا
قد أحل اليأس قلبي أنني
قد سجرت الشوق حتى خمدا
إنما الآمال أزكى متجر
لا تخف من حبسها أن تكسدا
النصيحة
ورب خليل لا أجود بوده
أراه على العلات وهو حميد
أناصحه جهدي فيحسب أنني
أريد به شرا ولست أريد
فصرت أداريه وإني لمشفق
إذا ما طويت الرأي وهو سديد
مخافة أن يقضي الأمور بضدها
فيدركه من دونهن قعود
إذا اعترضتك الحادثات فلا تكن
عيوفا لما يلقى عليك مريد
فإن التماس الحق ليس بعائب
مجدا إذا عاب العنيد جحود
الحزم والحدثان
أهاب بحزمي طارق الحدثان
ولم يبق مني الدهر غير لساني
فلو حاولت مني الخطوب استكانة
لباشرتها مستلئما ببياني
ولو أوطأتني الحادثات مهانة
أبى لي طبعي أن تكون مكاني
ولكن مثلي ليس تكبو به المنى
ولو كان في أيدي الخطوب عناني
عتاب ومحبة
أيمنعني الأعتاب أنك جارم
فتنسب لي الهجران وهو توهم
وإني ضنين أن تمسك وحشة
إذا ما دنا من مسمعيك الملوم
فما أنا بالراجي عن الحب نبوة
ولا أنا بالمسطيع صبرا فأكتم
ولكن إذا ما الداء دب بمعصم
فأوشك بأن لا يحمل الكف معصم
وما كنت أدري قبل هجرك ما الهوى
ولكن من يبل الأحبة يعلم
وما أنكر العتب الذي يبعث الرضى
فإن كان في لا شيء فهو تبرم
ولست أبيح السر للجفن ضلة
ولكنه بين الضلوع مكتم
آمال النفس
ما لي أراقب نفسي في تمنيها
وحالة اليأس ترضيني وأرضيها
نزهتها عن رجاء لست آمنه
حتى كأني بالتنزيه أغنيها
إن الحياة إذا ما شابها ضرع
عادت كأن المنايا في حواشيها
لو أن لي حيلة في الذل أجنبها
خوفا فلا بلغت نفسي أمانيها
أيحسب القوم أن أرضى بمنزلة
العجز أولها والذل ثانيها
سأرقب النجح والآمال داجية
حتى يجاب إلى العلياء داعيها
إن الحمية لو دبت إلى رمم
ريعت قلوب الأعادي من عواديها
ولو سرت بوضيع صار ذا شرف
حتى كأن المعالي من معانيها
ولو سرت بأسير عاده جلد
كأنما أسره أغرى به تيها
إن اللئيم يريك الحزم مهلكة
ويخلط النصح بالتضليل تمويها
وحالة العجز لا تبقى على أمل
من النهوض فإن العزم ينفيها
ذكرى ليلة
كلفتني في هواك أمرا
يدعوه أهل الوفاء غدرا
فابل الهوى واستعر ضلوعي
لكي ترى هل نطيق صبرا
ورب هجر يعود وصلا
ورب وصل يعود ذكرى
ورب ليل أرخى علينا
لما احتوانا الظلام سترا
وشى بي البدر عند ليلي
فخلته من دجاه يعرى
بات يمج الظلام طرفي
كأنه بالسهاد مغرى
وحين وافى الحبيب ليلا
كاد يكون المساء فجرا
أخبره الطرف ما أعاني
فهل رأى في الجفاء عذرا
أضنى اصطباري ونوم عيني
كلاهما خاف منه هجرا
يحفظ سمعي عنه حديثا
أيام كان الزمان نضرا
بت وعيني بالحزن عبرى
لأعين بالذبول سكرى
جعلت قلبي للحب وكرا
فصار طرفي للطيف وكرا
ملأت صدري من الليالي
فصار ما بي في الصدر صدرا
أماني الحب
لواعج الحب تلويهم وتغريني
وسطوة الهجر تبقيهم وتفنيني
وفي الجفون دموع ضل رائدها
قول العذول عليها غير مأمون
نجبي من اليأس أن الحب ذو غير
وهل يعود بما قد كان يلويني
ما أبعد الصبر من قلبي على جلدي
وأقرب الوجد من قلبي على ديني
رجعت بالخسر والآمال تخدعني
حتى ظننت بأني غير مغبون
من لي به وعيون الليل تنظرنا
بعد التصافي فأدنيه ويدنيني
يكفي من الدهر أن الدهر يمطلني
فإن وعد الليالى غير مضمون
يكفي من القرب أن النوم يجمعنا
فإن ذلك وصل غير مظنون
إني لأهوى الردى والعيش مقتبل
لعله بعد موتي فيه يبكيني
كن كيف شئت مدلا أو على صلة
فكل شيء من الأحباب يرضيني
دليل الشوق
أتنكر أشواقي وأنت دليلها
وتطفئ أشجاني وأنت غليلها
وهل عائبي عند العيون إذا رنت
سوى أنها تدري بأني قتيلها
هل الوجد إلا أن تراني باكيا
إذا لوعة زادت وضر قليلها
بسطت لكم بين الضلوع مكانة
على القلب لا يأبى الوفاء نزيلها
ولكن آمالي يرجين عطفة
لديك ولو أن الجفاء رسولها
شقيت بنفسي والحسود عذيرها
فكيف شقائي والحبيب عذولها
مرثية فقيد الوطن والعلم قاسم أمين
أودى البكاء بمعوز السلوان
وبقيت بين طوارق الأحزان
طورا تكاثرني الهموم وتارة
آوي إلى صبر الضعيف العاني
يا دمع رفقا بالمحاجر واتئد
فالمرء رهن قطيعة وليان
ولقد علمت وإن عرتني وحشة
أن المنايا آفة الإنسان
إن الفجيعة بالرجال أجلها
فقد الكفاة لطارق الحدثان
لهفي على الفضل الصريح إذا ثوى
في حفرة القرم العظيم الشان
ليت الزمان وقد أرادك بالذي
يأبى أحس بمقتلي فرماني
مال الرجال أمام نعشك حسرة
ميل الغصون مع النسيم الواني
وضعوا الشمال على الجفون وأختها
موكولة بمجامع الأشجان
وبكى الجليد بكاء ثكلى واحد
فرد رماه مقطر الفرسان
فاذهب كما ذهب السحاب محببا
تثني عليه نفحة الريحان
يا سعد ما فعل الزمان بماجد
غدر الزمان بعوده الفينان
قد كنت تدعو للعظيم مغلبا
يدني الرجاء بهمة المعوان
قد كان يدني من فؤادك حبه
صدق الجهاد وصحة الإيمان
رثاء قاسم أمين
الدمع بعدك قد أصاب مسيلا
والرزء مكن في الضلوع غليلا
وعدا على الآمال بعدك عاصف
صعب أمر رجاءنا المعسولا
كانت تفتح كالزهور فيجتني
لحظ العيون بهاءها المطلولا
فغدت كوجه الترب أعوزه الحيا
جدبا ضنينا بالثمار وبيلا
هل عند رهن القبر أن زفيرنا
يقري السلام جنابه المأمولا
هل عنده أني افتقدت بفقده
رب الكفاية بكرة وأصيلا
أخذ الفؤاد على الجفون وثيقة
أن لا تميل إلى العزاء قليلا
ولقد رأيت الدهر في أحواله
تخذ الأمان على النفوس دليلا
قل للذي لم يصم رزؤك قلبه
إني حسبت فؤاده مدخولا
كيف احتواك القبر في أحشائه
ولقد عهدتك صارما مسلولا
يا رب أقوام نفيت ضلالهم
وعجمتهم حتى أقمت مميلا
أخذوك بالطرف الحسير وربما
بعث العليل إلى الضياء عليلا
زورة حبيب
جعلت فيك على العلات آمالي
لما انتزعت حديث اليأس من بالي
ورحت أدأب والآمال تسعدني
حتى سئمت على الآمال أحوالي
وفاتني الحظ منبوذا بمنزلة
ينم فيها الهوى عن راحة السالي
حسبت دمعي قرى والشوق منتجعا
وخلت قلبي لهيبا والجوى صالي
جريت في الحب مدفوعا بلا عبث
فما اعتذاري إذا ما فاتني التالي
يسعى أناس إلى ورد لينقذهم
من الغليل وهذا الورد يسعى لي
يا أيها الزائر المدلي بمعذرة
وفي تمهله لو شاء إبلالي
لو أنني مودع في طى مقبرة
تسعى على تربها أحييت أوصالى
الحب والرقة
شكوت إليه ذلتي فتحكما
وأرسلت دمعي شافعا فتبرما
وقال له الواشون أنت وصلته
ببعثك طيفا في الكرى فتظلما
وخبر أني قد تخيلت أنني
تزودت منه قبلة فتألما
وخبر أني سوف أخلس نظرة
إليه فأضحى بالحياء ملثما
وإني لأهوى أن أموت لعله
إذا مر ذكري في الحديث ترحما
في الفخر والحكم
نقم الحقود جناية الرجحان
ومحا النعيم فضيلة الحرمان
ما زاد ذو جد ليحتاز العلى
لكنه قد زاد للنقصان
ولقد علمت - وإن شكوت خصاصة -
أن المنية غاية الإنسان
عجم الزمان عزيمتي وعجمته
فكأننا علمان يصطدمان
ولئن سفلت كما عليت تواضعا
حيث الأسافل ما جهلت مكاني
صاحبتهم بالشك حتى ذقتهم
فعلمت أني قد أبحت عناني
وإذا كريت عن الحوادث غرة
راعيتها بلواحظ اليقظان
روضت نفسي للطماح فراعها
أن الأماني آفة الإنسان
أربى بنفسي أن أبين سريرتي
لمضلل قد غره إعلاني
وملمة تنسي الجبان حياته
كشفتها بحفيظتي وبياني
ولربما أدع المناظر أبكما
في موقف ما حار فيه لساني
وإذا الحوادث نوهت بملمة
لتروعني لا يستطار جناني
إلى صديق
دافع الآمال بالتهم
لو قراه النوم لم ينم
فيبيت الليل يسهره
وهو يرجو الوصل في الحلم
وإذا ناجى مسامره
لم يجبه النجم من صمم
فاجتباه السهد يؤنسه
واجتباه الحب للألم
وشباب الليل متهم
يقرع الأفلاك بالظلم
دب فيه البدر مهتتكا «كدبيب النار في الفحم»
واستباح الصبح دولته
إذ رماه الفجر بالهرم
لم يدع منه الصباح سوى
رمق في شخص منعدم
يقتفيه وجه ذي خلق
أصله من عنصر الكرم
قد أنار البشر صورته
فهو في التعبيس يبتسم
حل بين الناس منزلة
كحلول الصفو في الشيم
واقع في حيث لا دنس
موقع الآمال في الهمم
سائر إلا إلى عبث
واقف إلا على ندم
نفسه للفضل تدفعه
فهواه غير متهم
جال فيه المدح ملتئما
كمجال الحمد في النعم
ومشت فيه فضائله
مشية الآرام في الحرم
وجدت فينا محبته
كوجود الدين في الذمم
ضيقة حال
أعاتب دهري أو تهون خطوبه
وأعذل حالي والدموع تئيبه
وكيف ألوم الدهر فيما يريبني
وأحسن شيء في الزمان عيوبه
سأندب حظي والأماني شوارد
كأني سقيم قد جفاه طبيبه
إذا عبث الدهر اللئيم ببائس
فحسب نصيبي أن مثلي نصيبه
وصرت كما شاء الزمان مخيبا
يعاتبني قلبى كأني رقيبه
ودافعت آمالي كأني سئمتها
وأخلفني صبري كأني أريبه
وضاقت بي الأحوال حتى كأنها
فؤاد محب غاب عنه حبيبه
أضن بصدري أن يلم به الأسى
على الخطب إلا أن يضيق رحيبه
ولا أرقب الآمال إلا تعللا
لعل الذي يعدو المراد يصيبه
سأذكر أياما نعمت بلبسها
إذا ما شدا عند النضير خطيبه
وما أنا ممن لا يعزى فؤاده
إذا خان جد أو تناءى قريبه
وللمرء أحوال تريد عزيمة
يذود بها عن قلبه ما ينوبه
إذا كان دون الشيب للمرء مانع
من الموت لم يجرؤ عليه مشيبه
رثاء الشيخ محمد عبده
سجرت فؤادك حتى خمد
وأرخصت دمعك حتى نفد
وحق على العين أن لا تني
تشرد من دمعها ما جمد
أردت الوفاء فهان البكاء
ورمت التعزي فخان الجلد
وأسمعك الموت حتى أصم
فهل للذي فات من مسترد
ولو أقصد الموت غير الإمام
لهان على مصر من تفتقد
فكم من مضل له قد عنا
وكم من شقي به قد سعد
ترقب منه الردى غرة
فقد صار يمزح حتى عمد
أبى ذخره أن يهاب الردى
وقد عرف العيش حتى زهد
وإن الفتى ليخاف الممات
وما جنب الورد حتى ورد
يقيم على أمل خادع
ومن غره العيش لا يقتصد
يرجى سفاها متاب الغداة
فهل أمن الموت من دون غد
وما أخطأ الموت في حكمه
ولكن لكل بقاء أمد
وقد نال من فضله الحاسدو
ن حتى الزمان عليه وجد
فيا آية الله لم تقصري
فقد عرف الحق من قد جحد
وكم رام شأوك من حاقد
فما ذم فضلك حتى حمد
وهل يجهل الضوء إلا العمى
وينتقص الشمس إلا الرمد!
وهل ينكر العيب إلا الرضى
وهل يجحد الفضل إلا الحسد!
عقيدة الحب
زارني والطرف مسلوب الكرى
وانثنى والجسم مسلوب الفؤاد
حالة لم ينعم الطرف بها
فأباح الطيف لي طعم الرقاد
لم يدر في خلدي السلوان حت
ى كأن الحب في قلبي اعتقاد
إنما يوحش في القرب التجافي
مثلما يوحش في البعد افتقاد
إن يجد بالوصل يحيي رمقا
هالكا من مطله هلك اقتصاد
خطة الهجران ما أنكرتها
هكذا الآرام لا تعطي قياد
وعيون ناطقات بالكرى
ألهمتني كل معنى مستفاد
وصف راقصة
آنسة تمرح في جلبابها
كأنها تعجب من شبابها
وشعرها كأمة تعني بها
راقصة كالصل في انسيابها
كأنها تدور في إهابها
تكاد أن تخرج من ثيابها
وثوبها يكاد أن يزهى بها!
حالات الحب
ما لعيني خانها الدمع ولا
عذر للعين إذا لم تسجم
نفد الدمع على طول البكى
فاستعار الحب لحمي ودمي
أنا والآلام تستهدفني
نادم لو كان يغني ندمي
قد كرهت النوم حتى إنني
لو أتاني طيفكم لم أنم
ما أبالي والهوى يبرئني
إن رماني حاسد بالتهم
هانت الأنفس في الحب فلا
ترحم العاشق إن لم يسقم
إن أعنت الصب في حمل الهوى
هزئت أعضاؤه بالألم
قد منعت الوصل من غير قلى
فارض لي الصد إذا لم يحرم
طلعة وشجون
يا طلعة طلعت بكل شجوني
أجهدت قلب متيم مفتون
ومن العجائب أن تصد حبيبة
وثقت بحب الصادق المأمون
أنا في هواك بمنزل لم يعده
أسف الحزين وحالة المجنون
رضي الفؤاد بذلتي وخصاصتي
أرثيت أنت لذلك المسكين؟
طورا تكاثرني الشجون وتارة
آوي إلى صبر عليك أمين!
الحظ القليل الكثير
حسبي من الدر أني كلما نظرت
عيني إلى الأفق جادتني بلألاء
وإن ترصد للأسعار جاهلها
ما ضرني حال إرخاص وإغلاء
وإن ترفع بالأسرار كاتمها
ناجيت صوت التقاء الماء بالماء
وإن تمادى غني في غوايته
علمت أني كفيت الداء بالداء
إني لأنظر بالعين التي نظرت
ما بين ذلك من حالات آلاء
حساد على الصبر
نقم الحساد أني صابر
رب صبر في فؤاد البائس
قد رأوني ذا سلام صارم
رب ثلم في سلاح الفارس
الحزن والسرور
إنما الحزن والسرور غذاء
لفؤاد الإنسان طول الحياة
فإذا طاح بالسرور قضاء
فارض بالحزن قبل أن لا يؤاتي
مواطن الأشياء
تعرض الأشياء في أوطانها
آفة الجوهر أن لا يعرفا
كم جهول عزبت عنه النهى
نبذ الدر ونال الصدفا
إلى صديق بعد إبلاله من مرض
رضينا بالبعاد وأنت داني
فصرت على بعادك كالأماني
وكلفنا احتجابك عنك صبرا
وهل يغني السماع عن العيان
وكيف تنالك الدنيا بشيء
وأنت البرء من حدث الزمان
وما هزئت بصعدتك العوادي
ولكن غرها سلس الليان
ولما جاءك الأمل المرجى
طلعت طلوع يوم أضحيان
ببشر مثل ما نقم الأعادي
ووجه مثل ما عشق الغواني
أراني يوم أغبط فيك نفسي
كأني لست أمنحك التهاني!
شاهد الدمع
أحبيب لو دبت إليك صبابتي
لعلمت أن الحب ليس بمنكر
لا تحسبن الدمع ليس بخلقه
إن البكاء موكل بالمحجر
وهل ابتغيت على وفائي شاهدا
أم هل دللت على الصباح بنير؟!
رثاء الحب
ولا تدفنوه بأرض خلاء
فقد كان يأبى المكان الجديبا
ولا تنزلوه صميم الفؤاد
فإني أخاف عليه الوجيبا
ولكن بحيث غناء الطيو
ر يقريه لحنا لذيذا رطيبا
وإني لأخشى عليه الأذى
كما كنت أخشى عليه الرقيبا
وإن خليقا بطيب المقا
م من كان يهدي إلي الحبيبا
فلا تشمتوا بعظيم مضى
فقد كان فينا قديرا مهيبا
ومن عجب أن أراه الحميد
وقد كان يدمي الكلى والقلوبا
يصول بحالين هجر ووصل
يشب لهيبا ويطفي لهيبا
تعالوا نظلله بالغاديات
من السحب لو أسعدت مستثيبا
وننهله من قطرات الندى
هنيئا وننزله روضا قشيبا
استهداء رسم جميل
يا أبيا يعاف مدرجة الجا
ه إذا ما رأى عليها الهوانا
قد عهدناك منعة لضئيل ال
حظ إن لده الشقاء طعانا
وعهدناك أعظم الناس قلبا
وجماحا وهمة وبيانا
ترسل اللفظ في مناجزة البط
ل فيهوى سيفا وينحى سنانا
أنت خلو من المداجاة واللؤ
م إذا استعبد النفاق الجبانا
فسقى الله عزمة لك شما
ء ونفسا لا تستطار جنانا
إن لي حرمة لديك على مد
حك لا تجزني عليها امتهانا
كان هارون يمنح الخلع الغر
اء برا بأختها وامتنانا
ولديك الشفاء من سقم القل
ب إذا كنت تحمد الإحسانا
طلعة ضمنت مصارع قتلا
ها اعتداء وأودعت أشجانا
من مجيري من الذي تبل القل
ب وليس المواصل المعوانا
شرع اللحظ ثم قال لطرفي
في وعيد: هن يا عزيز فهانا
فأنا اليوم إن رماني بلحظ
قال طرفي: يا مقلتيه أمانا!
عبادة الحسن
عجبت لأشجان مجوسية اللظى
أصارتك معشوقا فصرت معبدا
وراض لي الأعذار أني شاعر
وأنك قد أصبحت في الحسن أوحدا
حنانيك يا هذا الحبيب على فتى
يحبك حبا حيثما نفد ابتدا
يبيت سمير الليل يخفق قلبه
فيسعده القلب الذي ضمن الصدى
نشدتك لو جاء النعي مخبرا
بموتي فلا تحبس بكاء مرددا
وقل رحم الله الوفي الذي قضى
ولم يلق مني في المحبة مسعدا
الود الرخيص
أيها الناقم الذي أطلق الكي
د ولم تثنه هوادة حلمي
قد حلمت الوداد من غير أجر
فقبلت الجفاء في غير جرم
إلى صديق
وقفت عليك القلب عند منازل
أوائلها معقودة بطموعه
فكنت أخافي النائبات وساعدا
قديرا يرد الخطب قبل وقوعه
تكثرت بالأنصار حتى عرفته
فغابت غياب الشك عند طلوعه
وحسبي من الحظ المدل بنفسه
إذا قيل هذا القرم ملء ضلوعه
لجاجة الحب
همو قيدوا قلبي بها وتواقفوا
طويلا مع الأهواء يدفعها العتب
يريدون أن لا يجمعونا سفاهة
وما نحن إلا الخمر والبارد العذب
يقولون لا تعط الغرام مقادة
فما هو إلا الخطب أو دونه الخطب
لك الخير لا تجزع فما لك حاجة
إليها وما يدرون ما فعل الحب
ألا لي غير الخير لي كل لاعج
قدير من الأشجان يضمره القلب
هوى نازع الأحشاء في مستقرها
وأحدث ما لا يستحث له اللب
لقد أضمر الغيب المضلل وصلها
فيا ليت هذا الهجر أضمره الغيب
غلالة الصهباء
زارني زورة أتيه بها ما
تاه بالعز صاحب الخيلاء
قلت يا ظالم القلوب ترفق
بحنيني ولوعتي وبكائي
فتمشى الحياء في الخد حتى
حجبته غلالة الصهباء!
مخادعة الهم
نحن قوم إذا تطرقنا الهم
خدعناه بالرحيق المشوب
ثم ننفيه بالأزاهر والشع
ر ووصل المنى وعطف الحبيب!
العذر في الكأس
أيها العاذلون في الكأس مهلا
قد جهلتم علالة العشاق
هي تبر يحيي الطلاقة في النف
س ويمحو غضاضة الإملاق!
خطرات في الحياة
قنوع اليأس يجحدني رجائي
وهم النفس داعية الرخاء
وقد غلبت صروف الدهر حزمي
فجالدت المصائب بالنجاء
وقد سلبت صروف الدهر مني
كما سلب البقاء من البهاء
وقد يغني العزاء عن التمني
وقد يغني الطلاب عن العزاء
أأجزع من مجالدتي الرزايا
كأني لست في طلب العلاء!
مجلس
أسفر وجه الأفق بالصباح
كأنه يبسم عن أقاحي
وكلنا من منتش وصاحي
قمنا نحيي الفجر باصطباح
ونخلط الوقار بالمراح
لا نؤثر الجد على المزاح
فعرضنا ليس بمستباح
ثارت بنا إلى كئوس الراح
ولم نطع في تركها اللواحي
شبيبة تدعو إلى الجماح
سبيل الحب
إذا كان لا يرضيك أني هالك
بحبك فابعث في المنام خيالكا
وأجهل أسباب الهوى غير أنني
أسائل عنها مقلتي وجمالكا
محبك لو تدعوه والنار بينه
وبينك تبغي موته لسعى لكا
عناء الليل والحب
ما لحداد الليل لم يخلع
وما لعين الأفق لم تهجع
لعله يفرق من هيبتي
أن يخلس الأنداء من أدمعي
ورب ليل ملني جنحه
لو مر بالمخطئ لم يجزع
قريته من زفرات الحشا
فما لهذا الليل لم يشبع
لم يدم قلبي طول هجرانه
لكن سهم اللحظ لم ينزع
أبدلني بالوعد من وصله
لكنني بالوعد لم أقنع
إن لم أكن عن حبه مقلعا
فما لهذا الصد لم يقلع
إن لم يكن حبي له شافعي
فما لجنح الليل لم يشفع
إن أشفق الغيث على تربهم
أقول هل خانهمو مدمعي؟
هل حيلة تصرفني عنكم
فإن صرف الدهر لم يزمع
دلوا على عطفكم مولعا
ظمآن لا يسلو ولم يطمع!
خطرات الحب
حبيب هل عوتبت في مغرم
فإننى عوقبت في ظالم
إن يك منك البخل مستحسنا
فرحمة الله على حاتم
لئن أراني عتبكم عطفة
فإنني أشبه بالنائم
أعلم أني فيكم هالك
حتى كأني لست بالعالم
أثريت لما أن تجافيتمو
من مدمعي باللؤلؤ الساجم
إن تك قد غرتكم صبوتي
لا تستحثوا خدعة الراغم
أو أك في معتبتي آثما
كيف استجزتم زلة النادم
أو أك بالكتمان عاهدتكم
ما حيلتي في لغط الحالم
وبالمنى أفدي الذي قال لي
ما أنت في حبك بالغانم
إذا الرضى أعلن في ثغره
فخادع أشبه بالباسم
وإن تبدى السخط في وجهه
فمعتب أشبه بالناقم
وإن أرم إرضاءه جاهدا
لأسكرتني نظرة الواجم
لو أثم العاشق في حبه
لاشتبه المظلوم بالآثم
لئن يخاصمني الهوى فيكم
عند المنى كان الهوى خاصمي
كيف أرجي رحمة منكم
إن كان قلبي ليس بالراحم؟
من كان من أسقامه واثقا
لم تستمله قالة اللائم
من يجعل الحب شفيعا له
خاصمه الحب لدى الحاكم!
زهرة ووعد
وما زهرة صان الربيع بهاءها
وكللها الإصباح باللؤلؤ الندي
بأحسن من وعد الحبيب وفرحة ال
محب وقول العاذر المتودد
اليأس من الحب
وكيف يكون الحب عني راضيا
وقلبي عنه بالحوادث مشغول
أشايعه حينا على ما يريده
وإني لأدري أن ذلك تعليل
ولا راحة في العيش ما دمت هكذا
يبغضني في العيش يأس وتأميل
إذا كان طرفي خانني في دموعه
فإن فؤادي لا محالة مدخول!
وضيعني القوم الذين حفظتهم
كأني معنى بالإعادة مملول!
طول الليل
يا ليل هل وقف الفلك
أم هل دليلك قد هلك؟
ووقفت تلتمس الطري
ق فساء ظن الصب بك
ولقد ثقلت على المحب
فهل ثقلت على الحبك؟
بيني وبينك يا ظلا
م وبين طرفي معترك
يا من أباح مقاتلي
وأحل في صدرى الضنك
لولاك ما عدل الحسو
د على هواك ولا محك
لو كنت محتكما علي
نا لانتصرت عليك بك
لو كنت تقضي بيننا
لشكوت عذالي إليك!
عفة الطرف
لو أن طرفي فاسق
لعلمت أني عاشق
أغضي لحاظي عفة
لكن دمعي ناطق
إن المحب مسشرد
فكأن نومي عاشق!
لحن يتمشى بالألم
مطربي الحي تعالوا أيقظوا
ربة الدل على وقع النغم
واحذروا من رقة السامع أن
يتمشى اللحن فيه بالألم!
الأماني حدق
يذكرنيك ضياء الهلال
إذا ما الهلال بدا في الغسق
فإن تك قد غبت عن ناظري
فإني تخذت الأماني حدق!
الخمود والجمود
قد أداروا من الخمود عقارا
واستباحوا من الذهول وقارا
واستكانوا فأنفذ الدهر فيهم
حكمه واسترد ما قد أعارا
سلك العجز فيهم مسلك العز
م فظلوا يرون في المجد عارا
ليتني مت قبل أن أنكر العي
ش ولكنني فقدت الخيارا
أنا في ذمة الزمان ولكن
لا أسيغ الحياة إلا اضطرارا
يا بني مصر والمذلة عار
إنما ينكر المفيق الخمارا
الروض والهجير
بعث الهجير إلى الزهور نسيمه
بتنفس كتنفس الولهان
خلس الهجير إلى الزهور حياتها
فغدت كطرف الناعس الفتان
ودت ذوات الحسن أن لبوسها
من نسج ذاك الرائع الألوان
معاني النظر
لها نظر جم المعاني إذا رنت
سألت فؤادي أي معنى تريده
إذا نظرت طاحت بقلبي نشوة
فينحل معقود العزاء جليده
شفق الغروب
وكأنما شفق الغرو
ب إذا استقر على الغدير
خجل المليحة يوم يج
لوها الزفاف إلى السرير
الحياة قمار
إني رأيت المساعي في مصادرها
والناس ما بين مهموم ومسرور
مقامر ظافر راض بقسمته
وآخر ناقم فعل المقادير
الخاطر والزمن الخالي
يمر بي الخاطر في شجوه
على هوى فات وعهد قديم
كما تجول الريح في مرها
بدارس رث ذليل الأديم
الثبات
ثباتا فإن العار أصعب محملا
من الذل لا يفضي بنا الذل للعار
وإن تحسبوها خطة الطيش إننا
ذوي العزم لا نغضي لصولة جبار
فإن روعونا كي يقودوا أشدة
ثبتنا على الترويع نلهو بأخطار
فما زادنا الترويع إلا حمية
وهل حسبوا أن يطفئوا النار بالنار
سيهزمهم منا أبوة ماجد
وهمة خطار وعزمة مقدار
فيا قوم لا حققتمو قول عازب
عن الحق يستخبي الرياء بأعذار
أقيموا بنا نهج الطريق لغيرنا
فإنا بني الأوطان كالجار للجار
الحب أعمى
يا رئم هل للوفاء مرتجع
فالحب أعمى يقوده الطمع
وإن رأيت المحب ذا ضرع
ففي الصبا لا يشينه الضرع
وليلة بالنجوم حالية
رعيتها والفؤاد منصدع
ضن بها الدهر أن يزوجها
فجاء نور الصباح يفترع
لغز الحياة
إذا كان في موت الفتى راحة له
فأي رجاء في الحياة يريده
عجبت لهذا الدهر إما يغرنا
ببعض المنى حتى يرجى حميده
وإما شقاء ليس يرجى نفاده
تمر علينا خيله وجنوده
أنضحك أم نبكي وهذا زماننا
عجيب لدينا وعده ووعيده
دواء الملل
مللت فكان العتب مني سفاهة
كلانا له ممن يمل بديل
ولولا خداع شاب طبعك لم يكن
إليك لمن يبغي الوفاء سبيل
الروض بالليل
نزلنا ليلة بالروض نسعى
كسعي العامدين إلى يسار
إذا لاحت أوائله ابتهجنا
كأنا قد نجونا من إسار
أمنا صولة الأيام لما
رأينا الروض محمود الجوار
إذا ظمئ الفؤاد إلى بهاء
فإن الروض يذهب بالأوار
شربنا باللواحظ ما رأينا
من الحسنات والطرف الكثار
بهاء آخذ بالنفس يسطو
بمثل الخمر مأمون الخمار
يميل الغصن من طرب إلينا
كأن الغصن مخلوع العذار
ومرأى النجم من خلل الغصون
كمرأى الحسن من خلل الستار
البرق
شب برق في فحمة الليل ماض
شب في أضلعي لهيب الغرام
أنت لحظ من الحبيب إلينا
أم مغير من طائشات السهام!
أمنية
ولقد قلت إذ رأيت حبيبي
يتغنى بطرفة من شعري
ليتني في خلال بيت رقيق
لاثما ثغره بأطراف ثغري!
جسم وقبر
ليس جسمي الذى ترون ولكن
ذاك قبر لما تكن الضلوع
من شجون ولوعة وادكار
وهموم تنم عنها الدموع!
النجوم
لعمرك ما أدري أتلك أزاهر
مفتحة أم قد رأيت أمانيا؟
ويبعثن نحوي باللحاظ كأنما
يردن ليعرفن الذي في فؤاديا!
الخمول
إني وإن كنت منبوذا بمنزلة
ينم فيها الرضى عن موضع العجب
لذو فؤاد ذكي الطبع مختبئ
بين الضلوع اختباء البرق في السحب!
نصيب قليل
اجعل الدمع والسهاد نصيبي
واجعل الطيف عاذلي ورقيبي
حسب الصد أن يميل بقلب
ذي شجون عن أن يراك حبيبي
لست أصبو إلى الملالة والهج
ر ولو قل في هواك نصيبي
الروض والحب
زارنا والليل منبسط
فرأينا طلعة الشمس
قمت أسعى نحوه جذلا
وأفدي النفس بالنفس
ثم عجنا نحو حالية
ببديع طيب الغرس
وغناء الطير يطربنا
كالغواني ليلة العرس
صديق عدو
تناوشني الوشاة فأدريها
ولكن أنت مغفرها المتين
وكيف أصيب أعدائي رماء
وهم يحميهم الدرع الحصين؟
كلمة في الشاعر بيرون
تقول قولا فتذري الدمع من شجن
كأن قلبك مدلول على العبر
ألبسته من سواد الحزن ضافية
فخلتها من سواد القلب والبصر
فكر كأن ملاك الوحي يسعده
موكل بصروف الدهر والغير
إذا ظفرت بمعنى كان موقعه
ألذ من وقعات النجح والظفر
قد اجتبيت من الآراء أشرفها
حتى كأنك معنى الصدق في الخبر!
إلى صديق
سامر الليل بابنة العنقود
وأدرها ترح فؤاد العميد
خلدت في الدنان حتى لقد أر
بت سنوها على مدى التخليد
وئدت كي تعيش حتى لقد حا
لت وجلت عن هيئة الموجود
وتعدت مدى الصفاء فكادت
أن توازى من خلق عبد الحميد
مستحيل النديد منقطع القر
ن لدى مأقط البيان الشديد
متقصي البيان يعضده الحق
برأى في النائبات سديد
أنت قد قمت بالنثير ولكن
ك أزريت فيه بابن العميد
واطمأنت بك البلاغة حتى
نسيت عهدها بعبد الحميد
وفضلت الورى فلو نظم الكو
ن قصيدا لكنت بيت القصيد!
موعد
موعد يجذب الفؤاد إليه
سأذم الزمان حتى يحينا
ووصال أشهى لدي من النج
ح سأفني الرجاء حتى يكونا
يا حبيبي لقد أقام بنا الهج
ر على حكمه فكيف رضينا؟
عذير الحب
غال قلبي بالصد حين تخلى
أتراه يضن بالوصل بخلا
إن يكن للعذول فيه عذير
فالعميد الشجي بالعذر أولى!
عذاب ونعمة
من استعار النوم من ناظري
ومن أبان العذر للعاذر
إن فندوا الساحر في فعله
فإن سقمي حجة الساحر
وردت ظمآنا فلم أرتو
ما أشبه الوارد بالصادر
إن يعقب الصبر رجاء فمن
يؤمنني من ميتة الصابر
إن لم يجد لي عاقل حيلة
ما حيلة المختبل الحائر
إن يجعل الحب شفيعا له
فالحب طوع الحاكم الجائر
إن عذاب الحب لي نعمة
وجاحد النعمة كالكافر!
في التبسط
أدر الكأس فقد طاب الصبوح
لا تطع في تركها قول النصيح
وافترعها نصطبح موءودة
خلدت في دنها من عهد نوح
عاطها أغيد معسول اللمى
ناعم الأطراف كالرئم السنيح
جاءنا يمشي بعطفيه الصبا
جيئة النوم إلى الجفن القريح
قهوة مشمولة تبدي لنا
مثل ما يلفظه الظبي الذبيح!
إلى عالم جليل
إن المقر بما أوتيت مجهود
من ينكر الضوء والإصباح مشهود؟
قد قمت بالبشر حتى قيل بارقة
وقمت بالحلم حتى قيل جلمود
وألبس الله منك الدين حلته
كأنما هو سر فيك موءود
إلى صديق
لا بد لي منك مهجورا ومودودا
فاكفف ولست بما تجنيه مجهودا
وإن تكن لست تدري كيف تحفظنا
على الوفاء فقد سمناك تقليدا
لقاء على صد
سائل بليلي هل ألوي بآخره
خوف اغتماضي لما ملني السهد؟
كم خفت صبري على من ليس ينصفني
والآن إن رمت صبرا خانني الجلد
أبيت منبعث الآمال يحرسني
من السلو فؤاد ملؤه كمد
ونم بالحب لما زارني هطل
من الدموع ونمت بالسلام يد
نبيت يلهو بنا صد وعاذلنا
يبيت من وهمه يلهو به الحسد
حب من لوازم الحياة
شكوت إليه هجره فتعللا
وحق لمن أهواه أن يتدللا
ووافقه لين فأرخى لحاظه
لأطلق طرفا راجيا متذللا
وإني ليغريني بحبيه أنني
لثمت بثغري ثغره فتهللا
ولست أبالي أن يضج عواذلي
إذا كان وصل منه يشمت عذلا
وما رغبتي في العيش إلا لأنني
أؤمل أن أهوى حبيبا مؤملا
إذا ما خلا قلبي من الحب طرفة
تقبل داء اليأس فيما تقبلا
وإن هجر الحب الضلوع زهادة
ترحل قلب الصب فيما ترحلا
فما جاء داء الحب إلا مخادعا
وما راح داء الحب إلا ليقتلا
يرجي المحبون الخلاص من الهوى
وأرغب أن أبقى المحب تلا
الهوى
راحة الهوى تعب
واحتماله عجب
لم يدع بنا رمقا
إن صدقه كذب
وأعز مطلبه
أن جده لعب
الحبيب محتكم
فالقلوب تضطرب
بالعتاب منعطف
بالدلال منسحب
للعيون مختطف
للقلوب مختلب
غاضب ومن عجب
يستحثني الغضب
إن بكيت منتحبا
يستميله الطرب!
في التبسط
رب ليل لبست منه شعار ال
حزن حتى أبحت فيه السرورا
قد لهونا فيه بطيبة الأن
فاس ملء الكئوس نارا ونورا
روضتها السقاة بالماء حتى
خلت فيها السكون شيئا ستيرا
ثم صار الزجاج من عنصر النو
ر وصار المزيج فيه ضميرا!
مغنم أم مغرم
لو ان الهوى مغنم
لأثريت مما أعاني
ويا ليت أن العذول
شجاه الذي قد شجاني
فيعلم أن الهوى
كفيل بما قد دهاني
تحملت فيه الجوى
وأفنيت فيه الأماني
فما كان إلا الرضى
بما جر صرف الزمان!
الحياة
ما أشبه الحزن بالسرور
وأشبه المكث بالمرور
وما أخال الحياة إلا
كجولة الفكر في الضمير
العزيز تعلة
كل ما كان عزيزا
فهو للنفس تعله
وممات المرء رزء
وحياة المرء ذله
كان الخداع وكنت الحذار
محب يخادع فيك الوقارا
ويسأل عن قلبه أين سارا
ولولا الوثوق بفضل الوفاء
لما كان يحسب في الهجر عارا
وبادرة ذهبت بالعزا
ء لا يعرف القلب فيها قرارا
لقد جلت في غفلات الزمان
فما أعقب السعي إلا عثارا
وخل أعان علي الهموم
فكان الخداع وكنت الحذارا
رثاء عزيز
أمنية صارت له أملا
وألسن قد هجنه عذلا
وأعين أزرى بها سهد
فأرسلت من دمعها هطلا
وآمل بالجهل ممتنع
لو يعلم المأمول ما أملا
والمرء إن يعرض له قدر
يضل فيما يبتغي الحيلا
أرجو إيابا بعد مرزئة
من ساكن يهتاج لي خبلا
ليلة نحس وليلة سعد
هل أثار الخيال داء دخيلا
فاستحال العزاء إلا قليلا
واستعار السهاد عيني وقد أط
لق نجم السماء طرفا كليلا
وكأن الأوهام من عنصر الحب
فليست تزول حتى يزولا
طال عهدي بذلك الليل يا صب
ح فكن لي من الظلام بديلا
خبروني أين القبيح إذا كا
ن اصطباري عن الحبيب جميلا
يا عميد الهوى إذا ما تحرج
ت فكن واصلا شفيقا منيلا
وإذا كنت لست تعلم ما الحب
تخذني على الوفاء دليلا
قد بثثت النسيم ما بي وقد هب
فصار النسيم مثلي عليلا
سئمتني الأحوال إني قد صر
ت على الحادثات حملا ثقيلا
غفل الدهر يا حبيبي فقم نن
فض زمانا دون الوصال طويلا
ونكتم عن الحواسد سرا
جل أن ندعوه شيئا جليلا
ونبادر قبل الحوادث آما
لا ونشفي صبابة وغليلا
احتوانا الدجى فقم يا حبيبي
نتخذه إلى الوصال سبيلا!
استعطاف
تعرف عقيد الفضل ما أنت صانع
فإني إذا لم تحتفظ بي نازع
ضمنت لكم في القلب مني مودة
وإن مودات القلوب ودائع
ولو لم تكن ذاك الذي قد عرفته
لأبعدني عن منهل الذل وازع
ولي عزمة غراء يصدق سعيها
وليس بوغد ما تكن الأضالع
إلى صديق
ما كل ناء عن الأحباب بالنائي
ففي التذكر خط الناعم الرائي
إن كان يعوزكم ما ترحمون به
هلا استعرتم من الأضلاع أحشائي؟
يا حبذا العيش والأحوال مسعدة
كأنما جرعت من كأس صهباء
وكنت كالأمل الممدود جانبه
في ليلة للعوادي ذات أنواء
ضمنت كل جليل يستعز به
من الفضائل إلا النطق بالراء!
وكم بغيض تردى من معايبه
ضمنت في العين منه بعض أقذاء
فلست أغمض عيني بعد نأيكم
ولست أفتحها إلا على داء
في معلم جاهل
لا تلوموا الشيخ الجليل على ما
كان منه في مجلس التدريس
إنما همه التكسب بالآ
ي وخطف الرغفان يوم الخميس
عمة فوق رأسه تشبه الور
دة فوق الترب الذليل الخسيس!
ذكرى زورة
ألم تر أن الحب غير حاليا
وأوردني الإدلال ما كنت خاشيا
لئن بقيت نفسي ولم يأن يومها
فما هو إلا أن تمل الأمانيا
وكيف أرجي في الأماني علالة
وقد منع الهجران ما كنت راجيا
ولم أنس يوما زارني بعد هجعة
فجاء بإبلالي وطول بلائيا
لمست بكفي خده فحسبته
يفتح فيه الزهر غضا وزاهيا
يعاتب ذا شجو فيبسم سالم
فهل كان يستمري لذيذ عتابيا؟
أذل وينأى بالدلال وبالجفا
فقلت له يا ليت ما بك ما بيا!
رثاء عزيز
ما لعيني ترى الضياء ظلاما
ولجنبي يرى الرقاد حراما؟
ولقلبي كأنه مستزار
لا يحل الضلوع إلا لماما
يا جديرا بأن أكون شجي ال
قلب فيه هل اتقيت الحماما
أنزلتك الأحداث قلبي وقد كن
ت لسمعي وناظري قواما
كنت في العيش منظرا يبعث البش
ر وللنفس بهجة واعتصاما
المحب الهالك
سترى الناس حول قب
بري يبكون هالكا
وغدا يستريح من
خنته في خيالكا
كل شىء سوى الهوى
لا تدعه ببالكا
واذكر العاشق الذي
مات صبرا بذلكا
نسبوا شقوتي إلى
حسن من دلالكا
ظلموني لو انصفوا
زعموا غير ذلكا!
في شاب يدعي سعة الاطلاع كذبا
قل للذي حسب العلوم رغيبة
لا يجتبيها المرء إن لم يكذب
ما زلت تقرأ كل سفر وارم
حتى قرأت اليوم ما لم يكتب!
الحب يدعم بالحب
رعى الله محبوبا أعان محبه
على ما به والود يدعم بالود
حبيبي سل العذال في غير عطفة
إذا عابني العذال هل وجدوا وجدي
فيا فاتنا لولاه قامت هواجس
بنا لا نقيم القلب في منزل الصد
عهدتك نعمى للإله وتحفة
لمن بات مخذول الفؤاد على جهد
وما أنت إلا السعد في السخط والرضى
وما أنا إلا الشوق في القرب والبعد!
المجادلة
وعاو عوى والحق بيني وبينه
فألقمته البطل الذي هو قائله
أعوذ بحزمي أن أنازل مثله
ويأبى رقيب الحق أن لا أنازله!
حنين واشتياق
أتنكر ما بي وأنت الحبيب
وتجهل دائي وأنت الطبيب؟
حننت إليك فلولا الضلوع
لطار إليك الفؤاد الطروب
دهتني حوادث هذا الزمان
فما بال قلبك لا يستريب؟
داء أم دواء
أبحت فؤادي للهوى وسبقته
إليه ولم يعلم بذاك رقيبي
وليس نصيبي أن تكون مواصلي
ولكن نصيبي أن تكون حبيبي
شقيت ولكن في الشقاء سعادة
وليس شقائي في الهوى بعجيب
فدمعي على حق الصبابة مسعدي
وقلبي إلى ما لا يريب مجيبي
فإن كنت مسحورا فأنت تميمتي
وإن كنت معلولا فأنت طبيبي!
أبيت كأن الليل صب سواده
علي فأخفى والدموع تشي بي!
إسعاد الهوى
يا حبيبي إن لم أكن بك مسعو
دا فماذا يرجو العواذل منا؟
اغتنمني فإنني بين قلبي
ومقال العذول فيك معنى!
إلى أديب
حمدنا فيك ما قال البشير
وقبل اليوم برأك الضمير
ولكن العظيم إذا تلظى
على مكروهة شمت الحقير
وبادرة إليك أقمت فيها
كأن الحق ليس له نصير
ولولا عزمة لك وانبساط
لدى الأحداث أخطأك العثور
فلا تخش مراغمة الليالي
فإن البدر يلزمه السفور
ولا تحمل يراعك عن دعي
فإن المرء يطغيه الغرور
وأنكى ما يكون المرء يوما
إذا كان العذول هو العذير
إذا أخذ البعيد عليك أمرا
فلا يزري بك النظر الحسير!
كلمات العواطف (وهي قصيدة من الشعر المرسل، فيها يشرح الشاعر ما يحزنه من أمور الحياة، ومواقع هذه الأمور من عواطفه؛ ويطمح إلى حياة أكمل من هذه الحياة، وأسعد حالا، وأكثر إنصافا.)
الإهداء
خليلي والإخاء إلى جفاء
إذا لم يغذه الشوق الصحيح
يقولون الصحاب ثمار صدق
وقد نبلوا المرارة في الثمار
شكوت إلى الزمان بني إخائي
فجاء بك الزمان كما أريد
أراني قد ظفرت بذي وفاء
له خلق يضيق عن الرياء
أظل إذا رأيتك مستفزا
كأني قد جرعت من العقار
يؤم بي العلاء أخو وجيف
وتنبت في أجنحة النسور
تقبل طرفة لك من خليل
وقد يهدى الصديق إلى الصديق
فإن أك محسنا فلرب غر
أصاب الفضل في المحض اللباب
وإن أك مخطئا فالفضل يؤتى
من الخطأ المبين عن الصواب
لعلك واجد عذرا صريحا
إذا عجز تعرض للتهدي
وإن تهد الزهور إلى ربيع
فقد يهدى النظيم إلى الحبيب
بلونا سهمة الأيام حتى
رأينا الشك يثبت في اليقين
تقيم السخل في سبل الضواري
وتقضي للقوي على الضعيف!
وتغفر زلة المثرى المفدى
وترحم كل جبار عنيف!
وتسعد ذا الدهاء بما جناه
على صافي السريرة من دهاء
وتقصد صاحب التقوى بأمر
تحامق من عواقبه الحليم
تليح لمصحر بالآل حتى
يفيض النفس في الوادي البعيد
وتودع في نفوس الصحب شكا
يميل به الودود عن الودود
وتشقي أنفسا بالحب حتى
كأن الحسن من عدد البلاء
فيا لك من شقاء في نعيم
ويا لك من نعيم في شقاء!
تمد لآمل أملا عريضا
يذيق العز في خطرات بال
وما صرف الزمان وإن تمادى
بمقص بعض آمال الطموح
ومنزلة الرجاء من المساعي
كمنزلة البشائر في الربيع
لعمرك ما النعيم ولا أخوه
بقاتل همتي ومميت شاني
وكم في العز مفسدة لقوم
وفي الأرزاء إعلاء لناس
وكم غرس كريم ليس ينمو
على علل تعهده بماء
وكم من جرعة كانت شفاء
فعادت غصة تأتي بداء
وإن العود بالإحراق يذكو
فيأسر طيبه أنف المشوق
وأيام تناءى الوصل عنها
تمر كأنها ورق الخريف
أضاعت عزتي الدنيا وأمسى
جناح الذل مأمون الحفيف
أيحسدني على صبري أناس
وليس الصبر محمود المذاق
وكم من كربة هجمت علينا
فلما استحكمت جعلت تزول
وإن القر يتبعه حرور
وجنح الليل يفريه الهلال
وإن العود بعد العري يكسى
ومحل الأرض يسعده السحاب
وكانت ضيقة فأقمت فيها
مقام البدر أضمره السرار «فقل للشامتين بنا أفيقوا
سيقلى الشامتون كما لقينا»
رعاك الله يا وقع الرزايا
فرب فضيلة لك لا تذال
تعهدت المنى بالشك حتى
أقمت الغافلين على انتباه
وعلمت العظيم وإن تأبى
معاناة الطوارق بالدواهي
ولم تتطرق المسكين حتى
أفيض عليك من نور الإله
ولولا أنت لم يبلغ رشادا
غوي بات يكفر وهو لاه
لحاك الله يا حدثا دهانا
وكنا قبل ذلك غافلينا
أأطربك الشهيق إذا تعالى
وأصوات الكواعب والبنينا؟
لقد علمتنا ذم العوادي
وأدرار الرجال الباخلينا
كأنك يا جليد القلب آت
لتوقظ رحمة هجعت سنينا
تطامن للنوائب إن تمادت
فلولا الحزن ما عرف السرور
ولولا المجدب المنحوس يعدو
علينا ما استقام لنا النضير
لقد قال السلامي بيت شعر
يردده الخليع من الرجال: «تبسطنا على الآثام لما
رأينا العفو من ثمر الذنوب»
وإن العفو موقعه عزيز
وقوع القطر في الروض الأنيق
فلا تثلم ضميرك بالدنايا
وهل شيء أرق من الضمير
نقمت من الزمان دنو صرف
له جدب يقعقع بالشنان
ولم أقر الحياة سوى انتقاص
فهل يثني الزمان على بياني
ألم تر بائسا لاقى المنايا
ولم يذق المريء من الحياة
فلو أن الحياة على انتظام
لأخصب محله ورعى الأماني
جهين أأنت مخبرتي أهدي
أريد من المعيشة أم ضلال؟
وهل ضمن البقاء من المعاني
سوى لمعات خداع خلوب؟
نسائله فيخدعنا مرارا
كما يتمنع المعنى البعيد
نرى في اليوم ما هو في أخيه
كذاك حياة أبقار السواقي!
ولولا عصب أعينها لكانت
تعاني اليأس والسأم الدخيلا
ولولا خدعة الأمل المرجى
لأسلمنا النفوس إلى الحمام
وليس العيش إلا ما نعمنا
به أيام نمرح في الشباب
إذا سقط العجوز على نعيم
فقد سقط الهشيم على الزهور
بكائي أن أرى رجلا لئيما
يقدمه الرياء على الكريم
فإن حركته للعرف يوما
تبدى منشدا قولا رخيصا: «أترثي للعباد - وأنت منهم -
من الرب الذي خلق العبادا»
بكائي إنني أغدو غريبا
وحولي معشري وبنو ودادي
بكائي إن لي طبعا أبيا
ورأيا مثل حد السيف ماضي
بكائي إن في الدنيا أمورا
يضيق بمثلها الصدر الرحيب
وكم وغد رفيع الجاه يغدو
كأن الكون ليس به سواه
تعاف الرحمة الغراء نزلا
قلوبا قد أضر بها التعالي
فإن الزهر في القيعان ينمو
وإن الثلج في قمم الجبال
أرى قوما تسوسهم الأعادي
كسوق الخيل في يوم الطراد
أرى زغب الحواصل فوق قبر
تضمن ما تضمن من رجاء
وكم موت ألذ من الأماني
وكم موت أشد من الهزيمه
وكم من طالب للموت يأسا
تعمد أن يباعده الحمام
أخوك النوم ألين منك مسا
وأوطأ مسلكا وأجل شأنا
ولكن فيك آيات كثار
ومعجزة وذكرى للغفول
تذل الثائر العادي وتلهي
أسير العز عن ظلم العباد
وخوف الناس من حكم المنايا
كخوف الطفل من وجه الظلام
وإشفاق السليم من العوادي
كإشفاق المريض من الرجام
وما مستمسك بالعيش إلا
كموقوف على خوف الحمام
وإن الموت مرآة أبانت
حياة المرء كالنفس الرقيق
وكم من أيم فجعت بإلف
وقد كان النصير على الحياة
تمد يدا لو ان الحق فيها
لأذوته الخصاصة والسؤال
أرى الحسناء في طمر ذليل
وفي الديباج، داجية الجبين
أرى الدنيا تضيق بكل حر
فتلفظه كما لفظ البصاق
أرى خدعا تقاد بها الغواني
وفي أعقابها الذل الكمين
أرى الثكلى تكاد تسيل دمعا
وفي أحشائها النار الأكول
هواجس تعتريني لست أدري
أأقتلها وأقنع بالجهاله؟
أم التسآل خير من سكوت
وإن الرأي ينضجه الزمان؟ •••
ألم يبلغك أن الموت أودى
بمن علقتهم الحرب الزبون؟
صفوف الجيش نزقها الحفاظ
وعدو الخيل أعجله المغار
ويمم «مقدن» جيش الأعادي
فحل بأرضها الفلك المدار
لقد جلبوا السوابق مقربات
يضن بقصدها النقع المثار
تثير على جوانبها غبارا
كأن الأرض ليس لها قرار
وقد سكبت جلود الخيل دمعا
فبان على جوانبها شعار
وأصوات المدافع إذ تعالت
كصوت الحمق أغضبها اعتذار
لقد ضاق المجال فلا قرار
وقد عز النجاء فلا فرار
فوجه الجو يعبس من شحوب
وعين الشمس يكحلها الغبار
كأن المدبرين غداة ولوا
رءوس الشرب غازلها الخمار
وضاجعت المقانب قائديها
بأرض لا ينم بها النهار
وإن الحرب مرزئة وبلوى
وبعض السلم مرزئة وعار!
وإن لكل هائجة سكونا «وإن لكل سائلة قرارا»
كأن الحرب في الميدان رسم
أجاد صنيعه الحذق اللبيق
فأين الحقد تنفثه اللحاظ
وأين البغض يضرب في الصدور
وإن الحرب آخرها خراب
كذاك النار آخرها خمود
وكان اليتم ما غنم الصغار
وكان الثكل ما غنم الكبار! •••
ألم يكف الحوادث أن عيني
تريق القلب في ماء البكاء
فحسبي أن أعدائي كثير
وأن السعد يزلق عن مكاني
يعيبوني وما عابوا بغيضا
ولكن ذلك الخلق الحميدا
إذا ما سبني سفهاء قوم
فما يغني اهتمامي بالعواء
وإن يك قد تقدمني أناس
فإن السبق من بعد الجراء
حياتي بين أعدائي ممات
وموتي بين أحبابي حياة
سألزم كسر بيتي في احتجاز
وأهجر كل ممنوع الوداد
وكم من وحدة منعت عذابا
وكم من وحدة جلبت عذابا
أأخت اليأس هل حلف قديم؟
فإن اليأس فيك لذو طروق
ورب مصاحب حلو اللقاء
سقيم الصدر مسموم اللحاظ
كبعض الزرع تحسبه مريئا
وتحت بهائه السم المميت
وجلد الحية الرقطاء يزهو
ولكن لا يغر به اللديغ
صبرت له ويحسبني عميا
ولا والله ما أنا بالعمي
ولكني رأيت العفو أبقى
وهل في القلب للشكوى مجال؟ •••
هوينا الذكر من حب الغواني
كأن الذكر من حيل الرسول
كفاني من نبيه الذكر أني
تمر بي الحسان فترتضيني
أرى دمعي يرنقه احمرار
كأن الشوق قد ذبح المناما
حنين يترك الأشجان جمرا
وشوق يترك الزفرات نارا
تغنى الحب في فجر الحياة
غناء الطير في فلق الصباح
نبجله فيخفضنا سفاها
كأن الحب ميزان ظلوم
تطالبنا الحسان به دلالا
كأن الحب دين في الرقاب
فإن دنا له لم نلق منه
سوى المقبوح من غدر الملول
وبطش الغدر مردود عليه
كأن الغدر مغوار سليب
أيا هذا الغرام لطفت حتى
كأنك قد خلقت من النفوس
أرى عينا يصافحها الفتور
وقلبا لا يصافحه الحنان
أرى عينا يجول السحر فيها
مجال الماء في العود الرطيب
وحولك من دماء الناس بحر
مهيب اللج مهجور النواحي
وفوقك من نفوس الناس طير
يظل الجو مملوء الفناء
أتخذلنا ونحن مناصرونا
وتخدعنا ونحن مناصحونا؟
وتقصينا ونحن مقربونا
من التبيان والأدب الغزير
أبوك الوهم متسع الفناء
وأنت تضيق بالرجل الأديب
رجوت بك الخلاص من العوادي
فكنت علي عونا للعوادي
وكم من لحظة نزلت علينا
نزول القطر من خلل السحاب •••
أيغلبني على أمري التصابي
ولم تخنع لريب الدهر نفسي
لعمرك ما الخمول بمستذلي
فإن البرق في طي الغمام
وإن يك في مآقي العين ماء
فكم من عبرة فيها اعتبار
أما للشاعر الفياض دهر
فينفث بعض ما ضمن الضلوع
ولو أني أردت لرعت قوما «أضاعوني وأي فتى أضاعوا»
ولو أني لفحت بغل صدري
لغاض الماء واحترق الهواء
سأحدث في غد حدثا عظيما
تظل له البوارق تستطار
فإن أعمر فويل للأعادي
وإن أهلك فويل للصديق
حنانا أيها الوطن المفدى
ولا تسمع مقال السوء فينا
سنهديك النصيحة ما استطعنا
ونشدو فيك بالقول العجيب
له في نفس قارئه فعال
كفعل الغيث في المرعى الجديب
وكم من ناعق يدعو لأمر
نعيق البوم في الطلل الخراب
وآخر لا يقيم على قرار
يحاكي وثبه وثب الجراد
ويحكي في تنقله سفاها
خيام العرب بالأرض الخلاء
يعيث الجهل في أبناء قومي
كعيث الذئب في الغنم النيام
أبي القلب بينهم ذليل
ووغد القلب مرفوع العماد
يفرقنا التباغض والتعادي
كنثر الريح أوراق الغصون
متى تدعو الحمية للمعالي
فتصغى في العروق لها الدماء
وكم من عبرة هبطت علينا
هبوط الوحي من عند الإله
إذا عاث القوي فلا تراعوا
فإن الظلم نعش للظلوم
ضئيل الأمر يتبعه عظيم
كذاك النار تقدح من شرار
الفصل الثاني
لآلئ الأفكار
وإنما الشعر مرآة لغانية
هي الحياة فمن سوء وإحسان
وإنما الشعر تصوير وتذكرة
ومتعة وخيال غير خوان
وإنما الشعر إحساس بما خفقت
له القلوب كأقدار وحدثان
من كل معنى يروع الفهم طائله
معنى من الجان في لفظ من الجان
صاحب الديوان
مقدمة
الشعر ومزاياه
ليس الشعر لغوا تهذي به القرائح، فتتلقاه العقول في ساع كلالها وفتورها، فلو كان كذلك لما كان له هذا الشأن في حياة الناس.
لا، بل الشعر حقيقة الحقائق، ولب اللباب، والجوهر الصميم من كل ما له ظاهر في متناول الحواس والعقول، وهو ترجمان النفس، والناقل الأمين عن لسانها، فإن كانت النفس تكذب فيما تحس به أو تداجي بينها وبين ضميرها، فالشعر كاذب، وكل شيء في هذا الوجود كاذب، والدنيا كلها رياء، ولا موضع للحقيقة في شيء من الأشياء.
وقد يخالف الشعر الحقيقة في صورته، ولكن الحر الأصيل منه لا يتعداها، ولا يمكن أن يشذ عنها؛ لأنه لا حقيقة إلا بما ثبت في النفس واحتواه الحس، والشعر إذا عبر عن الوجدان لا ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى.
وما هذه الاستعارات والتشبيهات إلا أشياء تختلف في ظاهرها، ولكنها في كنهها واحدة لا خلاف بينها، فليس الجميل قمرا، ولا الزئير رعدا، ولا الكريم غماما، والشمس لا تنكدر لغياب الحبيب، ولا الليل ينجاب لحضوره، ولكن الغبطة بالصورة الحسناء كالغبطة بالليلة القمراء، والرهبة من زمجرة الأسود في غابها كالرهبة من جلجلة الرعود في سحابها، وتجدد الروض بعد انهمال المطر كتجدد الأمل بعد نوال المطر، وإن الشمس إن كانت تشرق بعد نأي الحبيب، فكأنها لا تشرق لأن عين المحب لا تنظر إلى ما يجلوه نورها، وإن تكشف لها فكأنما هو باد لغيرها، والليل إذا عسعس فما هو بساتر عن عين المحب منظرا يشتاق رؤيته بعد أن يمتعه بوجه حبيبه، فإنما هو من الدنيا حسبه، وهو الضياء الذي يبصر به قلبه.
فهذه معان مترادفة في لغة النفس، وإن اختلف نطقها في الشفاه؛ إذ إنه لا محل في معجم النفوس إلا للمعاني، فأما الألفاظ فهي رموز بين الألسنة والآذان.
وهل تبصر العين أو تسمع الأذن إلا بالنفس؟ أو تبلغ الحواس خبرا إذا كانت النفس ساهية والمدارك غير واعية؟
والشعر بهذه المثابة باب كبير من أبواب السعادة، بل إن السعادة - ما لم تعقها حوائل الحياة - لا تدخل إلى القلوب إلا من بابه، فإنه ما من شيء في هذه الدنيا يسر لذاته أو يحزن لذاته، وإنما تسر الأشياء أو تحزن بما تكسوها الخواطر من الهيئات، وتكيفها الأذهان من الصور، وآية ذلك أن الشيء الواحد بينما يكون مدعاة البهجة والرضى، إذ يكون في غير ذلك الوقت مجلبة للأسف والأسى وطريقا إلى الشجن والجوى، والشعر وحده كفيل بأن يبدي لنا الأشياء في الزمن الذي ترضاه خواطرنا، وتأنس به أرواحنا؛ لأنه سلطان متربع في عرش النفس، يخلع الحلل على كل سانحة تمثل بين يديه، ويغض الطرف عن كل ما لا يحب النظر إليه. والشعر أيضا مسلاة لمن شاء السلوى، وصدى تسمعه النفس في وحشة الوحدة، فتطمئن إليه كما يطمئن الصبي التائه إلى النداء في الوادي، ليأنس برجع صوته، أو يسمع من عساه يقبل لنجدته.
فقد سبقت مشيئة الفطرة بأن يعيش أبناء آدم جماهير وأمما مجتمعة، وأن يكونوا نوعا له غرائز كامنة في طبائع أفراده يقتضيها بقاؤه ودوامه، فوجب أن يجبل أبناؤه على الألفة ويذرءوا على التعاطف ودواعي الاجتماع، وقد درج نوع الإنسان على هذه الفطرة، فصرنا وليس يهنأ امرؤ منا بأن ينعم منفردا، ولن يطيق أحد أن يبتئس وحده، وما كان المعري يمدح نفسه، ولكنه قال قولا في شرار الناس، كما يصدق في خيارهم، إذ يقول:
ولو أني حبيت الخلد فردا
لما أحببت بالخلد انفردا
فذلك ما لا فخر فيه لإنسان على إنسان، وأحسب لو أن الناس كلهم كانوا فجرة خسرة، وكان لا يجوز منهم إلى فردوس الأبرار إلا رجل واحد، لكان هذا الرجل التقي أشد عذابا بتقواه وأسوأ جزاء من كل جناة الجحيم وعصاته. وكأني بذلك الرجل، وقد طاف في الجنة حتى بليت نعلاه، ثم نظر إلى ما حوله نظرة الكاره الزاهد، فطرح بنفسه في الكوثر هربا من هذا النعيم الأعجم، أو صاح بهم ليحملوه إلى جهنم، فيصلى النار فيها وهو واجد من يقول له: إن عذاب النار أليم، خير من أن يبقى في جنة لا يرى فيها من يقول له: ما أرغد هذا النعيم!
ويقيني أنه لو نزع الحسد من الناس يوما ما، لاشتراه أولو النعمة وفرقوه على الناس مجانا ليحسدوهم على ما بهم من نعمة؛ فإن السعادة أنثى لا يكتمل سرورها حتى تستجلي مثالها في المرآة، وسواء لديها أكان رافع تلك المرآة لها شانئا حسودا أو صديقا مخلصا، ومن أجل ذلك يرتاح العاشق إلى من يناجيه بأسرار حبيبه ونكايات عذوله، ويحيط الغني مجلسه بحاشية ينفق عليها لتقول له إنه رب عيشة راضية، وهناءة محسودة.
ولا تصدق أن أحدا يصل به احتقار الناس أن لا يبالي بهم قاطبة، ولكنه ربما احتقر جيلا منهم وهو ينتظر النصفة من جيل سواه، أو يهزأ بالفئة التي يعاشرها، ولكنه يعتقد أن هناك فئة لو لقيته ولقيها لأرضته وأرضاها، وإلا فلو احتقر المرء ما مضى من الناس وما سيجيء منهم، لما كلف نفسه مشقة أن يقول ذلك بلسانه.
كذلك خلق الإنسان عضوا من جسم تدب حياته في عروقه، فلا سبيل له إلى الانفصال عنه والتخلي عن عاطفته النوعية ما دام داخلا في اسم الجنس الذي يشمل الإنسان بأجمعه.
فإذا كان هذا شأن التعاطف، فاعلم أن الشعر شيء لا غنى عنه، وأنه باق ما بقيت الحياة، وإن تغيرت أساليبه، وتناسخت أوزانه وأعاريضه.
وإذا كان الناس في عهد من عهودهم الماضية في حاجة إلى الشعر، فهم الآن أحوج ما يكونون إليه؛ فقد باتت النفوس خواء من جلال العقائد وجمالها، وخلا جانب من القلوب كانت تعمره، فإن لم تخلفها عليه خيالات الشعر وأحلامه، كسر اليأس القلوب، وحطمتها رجة الشك واضطراب الحيلة. وها هو القرطاس القديم بين أيدي الشعراء، فليخطوا فيه رسم الفردوس الجديد، وليجعلوه في الأرض أو في السماء، وليكن معاده المثل الأعلى، أو خلود الذكر، أو وحدة الإخاء؛ فإن الإنسانية لا تعيش بغير رجاء.
هذا ولو أن ما ألمحنا إليه من تعاطف الأرواح وتآلف المشارب، كان أول ما يستفاد من الشعر وآخره، لما كان الشعر جديرا بالعناية من عصر المادة الذي نحن فيه، ولكن ثمرة الشعر على ما بها من النعومة والجزالة، وما لها من ذكاء المشم وحلاوة الطعم، تشبع المعدة وتملأ الفم، ولو أمكن إرجاع كل حركة إلى مصدرها الأول من النفس، لما عسر علينا حساب فضل الشعر بالدرهم والدينار، وإحصاء قواه المعنوية بما تحصى به قوة الكهرباء والبخار.
فمما لا مشاحة فيه أن كل نهضة من النهضات التي تشحذ عزائم الأمم وتحدوها في نهج النماء والثراء، لا تكون إلا بعد فترة يتيقظ فيها الشعور، وتتحرك العواطف، وتعتلج نوايا النفوس ومنازعها، وفي هذه الفترة ينبع أعاظم الشعراء وتظهر أنفس مبتكرات الأدب، وما الشعر من تلك العواطف إلا مناطها الذي تتعلق به، بل هو ناقوسها المنبه لها، وحاديها الذي يأخذ بزمام ركبها.
وهذه إنكلترا نهضت في تاريخها نهضتين بلغت في كلتيهما أسمى ما تحلم به أمة من العظمة والمجد؛ كانت أولاهما في القرن السابع عشر؛ أي عقب ازدهار الأدب الإنكليزي في عهد شكسبير، فتحركت في ذلك القرن عوامل الحياة في الأمة الإنكليزية، ووضع عهدئذ أساس إنكلترا الجديدة، وها هي الآن في إبان نهضتها الثانية تقبض على صولجان الدنيا، وتطالب كل فئة منها بقسطها من الحياة والعمل. وما جاءت نهضتها هذه إلا مسبوقة بنهضة أدبية كبرى، ظهرت في أثنائها أكبر الأسماء المعروفة في الأدب الإنكليزي، وأعني بهم أمثال: شلي وبيرون وسكوت وكيتس ووردزورث وكولوردج وسوذي وماكولي، وغيرهم ممن لم يقرضوا الشعر ولكنهم كتبوا في النقد والأدب.
وهذا شبيه بما حدث في فرنسا، فإن جمهوريتها ليست إلا نفحة من نفحات تلك النهضة الأدبية التي كان يشرف عليها لويس الرابع عشر، وما كان يدري ذلك الملك المتجبر، وهو يمد يديه بالحباء إلى زعماء تلك النهضة، أنه يزلزل بيديه قوائم العرش الذي يجلس عليه، ومن حقق تاريخ القرن الثامن عشر في فرنسا ولم ير في ثورته يدا لكورنيل وراسين وموليير وبوالو وشينيه وأمثالهم، فهو قاصر النظر، ومثله في ذلك كمثل من تقول له: إن المد والجزر من فعل القمر، فيقول لك: أين السماء من الماء؟! ثم تتابعت بعد ذلك ثورات كان يقوم على رأس كل ثورة منها رجال من أهل الخيال، الذين يظن بعض كتاب التاريخ أنهم أبعد الناس عن التأثير في عالم الجد، وقد جهلوا أن الأمم تدأب في حياتها بين عاملي الحاجة والأمل. فإن كانت المادة تحكم حيز الحاجة من نفوسها، فالخيال صاحب السلطان على حيز الأمل، وهو أشد العاملين حثا وأعذبهما نداء.
وجاء بسمارك في ألمانيا فأتم تأليف وحدتها بعد أن شاعت في ولاياتها مصنفات ليسنغ وهردر وجيتى وشيلر وهيني ورفقائهم، فكان الألمانيون أمة ذات أدب واحد قبل أن يكونوا أمة ذات دستور واحد.
وأقرب من ذلك شاهد إلينا، الدولتان الأموية والعباسية، بل أقرب منهما هذا الذي نشاهده من إقبال ناشئة مصر على الأدب واشتغالها بصوغ الشعر وحفظه، فإنه - ولا شك - عنوان النهضة المرجوة لمصر، ودليل على تفتق الأذهان وسريان النبض في مركز الشعور. وفي الأمة نفر ممن يتعاطون صناعة الطب الاجتماعي يزعمون أن البلد في غنى عن الأدب، وأنه ليس بحاجة إلى غير مباحث الاقتصاد وما شاكلها. قالوا ذلك؛ لأن الثروة قوت الأمة، ومصر لا تنتفع إلا بقوتها ولا يمرأها الدم في شرايينها، وهو قول - كما يرى القارئ في حديث الطب - يقضي بأن لا يجوز الكلام مع الممعود في غير الأطعمة الدسمة والكينا وسلفات الصودا ... ولا غرابة فالطب تجارب!
على أن كثرة الكلام في المال ليست هي التي توجد المال متى كانت الهمم راكدة والنفوس باردة.
فالشعر لا تنحصر مزيته في الفكاهة العاجلة والترفيه عن الخواطر، لا، بل ولا في تهذيب الأخلاق وتلطيف الإحساسات، ولكنه يعين الأمة أيضا في حياتها المادية والسياسية، وإن لم ترد فيه كلمة عن الاقتصاد والاجتماع، فإنما هو كيف كانت موضوعاته وأبوابه مظهر من مظاهر الشعور النفساني، ولن تذهب حركة في النفس بغير أثر ظاهر في العالم الخارجي.
خدع بعض الباحثين ولا سيما من كان منهم من علماء الطبيعيات، فقالوا: إن الناس اليوم في دور العلم والتحقيق، وإن آباءنا كانوا ينظرون إلى العالم بعين الشعر أيام الجاهليات الأولى، وكان يحيرهم في تلك الأزمات المظلمة ما يدركونه الآن من أسرار الطبيعة وخفايا نواميسها، فيذهبون في تأويلها مذاهب الحدس والتخيل، وإنما غشيت أصحابنا العلماء مادية العصر فرأوا ذلك الرأي، ولست أدري كيف يخطر لأولئك العلماء الجهلاء أنه يجيء يوم على الإنسان يقف فيه جامدا بين يدي هذا الوجود مهما حصل من العلم وأحاط بأسراره، وهل يؤثر علم النباتي العارف بأجزاء الأشجار على خيشومه وبصره فلا يدعه يتنشق رائحتها ويبتهج بألوانها؟ وهل علمي بنواميس الطبيعة يعصمني من الانفعال بمؤثراتها ويذود عني الخوف مما يدعو فيها إلى الخوف ، أو الطرب إلى ما يطرب من بدائع مشاهدها؟
اللهم إنه علم يفقد الإنسان حواسه، ويا لله ما أضعف الإنسانية! فإن الفرد منها لتملكه العاطفة، فلا يكاد يبصر إلا بنورها أو يسمع إلا بصوتها، وإن الإنسانية بأسرها لتغلب عليها حالة من الأحوال الطارئة في بعض الأجيال، فلا تكاد تتوهم أنها تنتقل من تلك الحالة إلى سواها. ظهرت أميركا بمناجمها، واخترعت الآلات التي تصنع الواحدة منها صنع الألوف من العمال، وأعلنت الحرية فألقي حمل كل طبقة على عاتقها، وتوجهت الطبقات المختلفة إلى العمل لنفسها والسعي في طلب رزقها، فحدث من جراء ذلك جميعها تهافت غير مألوف على الذهب، فما هي إلا سنوات مضت في مقدمات هذه الزوبعة قد ملأت الدنيا غبارا، ثم أصبحنا لا نسمع إلا سياسة المال وعلم المال وقوة المال وعصر المال. نسي الناس كل شيء إلا أنهم في عصر المال، ونسوا أيضا أن الإنسان لم ينفض عنه في عصر المال عنصره القديم، وأنه إن كان قد انتقل من فترة إلى فترة، فإنه لا يزال في مكانه من الطبيعة، ولا يزال يهتز بنبراتها ويجري مع طياراتها. ولسوف يمضي عصر المال هذا فلا تسمع عنه الأجيال القادمة إلا كما نسمع نحن عن أخبار العصور الخالية، وكذلك لا يبقى إلى الأبد إلا الأبد نفسه.
أقول ذلك ولا أعني بما قلت كل الشعر، ولكني عنيت منه المطبوع الأصيل؛ إذ ليس لشعر التقليد فائدة قط، وقل أن يتجاوز أثره القرطاس الذي يكتب فيه، أو المنبر الذي يلقى عليه، وشتان بين كلام هو قطعة من نفس، وكلام هو رقعة من طرس.
فالشاعر العبقري معانيه بناته، فهن من لحمه ودمه، وأما الشاعر المقلد فمعانيه ربيباته، فهن غريبات عنه وإن دعاهن باسمه. ولا يثمر شعر هذا الشاعر مهما أتقن التقليد، كالوردة المصنوعة يبالغ الصانع في تنميقها، ويصبغها أحسن صبغة، ثم يرشها بعطر الورد فيشم منها عبق الوردة، ويرى لها لونها ورواؤها، ولكنها عقيمة لا تنبت شجرا ولا تخرج شهدا، وتبقى بعد هذا الإتقان في المحاجر زخرفا باطلا .
ألا وإن خير الشعر المطبوع ما ناجى العواطف على اختلافها، وبث الحياة في أجزاء النفس بأجمعها كشعر هذا الديوان. •••
فإذا تلقى قراء العربية اليوم هذا الجزء الثاني من ديوان شكري، فإنما يتلقون صفحات جمعت من الشعر أفانين، قد سمح بها قلم سخي وقريحة خصبة.
في هذه الصفحات نظرة المتدبر، وسجدة العابد، ولمحة العاشق، وزفرة المتوجع، وصيحة الغاضب، ودمعة الحزين، وابتسامة السخر، وبشاشة الرضى، وعبوسة السخط، وفتور اليأس، وحرارة الرجاء. وفيها إلى جانب ذلك من روح الرجولة ما يكظم تلك الأهواء، ويكفكف من غلوائها؛ فلا تنطلق إلا بما ينبغي من التجمل والثبات.
وإن شعر شكري لا ينحدر انحدار السيل في شدة وصخب وانصباب، ولكنه ينبسط انبساط البحر في عمق وسعة وسكون.
قد يعسر على بعض القراء فهم شيء من شعر شكري، فهؤلاء هم الذين يريد أكثرهم من الشاعر أن يخلق فيهم العاطفة التي بها يفهمونه، وليس ذلك مما يطلب منه، ولو حاوله لأفسد شعره بالتعمل والزيادة، ومن دأب المبتدئين من الشعراء أن يتوخوا في كلامهم الشرح والإسهاب والتفصيل، ظنا منهم أن ذلك يزيد معانيهم جلاء ويقربها من إحساس قرائهم، وليس أبعد من هذا الظن عن الصواب؛ فإن العواطف لا تتأثر بالإطناب، وإنما هو مما يتوسل به إلى إفهام العقول، وإدخال المعاني إلى الأفكار.
ومن النفوس من لا يصلح لتوقيع جميع أدوار الشعر عليه، كما لا توقع أدوار «الأوركستر» على القيثار أو المزهر؛ فإن هذه الآلات الصغيرة لا تسع تلك الأنغام المتنوعة الكثيرة. فإذا سمعت إحدى هذه النفوس أنشودة الشاعر، فسبيلها أن تستغرب رنة اللحن الذي ليس في معزفها وتر يهتز به. •••
قال لي بعض المتأدبين: إن شعر شكري مشرب بالأسلوب الإفرنجي. وأنا لا أعلم ماذا يعني هؤلاء بقولهم: الأسلوب الإفرنجي والأسلوب العربي! فإن المسألة على ما أعتقد ليست مسألة تباين في الأساليب والتراكيب، ولكنها مسألة تفاوت في جوهر الطبائع، واختلاف بين شعراء الإفرنج وشعراء العرب في المزاج كاختلاف الأمتين في الملامح والسحناء.
وأشبه بالحقيقة عندي أن يقال: الأسلوب الآري والأسلوب السامي ؛ فإنه أدل على جهة الاختلاف بين شعر الإفرنج وشعر العرب.
الآريون أقوام خيال نشئوا في أقطار طبيعتها هائلة، وحيواناتها مخوفة، ومناظرها فخمة رهيبة، فاتسع لهم مجال الوهم وكبر في أذهانهم جلال القوى الطبيعة، ومن عادة الذعر أنه يثير الخيالات في الذهن ويجسم له الوهم، فيصبح شديد التصور، قوي التشخيص لما هو مجرد عن الشخوص والأشباح.
والساميون أقوام نشئوا في بلاد صاحية ضاحية، وليس فيما حولهم ما يخيفهم ويذعرهم؛ فقويت حواسهم وضعف خيالهم.
ومن ثم كان الآريون أقدر في شعرهم على وصف سرائر النفوس، وكان الساميون أقدر على تشبيه ظواهر الأشياء؛ وذلك لأن مرجع الأول إلى الإحساس الباطن، ومرجع هذا إلى الحس الظاهر.
السامي يشبه الإنسان بالبدر، ولكن الآري يزيد أنه يمثل للبدر حياة كحياة الإنسان، ويروي عنه نوادر الحب والمغازلة والانتقام كأنه بعض الأحياء، وهذا - ولا مراء - أجمع لمعاني الشعر؛ لأنه يمد في وشائج التعاطف، ويولد بين الإنسان وبين ظواهر الطبيعة ودا وائتناسا يجعلهما الشعر السامي وقفا على الأحياء، بل على الناس دون سواهم من سائر الأحياء.
وهذا الفرق بين الآري والسامي في تصور الأشياء، وهو السبب في اتساع الميثولوجي عند الآريين، وضيقها عند الساميين؛ فليست الميثولوجي إلا إلباس قوى الطبيعة وظواهرها ثوب الحياة، ونسبة أعمال إليها تشبه أعمال الأحياء، وتلك طبيعة الآريين، فإنهم - كما قلنا - قد امتازوا بقوة التشخيص والخيال على الساميين.
وهذا أيضا هو السبب في افتقار الأدب السامي إلى الشعر القصصي، ووفرة أساليب هذا النوع من الشعر في الأدب الآري. فإننا إذا راجعنا أكبر قصص الهنود والفرس، وتقصينا الملاحم الغربية قديمها وحديثها، وجدنا أنها تدور كلها على روايات الميثولوجي، وتستمد منها أصولها، وقد وسعت القصص منطقة الشعر الغربي، فكانت له ينبوعا تفرعت منه أساليبه، وتشعبت أغراضه ومقاصده، وحرم الشعر العربي منها، فوقف به التدرج عند أبواب لا يتعداها.
أما تقسيم الشعر إلى قديم وعصري، فليس المراد به تقسيمه إلى عربي وإفرنجي، ولا يراد بالعصري مقابلته بالقديم؛ فإني أعتقد أن الشعر العصري يشبه الشعر القديم في أن كليهما يعبر عن الوجدان الصميم، ولكن المراد منه التفريق بين الشعر المطبوع وشعر التقليد الذي تدلى إليه الشعر العربي في القرون الأخيرة.
فالشاعر قد يكون عصريا بريئا من التقليد، إلا أنه لا يلزم من ذلك أن يكون إفرنجيا في مسلكه.
وأيما شاعر كان واسع الخيال قوي التشخيص، فهو أقرب إلى الإفرنج في بيانه وأشبه بالآريين في مزاجه وإن كان عربيا أو مصريا، ولا سيما إذا كان مثل شكري، جامعا بين سعة الخيال وسعة الاطلاع على آداب العربيين.
بقلم الأستاذ عباس محمود العقاد
حياة الأمم أو التجدد والتغير
حياة الناس إما ماء نهر
فيصلحه التدفق والمسير
وإما ماء آجنة كثير
قذاه، ويأجن الماء الطهور
وليست هذه العادات إلا
رداء العيش تبليه الدهور
رداء العيش تبليه الليالي
ويبكي عهد جدته الغرور
وأبكار المعاني حائكات
رداء عهد جدته نضير •••
نظامات وعادات تقضي
وبعض الأمر يصلح إذ يحول
وأسباب البقاء لها صيال
صيال السيل يهلك إذ يصول
وأحكام الوجود لها مسيل
مسيل السيل يهلك إذ يسيل
فإن تسدد طريق السيل تهلك
ولا يغني البكاء ولا العويل
ويحيا بالتغير كل حي
ويردى الفاسد القدر العجول
فلا تك جازعا في إثر أمر
جليل الأمر يعقبه الجليل
وآمال وآراء وعاد
سواء في تغيرها شكول •••
وكم من أمة تخشى زوالا
على الأيام أدركها الزوال
تحاذر أن تغيرها الليالي
فيودي حالها ويجيء حال
وبين الدهر والدول استباق
وبعض الناس يعوزه المجال
فقل للغافلين إذا أصاخوا
حياتكم هي الداء العضال
ستنفذ فيكم الأقدار حكما
ويرجمكم بأنكده المآل
وهل يخشى الجديد سوى جبان
له من حب أقدمه عقال
الإيمان والقضاء
ليس يدري مضاضة القدر الغا
لب إلا معالج اليأساء
تفتق الذهن مثلما يفتق الأز
هار وهنا مرقرق الأنداء
غير أن الشقاء قد يخز النف
س ويصمي مجامع الأهواء
فهو طورا يكون برءا لداء
وهو طورا يعد في الأدواء
هو سيف القضاء في يد عدل
رب عدل في وقع ذاك البلاء
خفيت حكمة الحوادث عنا
فشقينا شقاوة الجهلاء
لو رأينا منابت العدل فيها
لنعمنا بالعيشة الخشناء
لو رأينا مطالع العدل منها
ما شكونا مضاضة الأرزاء
وخداع الحياة أروع جلبا
لأسى المرء من خداع النساء
سكنات الإيمان برء من الحز
ن ومأوى لهارب من قضاء
هو حصن من الشقاء حصين
ووقاء أنعم به من وقاء
كنف مانع وظل ظليل
وشراب يشفي أوام الظماء
يلج النفس بالثبات وبالحز
م ويطوي جوانب الضراء
هو روض جم الفروع أنيق
ونعيم موطأ الأفناء
يدخل الأمن والسلام على قل
ب خفوق الضلوع والأحشاء
الحياة والعبادة
أكذب الدين ما ينيم قوى المر
ء كما يخرس الرياح الركود
إنما الدين أن تفك عن النف
س من اليأس والخمول قيود
إنما الدين أن يجد مجد
أعمل السعي أو يجيد مجيد
إنما الدين قوة وجمال
وحياة وعدة وعديد
كيف يدري جلالة النفس غر
أزعجته بوارق ورعود
كيف يدري جلالة الله غر
حركته ضغائن وحقود
اعبد الله بالجهاد وبالتف
كير، والعقل عابد معبود
إنما هذه الحياة جهاد
والجبان الموهون فيها جحود
خلق المرء كي يناهض أمرا
فهو في الموت والحياة شهيد
كتب الصبر في الحياة علينا
فالبس الصبر فالعظيم جليد
عش شهيدا تناجز الهم والدا
ء إذا أم حتفه الرعديد
فحنين الثكلى ووخز ضمير
ودموع يريقها المكدود:
هي ما يعبد الأنام به الله
كما يعبد القضاء الوجود
القلق والغفلة
يا أسيرا قيوده آمال
مشكلات لا تستبين لرائي
تبتغي الخير في مجاهل ما يأ
تي من الدهر والقضاء النائي
لك صدر جم الحنو على النا
س ولكن يضيق بالأرزاء
أنت عبد البقاء لو كره العب
د إباقا من رق ذاك البقاء
أنت تقري الأنام من دمعك الغم
ر شآبيب عاجزات السخاء
أنت تبكي مما يعالجه النا
س وتأسى لبادرات البلاء
إن عتبا على القضاء سفاه
غاب عنه مطالع النعماء
ينعم الغافل الغبي ويشقى
عاتب ساءه وقوع القضاء
أيها اللائمون في الحزن مهلا
غافل القلب ميت الأحياء
ما بكينا من الشقاء ولكن
بكينا من ذلنا للقضاء
ضرب الأمن والسلام عليكم
وعلينا عرفان وقع البلاء
لو منينا بعيشكم ما رضينا
ضاحك القلب جاهل بالبقاء
لا يصيب السلام إلا غبي
كيف نرضى بعيش أهل الغباء؟
كم عظيم قضى ولم يبلغ النج
ح وغر أصابه برياء!
كم جليل مرجم بسباب
وضئيل مزين بالثناء!
اليتيم
يتيم تقاضاه الهموم حياته
وتظميه من طيب الحياة خطوب
وما اليتم إلا غربة ومهانة
وأي قريب لليتيم قريب
يمر به الغلمان مثنى وموحدا
وكل امرئ يلقى اليتيم غريب
يرى كل أم بابنها مستعزة
وهيهات أن يحنو عليه حبيب
يسائله الغلمان عن شأن أهله
فيحزنه أن لا يجيب مجيب
إذا جاءه عيد من الحول عاده
من الوجد دمع هاطل ووجيب
كأن سرور الناس بالعيد قسوة
عليه تريق الدمع وهو صبيب
يظل حسودا للذين أظلهم
من العيش، فينان النعيم رطيب
وما علم الغل الفتى كمصيبة
دهته فلم يعطف عليه ضريب
فيا ويله قد مزق الغل قلبه
وأنشب فيه للشقاء نيوب
عزاءك لا يلمم بك الضيم إننا
يتامى ولكن الشقاء ضروب
فهذا يتيم ثاكل صفو عيشه
وذاك من الصحب الكرام سليب
وكل امرئ في الناس باك وضاحك
وكل يتيم لليتيم نسيب
فإن شئت فاعدد من رزئت أمانيا
وإنك منها ما حييت سليب
وما الرزء إلا فقد من لو حرمته
حييت ولم يعنف عليك وجيب
ألا إن بين الناس قربى ولو طغى
جفاء وأودت بالحنان شعوب
فإن جهلوا أن القلوب أواصر
فما جهلوا أن القلوب قلوب
الجمال والعبادة عند قدماء اليونان
كم أمة أحكمت بالحسن دولتها
فخلفته وأودى مجدها الفاني
حب الجمال حياة لا نفاد لها
لا نهب دهر ولا أسلاب حدثان
تلك التماثيل أم هذي المعابد أم
تلك الفنون عليه خير عنوان
يا رب مرأى لنا منها ورب منى
فيها وحسن قديم العهد يوناني!
لهفى على زمن كان الجمال به
ما يعبد الناس في دين وإيمان
لم يحبس المرء عن آماله فرق
منها ولم يثنه عن عزمه ثاني
الحب والحسن والأشعار دينهم
أنعم بذلك دينا بين أديان
لم يزر بالحق حب الحسن بينهم
فالحق والحسن إن فكرت سيان
كأنما عيشهم من طيب مخبره
بيت من الشعر في حسن وتبيان
يرون في كل شيء حولهم نفسا
حيا وروحا نماه طيب جثمان
لكل شيء إله ملؤه جذل
معبد بين أزهار وأغصان
وللجمال إله غير ذي بخل
مكلل بوريق العود فينان
لقد أضاءت وجوه العيش عندهم
محاسن الحب من صدق وإحسان
لا تحسب الحب بين الناس منقصة
فالحب سلوة هذا العالم الفاني!
الحياة والعمل
المرء ليس بمالك يده
حتى تكون وسيلة الأمل
والمرء يقمر جسمه كسل
والعمر بعض غنيمة الكسل
والعيش سر أنت باحثه
فعسى تجوب مجاهل السبل
والعيش سجف أنت رافعه
عما جهلت بجد ذي حيل
والعيش تجربة لسالكه
واليأس أخطل فيه من خطل
فحذار أن تعتده غرضا
إن الحياة وسيلة الرجل
لو كان هذا العيش غايتنا
لم نطرق الأقدار بالأجل
لا تزدهيك منازل وطئت
فالسعي خير منازل النزل
والنجح ليس بخير مكتسب
كم نجحة شر من الفشل
كم ظافر بأقل مطلب
خذلت يداه بمطلب جلل
فالطيش ليس بعائب الأمل
والعجز ليس بعائب العمل
إن الذي يسعى على وجل
غير الذي يسعى على جذل!
ضحكات الأطفال
ضحكة منك صوتها صوت تغري
د العصافير تستفز القلوبا
ضحكة ردت المشيب شبابا
وأماتت من الوجوه الشحوبا
ضحكات كأنها كلمات الله
تمحو مآثما وذنوبا
ضحكات كأنها نغمات
تترك الغافل الغبي طروبا
ضحكات لا تعرف الخير والشر
ولا تضمر الجوى واللغوبا
تفزع الهم من ضلوع ذوي الهم
وتحني على القلوب القلوبا
كم أنامت دون الفؤاد وجيبا
وأغاضت من الدموع غروبا
رب ضحك قد يضحك الغدر فيه
ويغطي عن خبه أن يريبا
أبيض النفس صادق الضحك والغا
در يعطيك ضحكه المكذوبا
ولقد يضحك اللئيم رياء
فتراه وهو الضحوك قطوبا
يا رعى الله للطفولة حالا
تركت بعدها العزاء سليبا
يا رعى الله للطفولة حالا
ما عهدنا الزمان فيها مريبا
كم صحبنا فيها الزمان أمينا
ولبسنا فيها النعيم قشيبا
الجمال والموت
باعد الهم عن فراشي المناما
فرعيت الأشجان نهبا سواما
وجعلت الفراش مأوى همومي
فاستزادت من الظلام ظلاما
هو موري الأشواق بعد خمود
وهو داء مر يهيض السقاما
وهو أحنى علي من وضح الصب
ح وأندى يدا وأهدى مقاما
غير أن الفناء يخطر في شم
لته غابنا جسوما نياما
طرقتني في جنحه خطرات
أنا محيي الدجى وهن الندامى
نضدت فوقي الرجام ضريحا
وسقتني من الحمام مداما
فرأيت الثياب فوقي أكفا
نا وحولي جماجما وعظاما
ورميت الظلام بالنظر الآ
مل أبغي من الظلام مراما
إن هذا الظلام باب إلى المو
ت نراه وراءنا وأماما
يا سمير الموتى أبن لي حبيبا
كان في مقلتي بدرا تماما
غبنتني المنون فيه ولو شا
ءت لسامت به الأنام مساما •••
أي زور يفري الدجى عن ضياء
أي زور يسعى إلي لماما
أنت أنت التي هجرت لحاظي
وتركت الفؤاد يشكو أواما
أنت في الموت والحياة تقودي
ن فؤادا متيما مستهاما
عانقيني فرب صدر خفوق
ظل يحنو عليك عاما فعاما
واجعلي ساعديك عقدا لجيدي
واجعلي معصميك فيه زماما
عانقتني فعانق الداء جسمي
وكأن الخيال صار رماما
ورأيت العظام تعرى من اللح
م وقد فارق البهاء العظاما
أبعدي عن مشمي النفس المر
فقدما شممت منه البشاما
أبعدي فاك ذاك عن شفتي الظم
أى فقد أبدل الرضاب لغاما
بينما أنت كالضياء بهاء
إذ تعودين رمة تتحامى
عابدة الشمس (اسم زهرة معروفة)
تديرين نحو الشمس وجها كأنما
ترين بوجه الشمس ما كتب الدهر
فما حسرت عيناك من طول رقبة
ويا رب ترصاد ينوء به الصبر
أتبغين من تلحاظها شكر نعمة
هى النور لم يحسب عليك له أجر؟
تسقيك من أضوائها بلواحظ
وللشمس لحظ لا بطيء ولا شزر
إذا غربت أرخيت أجفان عاشق
يناجى حبيبا دونه للدجى ستر
تضيئين وجه الروض من فرط صفرة
فأنت له شمس وأنت له بدر
وفي اللون آيات من النور غضة
ويا رب لون قد يضيء له جمر
كأنك بين الزهر في ليل أربع
وعشر هلال حوله الأنجم الزهر
وصفراء من نسل المجوس كأنها
تعالج أمرا لا يعالجه الزهر
تهم إلى وجه السماء كأنما
لها في صميم الأرض من جذرها أسر
كما يشرئب النسر هيض جناحه
مقيم على الدهماء ألحاظه طير
جحدنا مغاليق الطبيعة ضلة
فكانت حياة المرء أكثرها سر
صوت الليل
ملأت الكون من نفس عميق
فأسمع كل ذى قلب مفيق
وأجريت الجلال على سكون
يفيض على ظلامك كالأنين
وأخرست الحياة وراغبيها
وريح الموت تخفق منك فيها
كأنك شدو ظئر للوليد
إذا طردت به صحو العنيد
كأن النوم صنوك حين تجري
على سمع سرارك ليس يدري
وأنت علالة الروح الكبيره
إذا أصغت ولجت إلى السريره
فصوت الليل من صوت الضمير
مهيب القول كالهادي النذير
يئن صداه في صم الضلوع
ويكسو النفس ثوبا من خشوع
فيا مأواي من عنت الحياة
إذا أنا مت لا تهجر رفاتي
فكم ناجيت سرك في الظلام
وداء النوم يسري في الأنام
خلسنا منك أسرار البيان
فأنت اليم تعمره المعاني
وصف البحر
ألا ليتني لج كلجك زاخر
أعب كما تهوى النهى والبصائر
فكم عبت النفس اللجوج وحاولت
كبعض سطاك الآبيات النوافر
فأخفت من الدر النفوس ومن حلى
كما اختبأت فيك اللهى والذخائر
كأن بها أفقا كأفقك نائيا
ومن دونه كل المدى يتقاصر
أتطرب من لحن الخرير كأنه
خواطر تتلوها عليك السرائر
كما يطرب النشوان من لحن صوته
فجاشت لديك الراقصات الزواخر
وإلا فما للموج في اليم راقصا
دعاه عذارى البحر شاد وشاعر
خريرك يحكي صدحة الدهر صامتا
كأنك دهر بالحوادث مائر
هو الدهر لا يخشى المنايا ولا يهي
صباه ولا تقضي عليه المقادر
وأنت شبيه الدهر لا أنت هارم
ولا أنت منقوص ولا أنت خاسر
ويصطخب الآذي فيك كأنما اص
طخابك من حكم المنية ساخر
أخفق وإعصار ودفع وهبة
كأنك حي نابض القلب شاعر!
فريحك أنفاس وموجك نابض
كنبض قلوب أعجلته البوادر
خلوت من السمار كالبيد وامحت
معالم لا تبقي عليها الأعاصر
سوى شلو فلك قد حدرت إلى الردى
يلوح كما لاحت رسوم غوائر
وكم جزر مثل الجنان مضيئة
كأن جهلتها الصائلات الدوائر
لخيلت نجوم السعد والحب والمنى
فحن إليها الشخشخان المخاطر
كما حن للآل الخلوب قوافل
تخب بها في البيد إبل ضوامر
لخلقت في قلب المخاطر همة
على الدهر لا تبلى وتبلى العمائر
يحن إلى ما خلف أفقك ناظر
كما تنشد الغيب النهى والبصائر
كأن منى للنفس من خلف أفقه
تلوح كما لاح السراب المبادر
أو ان مجال السعد در منظم
على الأفق ينحوه الطلوب المغامر
بلى كل نفس للغريب مشوقة
وإن خوفتها من سطاه المحاذر
ويصغر في مرآك عيش ابن يومه
ويكبر رأي ذاهب فيك سائر
خواطر مثل الفلك فيك شوارد
يضل عليها عازب اللب حائر
تناءت بك الأمواج وهي نوافر
وجاءت بك الأمواج وهى ثوائر
كأن بها عجز المشيب إذا انثنت
وعزم الشباب الغر وهي بوادر
فنم نومة الظل البطيء مسيره
وثب وثبة الغضبان حين يساور
فيا رب حلم خامل البطش هادئ
ضمنت وجهل شره متطاير
كأن لنا من لج مائك واعظا
بليغا له مما أثرت زواجر
رأيتك والأمواج في وثباتها
عساكر حرب قد تلتها عساكر
فبينا يريق الضوء فوقك ماءه
وتجري عليك الريح وهي خواطر
ويتلو عليك الصائدون غناءهم
يرجعه لحن من الماء مائر
ويسمعك الملاح من شجو قلبه
أحاديث قد تاقت لهن الحرائر
إذ الجو جهم والرياح كتائب
وإذ أنت مقبوح السريرة غادر
ورب سفين يقرع النجم مجدها
تقاذفها مستوفز اللج هامر
يروعها في كل هوجاء موعد
ويسعى لها قبر من الماء سائر
فليس الغمام الغمر إلا رياحها
وما المرسلات الهوج إلا الهوامر
وما ذلك اللج الذي في سمائها
بأهدأ من لج نمته الزواخر
إذا ذكر الملاح زوجا وصبية
طغى شجن في مرجل الصدر فائر
وتذهل عن مهد الوليد رءومه
إذا ما رمتها بالوعيد الزماجر
وما هى إلا صولة ثمت انجلت
وأكبر غرقاها المساعي البوائر
كما غرقت في لجة الدهر دولة
زهت ما زهت والدهر للناس غامر
معان لا يدركها التعبير
كم معان يود لو صاغها المر
ء وحلى بها وجوه البيان
هي ملء الضمير لم يبلغ اللف
ظ مداها ولم تذلها المباني
كلما رام أن يعبر عنها
أنفت أن تنال بالآذان
فهي عذراء لا تحن لناء
وهي عذراء لا تلين لداني
نزلت في النفوس منزل صدق
كنزول النفوس في الأبدان
وتأبت عن قانص الحق باللف
ظ ولو كان واسع التبيان
هي جزء من النفوس وهل تب
دو نفوس لمدرك بالعيان
لن تراها بالرأي حتى تراها
بفؤاد موفق يقظان
طالما نالها أخو الصمت والصم
ت كريم البيان جم الأمان
إنما تنطق النفوس لدى كل
مصيخ إصاخة المذعان
ونجي النفوس ليس الذي أل
جم فاه من رهبة أو هوان
إن وأد الأبناء أهون خطبا
وأثاما من وأد تلك المعاني
ذل من خاف لومة الناس في قو
لة حق فلج في الكتمان!
غلام مريض يكلم أمه
خبريني أمي أئن مت ماتت
نزعاتي إليكم وحنيني؟
والحنان الذي أضم به كل
قريب معانق أو قرين
والضياء الذي ترين بعيني
أمضيء سواد تلك المنون
وهل المرء في الممات غبين
أم هو المرء فيه غير غبين
عاهديني أن لا تعاني لموتي
حرقات تفيض ماء الجفون
وإذا شئت فاجعليه رشاشا
ذلك الدمع واحبسي من أنين
في قليل من البكاء بلاغ
وكثير البكاء داء العيون
لست أرضى لحر وجهك أن يز
رى به من شحوب وجه الحزين
لست أرضى لأضلع حملتني
أن تعاني حمل الأسى المكنون
ولصدر قد كان يحنو على جس
مي في المهد لوعة من شجون
العصافير في الرياض تغني
لا كجسمي تحت التراب الدفين
كنت في العيش مثل هذي العصافي
ر أغني في وكري المأمون
فألاحت لي المنون بوجه
أي راء يرضيه وجه المنون؟
ليس ما بي خوف الجبان ولكن
خوف جهل لا خوف جبن وهون
كالمكان الخراب يبعث في النف
س خشوعا ورعدة للظنين
فهو يخشى وليس يعرف ما يخ
شى ووجه الفناء غير أمين
التنويم المغنطيسي أو عزيمة المجرم (قصة)
بلحاظ راميات
مصميات ساكنات
كلحاظ الحية الرق
طاء عند الوثبات
واعتزام ليس يثنى
بدعاء أو شكاة
قادها كرها وكانت
قبل خير الآبيات
جعلت تغضي لتمحي
فعل تلك النظرات
فهي كالطير قنيص
فى الشباك القانصات
ولها قلب خفوق
كجناح الطائرات
خيفة الرجس ولا خو
ف كخوف الغانيات
صار يدعوها إليه
بحديث اللحظات
لحظات آمرات
فهي طوع الآمرات
تأخذ المرء اقتسارا
باقتدار العزمات
رحمات الله ترعا
ها بخير الرحمات
كم يضحي الشر بالطه
ر لحكم الشهوات
رب جان علم العا
جز وجه العزمات
رب جان علم الغر
جذاب الفرصات
كل خب ودهاء
واعتزام للجناة
هو محسوب علينا
في أساليب الحياة!
ليتني كنت إلها
ليتني كنت في السماء إلها
نافذ الأمر في شئون الوجود
فأضم الوجود بين جناحي
وأسطو على الشقاء بجودي
ثم أحنو على الأنام كما يح
نو شفيق على الرضيع الوليد
ليس شري عليهم بهتون
إنما العدل آية المعبود
إن وعدي لديهم خير وعد
ووعيدي بالشر غير وعيد
ليس حكمي عليهم بشديد
وقيودي لديهم بقيود
ونداماي في الملائكة الغر
حسان من الظباء الغيد
مجدوني حتى عطفت عليهم
فاستراحوا من ضجة التمجيد
هم أجادوا المديح والنغم العذ
ب فأعفونا من ركعة أو سجود
هم أضاءوا كواكبي بضيائي
وأثاروا بوارقي ورعودي
وهم في الظلام حولي قيام
لم يهيجوا لواعجي بالصدود
كم عناق لي بينهم والتزام
وارتشاف من الرضاب البرود
لو تراني وعزتي وجلالي
وجنودي وعدتي وعديدي
لو تراني وعزتي غير عزها
ة وقولي: أحبكم يا عبيدي!
وهم يبسمون عن جذل جم
وعيش هناك غير عميد
فتنوني بمبسم وقوام
وبجيد وأعين وخدود
ليس فيهم من خائن أو خبيث
أو لئيم أو حاقد أو حسود
ولهم في أوائل الفجر لحن
يوقظون الطيور بالتغريد
وسقاني من الملائكة الغر
وصيف شراب أهل الخلود
رب ساق متوج الرأس بالزه
ر صقيل اللحاظ غير عنيد
ولنا من سمائنا فوق هذا ال
ناس إشراف سيد معبود
كم بعثنا اللحاظ في غسق اللي
ل ولحظ الإله غير شريد
فإذا الناس بين باك وضحا
ك ومضنى من لوعة أو حقود
ورأينا في مرقد الغادة الرو
د نساء حلين بالتجريد
فضحكنا حتى أفقنا من الضح
ك وحتى حسبنه من رعودي
كم رفعنا قناني الخمر للسا
ري إذا ضل في الليالي السود
فأضاءت له الطريق سويا
وهدته هدي اللبيب الرشيد
فأرقنا عليه ديمة مزن
سلبت منه جدة في البرود
وضحكنا ضحكا يضج له المو
تى ويشكو منه حبيس اللحود
هكذا تمزح الملائكة الغر
ومزح الكرام غير شديد
رب مزح سهل المساغ ومزح
مستطيل العداء غير حميد
ومزحنا مزح خالص النفس والكف
بريء من سوأة أو حقود
بسط العرش فاستويت عليه
مستعزا بملكي المدود
أنا بالخير قائم، وأخي إب
ليس بالشر قائم والوعيد
كم سخرنا من خائف غير ندب
إنما الجبن آفة الرعديد
وطربنا من عابد العمل الجم
عظيم الفؤاد غير قعيد
أنا والحب خالدان، كلانا
ذو صيال ونشوة وجنود!
هو تربي والكون طفل وليد
وسميري ومسعدي وعقيدي
يا جمال الحياة من علم العش
اق رشف اللمى ولثم النهود؟
يا جمال الحياة من علم الشا
عر وصف الهوى ونسج القصيد؟
يا ضياء الحياة من علم الرا
سم رسم الضحى وورد الخدود؟
يا حياة الحياة من علم الصا
نع صنع الدمى الحسان الغيد؟
يا حياة الحياة من علم المط
رب حسن الغناء والتغريد
يا حياة الحياة من علم العو
اد إفصاح عوده الغريد؟
قد أرتهم ملائكي طرف العي
ش فأوروا ذكاءهم بزنودي
أنا شيخ وهم تلاميذ صدق
شايعوني بالنصر والتأييد
سست هذا الأنام بالحلم حتى
صار رأيي في الحلم غير سديد
وهجاني من البغاث كثير
ليس فيهم من عاقل أو رشيد
هكذا سنة الورى، وقديما
هلك الليث في زمان القرود
وأتتني قوارص عن أخ الجه
ل فويح لمثله من قصيدي
ذهنه خاذل فلو كان ريا
لذباب لمات من تصريد
كيف أخشى هجو البغاث وقد نا
هضت إبليس في زبون كئود
فاعتزام الجهول غير جليل
وأماني الحسود غير ولود
ما رعودي لهم وعيدا، ولكن
ضحك سخر بالشانئ المجهود
طارق اليأس لا تلح لي بأمن
واعفني من حديثك المقنود
أنا أقوى من أن أذل ليأس
مستعيذا بأمره المعقود
ودم للحياة هاج بقلبي
موقظا بعض همتي بالوئيد
نبضات في القلب تحيي طموحي
وتزيح الهباء عن مجلودي
كل عيش سهل المساغ وإن مر
سوى عيش يائس مصفود
لهف نفسي على مراتب عز
تطبينا بالسؤدد المعقود
لهف نفسي على مراتب قد يب
لغها المرء في الخيال البعيد
رب عيش لي في السموات رغد
ليس عيش من بعده بحميد
كان يقضي القضاء أمري فما حك
مي لدى الحادثات بالمردود
عزلوني عن حكمها فكأني
يوم ذاك السلطان عبد الحميد!
غير أني قد كنت أحسن عهدا
وعهود البغاة غير عهودي
ولو اني بقيت في الدست حينا
هلك الناس من زمان بعيد
فكأني قرد يقلد فيها
ربه، بئس ذاك من تقليد!
أيها الغافلون قوموا جميعا
واسألوني عن عدتي وعديدي
لم تدع لي نوائب الدهر منها
غير قلب على الحياة جليد
ولسان مثل الحسام رهيف
وبيان كاللؤلؤ المنضود!
لسان الغيب
يا لسان الغيب ناجي شاعرا
كشف الغيب له طول الأنين
عرف الهم فلم يخنع له
ورمى الدهر بصبر لا يخون
إنما العيش عزيم لا يني
يتقاضاه الأسى وهو ديون
ودحا الكون بلحظ صادق
فرأى ما لا يراه الناظرون
يبتغي المخبوء في مكمنه
ويناجي الله في تلك الظنون
ويرد الناس عن غفلتهم
ما علا يوما على الشك اليقين
باشر الحالات كي يخبرها
ويرى في بعض ذاك العز هون
يا رسول الغيب لا تعنف به
أطرق الشاعر في رفق ولين
إنما الشاعر فيما يبتغي
باحث بر على الغيب أمين
بائع باع رخيصا عمره
بعلالات المنى وهو غبين
ودهته في العوادى حكم
جن منها لبه أي جنون
قد أحب العيش لا حب امرئ
واجد يخشى على العيش المنون
وقلاه لا قلى مستضعف
يبتغي الآمال أو حز الوتين
واستقاد العيش لا تكرثه
صولة العادات بالداء الدفين
فإذا شاء رأى في الجدب خصبا
ورأى في الراكد الماء المعين
نعمى الزواج
إنما عقدة الزواج عقال
وإسار أنعم به من إسار
هو ذاك النعيم لو أسلس الحظ
وباب الجحيم عند العثار
وهو مأوى المطلول من حدث الده
ر بشؤبوب ديمة مدرار
جاعل بيننا هضابا منيعا
ت وبين الأهواء والأوطار
غير أن الحلاب أعذب وردا
وهو أنأى عن ذلة وصغار
إنما المورد الحرام كسم ال
صل في طرف مؤخر غدار
أحكم الله عقدة هي كالعض
ب لدى عقدة الخطوب الكبار
جاعلا ذلك الزواج كريما
كزواج الأنداء للأزهار
إنما الزوج موئل حيث لا مو
ئل ينجي من صولة الأقدار
وهي كالنجمة المنيرة في جن
ح دجى الخطب للشريد الساري
ولجت في الصميم من حبة القل
ب وحلت بموطن الأسرار
الشاعر وصورة الكمال (قصة)
قد حدثوا عن شاعر نابغ
مجود الشعر شريف المقال
لم يعشق الغيد ولكنه
هام ببكر من بنات الخيال
صورة حسن صاغها لبه
وحدها في الحسن حد الكمال
فصار كالطفل رأى بارقا
هاج له أطماعه في المحال
يمد نحو النجم كفا له
ويحسب النجم قريب المنال
فأينما سار تراءت له
كما تراءى خادعا لمع آل
خيالها دان به حائم
كأنه غير عزيز النوال
وربما ألبسها وهمه
جسما وكم وهم غريب الصيال
قد هجر الأتراب من وحشة
وصار يمشي فوق هام الجبال
يحدث النفس بأمر الهوى
ويسأل الأرواح رجع السؤال
فبينما يسعى على قمة
تروع النفس بمرأى الجلال
رأى التي صورها لبه
تصوير صب عابد للجمال
قالت له: إن كنت لي عاشقا
فاتبع خطاي واستضئ بالخيال
فسار يقفو إثرها هائما
والمهتدي بالوهم جم الضلال
وهم أن يمسكها جاهدا
بين ذراعيه بأيد عجال
ما زال يعدو جهده نحوها
حتى هوى من فوق تلك القلال
فرحمة الله على شاعر
مات قتيلا للأماني الطوال!
ربما أو المزهو بحميد خلقه
يا سعيدا يتيه بالخلق الفا
ضل فينا كتيه أهل الثراء
خفض اللحظ قد يتيح لك العي
ش أمورا من حادثات القضاء
ربما شب بين جنبيك للشر
ضرام ما إن له من فناء
كل نفس فيها إلى الخير والشر
دواع طويلة الإغفاء
أنت في اليوم واسع الجاه غض ال
خير لدن الرخاء رطب الرجاء
خالص الكف من دماء قتيل
أبيض الطبع لم يشب برياء
ربما كنت في غد أشعث الطب
ع لئيم الخصال جم الشقاء
خاضب الكف من دماء عدو
طائر الضغن ثائر الشحناء
أو طريدا يرميه بالنظر الشز
ر عظيم الرياء جم الحياء
كم وجوه مشبوبة من حياء
وقلوب لئيمة الأهواء
كل نفس فيها عزائم وسنى
فهي كالغيب لا تبين لرائي
ليس تبدو حتى يمزق عنها
قدر واقع ستور الخفاء
أكثر النفس ساكن غير يقظا
ن خفى خفاء غير عفاء
ربما أضرمت حوادث في النف
س ولوعا بالخير جم السناء
النساء في الحياة والموت
قمن يرفلن في الليالي السود
بعد أن صرن طعمة للدود
بعد أن كن للعيون جلاء
فاتنات بأعين وخدود
مالئات وجه الحياة ضياء
عابثات بمسعدات الجدود
هز منها الهوى ثمار صباها
هزة الريح زهرة الأملود
يتواقعن كالنسيم ويجني
ن لحاظي بثني تلك القدود
صرن يخطرن في الظلام ويرمي
ن عيون الرائين منها بداء
ويرجعن في الظلام صراخ ال
بوم حتى يسقمن وجه الهواء
لابسات أكفانهن حياء
إن ترى قبحهن عين الرائي
هن في الموت والحياة يخبئ
ن عيوبا تزري بذاك الحياء
ربما أضمر الرياء حياء
وبدا في الحياء بعض الرياء!
الحلال والحرام
إذا لم يعد بالشر ما أنت ناعم
به فانتهزه ليس فيه حرام
فكم لذة للمرء كان اغتصابها
حراما أحلت والصروف كرام
وما كل ما يأتيك عفوا محللا
ولا كل ما لا ينتحيه ملام
ولكنها اللذات ما غاب ضرها
حلال وإن هاب الحلال لئام
فرب حلال حرموه وحرمة
أحلوا وألباب الأنام نيام!
متى يعرف الأقوام حلا محرما
فيروى من الحل الحرام أوام؟
العقاب بالقتل
أطيلوا حياة الجارمين فإنها
حياة إذا سد المطامع عاقر
أتبغون أن تنفوا بجرم جريمة
هي القتل يأتيها مقيد وعاثر
فلو أنهم عاشوا وفي السجن معهد
لتهذيبهم عاشوا وفي العلم زاجر
لقد أخلفتهم بلغة العيش برها
زمانا وحاجات الحياة غوادر
لبئس حياة المرء والفقر عاكف
عليه وأسباب الحياة جرائر
فقل للألى أذوى النعيم قلوبهم
أعينوا ألي الحاجات فالفقر كافر
كأنكم بالضامرين تعارفوا
على نية سوآء والجوع آمر
هنالك إني للفقير لعاذل
وإني له مما يعانيه عاذر!
عيون الندى
عيون الندى كوني على الزهر إنه
يطل على العشاق منك ويشرف
فليس عيون الغيد أشعلها الصبا
بأروع في لألائها حين تعطف
ولا أطفأت منك الغزالة رونقا
على الروض جذلان المدامع يذرف
ولا زال مكسال النسيم إذا سرى
على روضة يحنو عليك ويرؤف
يهزك هز الظئر مهد وليدها
فلا المهد يشكوها ولا هي تعنف
ولا زال غريد العصافير واقعا
على الزهر يحسو منك ريا ويرشف
الحاجة المكتومة (قصة)
زعموا أن فتاة
جمعت طيب النساء
شهرت بالبر والتق
وى وحسن وحياء
ما رآها عارفوها
ضحكت ضحك الضياء
ما رآها عارفوها
رددت رجع الغناء
هي عاشت في جلال
كجلال للمساء
حين ترنو الشمس حزنا
وهدوءا في السماء
لم تجد وجدا فتمحو
ه بإحياء البكاء
فلها عيش رقيق
كغدير في الصفاء
وهي لم تمن بهم
وهي لم تمن بداء
غير داء خفيت أس
بابه عن كل رائي
وافتقار النفس للحب
عنيف لا يرائي
هزلت في كل يوم
في صباح ومساء
ولها لحظ ضعيف
مثل ضعف للفناء
أتراها سترت حا
جتها ستر رياء
أم تراها جهلتها
جهل طهر أو غباء؟
عمرت حينا وماتت
من عفاف وحياء!
الإنسان والزمن
حيوان مهذب
أم إله معذب؟
صرح الخير والأذى
فيه والخير أغلب
فإلى العجم نسبة
وإلى الله ينسب
وهو في الشر يرغب
وهو في الخير يرغب!
وله دون شره
في الليالي مؤنب
وله دون خيره
في الليالي مهذب
نهل هذه المنى
والمساعي تقرب
لحياة قبل الحيا
ة وعيش لا يكذب
تذكر النفس حالها
فيه والحال تعجب
فجناب موطأ
واقتدار محبب
ولها عند أمسها
في ضحى اليوم مطلب
وملال في يومها
وطموح ومعتب
ولها كل ساعة
شجن أو تطرب
مثلما أذكر الغري
ب حبيبا تغرب
مثلما هاج للغري
ب جوى الحزن مغرب
فالمآل التنقل
والمآل التقلب
والبقاء التغير
والحياة التطلب
أوما تبصر الزما
ن أتيا لا ينضب
وهو للعمر مالئ
وهو للعمر يسكب
وله الكون خلعة
يرتديها فيحجب
وله القلب منزل
وله النفس ملعب!
مراجعة الحب
دعني أقتات من عيونك بال
لحظ وأروى من خمرة الجذل
ودع جفوني تبل خدك بال
دمع وتحكي مصارع الأمل
نستدفع العتب بالعناق ونن
فيه بإحياء ضجة القبل
هل تذكر الموقف الرهيب وقد
مالت بسمعيك حجة العذل
ولهان أبكي وأنت ذو خجل
وقد يراض الحبيب بالخجل
تحسب حبيك شر منقصة
تفعل بالجاه فعلة الأسل
وإنما الحب سلوة جلل
على شقاء ذي دولة جلل
وإنما الحب كالضرام إذا
أجيع يخبو كخبوة الشعل
وإنما الحسن نهزة تدع ال
خائب يبكي منها على طلل
لقد عرفنا الحياة معرفة
يهابها خائف من الزلل
فاملأ بعطفيك ساعدي ولا
تترك فؤادي بالصد في شغل
لم يخلق الله حسنكم عبثا
يا باعثين الهيام بالمقل
أليس يرضيك أنني رجل
طال من الشعر مبلغ الأول؟
ما أنت بالقارئ الأديب فأر
قيك بقول من حكمة الرسل
يا دولة الحسن غير راقبة
من الليالي مصارع الدول
إن تسعدي الشاعر القئول فقد
أسعدت طبا بأمرك الخضل
أو تخذليه فأنت عادية
تسد عنه منافذ الحيل
يا باخلا بالنعيم لا عجب
إن أنت عانيت شقوة البخل
أما ترى لذة الحبيب إذا
قبله عاشق على وجل!
الحاجات الممتزجة
كم حاجة للنفس ممزوجة
بحاجة الجسم كخمر وماء
كذلك الحب به شهوة ال
جسم وري للنفوس الظماء
ونفحة الزهر بها شهوة ال
أنف إذا سيقت بريح رخاء
ولذة للنفس في طيها
تفعل فيها مثل فعل الدواء
يا عجبا للنفس يهتاجها
بشجوه الصوت سليل الهواء
كم من صلات بين نفس الفتى
وبين موجودات هذا الفضاء
ورب لون هاج شجو الفتى
وفتح الذهن بمرأى الضياء
إن غذاء الذهن فيما احتوى
من سمع أذن المرء أو رأي راء
والحس باب النفس كم والج
منه إليها بالحجى والغباء
إن عناء الجسم في فعله
يغري بنفس المرء برح العناء
ورب داء والج جسمه
يصاب عقل المرء منه بداء
لا راحة للنفس في حيث ما
للجسم فيه مطلب للرخاء
أنفاس السحر
نسيم الرياض وريح السحر
أهابا بشجوي حتى ظهر
يمر علينا النسيم العطر
ببرد الدجى وبطيب الزهر
فما استبرد القلب ريح السحر
حتى استثير له ما استتر
وكم في الدجى من بديع الغرر
مناظر تصبي الفتى ما نظر
وميض النجوم بوجه الغدر
ولون الدجى حول ظل الشجر
نظرت إلى النجم لما سفر
ثقيل النعاس بعيد النظر
سويعة للقلب فيها عبر
يهيج الخيال بها والفكر
تطيب الأماني بها والذكر
وتنشقنا من نسيم السحر
جنينا من الحب خير الثمر
ونلنا من اللهو أقصى وطر
فيا نفس الصبح لما ظهر
ويا حندس الليل لما انحسر
لقد صرت ذكرى تشب الذكر
بطيب الزهور وبرد السحر
امرأة تكلم بعلها
ليس الجمال عقارا أنت مالكه
إن الجمال جمال الله والناس
تعتدني سلعة في ملكها أرب
تموت داء ولا يدنو لها الآسي
في كل لحظ عطيل ثار ثائره
وكل خطرة فكر رجع وسواس
وتحسب البعل مولى زوجه سفها
فهل يشايع رأيي رأيك القاسي
وحاجة النفس في ند أخي كرم
جم ورفق وإعزاز وإيناس
هل كل قولك حق لا ارتياب به
أم كل طبعك حلو الطعم للحاسي
أم أنت عندي كما تهواه من خطل
أعز عندي من العينين والراس
لا يطعم البعل منكم حب زوجته
فليس يعرف فيه غير أرجاس
لا يصحب البعل منكم روح زوجته
دعم الوداد بأطناب وآساس
فصار رأيكم في العيش ذا عوج
جم وآمالكم في الحب كالياس!
الحسناء الغادرة
يأسي إليك أحب من تأميلي
فدعي النفاق عزيزة التنويل
أدنيتني حتى ملكت مسالكي
ومنازعي فهجرت هجر ملول
وجعلت حسنا فيك نحو نفوسنا
لك رائدا والحسن خير دليل
فأضاء بين ضلوعنا لك ضوءه
سر الهوى ولواعج المخذول
ولبست أهل الحب حلية ساعة
أو خلعة أبدلتها ببديل
فإذا نأى لك عاشق أنسيته
إن المقيم لديك خير خليل!
وحسبت غدرك كافلا بشفائه
من دائه والغدر غير كفيل!
النعمان ويوم بؤسه (قصة) (كان للنعمان نديمان فماتا. فحزن عليهما حزنا شديدا، ودفنهما في قبر واحد. وجعل يوم موتهما يوم نحس سماه يوم البؤس. فكان يخرج فيه إلى البادية فيأخذ أول من يمر به من الناس فيذبحه على قبرهما ضحية لهما! فحدثت القصة الآتية في يوم من أيام بؤسه):
لقد خرج النعمان في يوم بؤسه
يرفه عنه من جوى غال غائله
وقد كان آلى أن أول قادم
على قبر ندمانيه تدمى مقاتله
رأى شاعرا ينحوه في بعض سيره
وكان رحيبا للعفاة فناؤه
يرجى لديه الخير والخير عازب
فيا ليته قد غاب عنه رجاؤه
فجاءت به الحراس وهو مقيد
عزيز المحيا ثابت الجأش مطرق
فقال له النعمان قولة عازم
على الشر لا يلويه عنه الترفق:
طلعت علينا طلعة لك شرها
وقد يدرك الإنسان ما فيه ضره
طلعت علينا والردى لك راصد
عبوس ويوم البؤس قد طار شره!
فقال له العافي وقد حن قلبه
إلى أهله شوقا وهاج وجيبه:
هو الجد بالإنسان غاد ورائح
ورب طلوب يتقيه طليبه
تركت ورائي صبية وحليلة
وجئتك أبغي حاجة من تفضل
فإن لم يكن إلا الممات فخلني
أودع أهلي قبل ساعة مقتلي
فقال له النعمان: هل لك ضامن
حلال لنا إن لم تعد أن نقيده
أقم أنت نائي الدار لا غر بيننا
ضمين غريب خشية أن يكيده
فقام غريب الدار ينشد ضامنا
له بين قواد الأمير وصحبه
إلى أن رأى شيخا كأن بوجهه
دليلا على ما فيه من طيب قلبه
فقال له: هل فيك للخير منزل
دعوتك للجلى فهل أنت سامع؟
فقال له: اذهب إنني لك ضامن
وأنت وفي لا محالة راجع
مضى ما مضى حتى إذا آن عوده
وقد قرب الميعاد أو كاد يذهب
وجاءوا بذاك الشيخ والسيف مصلت
عليه وحب العيش للنفس أغلب
وقال له النعمان: هذي جناية
عليك جنتها فيك شيمة أخرق
ضمنت غريب الدار لم تبل صدقه
فأوقعك المقدار في شر مزلق!
رأوا فارسا يعدو كأن وراءه
ممات يرجى إنه غير سابقه
فلما أتاهم قال: أين ضمينكم
لقد كنت أخشى أنني غير لاحقه
فإن أتي السيل عاق مطيتي
ولولا أتي السيل ما عاق عائق
فقال له النعمان: لا تخش بأسنا
فأنت أمين أبيض الود صادق
وما كنت أدري أن في الناس من له
على نفسه منها رقيب يعينه!
ووالله ما أدري أواف بعهده
أحق بإجلال الفتى أم ضمينه؟
ألا عللاني يا خليلي أنتما
على العيش بالإحسان والصدق والندى
فقد صرت لا أخشى من البؤس عودة
إلى أن يتيح الدهر لي عادي الردى!
اليأس داء والأمل داء (يدفع العيش الإنسان إلى الأمل فلا ينفعه الأمل. ويدفعه إلى اليأس فييأس فلا ينفعه اليأس. ويرى في اليأس أملا وفي الأمل يأسا. ويرى الأمل يزجي إلى اليأس؛ واليأس يزجي إلى الأمل؛ فيعلم أن اليأس داء والأمل داء.)
كلما أضمرت حبا لحبيب
كذبت أخلاقه ذاك الهوى
في ضياء الحسن وعد كاذب
مثلما أومض برق وخبا
قال داعي الهم قولا صادقا
إنما نحن عبيد للمنى
عجبا للدهر في أحكامه
يجلب النعمة في داعي الأسى
عجبا ليس يروي غلة
وقلى والعيش لا يخشى القلى
خلق الإنسان كي يشقى بما
يبتغي في نيله برء الشقا
ولو ان اليأس برء للجوى
لم تكن فيه دواع للجوى
ما أتيح اليأس إلا شقوة
إنما اليأس سبيل للمنى
صاح إن العيش خلق كاذب
خلق اللخناء ممرور الجنى
نحن نهواه ونقلى حكمه
فكأن الحب صنو للقلى!
ضوء القمر على القبور (إذا رأى الإنسان ضوء القمر على الزهور، خشع من جلالة ذلك المنظر. ولكنه إذا رأى ضوء القمر على القبور، امتلكه الفزع من قساوة ذلك المنظر الذي يحكي له فناء الجمال في الموت، وفناء الموت في الجمال.)
إني رأيت بياض ضوئك موهنا
فوق القبور كعارض يتهلل
ففزعت من ذاك البياض كأنه
لون المشيب على الذوائب يثقل
ولربما كره الفتى صور الردى
وهو الجريء على الحمام المقبل
ولقد رأيتك والقبور كأنها
أشباح ساكنة النواظر مثل
نظر البريء إلى القتيل مجندلا
والروع في أنفاسه يتعجل
ولقد رأيت على الهلال سآمة
سأم يعالج مثله المتأمل
فكأنه الحسناء يطرقها الردى
فتبيت تذوي في الفراش وتذبل
طورا يريك الموت في لحظاته
حتى كأن الحسن داء معضل
ويبيت طورا في الرياض يعلها
مما يريق على الفضاء وينهل
الندامة (الندامة إذا لم تطرق المرء على سيئ فعله، أغشاه الغي موارد الآثام، وأرهقه مرادها. وإذا طرقته، طرقته إما بالعزم والنشاط، وإما بالهم الذي يخلس العزم والنشاط.)
ندمنا وقد تمحو الندامة ما مضى
ولكنها قد توئس المرء في الباقي
وتودي بعزم صادق ذي عرامة
وتنحى على بال السليم بإقلاق
وتغري هموما جمة بفؤاده
ومن لك من رق الهموم بمعتاق
وقد يخلس الهم الشجاعة والحجى
وينبذ لب المرء ليس له واقي
إذا لم تناصرنا عدا الغي عدوة
فترهقنا الآثام أعظم إرهاق
وإن هي آتتنا خشينا صيالها
بخطب رهيف الناب ليس له راقي
فطورا ترد المرء عن نهج عزمه
وتدفعه طورا إليه بإعناق
ثغر
رب ثغر قد كان مرتاد ثغري
ومجيري من الزمان المغير
كان يحنو ثغري عليه كما يح
نو شفيق على الوليد الصغير
نائما فوقه كما نام فوق ال
زهر شاد أذوته نار الهجير
ولقد أرشف الرضاب بشدو
مثل مص الظمآن ماء الغدير
قبل كالدلال من رقة تف
عل فينا فعل الدلال الغرير
أخرس الهجر صوتها لا رعى الله
الذي أحدثت بنات الدهور
كم جنينا من صوتها النغم العذ
ب وخمر الهوى وخمر السرور
ورشفنا فيها الحياة كما ير
شف محض اللبان من ثدي ظير
ابتسامات
وميض ابتسامات يضيء جوانحي
ويجلو ظلام الهم واليأس من صدري
إذا ابتسمت ضاء بعيني ابتسامها
كما ضاء وجه البدر في صفحة البحر
يكاد يضيء الغيب في مستقره
وميض ابتسام فعله صادق السحر
وأسمع في نفسي أغاريد جمة
يهيج صداها في الجوانح والصدر
كأن بها من صادح الطير شاديا
يغرد في روض من الحب والشعر
وإني لكالبذر الدفين ولحظها
غذاء كلحظ الشمس للزهر والبذر
ويوقظ آمالي ضياء ابتسامها
كذاك شعاع الشمس يزخر بالذر
شعاع ابتسام كالغدير خواطري
نوازل فيه كالكواعب في النهر!
عتاب أم دلال
لام إني ناديته يا حياتى!
قلت: أنى يكون وجه شكاة؟
قال: لو كنت صادق الحب لم تد
ع على من تحبه بالممات
من ينادي حبيبه بحياة
والمنايا رواصد للحياة؟
نادني - لو أردت - يا نفس! إن ال
نفس أبقى على نعيق النعاة
قلت: إني أخاف أدعوك بالنف
س فنفسي كثيرة العثرات
لك نفس بيضاء خالصة الوج
ه ونفسي مسودة الصفحات!
قال: بيني وبين نفسك في الحب
اقتسام لزلة أو هناة
فاقتسام يكون في سيئات
واقتسام يكون في الحسنات!
الحسن والآمال النبيلة
يا ليتني لو تكون مجدية
هذي الأماني صناع أصنام
أعطي لآمالي التي طرقت
في يقظة الحب باب أحلامي
جسم رخام يصونها أبدا
ورب حسن رهين أجسام
آمال تنسي الفتى شقاوته
وتعدم الشر أي إعدام
تعلو بنفس المحب عن دنس
فيها ولؤم جم وأوغام
وصحة النفس صحة أبدا
للحسن والحسن نهلة الظامي
إلى جلال للعيش يظهره
حسن نفوس وحسن أفهام
أصور الحب دمية تذر ال
خالي شجيا ضمين آلام
حسناء تغري الوقور بالمرح ال
جم وترضي فؤادي الدامي
ومن سمت نفسه لغايتها ال
قصوى بعزم ثبت وإقدام
يكرم الحب كل تكرمة
ويعظم الحسن أي إعظام
فالحسن أنواعه سواسية
حسن طباع، أو حسن أجسام
أو حسن رأي، أو حسن مأثرة
أو حسن فعل خلا من الذام
شرب الخمر والحبيب
يا ليت أنك تستحم بخمرة
مشمولة في الدن ذات ضياء
فتريق فوق محاسن لك كأسها
فتزيدها من رقة وصفاء
وتعيدها في دنها وتصبها
لي شربة بلباقة وحياء
فتلذ لي فيها محاسن جمة
وتبل حر لواعجي وظمائي
فلشد ما ظمئت إليك جوانحي
ظمأ الجريح إلى شراب الماء!
أمل فريضة
هل ينفعني ذلك ال
أمل المخضب بالدم؟
يدحو شقاء الأبريا
ء وينثني لم يكلم
أمل يرى ظلم الحيا
ة بوجهها المتجهم
فيعيده طلقا كوج
ه الأغيد المتبسم
أمل يطل على السني
ن بحسرة وتندم
ويرى الحياة فريضة
من آجل ومقدم
صوت الموتى
ألا إن للأموات صوتا كأنه
خرير المياه الجاريات على الصلد!
ويحكي خفيف الغصن في لين وقعه
وطورا كأصداء الطبول على بعد
ويعول أحيانا كإعوال ثاكل
رمتها صروف الدهر في الولد الفرد
يئن أنين الريح عند خفوتها
ويعوي عواء الذئب في المهمه القفر
ويصرخ أحيانا فيحكي صراخه
صراخ العباب الغمر في لجج البحر
يئن أنين الليل إن هدأ الورى
وطورا له صوت كحشرجة الصدر
الحجاب
أطلقوا عن عرسه حتى يراها
ويرى أين هواه من هواها
واحسبوها لو أردتم سلعة
يترجى عرضها قبل شراها!
كيف يهوى غادة لم يرها
يافع أبدت له الدنيا صباها؟
إنما الأرواح شتى فاسلكوا
كل روح حيث لا تذوي مناها
رب حسناء إذا كشفتها
عن أمور كان ينميها خفاها
لنبت عينك عما أبصرت
ودهى نفسك ما أصمى عماها
رب ريان الصبا غض الهوى
مضمر في نفسه ملء دهاها
فدعوا الحسناء تبدي لكم
منه طبعا غاب عن عين سواها!
الموت والتخيل أو أحلام الأحياء بالموت
تسائلني عن الموتى، وإني
ربيب الموت في هذا الأنام!
ولو بطل التساؤل ما رضينا
بعيش مثل أحلام النيام
وأحوال كآراء السكارى
إذا دبت بهم خدع المدام
ولو بطل التخيل ما رضينا
بما يلقى المغيب في الرجام
خيال يطبي الأهواء منا
كبرق لاح في وجه الظلام
وكم في الشعر من حلم لذيذ
يعين على حياة أو حمام
فزهر الروض أو زهر النجوم
ووجه البدر في سجف الغمام
نزين به الممات وقد خلونا
به في العيش أيام الغرام
وكان العدل أن نرضى بموت
فلا طيف يساعد باللمام
أليس الكون أكبر منك شأنا
وأولى بالمقادر والنظام؟!
خذ الموت المحلى بالأماني
وبالأحلام تطرق في الظلام
ودع لي ميتة لا حلم فيها
فما أخشى وقد هدأت عظامي
ولكن التخيل ماء ري
حلال أن أبل به أوامي!
شاعر في الغربة
كنت مثل الغريد جيئ به من
روضه والزمان غير ذميم
حيث وجه النهار جذلان بسا
م، ووجه الظلام غير بهيم
ودواع إلى الغناء كثار
من حبيب وموطن وحميم
أنزلوه في منزل مثل بطن ال
أرض جهم السماء جهم الأديم
عاش يبكي أيامه حيث صفو ال
عيش سهل الجناب سهل النسيم
فقضى عيشه غريبا عن الأه
ل قليل العزاء جم الهموم
إن أكن عائشا فعيش عليل ال
نفس يذوي مثل الرجاء العقيم
الهوى والحياة واليأس والحز
ن وريب من الزمان خصومي
حنين غريب
ابغ في مصر آمرا بالتأسي
وتمهل وانظر أماكن أنسي
خذلتني فقمت أنشد حظي
في سواها فكان مورد نحسي
أنشقوني نسائم النيل إني
لعليل والنيل حاجة نفسي!
من معيني على خواطر إما
طرقتني أغرت هواي بأمسي
حيث وجه النهار يضحك بالبش
ر فيروي ظماء زهر وغرس
أنا في بلدة يمر بها الده
ر حزينا لا يستضيء بشمس
فهي مثل السجن العبوس نهارا
قد رمتني فيها الخطوب بيأس!
لبست فوقنا السماء حدادا
فكأن السماء قبة رمس!
كأس خمر
اسقنيها فإنني غير صاحي
ليس شأن السليم كالملتاح!
ما على من دهاه من حادث الده
ر عظيم إذا انتشى من جناح
عذل راشه العذول سفاها
هل يلوم العليل غير الصحاح؟
أنا ظمآن ليس يعوزني الما
ء ولكن رقيقة الأقداح
فاسقنيها على وجوه ملاح
لهف نفسي على الوجوه الملاح!
الزوجة المهجورة تعالج السحر
هرم اليوم فقومي أشعلي
في دجا الليل ضرام الساحر
قد نبشت اليوم قبرا غائرا
جادني منه بعظم ناخر
فضعيه في اللظى واسعي إلى
بيت هامان بقول ماكر!
أخبريه أنني هيمانة
لم يدع لي الحب حزم الصابر
وخذي منه الرقى في خفية
خفية تطفئ لحظ الناظر
وأعينيه بما يطلبه
وسليه عن حبيبي الهاجر! •••
أيها الليل أفض من ظلمة
تشعل النار بجفن ساهر
لا يرى فيك رقيب أدمعي
وزفيري غير نجم زاهر
أيها النجم استمع شكوى التي
علقت وجه خليع سادر
بليت منه بوجه عابس
بعد أن قيدت بجفن ماطر
بليت منه بقلب فارك
بعد أن قيدت بلحظ فاتر
لو يكون الجو نارا والكرى
حرقا تلفح وجه الجائر
أشعلت من شوقه ما قد خبا
وجرت منه بقلب نافر
يا ولاة الشر هبوا هبة
وأعينوني بحلف ناصر
أنا والسحر وأنتم والأذى
نبتليه بالمذل الفاقر
أنشبوا فيها نيابا خضبت
بدم ينبع منه مائر
فعسى أن ينثني مستشفعا
بجوى باد وجسم ضامر
أنا أهواه وأقلاه معا
شد ما هاج بقلبي الحائر
إنما البغض أخو الحب إذا
ظفر الحب بجد عاثر
حسب نفسي منه وصلا مانحا
ظمئي ريا كري الطائر!
الشاعر والزمن الخرب
أرمي بشعري في حلق الزمان ولا
أبيت منه على هم وبلبال
لا أبتغي الجاه أسعى نحوه ضرعا
جزاء شعري إن الجاه يسعى لي
قد ناهضتني خطوب كلما عصفت
عفت على أمل كالمنزل الخالي
حتى كأن فؤادي منزل خرب
مهدم بين آثار وأطلال
ماذا أفادت بنات الشعر قائلها
إلا عداوة حساد وعذال؟
إن الذكاء وإن الشعر مهلكة
فاربأ بنفسك واعقلها بأعمال!
لولا لذاذة قول الشعر ما خدعت
خديعة المصحر الظمآن بالآل
فارفق بنفسك أن تدعى الأديب وأن
يجري بك النحس من ذل وإقلال!
إنا لفي زمن عيش الأديب به
عيش الجناة سقيم الوجه والحال!
الحب والحجاب
بينى وبينك ستر لا انكشاف له
ككلة السحب بين النجم والبصر
لا فرق الله قلبين اتصالهما
مثل اتصال فتاء السن والوطر
لا فرق الله جسمين انتعاشهما
بالحب مثل انتعاش الزهر بالمطر
لا فرق الله روحين ائتلافهما
مثل ائتلاف صروف الدهر والقدر
في مقلتيك معاني الخلد بادية
فخلدينا بلحظ ربة الخمر
وأيقظينا ففي العادات مخملة
وكيف يسعد من يحيا على غرر؟
وهذبينا بلحظ كله جذل
وأسعدينا بحسن ساطع الغرر
فالحسن أعظم من يلحى على دنس
والحب أشرف من يلحى على نكر
الله يعلم أن الحب مكرمة
وإنما الوزر غدر غير مغتفر
وسنة الله لا تجري بذي ضرر
وحاجب الحب عنا واسع الضرر!
قبلة الزوجة الخائنة
قد قبلتني قبلة مرة
كأنها من حمة العقرب
تحسب أني راتع غافل
ألذ ما تدينه من مأرب
ماء من الحسن روينا به
عاد كوعد البارق الخلب
تنهش جاها لم يكن نهزة
لشاحذ الأنياب والمخلب
ولو درت أن على رأسها
سيفا من الغدرة لم تلعب
لولا وميض الرأي يقتادني
يعيذني من سفه المغضب
جللتها بالسيف أمحو به ال
ذنب بذنب رائع معجب
بيني فقد بانت بما قد جنت
غوادر ما كن من مطلبي!
خطأ الحر وإصابة العبد
إذا ما أصاب العبد في بعض فعله
فما الفضل إلا للذي هو آمره
وإن أخطأ الحر الأبي فإنه
لأفضل من عبد تهون مصادره
فلا تحسد العبدان مجدا مؤثلا
بناه لهم رب طغاة أوامره
وهل يرفع الإنسان فضل أصابه
إذا كان يزجيه إلى الفضل زاجره
فيا رب مجد في الإباء مشيد
وإن لم تبن للصاغرين مآثره!
الحب والكبر
هي والكبر والوقار رقيبا
ها تداني محبها وهي تنأى
نسب باذخ ومجد قديم
وثراء جم وجبن وتقوى
أبعدتها عمن تحب فأخفت
في صميم الفؤاد ما ليس يخفى
فلها نظرة من الحب سكرى
ولها نظرة من الكبر سكرى
يا ابنة الفاخرين بالجاه والما
ل وقبر فان ومجد تقضى
إن مجدي في الحب والصدق لا يف
نى ومجد النفوس بالفخر أحرى
أنت تخشين أن يقال أحبت
غير سامي الأحساب منشا ومعزى
هل يفيد الإباء والشمم الجم
نفوسا صرعى من الحب نضوى
أبعد الكبر دانيات الأماني
لهف نفسي على أماني شتى
ضرب الدهر بيننا من طباع ال
سوء سترا فنحن بالحب نشقى
بين كبر وبين جبن ضياع
لنفوس بالحب تمنى فتحيا
ملل من الحياة
بينا ألذ نعيم العيش في دعة
رمى بي الشك بين السهد والملل
كفى بنفسي داء أنني رجل
أخشى الحياة وأقلى سطوة الأجل
أجن بالعيش طورا ثم أبغضه
ما أضيع المرء بين اليأس والأمل
إني ولعت بعيش كله خدع
كما برمت بعيش غير مقتبل
ما من مجير على هذا الملال سوى
موت يبعد بين النفس والعلل
لو كان لي حيلة أفني بها مللي
من الحياة لما قصرت في الحيل
ذكر
ذكر كأنفاس المحب
إذا تحرق أو تلدد
وكأنها نشر النسي
م إذا تصوب أو تصعد
وكأنها ورق الخري
ف إذا تناثر أو تبدد
وكأنها قبر الهوى
وخميلة الأمل المجدد
ولرب آمال مضت
عاودتها والعود يحمد
فكأنني قبلت مي
تا أو نظرت إليه يلحد
بعض الأماني كالحيا
ة إذا انقضت ليست تجدد
رثاء عصفور
ليت أن الربيع إذ مت ماتا
حلت ميتا بين الربيع وبيني
كنت حليا للروض والروض غض
بالتدلي في أيكه والتغني
فرزئناك شاديا علم الشا
عر أن يخلب القلوب بلحن
نغمات مثل الربيع حسان
وغناء يحيي الهوى والتمني
كفنوه بالغض من ورق الور
د ولا تضرحوا الضريح لدفن
وحفيف الغصون أروع ناع
للذي كان حلية فوق غصن
فالأزاهير كالطيور على الغص
ن سكوت والطير زهر يغني
فى دفة قديمة ملقاة على شاطئ البحر
لقد جار الزمان عليك حتى
حكيت عزيمة الرجل الضعيف
تصرفك الأكف وكل عزم
يؤثر فيه تصريف الصروف
وللأهواء في الآراء فعل
كفعل فيك لليم المخوف
وما هجروك من عبث ولك
ن غايات الوسائل في الحتوف
كذاك الناس مثلك والليالي
وسائل للقضاء وللصروف
كذاك العيش عيش الناس طرا
وسيلتهم إلى الأمل الصدوف
ذكرى على جفاء
نساني طيب العيش إن كنت أنساكا
وما عشت حتى الآن إلا بذكراكا
رأيتك معبود الجمال منعما
فما حيلتي إن كان قلبي يهواكا
تدل علينا بالجمال وليتنا
ندل بشوق في القلوب لرؤياكا
وإنا لنستعدي الوصال على الجفا
ونخلس حسن العيش من حسن مرآكا
متى يجمع النأي المشتت شملنا
فتلثمني خدا وتلثمني فاكا
لعلك يوما أن ترى في وصالنا
مآرب تدنينا إذا التيه أقصاكا
إلى صديق
أإبراهيم قد طال اغترابي
فهلا كان عندك بعض ما بي؟
عليل النفس في بلد غريب
يؤرقه التذكر والتصابي
عهدتك مرة تبغي إخائي
وأنت اليوم توغل في اجتنابي!
أراك على اغترابي ذا ابتعاد
وكنت على اقترابي ذا اقتراب
فلولا منزل لك في فؤادي
لأنسانيك هجرك وارتيابي
سلام الله لا أبغي جذابا
وهل يدنو المنابذ بالجذاب؟
سلام ليس يغني عن وداد
ولا يعدي على غدر الصحاب
إذا كان الحبيب على سلو
فلا يغني التودد بالعتاب!
شكوى شاعر
قد طال نظمي للأشعار مقتدرا
والقوم في غفلة عني وعن شاني!
قد أولعوا بكبير السن أو رجل
بنى له الجاه ما يغلو به الباني
ولو سفلت إلى حيث القريض لقى
بين الأثافي وربع المنزل الفاني
ولو سفلت فقلت الشعر في خبر
من السياسة في زور وبهتان
ولو سفلت فقلت الشعر مبتذلا
في وصف مخترع أو ذم أزمان
لقيل: نعم لعمري أنت من رجل
جم المحاسن من صدق وتبيان!
وإنما الشعر تصوير وتذكرة
ومتعة وخيال غير خوان
وإنما الشعر مرآة لغانية
هي الحياة فمن سوء وإحسان
وإنما الشعر إحساس بما خفقت
له القلوب كأقدار وحدثان
قالوا: أتيت بشعر كله بدع
فقلت: نعم لعمري قولة الشاني!
من كل معنى يروع الفهم طائله
معنى من الجان في لفظ من الجان
من كل معنى كموج اليم مطرد
جم الجلال فلولا الله أعياني
هذي المعاني تناجيهم فما لهم
لا ينصتون بأفهام وأذهان
متى يتاح لهم شاد بما رقصت
له القلوب وتحنان كتحناني؟
هل في أكابرهم برء لذي أدب
من كف كل جديب الكف منان؟
عاطفة شوق
أنا فوق الفراش لا أطعم الغم
ض وقلبي إليك بالأشواق
أشتكي ما جنى الفراق ويا لي
ت حنين الغريب برء الفراق
يا حليف النوى عليك سلام
وحنين يريق ماء المآقي
أين أيامي التي حسنت حي
نا وكأس الشقاء غير دهاق؟
لم تكن كلها نعيما ولكن
كان ينفي الأسى وجوه رفاقي
كنت في مصر أندب العيش والعي
ش وريق الغصون حلو المذاق
فرمتني النوى بأوجع ما ير
مى به واعظ بغيض الخلاق
ونأت بي عن الأنيس صروف
وكلت بي لواعج المشتاق
لا صديق لدي أشكو إليه
غير غر بسام وجه النفاق
عالج الغدر والفسولة حتى
أنكرته مكارم الأخلاق
فاذكر البائس الغريب بخير
رب ذكرى تعيد عهد التلاقي
وأعني بالدمع إن بلاغ ال
ود أن لا تضن بالإشفاق
وهنيئا لك الليالي المواضي
وهنيئا لك الليالي البواقي
أنت مني بمنزل الحب في القل
ب ومجرى الضياء في الأحداق
الحرية
حسبوك صافية الجبين خريدة
تسبي القلوب بأكحل وسنان
بيضاء ناعمة كأن قوامها
في لينه غصن من الأغصان
هلا رأوك وأنت بين معاشر
وضعوا السيوف مواضع التيجان
ظمأى إلى الدم قد أبحت حرامه
كالذئب يعوي بادي الأسنان
أوكلما أدمى الذليل قيوده
زأرت لديك زئيرة الأضغان
لا يبلغ المقهور منك نصيبه
حتى يضرج بالنجيع القاني
عجبا لقاسية الفعال حبيبة
وقليلة الغفران والنسيان
سكرى من الدم قد أنام ضميرها
ومعالج الأضغان كالنشوان
نظرت بعين الصل حين وثوبها
نظرا يسم مجامع الأشجان
تقسو كما يقسو القضاء وإنما
موت الذليل وعيشه سيان
ولرب جرم محوه بجريمة
ظلم الظلوم وقتله جرمان
نبوءة شاعر
لئن خانني الذكر الجليل وملني
مسامع قومي أو غلبت على أمري
سيروي عظامي شاعر بدموعه
وينثر أزهار الربيع على قبري
إذا جنني الليل البهيم أطاف بي
خيالا له يزري على صفحة البدر
يجيء مجيء النوم من حيث لا أرى
ويسمعني ما قد قرضت له شعري
فيا ساكنا في الغيب هذي نبوتي
فذكر بها القوم الألى جهلوا قدري!
أتيح لهم صاد إلى النهلة التي
شربت بها ريا يبل جوى صدري
فساموه أن يسعى على منهج عفا
قديما كما يسعى المقيد في الأسر!
أنا والغيب
ليت لي نظرة إلى الزمن الآ
تي البعيد الخطا الغريب الحال
فتريح الفؤاد مما يعاني ال
طرف من لؤم هذه الأحوال
أو تميت النفوس بالنبأ الأع
ظم إن الوجود نحس المآل
فهي بشرى محمودة أو نعي
لمساع مآلها للفوات
كيف تعنو الأقدار للمرء والمر
ء ستبلى أعماله كالرفات؟
ويح شمل الصحاب لو كان صدق ال
قول أن لا حياة بعد الحياة!
أيها الغيب كم رميتك بالظن
فأبديت لي كوجه السحاب
أنا والغيب كالغلام إذا حا
ول فتحا لمغلق الأبواب
ليس يغني وجيبه وبكاه
ليس تجدي ذريعة المرتاب!
ثورة النفس
وللنفس في بعض الأحايين ثورة
يكاد لها جسم الفتى يتمزق
فيا نفس كم تبغين ما ليس حادثا
وحتام آمالي لديك تحرق
هياج كما هاجت قطاة تعلقت
بأحبولة الصياد إذ ليس مهرب
أما في سكون الليل يا نفس واعظ
أما في هدوء الروض ملهى ومطلب؟
فهل تحسبين نائما كل ساكن
وهل تحسبين ميتا كل هاجع؟
نعم إن للشلال روعا وهيبة
ورب جلال للعواصف رائع
نعم للرياح الهوج هول وقوة
وللبحر أمواج تهيج فتحرب
أغرك من هذي الطبيعة أنها
تثور فلا يقوى عليها المغلب
وما أحسب اليم الخضم بثائر
إذا كان هذا اليم يشقى ويألم
وما القلب إلا لوعة تأكل الحشا
وما الجسم إلا ذلك اللحم والدم
نعم أنت فيما تبغضين مصيبة
ويا حسن ما تبغين من خير مطلب
ويا حسن ما تملي الخيالات إنها
حلي على جيد من الدهر أجرب
تريدين أن الجسم يغدو كأنما
يضيء به منك الضياء المحجب
إذن لأراقت كل نفس ضياءها
على ظلمة للعيش والعيش غيهب
سأبذل جهدي في تعلم رقصة
لأرقصها إن الحوادث تطرب!
فيا نفس قومي فارقصي في جوانحي
كما رقص المجنون يهذي ويلعب
فلا تعذلوني إن لليأس رقصة
تعلمها المحزون من نشوة الأسى
وللنفس آهات من اليأس والجوى
تحقر آهات الأناشيد والهوى
فيا ليت أني في فم البرق كامن
فيودعه الأشجان قلب معذب
ويا ليت أني مثل زوس مسيطر
على الرعد إن أغضب كذا الرعد يغضب
ولكنني إما صرخت كصارخ
غريق له صوت من الماء خافت
ورب بليغ راجح الرأي والحجى
ولكنه بين الحوادث صامت
نعم، نحن أبناء الزمان وصرفه
وحالاته حتى يتاح لنا الردى
فإن تكن الحالات تأتي بترحة
فنحن بنوها للتجلد والأسى
رضعنا من اليأس الصريح لبانه
وكان وكنا في بطون الحوامل
فما آمل فينا سوى صنو يائس
وما يائس فينا سوى صنو آمل
وفي اليأس يأس يبعث المرء بعثة
إلى الغاية القصوى من السعي والجد!
فلا تعذلونا دهركم غير دهرنا
فإنا علقنا بالبعيد من المجد
أفي كل يوم يائس بعد يائس؟
لقد جال ذاك الداء كل مجال
وليس الملام وحده بدوائه
فلا تطلبوا في العذل غير محال
فجر الشباب
إني لأذكر أياما لنا سلفت
كما تذكر صوت اللجة الصدف
فكان للفجر قلب خافق أبدا
من الحياة ووجه كله لطف
والضوء يرقص في الأنهار موقعه
فقده مائس فيها ومنقصف
وناظر ونجوم الفجر مائلة
نحو الغروب كما يرنو لها الدنف
وكلمتني الرياح الهوج في فمها
سر الطبيعة مخبوء ومنكشف!
الإيمان بالحياة
لي في الحياة اعتقاد لا فناء له
الكون يعلنه والفكر يوضح لى
وإنما الكون قلب لا سكون له
حياته نبضات الحادث الجلل
فالعين ظامئة، والنفس ظامئة
إلى محاسن من قول ومن عمل
لا ترجمونا بيأس في مقالكم
فاليأس أقبح ما ينعى على الرجل
أعاظم الناس في اللأواء كم صبروا
إن العظيم عظيم السعي والأمل
محب يرد لحاظه
أرد لحاظي عنك وهي مشوقة
إليك ولي دون الضلوع وجيب
ولو كان لي عيش رغيد وحالة
تعيد كساء العمر وهو قشيب
لأقدمت إقدام الشجاع وكان لي
إليك طموح طائر وهبوب
ولكن لي حالا أخاف صيالها
عليك إذا صالت وأنت قريب
أحبك حبا لا يحبك مثله
أب لك، ذو رفق عليك نجيب
فيا بؤس نفسي تضرم الحب بالمنى
وقد علمت ما لي لديك نصيب!
العظيم في قومه
رأيت حياة الحر في نفع قومه
ولا خير في كنز إذا كان خافيا
يغالب ما يبليه في جمع أمرهم
وإن كان فيهم شاحب اللون طاويا
وما نصب المصباح إلا لضوئه
وإن كان في أحشائه الدهن فانيا
وليس الذي يحيا حياة ذليلة
خليقا بأن يدعى على العيش باقيا
يفيض بيانا يقطر الحزم ماؤه
فتصغي إليه في العروق دمائيا
ويبري سهاما من مقال قويمة
مهذبة يرمي بهن المراميا
يهدده الجبار بالضيم ضلة
وهل يستقاد الحر ما دام آبيا؟
فلا تحسبن أن الرجاء مضلة
وهل خاب ذو عزم إذا كان راجيا؟
نحن إخوة
إنما نحن إخوة جعلتنا
نزعات القلوب كالأضداد
إنما نحن إخوة تركتنا
وقعات الأقحاد كالأحقاد
إنما نحن إخوة جعلتنا
حمة البغض طعمة للأعادي
نتمادى على القطيعة والهج
ر فماذا جنى علينا التمادي؟
قد أقمنا على التخاذل دهرا
فدهانا بسيله كل وادي
وإذا كانت النفوس لئاما
فلماذا تقر في الأجساد؟!
لذة المحبوب والمحب
أتمنعون القلب من وجيبه
وتزجرون الصب عن نحيبه؟
وتأمرون الرشأ الأغيد أن
يقسو على ولهان مستطيبه
وزاجر الأغيد عن عاشقه
كزاجر المسعود عن نصيبه
ولذة المحبوب في محبه
ولذة المحب في محبوبه
وغفلة الفاتن عن لذاته
تزيد قلب الصب من لهيبه
ما أنصف الأغيد من يهواه إن
لم يعطه من حسنه وطيبه
ماذا يرجي المرء من حياته
لو منع العاشق من حبيبه؟
قد خلق الله الحسان سلوة
تشغل قلب المرء عن كروبه!
الشاعر وجمال الحياة
أيهذا العذول في شهوات ال
عيش يدعو إلى حياة عليله
نحن كالنحل لا نحب من الزه
ر سوى كل غضة مطلوله
لا تلم شاعرا رأى العيش حلوا
فأتيحت له الحياة جميله
هو مهما آتاه فيها نعيم
لا يرى في الحياة كل فضيله
فى قبيح اسمه حسن
إذا وصفوا بالحسن مثلك ضلة
فمن ذا يسمى قاتل الوجه أخرقا
فما الحسن في خلق ولا في خليقة
لديك وليس الحسن فيك تخلقا
لقد كانت الدايات يسخرن حينما
وصفن بحسن أظلم الوجه أحمقا!
فكن كمن نادى من الزنج أسودا
فقال له يا أبيض الوجه مشرقا
وما صاغك الرحمن إلا فكاهة
وماذا عليه أن يشاء وتخلقا!
الكاذب
لا تلمه في كذبة بعد أخرى
هو أهل لأن يكون كذوبا
لو سمعنا له مقالة صدق
لم يكن صدقه إلينا حبيبا!
قم فبين للناس فلسفة الكذ
ب وناجز عدوه والرقيبا
وأحق اللئام بالسخر غر
لا يرى حوله بصيرا لبيبا!
خدعته خوادع تصدق النا
س وقدما كان اللئيم مريبا!
كلمة مدح
شيم كأخلاق المسيح كريمة
ومحاسن لك غير ذات نضوب
لطفت كما لطف النسيم وأحكمت
أسباب ذاك الفضل والتهذيب
وكأنها من رقة وعذوبة
جرعات ماء المنهل المشروب
تجلو عن النفس القطوب قطوبها
وتزيح يأس اليائس المكروب
وكأنها قطع الرياض يعلها
مطر رقيق السجم غير صبيب
العهد والخدر
كم تحت مئزر ذات الخدر من دنس
وفي ابتذال ذوات العهر من خفر!
إن الفضيلة لا يودي بها خلق
قضى به العيش في حال من الغير
حسب الكريم إذا ما غاب عن دنس
أن لا يسب ذوات العهر بالنظر
فقد تخون ذوات البعل آمنها
وقد تخون الألى ظلوا على حذر
العادات
ألا إنما العادات كالبحر، والفتى
كراكب ذاك البحر يخشى زماجره
إذا لم يكن ذا درية بأموره
ليوشك أن تطوى عليه زواخره
كذاك ذوو العادات غر وباحث
جريء له رأي على الشر ناصره
فمن لم يميز غثها من ثمينها
سعى كرحاء الشر دارت دوائره
يعيش كما عاش الكثير من الورى
يجوب ظلام الجهل والجهل آسره
أم إسبرطية قتلت ابنها
فر يبغي من الحمام مجيرا
فأعان الردى عليه المجير
بادرته بحتفه أمه وه
و على عاره إليها حبيب
ولو ان النذير أوحى إليها
وهو في المهد أنه سيخور
لرمته بجانب الجبل الشا
مخ لم تنتزح عليه الغروب
إن إسبرطة التي قمع الطا
مع فيها خميسها المنصور
جعلت ذلك الفرار حراما
والذي يركب الحرام مريب
أيها الخائن الجبان خشيت ال
موت والموت حادث مقدور
إن أما تعزى لها قتلت في
قتلك العار لم يصبها معيب
شرفت ثم أجرمت فلك العا
ر ولكن لها الجوى والزفير
مناجاة الحبيب
الله في نزعات الواله العاني
وفي شفيع من العينين هتان
وفي الوجيب الذي تشقى الضلوع به
وفي الفؤاد الذي يحنو على الجاني
وفي اللحاظ التي ناجت ضميرك من
وراء مسترسل الهدبين وسنان
يا نظرة خلست مني على غرر
عزم الحسام صقيلا غير خوان
لو كنت أملك أن ترتد خاسئة
قبل اجتلاء أغن الطرف جذلان
لما احتسبت فؤادي وهو منصدع
ولا الشباب الذي أذوته أشجاني
كانت شفاء فعادت ملؤها شجن
فكيف أبرئ أشجانا بأشجان
ورب ذكرى تهيج الشجو عن عرض
وتترك الدمع في آثارها قاني
إن الجمال لماء طاب مورده
فما لحسنك لما طاب أظماني؟
فمن لذي شجن بالكبر يكتمه
يحنو على ضاحك اللألاء ريان
صن بالفضيلة حسنا أنت زائنه
ما كل حسن بعف الذيل فتان
إن كان حبك أقصى عنك لي أملا
رحب المرامي فإن الذكر أدناني
أنت النعيم وأنت السعد منعطفا
وظل عيش من الإحسان فينان
وأنت كالدهر لا يرثى لذي ضرع
وأنت كالحظ في منح وحرمان
يا مرخي اللحظ من دل ومن خفر
ماذا تركت للحظ الآثم الجاني؟
أسائل النفس في أمر يراد بها
ماذا تعالج من شوقي وتحناني
ينأى ويدنو كما شاء الدلال له
لعب النسيم بأزهار وأغصان
فيأسر القلب في جد وفي لعب
ويشعل الوجد في وصل وهجران
أهواه والحب يدلي لي بمعذرة
من حسنه وجفاء الهجر يلحاني
فإن تناءى فما في هجره سرف
وإن تدانى فسمح غير منان
يتلو على القلب في دل وفي خفر
آي الجديدين من حسن وإحسان
فلا يشاركني في لوعتي دنف
ولا يشاركه في حسنه ثاني
جاء الخيال مضيئا في الدجى مرحا
فكيف يصدق ما غالى به ماني
إن الظلام على العشاق مؤتمن
طب بأدواء آمال وأحزان
أريق في الدمع ما يعيا الفؤاد به
إن الدموع على الأحزان أعواني
والدمع أخون من ترجى معونته
في أغيد بحياء الوجه غصان!
الكبر والمجد
أهاب بباغي المجد كبر مضلل
وما الكبر إلا داء من يتوقل
وما الكبر إلا ثغرة يلج الأذى
إلى المرء منها فهو نصل ومقتل
إذا ما رمى الرامي به جنة العدا
تغلغل في أحشائه منه منصل
وما الكبر إلا صنو كل جريمة
وداء نبا عنه المداوون معضل
فلما دعاه الكبر طاح به الهوى
إلى حيث هاب العاقل المتأمل
يرود مراد الغي حتى إذا عنا
له آخر الأهواء جدد أول
وما والغ هاب الرجال نيوبه
يعل من الأهواء دهرا وينهل
بأرغد عيشا من كريم موادع
له من رجيح الرأي درع ومعقل!
إلى صديق
ليس الذي الهجران من هفواته
بمعاتبي يوما على الهجران
ألفيت عتبك يا مراد كأنه
سيف له حدان مسنونان
فإذا ضربت به أصابك نصله
فمصيبتي كمصيبة المطعان
أصرفت عنا أم عرتك ملالة
أم أسكتتك طوارق الحدثان؟
اعذر أخاك إذا تقارب خطوه
في الشعر أو أعيا علي بياني
ولأنت تعلم أنني ذو منطق
يأتي السميع بأحسن التبيان
بيني وبينك يا مراد مسافة
تنسي الملول أواصر الإخوان
إني يذكرنيك خفق أضالعي
إن الفؤاد لدائم التحنان
فأخوك مثل أبي عبادة لم يجد «قلبا يشايعه على الهجران»!
الزوجة الغادرة (قصة)
أي شيء يهفو بلبك عن وص
ل الغواني وعيش أهل الجدود؟
قائما في النعيم مثل مقام
طالب الري في جوار الغدير؟
لا تعد لي ذكر الغواني فإني
لم أكن عند ذكرها بجليد
كل حسناء في لحاظي عظام
عاريات من البهاء المنير
أى شيء أسمى صباك بسهم
فأراك الجديد غير جديد؟
استبق نهزة المجد إلى صف
و زمان فينان رغد نضير
كل خلو من الخطوب مبرا
ليس يدري مضاضة المكدود
عش بخير ولا يضرك يأسي
إن يأسي على الحياة نصيري
إن قلبي من ذلك اليأس دامي
ودموعي أودى بها مجهودي
أنت مني بمنزل الحب والود
ومأوى سري ونجوى ضميري •••
كنت في صحة من العيش دهرا
أتمنى زيادة المستزيد
لاعبا بالنعيم لعب نسيم ال
روض يشدو في الروض شدو الخرير
فألاحت لي الخطوب لحيني
بفتاة كبغية المستجيد
ولجت في الصميم مني ونالت
ما يشاء الهوى بدل غرير
فرأيت الحياة بغية من يه
وى، وإن الهوى قرين الخلود
وتمادى بي الغرور فيا له
في على نشوة الهوى والغرور
عينت موعدا فبت أناجي
ه إلى أن دعا نذير الوفود
فأزحت الرتاج أنظر ضيفي
وسروري من اللقاء سروري
فإذا طارقي أخي صنو نفسي
ونصيري على المنى وعقيدي
جاء يسعى سعي اللهيف ويهتز
اهتزار المحموم والمقرور
قال والدمع ملء عينيه واللح
ظ شريد في إثر دمع شريد
إن «أسماء» لا تحبك فاستق
بل بحزم فواقر المقدور
هي روحي التي أعيش بها وه
ي سقائي الذي به زهو عودي
وهي مأواي من مناهضة الده
ر ومنجاي من رجام القبور
قلت والدمع كاشف ما أداري
ه وصوتي صوت القوي الجليد
ووجيب الضلوع يدعو إلى الظن
بما تحتوي ضلوع الصدور
يا ابن أمى ومن أرجي له عي
شة مستجمع الهوى مجدود
تلك «أسماء» أقبلت تتهادى
في خمار من حسنها المستنير
إن حبي لكالرياح إذا ها
جت زمانا فطيشها لركود
فاستبيني «أسماء» رأيا رجيحا
وأعيني أخي بحب طهور
واعلمي أنني خلصت خلوص ال
حر من سر حسنك المعبود
نافضا عني الغرور كما ين
فض ليث عنه هباء الضفور
فرمتني بلحظة هي كالسه
م إذا ما استوى بقلب المصيد
ثم قالت والدمع يطرده الدم
ع على خدها طراد المغير:
تحسبان العروس مثل إماء ال
سوق تشرى بصرة من نقود!
أي شيء يجني أخوك إذا زو
ج من لا تقريه غير النفور؟
فدعاني أخي وقال: أقلني
إن ذنبي ذنب اللئيم الحسود
أين كانت رجولتي وإبائي
وامتناعي على بنات الدهور؟
سفها أن أروم غير رغيب
وشجى أن أحب غير ودود
قدك إني راجعت حلمي ونادا
ني عزم طب بداء الأمور
ثم أهوى إلى الرتاج فأجرا
ه قليلا بهزة الإقليد
ومضى يمتطي الطريق بعزم
مستراب الإقدام والتشمير
فبقينا نجري العتاب ونستد
فع صولاته برأي سديد
وعقدنا عقد الزواج وثيقا
ونعمنا بيومه المشكور
ثم جاءت من بعد ذلك أيا
م كرام كحلفنا المعقود
فخلسنا نعيمها كاغتفال ال
طفل عين المولى لقطف الزهور
بينما نحن في رواء من العي
ش نغطى بظله المدود
جاءنا زائرا أخي مستنير ال
وجه طلق الجمال جم النور
ضاحكا كالصباح ممتلئا بش
را كريم المرأى نضير العود
فلقيناه بالبشاشة، والتر
حيب في طيبه كنفح العبير
وأفضنا عليه من كرم العي
ش نعيما ما إن له من مزيد
ورعيناه آمنا مأمونا
مستفز الضحكات جم السرور
كنت يوما أرقى من السلم الأع
لى بقايا إلى مكاني تودي
فإذا خادم صغير أتى يه
تز من خوفه اهتزاز الوكور
ثم قال: استمع حديثي وانظر
سيدي ما ترى بخطب جديد
قد تسمعت خلف باب من الأب
واب يا هول ما جرى في الخدور!
ربة البيت في يديها سقاء ال
سم والضيف خلفها كالعقيد
قالت: اهدأ دعني أدوف له السم
وأبغي غفران رب غفور
قد أتاني هواك في غفلة عن
ك فلم ينعقد له مجلودي
أنت روحي التي أعيش بها فاس
تبق روحي معي وكن لي أميري!
أي شيء هد الأضالع مني
ودهاني بهزة الرعديد
كلما رمت أن أقول مقالا
ضل في منطق الغلام الصغير
فولجت الأبواب ممتلئ السم
ع طنينا من رعدة المزءود
نحن حول الخوان ننتظر الطع
مة مما قد هيأت في القدور
وهي قد أفرغت لي السم في كو
بي وقامت تمر غير بعيد
ثم غافلتها وأفرغت كوبي
فوق ماء بكوبها منزور
ثم نلنا من الطعام بلاغا
وشربنا برءا من التصريد
ثم جاء اليوم الجديد فنامت
زوجي الرود نومة المقبور
فعل السم فعله في حشاها
ودهاها من الردى بقيود
كلما جنني الظلام أتت تط
رق في شملة الظلام سريري!
كلمات النفس
وطورا أكون كبعض الهبا
ء لج به العاصف الثائر
وطورا أكون كذات القلو
ع هم بها الهائج المائر
وطورا أكون كأرجوحة
يرجرجها طفلها الجامح
وطورا أكون كغصن الجنى
يميل به الثمر الصالح
وإن الجسوم غذاء النفوس
وإن النفوس حياة لها
ورب نفوس تعني الجسوم
ورب جسوم تعنى بها
وللكون روح وهذي النفو
س أجزاء من بعض أجزائها
يحللها الموت تحليله
وتحيا النفوس بأزيائها
فيا عجبا كيف نرجو الحياة
ولا يعرف المرء معنى الحياة
ولو عرف المرء معنى الحياة
لما جهل المرء سر الممات
وما ساءه مثل وخز الضمير
ولا ضره مثل موت الضمير
وقد يخز الشر روح الغبي
كما يخز الدود أهل القبور
وجهل النفوس بكنه النفوس
مبين لها عن وجود الإله
فهل يعرف الغيب حي سواه
وهل يفقه الكون حي سواه؟
عتاب
سهوتم كسهو الموت عنا وفيكم
حبيب إلينا مثله ونصير
أأحبابنا لم ينقض الدهر مرتى
فإني على ريب الزمان صبور
ولكن آمالا إليكم نوازعا
دهتها أمور منكم وأمور
هنيئا لكم ذاك التقاطع والجفا
فكل حبيب بالجفاء خبير
لقد كنت أرجو أن يثوب ضميركم
إلينا وكلا لا يثوب ضمير
المقاطيع
النفوس الضئيلة
أدور بعيني لا أرى غير أنفس
ضئال المنى والسعي في ضعة القمل
فهم يمدحون الخير من خوف سامع
وهم يهجرون الشر خوفا من العذل
مصر مهد العلوم
كنت مهد العلوم والذهن طفل
كنت أم النعيم وهو وليد
هل يعود الزمان بالعز والمل
ك وماضي الحياة أنى يعود؟
نحن نرجو من الحظوظ معينا
كيف تحنو على الضعيف الجدود؟
هل فعال تجلو عن الهمم العج
ز ورأي جم السداد حميد
كم يعيد النصيح نصحا وما يو
دي بضعف في أنفس ما يعيد!
عظم الشر وعظم الوجود
كل ما في الوجود مما يريق ال
دمع أو يستميح شجو الرحيم
كل غدر وقسوة واحتيال
واجترام ولوعة وهموم
كل شر مهما تعاظم، لو قي
س بشأن الوجود غير عظيم
عظم للهموم غطى عليه
عظم للحياة غير ذميم
الطبيعة
تعالوا بنا نعط الطبيعة حقها
من البث والإجلال والصلوات
فقد زعموا أن الحياة رزيئة
إذا لم تنل ساعاتها الحسنات
وقد حركت تلك العصافير شجونا
بوقع غناء لين النغمات
نصير الظالم
غلوا يد الجبار في غلوائه
فبكم يصول إذا أراد ويظلم
إن الذي اتخذ الظلوم وليه
أطغى إذا عد الطغاة وأظلم!
المتعصبون في الدين
يتهارشون على العقيدة ضلة
فعل الكلاب على خبيث المطعم
إن العقيدة في الضمير مكانها
ليست بتحريك اللسان ولا الفم!
أسف على الأسف
كم قد أسفت على الدنيا وباطلها
فما أسفت على شيء سوى الأسف!
وكم سخرت من الأقدار في صلف
فما ندمت على شيء سوى الصلف!
سوار ومعصم
معصم ناعم المجس لطيف ال
صنع يحكي لطف النسيم أصيلا
وكأن السوار وكل بالمع
صم خوفا عليه من أن يسيلا!
للكاذب
قد عالج الكذب حتى إنه رجل
لو عالج الصدق يرجو قوله خابا!
لو واقع الصدق يوما عده خطأ
منه فكان على حاليه كذابا!
ضحكة الفاتن
يشكو إليك القلب من لوعة
لو ذقتها كنت الغفور الرحيم
وكلما أفصح عن شجوه
ضحكت سخرا ودلالا قديم
يا ضحكة الفاتن كوني جوى
في الكبد الحرى وشجوا أليم!
المال والحجى
لعمرك إن المال حمل على الحجا
ولكنه حمل الظعين المزود
إذا هو لم يحمله آلمه الطوى
وفي حمله جهد المجد المسهد!
أنين كأنين الريح
رحم الله محبا والها
لم يجد عن حبكم وجه المآب
إن مما نابه من هجركم
كأنين الريح في الربع الخراب
أنا أهواك فهل ترحمني
إنما يرحم مذكو التصابي!
الحياء الكاذب
بعض الحياء هو الرياء وربما
لبس الحياء مخادع ومنافق
ينأى بمكذوب الحياء سفاهة
عما يحث به الحياء الصادق!
سوء الظن
لا تعد الظن رأيا صادقا
يفتح الظن مغاليق الحمام
هو كالأخفش في ألحاظه
لا يرى الأشياء إلا في الظلام!
القدرة والرجاء
ومن شقوة الإنسان أن اقتداره
ضئيل وما يرجو من العيش واسع
فلو كان ما يرجوه دون اقتداره
لهان عليه سؤله والمطامع
هائب الموت
متعلق بالعيش يرجو صفوه
كتعلق الطفل الرضيع بأمه
يخشى مجالدة الحوادث عزمه
والخوف ينقض عقدة من عزمه!
ربح وخسران
إذا بلغ المرء الغنى كان خاسرا
بنيل الغنى قدر الذي هو كاسبه
فيربح حالا لدنة الوجه غضة
ويخسر شيئا خافيا عز حاسبه!
دافع الشر بالظن
ومتق بالظنون الشر يكلؤه
دهاه بالشر ذاك الظن من أمم
ومنزل الظن في صدق وفي كذب
كمطرح العين بين الفجر والظلم!
السعادة
إن السعادة لم تسلس لطالبها
كربة الدير لا تحنو على رجل
كلتاهما عفة الأذيال طاهرة
لكن في المنع مزجاة إلى الأمل!
مالك كفاقد
أيا باكيا يخشى زوال محبب
من التلد لا تدنى إليه مسالكه
كأنك لا تبكي لخوف افتقاده
ولكنما تبكي لأنك مالكه
الإحسان
كما يضيئ الإحسان في عالم الشر
ضياء المصباح تحت الظلام
فيه برء لكل داء ولو كا
ن عقاما جم الأذى والعرام
الود الصحيح
حببتك حبي للضمير إذا دعا
فؤادي إلى حب الفضيلة والخير
وإني لأرجو في إخائك لذة
كلذة أهل الرأي في حسن الفكر
هائب الحياة
لا يهاب الحياة إلا جبان
لم تعنه على الحياة الجدود
إن من لا يخشى الحياة خليق
أن يرد الخطوب وهو جليد
رغبة في العيش
ولولا رجائي أن أقول مقالة
تعود بخير أو تعين على شر
لما كان لي في بسطة العمر رغبة
ولم أحمد الأيام أن زيد في عمري
غناء يصم
سمعنا غناء ما سمعناه رغبة
ولكن لأمر في الحوادث مقدور!
تغنيت حتى مادت الأرض تحتنا
كأنك إسرافيل ينفخ في الصور!
إراقة العمر
لو كان عمري كأس خمر في يدي
ورنت إلي بطرفها الفتان!
لأرقته طربا ومن لي أن أرى
لحظا يروح بفضلة النشوان
اسم ممزق
إذا ذكر اسمي حسود لئيم
ومزقه بين أسنانه
أبى لي احتجازي وكبر حميد
هجو امرئ عبد أضغانه!
عتاب
ألا بعض هذا الذم إن كنت حازما
فما الذم مما قد كرهت بمانعي
لعلك يوما أن تثوب إلى الرضا
فتعلم أني بالرضا غير قانع!
سلوة في جمال الطبيعة
أليس يسليك عمن صده ملل
هذي الأزاهير أو تلك العصافير؟
يروح كل جليد في تجلده
وأنت في كفن الأحزان مقبور!
شفة
شفة تحلت باللمى
فتبيت تحلم بالقبل!
غالى بها رغد النعي
م وفوقها هبط الأمل!
إله الرعد في خرافات الوثنية
رب البوارق تزجيها مشفعة
بالرعد يضحك ضحك المرء من ألم
أنزل على الزرع ما نرجوه من ديم
واحبس عن الناس ما يخشى من النقم
إني لمحتك والأنواء داجية
يضيء لي فيك سر غير مكتتم
فأنت كالناس في حلم وفي غضب
وأنت كالناس في بخل وفي كرم
لذة الحب
حرم الناس لذة الحب جهلا
وأقاموا العذال للعاشقينا
جهلوا أنه المعين على العي
ش المزيح الأسى عن الفاقدينا
متعة للفؤاد والجسم فيه
متعة العاشقين والفاتنينا
حجة المستجدي
شقيتم بإقبال النعيم وشقوتي
بإدباره إن الشقاء فنون
شرقتم بصفو العيش لو قد تبللت
لهاتي به كان الشقاء يهون
عتاب
نعمنا بكم حينا فلما صدفتم
ثكلناكم ثكل الفتاة رضيعها
كما أفلتت من قانص الدر درة
وقد أمنت أطماعه أن يضيعها
الكسل وصاحبه
يحجم حتى كأنما خشيت
أعضاؤه أن يموت في غده!
فيدرك الشيء غير طالبه
ولا ينال المكسوب في يده
وراعه أن ينال ما ضمن ال
مسعى فيشقى بقول حاسده
يود أن الأقدار تسعده
فيغتدي شاكرا لمسعده
يحسب أن الأقدار ما خلقت
إلا لتجري بنسج سؤدده
المجد والفخر
يطلب المجد كي يصح به العي
ش وقد يبتغيه للفخر باغي
فإذا ما رآه خلوا من الفخ
ر طواه عنه القلى والتنائي!
الوسائل والغايات
إن الوسائل والغايات ما اشتبهت
على امرئ فدواعي الطيش في العمل
فإن من جعل الغايات واسطة
أو الوسائل غايات من الأمل
لم يستقم سعيه من حيث يممه
وعاقه جهله عن دقة الحيل
العزيمة المضللة
لعزم ذوي العزم المضلل بالغ
من الحزم ما لا يبلغ المتردد
ففي العزم إصماء وفي السعي قدوة
ولو كان سعيا شاردا ليس يحمد
فقد يخطئ الإنسان ما هو طالب
ويصمي من الأشياء ما ليس يقصد
سبر غور الرأي
من شاء أن يسبر آراءه
فليجعل الفعل لباسا لها
فالرأي ميت والمعاني لقى
إذا المساعي عيف إصدارها
الخرافات
أولع الناس بالخرافات حتى
أسكنوها العقول حصنا حصينا
كلما قيل قد مضت أوشكت في
خير آراء خيرهم أن تبينا
الرحمة تهدي إلى صحة الرأى
وما الرحمة الغراء إلا وسيلة
بها يستقاد الرأي والرأي ثاقب
وما غلظ الأكباد إلا نقيصة
تضل ذكاء المرء والحق عازب
يرى غرر الأشياء لا يستبينها
إذا بان منها جانب غاب جانب
حجة الأشقياء
يا من يعيب علينا أننا نفر
سود الخلائق لعانون للقدر
هلا شربت من الكاس التي أخذت
منا مآخذ من سمع ومن بصر؟
كأس من البؤس لم ترؤف بشاربها
دافت لنا السم في حال من الغير!
عزم في الشر
وأصدق الناس عزما وهو ذو أمل
في الشر يبلغ منه كل ما بعدا
أحق بالمدح من مستضعف تعس
مقلقل العزم لا يصمي الذي قصدا
يرجو الفضيلة لكن لا يعالجها
ويطلب الخير لم يمدد له مددا
العقل والخلد
إنما العقل خالق جعل الخل
د له في القضاء أمر الحكيم
أبدا يبرز الذي حاجة النا
س إليه من حادث وقديم
وظيفة الإنسان في الحياة
خلق الإنسان كي يمهد ما
عاق عن مسعاه من هذا الوجود
فهو حر ما سعى في نهجه
يدرأ العائق بالفعل الحميد
وهو عبد ما ازدهته حالة
فنبا عن خطة الرأي السديد
حياة الإنسان
كأن حياة المرء حسناء أرمل
إذا قيل ساءت حالها طاب حالها
لها شافع يدعو إلى الحزن حكمه
وآخر يخشى أن يزول جمالها!
عدو الفضيلة
إذا أنت لم تعط الفضيلة حقها
أصابك من رجس الرذيلة عائب
وما كنت إلا قاذف الريح بالثرى
لوته عليه الريح والترب تارب
ألم تر أن الشر مغرى بربه
يغالبه عن نفسه وهو غالب؟
الأديب والشقاء
ألا إن آلام الأديب لنفسه
صقال وإن النار صاقلة العضب
ألم تر أن القرط ليس بحلية
على الأذن حتى تألم الأذن بالثقب؟
الحسن والغرور
عابوا عليها غرورها سفها
كل جميل بالعيش مغرور
الحسن فضل، وكل منفرد
بالفضل جم الدلال مسرور
حب القدير للعيش
حبب العيش للقدير مساع
ساميات ومطمح واختبار
فلديه الحياة نهزة نجح
وابتغاء الحمام خذل وعار
إن حب القدير للعيش جود
واصطبار وهمة واقتدار
كاذبان
ونبئت أني مادح غير مادحي
رقيبا على الزلات يوسعني لوما
لعل كلينا كاذب في مقاله
أقرظه ظلما ويشتمني ظلما
رباعية من رباعيات عمر الخيام
الشاعر الفارسي
إرم قد عفت وصوح قدما
في رباها الربيع والزهر
كأس جمشيد قد مضت حيث لا حي
ث لدينا من أمرها خبر
لكن الكرم لا يزال جوادا
برحيق حبابه درر
ولنا منزل من الروض فينا
ن تروي أزهاره الغدر
رباعية أخرى
هاج للقلب جدة الحول أشجا
نا لديه قديمة العهد
تأنس النفس بالتفرد والخل
وة في ظل حاله الرغد
حيث تحكي الأزهار راحة موسى
في بياض النوار والورد
ولها نفحة كأنفاس عيسى
باعثات للميت من لحد
رباعية أخرى
هات لي الكأس يا حبيبي دهاقا
لا تطع عائبا كئوس العقار
إن ثوب الوقار ثوب شتاء
ليس يغني في الصيف ثوب الوقار
انض عنك الوقار وارم به في
جمرات للقيظ مثل النار
إنما العيش طائر بين غصني
ن فخذه مآخذ المستطار
شكوى
أما ترى البدر يا حبيبي
كأنه في الهوى رقيبي؟
والنجم حيران مستفزا
يضارع القلب في الوجيب
والسحب ترخي عليه سترا
كأنها هيئة المريب
والليل بالأفق مستقرا
كأنه عيشة الأديب
ما أشبه اليأس بالرجاء
لو دام ما كان يا حبيبي
وأشبه السعد بالشقاء
إن لم أجد في الهوى نصيبي
وأشبه الحب بالعداء
إن كنت في الحب كالرقيب
مصيبة العين بالبكاء
مصيبة القلب بالوجيب!
الحب والجمال
عندي من الحب يا حبيبي
قدر الذي فيك من جمال
فالقلب أسوان في وجيب
وأنت جذلان في دلال
ورب ظمآن من لغوب
يغص بالبارد الزلال
ورب ولهان مستثيب
أصلحه غائض النوال!
الأديب المتكلف
يبيت طوال الليل يقدح رأيه
كما قدح المقرور صخر زناد
يعالج في نسج القريض قصيدة
كأن له فيها أشد جلاد
فيأتي بها كالبكر قد طال حبسها
تحدث فينا عن ثمود وعاد
يقلب فوق الفرش جنبا كأنما
يحك به في الفرش شوك قتاد
ويزحر كالحبلى إذا آن وضعها
ولكنه زحر بغير ولاد!
الثأر
هل الثأر يحيي الميت بعد هلاكه
أم الثأر يشفي غلة الميت في القبر؟
ألا إنه يحيي العداء ويعمر ال
قلوب بأضغان عقاربها تسري
فلا تحسبن الذنب يمحو أخا له
ولا تحسبن الشر يدفع بالشر
شكوى الزمان
أعيذك من شكوى الزمان فإنها
تمر حياة المرء وهو طلوبها
فأحسن من شكوى الزمان احتقاره
إذا عدوات الدهر غالت خطوبها!
خلوة
يا خلوة لي بالحسناء أذكرها
بالليل، والليل والحسناء من أملي
وكلما لمست كفاي راحتها
وقمت ظمآن أبغي رشفة القبل
تقول إياك إن البدر ثالثنا
يرنو لنا بلحاظ الشك والعذل!
العذر في الهجر
لم يكن عن زهادة ذلك الهج
ر ولكن هي الحوادث تنسي
تتخطى إلي من حيث لم أذ
نب فأغدو ما بين طرسي ورمسي!
نظرات مسالك
إذا شئت أن أنساك مما رميتني
به، كيف أنسى أنني لك عاشق؟
وما نظرات العين إلا مسالك
إليك وإن عاقتك عني العوائق!
كاذب أبدا
لام قوم أني وصفتك بالكذ
ب مرارا ومرة فيك تكفي
ويك لو أنني وصفتك بالكذ
ب على سبحة لقصر وصفي!
الحب والهجر
يا وصولا في التداني
وملولا في التنائي
وحبيبا ليس يجزي
عن إخاء بإخاء
وحليف النأي والغد
ر ودل وجفاء
ومطولا للتراضي
وعدوا للرجاء
لك في القلب مكان
ليس يطوى من عفاء
غير أن الغدر داء
لا يداوى بدواء!
ذم الشتاء
جاء الشتاء وجاءتنا غياهبه
كأنها نكد في قلب متعوس!
ترى المدينة لا يمشي الضياء بها
كأنها قطعة من وجه إبليس!
عتاب
نعمتم بهجر قد شقينا بطوله
فلا تحسبونا في الوداد سواء
هنيئا لكم هجرانكم ونزاعنا
إليكم وإن كان الملام هباء
لكل دهر إمام
لكل دهر إمام قائم أبدا
يبين للناس معنى الصدق والكذب
وليس ينسخ ما جاء الأخير به
معنى تمادى على الأيام والحقب!
صبر في الأمل وصبر في اليأس
طموح ويأس لا يرى المرء فيهما
سوى الصبر خلقا كابحا من جموحه
فصبر يعين المرء في حين يأسه
وصبر يعين المرء عند طموحه
إذا أكرمت اللئيم أهنته
إذا أنت أكرمت اللئيم أهنته
بفعل حميد ناقد لفعاله!
يرى الحمد عبئا لا يقوم بحمله
فكيف يرد الحمد غدر نباله؟
صاحب الغيبة
وأكثر الناس عيبا للرجال فتى
جم العيوب إذا بينت باطنه
يظن أن عيوب الناس ماحية
محو البراءة ما قد بات ضامنه!
الوليد
لكأن الوليد عريان عند ال
وضع تخفى الأقدار عنه بضير
تاجر عارضت مساعيه ريح
ورمته الأمواج فوق الصخور
فهما خاسران قد ربحا العي
ش بجاه جدب وجد عثور!
الدهر بحر
وإنما الدهر بحر لا انتهاء له
والناس غرقاه والبؤسى دواهيه
وما أخال حياة المرء فيه سوى
سفينة غفلت عنها عواديه
حتى إذا الحدث المقدور ناهضها
بارت بوار المساعي في طواميه!
الحسناء ومرآتها
لا تحسبي أن قد رأيت الذي
في صفحة المرآة مطبوع
فالعجب قاض والهوى جائر
وإن طرف العين مخدوع
حلم
رأيت كأنا وسط روض وفوقنا
سماء هجير نال منه لهيبها
خلعنا ثيابا قد شقينا بلبسها
إذا جمرات الصيف غالت كروبها
وفي ساعدي راو من الحسن ناعم
له حركات آسر لي خلوبها
أضم إلى نحري محاسن جسمه
وفي النفس حاجات بعيد قريبها
فنمنا على الأزهار جنبا لجانب
وقد غاب عن عين المشوق رقيبها
الجنة الخراب أو الشام في عهد الاستبداد (من الشعر المرسل)
إن الشآم حديقة فينانة
تهفو بلب الشاعر الولهان
وكأنما نسج الإله جنانها
شرك النهى وحبالة الأهواء
من لي بيوم في جنانك صالح
يفديه عمر في النعيم غبين
مد الظلوم عليك فضل عرامه
والظلم موت للنفوس ذليل
كالميتة الحسناء أدركها الردى
قبل استلاب الدهر من آياتها
فتكاد تحسب في الممات حياتها
لولا افتقاد تنفس الأحياء
فإذا رأيت رأيت ثم محاسنا
نسج الممات لها غطاء وقار!
اللئيم المستنبت
مهما تطاول بالنبات فروعه
فأصوله في الأرض ذات طرائق
وكذا اللئيم إذا ترافع قدره
غالى برأي في الفسولة صادق
ولئن أصيب العالمون بجاهه
فمصابه بالجاه أعظم بائق!
اليوم وغد
يسوءك اليوم فترجو غدا
إن غدا ليس بيوم جديد
فانظر إلى أمس مضى واستعن
منه على اليوم برأي سديد
منظر
منظر رائع البهاء جليل
يطبي الناظرين منه بلحن
يحمد السمع ما جنته لحاظي
فكأني رأيت ذاك بأذني!
كاذب لئيم
حياتك كلها كذب
وعمرك كله ريب
لقد برزت في اللؤم
إذا ما برز النجب
وودك ملؤه حنق
وجدك ملؤه لعب
وفيك عن العلا جنف
وفيك إلى الأذى طرب
وفي إدبارك الأرب
وفي إقبالك النوب
وكل رذيلة فلها
إليك من الخنى نسب
وفيك الشر معهود
فلا خير ولا أدب!
عتاب الملك حجر لابنه امرئ القيس (من الشعر المرسل)
تريق دماء الخمر جبنا وخسة
ولو قد أرقت الماء كنت ظلوما!
فإن دماء الثائرين كثيرة
وهذي السيوف الباترات صوادي
فهل تترك المصقول يشكو من الصدى
وتهنأ بالدن الروي شرابا؟
وإن كريم الطبع ماض بظمئه
ومنج أخاه من أوار صداه
وكم من كريم بات يعوي من الطوى
وفي داره الضيف الذليل عزيز
وما حبك الغادات إلا نقيصة
أصبت بها جاهي وكان صحيحا
إذا واقع المرء المسود رذيلة
أتاها ولم يشهد بذاك رقيب
فإما أتاها سيد القوم ناله
من اللوم لفاح بكل حرور
كذلك شهب الطير إن مس ريشها
مداد رمتها بالسهام لحاظ
وإن سوادا في المداد مبغضا
لصنو سواد في الغراب معيب
ألم تر أن الليل أستر للهوى
وليس على وجه النهار نقاب؟
وما يدرك الشنعاء عار إذا زنت
كما يدرك الحسناء وهي كعاب
وما يحفل الرائي إذا غاب كوكب
كما يحفل الرائي لفقد هلال
وما الناس إلا كالملوك فلا تعب
على القوم أمرا أنت فيه ملوم
أتتركني بين الملوك كأنني
جنيت الذي تغدو له وتروح؟
ومجدك من مجدي فكيف أذلته
ألست تراني بالعلاء خليقا؟
وكم والد أهدى إلى الذل ولده
وكم ولد أهدى إلى الذل والدا
وقد يحمد الإنسان عقبى ذنوبه
ويشقى بما لم يجنه ويصاب
أليس قنيص العر يعدي قرينه
ومن يقرب النيران يصلى لهيبها؟
ومن سكن الوادي شكى من أتيه
ومن يصحب الولهان يشقى بدائه!
واقعة أبي قير (من الشعر المرسل)
ملك البحار أتى يحث سفينه
كالطير تسبح في الفضاء الواسع
لجج على لجج يدبر أمرها
ثبت وأجبال على أجبال
حتى إذا بلغت أبو قير اعتلى
علم على أعوادها خفاق
وسفائن الإفرنس تنكر أمرها
حتى أفاق أميرها المكدود
أنى رمى بلحاظه وجد العدا
كالأسد حول فريسة المغوار
حيل يدبرها المغلب (نلسن)
وكذا العداء خديعة ودهاء •••
يا موقظ النيران من غفلاتها
ومحرك الأقدار من سكناتها
إني سمعتك داعيا في صولة
فأجابت الأحداث في وثباتها
كم من غريق في المياه ضريحه
ومقطع الأوصال والأحشاء
قذفت به الأمواج من أمعائها
قذف المريض طعامه المردودا
كم من جريح زاد في آلامه
ذكرى الزمان الناعم الفينان
حيث الحياة حديقة، أحداثها
نفحاتها، ورياضها الساعات
فيجود بالنفس العزيزة جوده
بالأهل والآمال والأهواء
يا لهف للرجل المفارق أهله
في غمرة من دونها الغمرات
ما حل بالأحياء بعد مماته
قد حل بالمقتول قبل مماته
وكذا الحياة إذا بلوت أمورها
خدع السراب الراقص الخداع
يا رب عيش في الممات منعم
ولرب موت في الحياة ذليل! •••
ماذا أعدوا للشقاء وحزبه
لما أعدوا للعداء عديدهم؟
الفقر بين ربوعهم ذو عدوة
والجهل في أرواحهم فعال
تبنى السفين بما يزيل خصاصة
ويبيد فعل الجهل بالأرواح
والمال روح الكون حين تصونه
إلا عن الوجه السديد الأقوم
انظر إلى الأسطول بعد بهائه
قد صار أشلاء على أشلاء
قابيل في أرواحنا متنكر
متحكم متأسد متمادي
ماذا دهى الإنسان حتى إنه
يتطلب الإصلاح بالإفساد؟
هل بعد ذاك على فساد نفوسنا
نبغي الدليل لمنكر ومماري؟
لو يعلم المغرور يوم فخاره
إن الفخار خديعة لإسار
لطغى وثار ونال من قواده
نيل الحديد من الأسير المصفد
ويل القوي من الضعيف إذا طغى
ويل الضعيف من القوي العادي!
أولم يخبرك الزمان وصرفه
أن الذليل قنيصة الجبار؟!
نابليون والساحر المصري (قصة من الشعر المرسل)
سدكت بنابليون سالبة الكرى
والنوم لا يعنو لكل عظيم
في ليلة قلب اللئيم كقلبها
زنجية قد عريت من حليها
فإذا أراد الطيف أن يسري بها
منعت مهابته الظلام من السرى
عبست فخال الأفق طلعة قاتل
جهم المحيا رائع اللحظات
وتنفست نفس المحب إذا قضى
وحبيبه بحنينه لم يعلم
هل أطفأتك يا كواكب ريحها
أم لم تضئك ملائك الرحمن!
خرج العظيم يخط في ترب العرا
خط المدلس في تراب الطالع
ولو ان وجه الأرض دهر واسع
كانت خطوط حذائه أحوالا
يمشي وحيدا في الخلاء وحوله
جيش من الآراء والعزمات
يرمي بعين النسر أرجاء العرا
كالقانص الرامي بسهم صائب
فرأى على بعض التلال بقربه
شبحا كما نظر المريض الهالك
متعمما بعمامة مهدولة
متلفعا بعباءة سوداء
فكأنما اتخذ الهلال عمامة
ثم ارتدى قطعا من الظلماء
تجري الرياح خلال لحيته التي
صبغت بلون غدائر الشمطاء
وتهزها حتى لتلطم وجهه
لطم الرضيع عوارض الآباء
النار من ألحاظه مقدوحة
حتى تكاد تشب فيما ينظر
في كفه عود ضئيل، صوته
شكوى المريض إلى الصديق العائد
يستخرج الألحان من أضلاعه
والعود في تحنانه يتألم
يبكي فيهتاج الرياح بكاؤه
فكأنما ضمنت قلوبا ترحم
لما رأى الجبار يمشي قربه
والليل يسجد في غلالة راهب
رفع الغناء ومر في إنشاده
مر النسيم على الربوع الخاليه
يا أيها البطل العظيم الغالب
أرح الخطى واسمع نبوءة ساحر!
درس النجوم فلم يغادر غامضا
حتى أتيح له الجليل الغامض!
وله من الجن الكرام معاشر
يأتونه بنفائس الأخبار!
كم قد سقيت من الدماء طماعة
لك خيرها وعلى سواك خراجها
في كل جرح مقول ذو سطوة
يدلي عليك بحجة بيضاء
ولسوف تبلغ بالسيوف مبالغا
تدع الممالك في يديك بيادقا
لكن سيعقبك الزمان وصرفه
زمنا يكون به الطليق أسيرا
في صخرة صماء فوق جزيرة
في البحر يضربها العباب الأعظم
يسعى بك الجبار سعي موكل
فيظل يأكل من حياتك كيده
فاستل نابليون سيفا ماضيا
لما رأى العواد ساء مقاله
لكنه ضرب الهواء بسيفه
حيث اختفى المتنبئ السحار!
فأعاد في الغمد الحسام تخوفا
ومضى إلى أصحابه يتعجب!
الفصل الثالث
أناشيد الصبا
وما الشعر إلا القلب هاج وجيبه
وما الشعر إلا أن يثير مثير
وللريح هبات وللنفس مثلها
تغني رخاء فيهما ودبور
من قصيدة «الشعر والطبيعة» لصاحب الديوان
إهداء الديوان
صديقي الأعز
الأستاذ الأديب والشاعر الجليل
إبراهيم عبد القادر المازني
أهديك هذا الديوان هدية ود، أنشدك فيه قول أبي تمام:
وقلت أخ قالوا أخ من قرابة
فقلت لهم إن الشكول أقارب
نسيبي في عزمي ورأيي ومذهبي
وإن باعدتنا في الأصول المناسب
كلمة لصاحب الديوان في: العاطفة في الشعر
إن روح الشاعر مثل آلة الغناء، لا بد أن تتهيأ تهيؤا خاصا لكل نغمة من النغمات فيقصر بعض الأوتار، ويطال بعضها، ويشد وتر، ويرخى آخر، والشاعر لا يمكنه أن يهيئ روحه كذلك متى شاء. بل لا بد من أسباب يتوخاها زمنا، حتى يساعده الطبع فتتهيأ نفسه، ثم يوقع عليها ما يشاء وجدانه من الألحان. والشاعر الكبير لا يكتفي بإفهام الناس، بل هو الذي يحاول أن يسكرهم ويجنهم بالرغم منهم. فيخلط شعوره بشعورهم، وعواطفه بعواطفهم. ولشعر العواطف رنة ونغمة لا تجدها في غيره من أصناف الشعر. وسيأتي يوم من الأيام يفيق الناس فيه إلى أنه هو الشعر ولا شعر غيره. فالشعر مهما اختلفت أبوابه لا بد أن يكون ذا عاطفة. وإنما تختلف العواطف التي يعرضها الشاعر. ولا أعني بشعر العواطف رصف كلمات ميتة تدل على التوجع أو ذرف الدموع. فإن شعر العواطف يحتاج إلى ذهن خصب، وذكاء، وخيال واسع، لدرس العواطف ومعرفة أسرارها وتحليلها، ودرس اختلافها وتشابهها، وائتلافها وتناكرها، وامتزاجها ومظاهرها وأنغامها، وكل ما توقع عليه أنغام العواطف من أمور الحياة وأعمال الناس. فينبغي للشاعر أن يتعرض لما يهيج فيه العواطف والمعاني الشعرية. وأن يعيش عيشة شعرية موسيقية بقدر استطاعته. وينبغي له أن يعود نفسه على البحث في كل عاطفة من عواطف قلبه، وكل دافع من دوافع نفسه، لأن قلب الشاعر مرآة الكون فيه يبصر كل عاطفة جليلة شريفة، فاضلة أو قبيحة مرذولة وضيعة.
والحياة في نظر الشاعر الذي يعيش لفنه الجليل، قصيدة رائعة تختلف أنغامها باختلاف حالاتها، ففيها نغمة البؤس والشقاء، وفيها نغمة النعيم والجذل، وفيها أنغام الحقد واللؤم، والشر والندم، واليأس والكره، والغيرة والحسد، والمكر والقسوة؛ وأنغام الرحمة والجود، والأمل والرضا والحب. فالشاعر الكبير هو الذي يتعرف كيف يقتبس من هذه الحالات أنغامها، ويصوغها شعرا. وهو الذي عواطفه مثل عواطف الوجود؛ مثل الأمواج أو الرياح أو الضياء أو النار أو الكهرباء. وهو الذي يحكي قلبه الأركستر الكثير الآلات، الكثير الأنغام، أليس الوجود أيضا أركستر آلاته الناس، وعواطفهم وأعمالهم، والرياح والأمواج، والطيور والحيوانات؟ كذلك قلب الشاعر أركستر آلاته العواطف، ومن أجل ذلك لا ينظم الشاعر الكبير إلا في نوبات انفعال عصبي، في أثنائها تغلي أساليب الشعر في ذهنه، وتتضارب العواطف في قلبه. ولكن تضاربا لا يزعج نبضه طيور الأنغام الشعرية التي تغرد في ذهنه. ثم تتدفق الأساليب الشعرية كالسيل من غير تعمد منه لبعضها دون بعضها. أما في غير هذه النوبات، فالشعر الذي يصنعه يأتي فاتر العاطفة، قليل الطلاوة والتأثير. وإدمان الاطلاع أساس في الشعر؛ لأنه هو الذي يهيئ الطبع. أما انتقاء الأساليب عند النظم، فدليل على أن الشاعر غير مهيأ الطبع ناضبه؛ ليس في أعصابه نغمة، ولا في قلبه عاطفة.
وإذا نظرت في الشعر العربي، وجدت أن شعراء الجاهلية وصدر الإسلام، كانوا أصدق عاطفة ممن أتى بعدهم. والسبب في ذلك أن النفوس كانت كبيرة، والعواطف قوية، لم يتلفها بعد الترف والضعف، وغير ذلك من الصفات التي تطرقت إلى الأمة في عهد الدولة العباسية، وما بعدها من العصور، التي أولع فيها الشعراء بالعبث والمغالطة، والمغالاة الكاذبة، والتلاعب بالألفاظ، والخيالات الفاسدة. وشعر الأمة مرآة حياتها. فإذا كانت نفوس أفرادها كبيرة، كان شعرها شديد التأثير، صادق العاطفة. وإذا كانت نفوس أفرادها حقيرة، كان شعرها ألفاظا مرصوفة ميتة، ليس فيها عاطفة. والعواطف هي القوة المحركة في الحياة، وهي للشعر بمكانة النور والنار.
الحب والموت
حنيني إلى وجه الحبيب جنون
جنون يهيج القلب وهو شجون
أحبك لا حبي عليك بسبة
ولا أن وجدي في هواك يشين
وحسنك يجلو النفس من كل ريبة
ويطهر قلبا في هواك طعين
فجد لي بذخر من ودادك خالد
فكل قليل من هواك ثمين
وإن ظنوني في الحياة كثيرة
ولكن ظني في هواك يقين
فوا حسرتا لا لي إليك وسيلة
ولا أن قربا في الحياة يحين
وقربك إشفاق وبر ورحمة
على مهجة إن لم تبن ستبين
وكيف أرجي منك عطفا ورحمة
ولم يفش سر في الضلوع كمين
ولم تدر أني منك ضامر لوعة
ولا أن قلبي في هواك رهين
عسى مخبر عما أعانيه في الهوى
فيؤمل خفض من رضاك ولين
نهاري حنين واشتياق ولوعة
وليلي حنين في الهوى وأنين
وما الدهر إلا البحر والموت عاصف
عليه وأعمار الأنام سفين
فلا تعصفوا بالهجر والبعد والقلى
فما لي على هذا الشقاء معين
تبشرني الآمال بالقرب منكم
فيا ليت آمال النفوس يقين
ويا ليت لي نهجا إليك وحيلة
ويا ليت عطفا من رضاك يكون
ويا ليت أني مقعد في دياركم
مقيم على صرف الزمان ركين
ويا ليتني شيء إليك محبب
وأنت به طول الحياة ضنين
ويا ليت أن القرب ينصف والنوى
فيحمد عز في هواك وهون
ويا ليت بي نوعا من النحس واحدا
فإن شقائي في هواك فنون
يغير صرف الدهر ما شاء في الورى
وحبك في القلب اللجوج مكين
فلا تنخدع بالناس عني فإنهم
كلاب ترى أن العواء يزين
أعز صديق في الخفاء يكيدني
وأصدق صحبي في الوداد يمين
وكل فؤاد في المحبة كاذب
ولكن قلبى في هواك أمين
ومن يصحب الأيام من بعد خبرة
يقل لديه تافه وثمين
وكيف أضل الحق في العيش طرفة
ولحظك فيه الحق وهو مبين؟
غدا يكثر السالون منا ومنكم
ويرقأ دمع بيننا وشئون
ونصبح لا قلب يحن إليكم
وتغمض عنكم أعين وجفون
وكم قبلنا خلى حبيب حبيبه
وكم من قرين بان عنه قرين
ويفجع ريب الدهر بالكف أختها
تبين شمال أو تبين يمين
ونبكي على حسن طوته يد البلى
ومن بز عنه الحسن فهو غبين
وما كنت أدري أن حسنك زائل
وأن عزاء عن هواك يكون
فلا يخدعنك الحسن فالحسن طرفة
تمر كحلم العين وهو ظنون
غدا يكثر الباكون حولي وحولكم
وما الناس إلا هالك وحزين
غدا يستذل الموت منا ومنكم
وكل نفيس في الممات يهون
فنصبح موتى لا نحس افتقادكم
وأي دفين يستبيه دفين
ويسعى على قبري وقبرك بعدنا
من الناس خب ماكر وخئون
وتمضي الليالي والشهور وتنقضي
قرون على أعقابهن قرون
كأن الفتى لم يحي يوما لحاجة
إذا ما دهته بالعفاء منون!
بين الحياة والموت
وقفت على البحر الخضم عشية
وللريح فيه والعباب بوادر
وقد بسط الليل البهيم جلاله
وللسحب نوء هاطل اللج هامر
وللرعد ضحك رائع الصوت هائل
كأن ضجيج الرعد بالناس ساخر
أقطع قلبي بالبكاء وبالأسى
وحب الردى داء دخيل مخامر
بكيت بكاء اليأس لا يأس مثله
وقلت وبي من سانح الموت خاطر:
أجرني من ظلم الحياة ولؤمها
فإن شقائي مثل لجك زاخر
أرى كفنا من نسج موجك أبيضا
تمزقه الأرواح وهي ثوائر
وأنت مهاد لين الطي ناعم
ونعش لمن يرجو الردى ومقابر
فأغرق ضحك الرعد شكواي ساخرا
وأبت بهذا العيش والقلب صاغر
أعالج صرف الدهر في غير مطمع
وأفعل ما تملي علي المقادر
ولكنني أرجو من الموت راحة
ويفزعني وقع له وخواطر
وما العيش إلا الذئب تدمى نيوبه
وللعيش ناب قاتل وأظافر
ولكنه كالخمر تحلو لشارب
وإن سلبت منه النهى والسرائر
فها أنا بين العيش والموت واقف
فهل مخبر يدري متى أنا سائر؟
لعل الذي أرجو من الدهر واقع
فقد كان ما قد كنت دهرا أحاذر
عسى أن يعود العيش جما جماله
ففي الروض فينان وفي الأفق زاهر
ويكشف صرف الدهر عني غشاوة
من اليأس لا تجدي لديها البصائر
فلا تعذلاني بارك الله فيكما
فإني بهذا العيش راض وصابر!
حكمة التجارب
انض عنك الحذار من حدث الده
ر فليس الحذار يغني فتيلا
ليس تجدي تجارب المرء لو شب
ت لها في الفؤاد داء دخيلا
فأرق فوق نار قلبك ما اسطع
ت عزاء جما وصبرا جميلا
ودع الناس يهذرون بما شا
ءوا فلسنا نخاف قالا وقيلا
إنما العيش أن تكون جريئا
ليس ترضى الحياة غمرا ذليلا
وتلين الحياة للثابت الوا
دع لا من يخافها أن تهولا
كن كثير العزاء عن كل ما فا
ت ولو كان في الحياة جزيلا
خذ بنصحي فقد حييت كثيرا
ولو اني لم أمض عمرا طويلا
عشت في كل ساعة أبد الده
ر وعالجت نضرة وذبولا
ورمتني الحياة بالحلو والمر
فطورا رغدا وطورا وبيلا
ورفعت الستار عن خدعة العي
ش وقهقهت وانتحبت عويلا
وصحبت الحياة في حالتيها
وخبرت القنوط والتأميلا
وأعاد الأنام قصة من ما
ت فكانوا قابيل أو هابيلا
فترى الخلق في المطامع إما
قاتلا ظالما وإما قتيلا
ما ترى الناس في الحياة حيارى
ضل من كان عالما أو جهولا
لا تعني بأمرها النفس يوما
فتصير الحياة فيك كبولا
ثم لن للزمان ما اشتد واجعل
ه إذا لان نجعة ومقيلا
إن يكن ينفع البكاء فإنا
قد بكينا على الحياة طويلا
ورأينا الحياة من كل وجه
وعشقنا كمالها المستحيلا
ورجعنا إلى الحقائق حتى
لم نعد نحسب الخيال جميلا
ما لهذا الليل البهيم حزين
مطرق يبحث الحياة طويلا
سل عيون الظلام أنجمه الغر
أما آن حزنه أن يزولا
أحدادا على الورى يلبس الحا
لك من جنحه يئل أليلا؟
أم لأمر مخبأ في حشاه
لم يدان ألبابنا والعقولا؟
أم سديل يخفي المقادير عنا
وستار فقد مللنا السديلا؟
الدفين الحي
أخلاي لا والله ما بي جفوة
ولا أنا أخشى أنها ستكون
وأذكركم ذكر النعيم وما له
من القلب إلا زفرة وحنين
ولكن هما في الفؤاد مقره
وفي الدم والأحشاء ليس يهون
تضيق علي الأرض من جنباتها
كأني على قيد الحياة دفين
دفين طواه الأقربون بلحده
وظنوه ميتا إنها لظنون
رأوا غفوة منه تغر كأنما
دهته من الدهر الخئون منون
فدلوه في قبر سحيق وأطبقوا
عليه رجام القبر وهو ركين
أفاق وما يدري أفي الحلم ما يرى
وهيهات منه إنه لدفين
فهاج هياج النسر في الأسر طرفه
وأدركه حتى الممات جنون!
الحسن مرآة الطبيعة
قم بنا نعشق النجوم حبيبي
أوشك الليل جنحه أن يزولا
قم بنا نخلس الزهور من الحب
ونسقي الرحيق والسلسبيلا
وأرى البدر فوق وجهك يا بد
ر نعيما جما وحسنا صقيلا
قم بنا نعشق الحياة حبيبي
لا تدعني متيما مخذولا
أنت مرآة ما يجيء به الكو
ن من الحسن بكرة وأصيلا
فأرى في الصباح منك ضياء
وأرى في المساء منك ذبولا
وأرى فيك للظهيرة حرا
وفتورا لذا وظلا ظليلا
وأرى فيك نسمة كليالي ال
صيف حيث النسيم يسعى عليلا
وأرى منك في الخريف شبيها
ثمرا يانعا وزهرا جميلا
كم جميل يزهي بحسن عميم
حجب الموت لحظه أن يصولا
ذو بهاء ونضرة وضياء
منع الموت أمره أن يطولا
أكلته الديدان ميتا وقد كا
ن يعاف العناق والتقبيلا
هكذا سنة الردى وقديما
أهلك الناس نشأهم والكهولا!
سحر الربيع
أتعرف أنفاس النسيم المعطر
وبهجة أزهار الربيع المبكر؟
وهل قمت في أظلاله بين نسمة
تفوح وغصن ناعم متأطر؟
وهل ذقت من غدرانه الماء صافيا
فذقت به من نشوة كأس مسكر؟
وهل غرد الغريد في فلق الضحى
ومن تتطاير شجوه الطير يعذر
كأنك منها بين عود وقينة
ودف ومزمار وصنج ومزهر
وهل ألقت الأغصان أوراق زهرها
عليك سقوط اللؤلؤ المتحدر؟
وهل واجهتك الشمس من كل وجهة
بضوء كألهوب اللظى المتسعر؟
ونلت من الأزهار ما بين لؤلؤ
ودر وياقوت يروق وجوهر؟
وهل حركت فيك الأزاهير صبوة
يشب لظاها بالمنى والتذكر؟
وظل فؤاد بين جنبيك خافقا
خفوق الرياح بالرداء المنشر
وإن يك حال القلب عما عهدته
فهل دام ذو عهد فلم يتغير؟
وهل مدت الأشجار نحوك شرعا
غصون جنى من مثمر أو منور؟
وهل ذقت طعم الحب تحت ظلالها
وفزت بيوم طيب الذكر أزهر؟
وشاب بياض النور للشمس صفرة
فظل كليل ساطع البدر مقمر
هناك يلذ النفس أن تحدث المنى
وتبصر حلم المطلب المتوعر
إذا أنت لم تدر الربيع وسحره
ومن يلق ما لاقيت يا قلب يسحر
ولم تعترف بالحب والوجد والصبا
ولم تر أثناء القضاء المقدر
ولم تسر ليل الصيف في أخرياته
ولم تر صبحا كالغدير المفجر
وإن أنت لم تهو النجوم وومضها
ولم تدر منها مخبرا أي مخبر
ولم تلتمس في كل شيء جماله
ولم تهو وجه الحسن في كل منظر
فكن حجرا لا حس فيه للامس
عديم الحجى ملقى بأكناف محجر!
جنة الحب وجحيمه
ما أحسن الحب يا حبيبي
وأحسن الحسن لو يدوم!
لست أريد الخلود دارا
إلا إذا كنت لي نديم
ما أهون البؤس حين تبدو
وأهون الوجد والهموم
متى أراكم فأي عيش
أخشاه أو حادث أليم
ونظرة منك يا حبيبي
أشهى من الخلد والنعيم
من جنة الخلد فيك حسن
وفيك من زهرها نسيم
فأنت زهري وأنت خمري
وأنت برقي الذي أشيم
وأنت لي بالنهار شمس
وأنت بالليل لي نجوم
إن غبت عني فأي نور
أراه أم مطلب أروم؟
إن غبت عن مسمعي وطرفي
فالعيش من بعدكم جحيم
وإن تعد لي يعد نعيمي
وينجلي الشك والغيوم
وإن تعد لي يعد سروري
وينقض الحزن والوجوم
أحب عيشي إذا دنوتم
والعيش من بعدكم عقيم
فلا رجاء ولا فعال
ولا مساع ولا مروم
والعيش من حسنكم صحيح
وهو إذا غبتم سقيم
والعيش من لحظكم مضيء
وهو إذا غبتم بهيم
أنتم دواء لكل داء
فأبرءوا قلبي الكليم
فالقلب في حبكم كتوم
لكن دمعي به نموم
غدا ينال الممات منا
فمن دفين ومن رميم
فخففوا هجركم قليلا
فالموت من خلفنا غريم
وكلنا بالحياة صب
لكننا للردى خصوم!
حسرة العيد
أعيد وقلبي من رضاك بعيد
فيا عجبا للدهر كيف يكيد؟
وهل لك في ذا العيد يا قلب فرحة
أم العيد نحس ليس فيه سعود؟
وكيف يسر العيد قلبي، وودكم
وإن قربت منا الديار بعيد؟
وكيف أرى للعيد طعما ولذة
ودون فؤادي من هواك وقود؟
أرى العيد يدني من حبيب حبيبه
وقلبي شقي من هواك وحيد
يهنئ بعض الناس بالعيد بعضهم
وتترى وفود بينهم ووفود
وينسون ماضي البؤس أو حاضر الردى
وتخفى ترات بينهم وحقود
وكل امرئ في العيد بالعيد ناعم
وكل محب ضاحك وسعيد
ولكن لي في العيد شجوا وحسرة
وإني لمن يلتذه لحسود
حنانيك يا شبه الربيع ويا أخا ال
صباح فأيامي لبعدك سود
وما مر بي يوم أود ولم أقل
ألا ليت أيام النعيم تعود
أظل ولم ينعم بمرآك ناظري
كأني يتيم في الديار وحيد
فيا ليتني طفل يعيش بغفلة
يلذ صباح العمر وهو جديد
ويا رب طفل في الشقاء معذب
أناخ عليه الهم وهو جدود
فيا ليتني صخر على الأرض هادئ
صبور على مر الزمان جليد
أتؤنس في العيد الرياض وزهرها
وتوحش قلبي وهو منك عميد؟
وما القلب إلا روضة الوجد والهوى
يرف بها زهر الهوى ويميد
فللحب أزهار ولكن تحتها
من الحب حيات هناك ترود
فمن غره زهر الغرام وحسنه
أحس دبيب السم وهو شديد
إذا كنت لا أخشى ملامة لائم
فكيف أسر الحب وهو جديد؟
أخاف عليه ظنة الناس إنهم
كلاب إذا كشفتهم وقرود!
الخوف والفزع
حذرت الذي يمني لي الدهر من أذى
فيا ويح نفسي من عناء التفزع
ويا ويح نفسي كلما لاح بارق
تطاير آمالي ويهتاج مطمعي
ويا ويح نفسي كلما جاء كارث
ظللت وقلبي كالبناء المضعضع
وحتام هذا الخوف في كل لحظة
يدب إلى قلبي وطرفي ومسمعي؟
أفي كل يوم حادث يستذلني
وفي كل يوم لي طماح مودعي؟
وفي كل يوم خيبة إثر خيبة
ولوعة قلب ذي كلوم مفزع؟
وفي كل يوم لي خليل يخونني
وفي كل يوم لي حبيب مفجعي؟
وحتام أرجو الموت لا أستطيعه
وأفرق منه أن يلم بمضجعي؟
أعالج في الأحشاء يأسا ومطمعا
فيا بؤس أضداد وبؤس المجمع
عسى أن يتيح الله صبرا يحوطني
فتهدأ أضلاعي وترقأ أدمعي
وينقذني من مهلك أي مهلك
ويخرجني من مجزع أي مجزع
أما في ضياء الشمس مسلى لبائس
أناخ عليه الهم من كل موضع؟
فمن لي بعيش لا أبالي صروفه
أقول لدهري: طر بصرفك أو قع!
نعيش بغش منك يحلو لغافل
فأسدل علينا غفلة ثم فاخدع!
نشوة الحب
نجواك في العيش إسراري وإعلاني
وأنت بثي وتهيامي وأشجاني
بغضت لي العيش حتى ما أسر به
إلا بقايا رجاء ليس بالداني
الموت أروح لي والقبر أرفق بي
من عيشة بين تحنان وهجران
ونظرة منك أهواها وآملها
تودي بيأسي ولوعاتي وأحزاني
جربت فيك شجون الحب قاطبة
وأوجه الحب من قاص ومن داني
فلم أدع شجنا في الحب أجهله
ولا رميت بزق منه ملآن
من حبكم صرت لا ألوي إلى أحد
حتى كأني غريب بين أوطاني
أمشي أحدث نفسي عن محاسنكم
حتى يخال حديثي لغو نشوان
نشوان ليس له عقل فيسكته
الحب خمري وليس الخمر من شاني
وأسأل النجم عنكم أين موقعكم
من البلاد وما للنجم عينان
يمر بي الناس لا أدري مرورهم
فيستوي فيهم جهلي وعرفاني
أنكرت من حبكم ما كنت أعرفه
فطال في الحب إنكاري ونسياني
كأنما كل مخلوق أمر به
يصيح باسمكم في طي آذاني
فأحسب البدر صداحا بذكركم
والطير من ذكركم والزهر خلاني
والريح تشدو بكم والشمس تعرفكم
والورد بالحب ناداني وحياني
أنتم حياتي وأنتم مشتكى حزني
وأنتم في مرائي الحلم ندماني
يا بؤس للحب، إن الحب ذو خدع
مثل الشراب تراءى ثم أظماني
من لي بمن قلبه قلبي فأخبره
سري وأودعه شجوي وتحناني
فما اتخذت خليلا غير مضطغن
ولا مررت بخلق غير خوان
والناس في العيش إن كشفت أمرهم
ألفيتهم بين أضغان وبهتان
إن الحمير - حمير الناس - نهقتها
أودت برشد رجيح الرأي غضبان!
جهل ولؤم، وأحقاد ومفسدة
والشر يجرع منه كل إنسان!
غاية الحب
أجل في نجوم الليل لحظك طرفة
فإني إليها في دجى الليل ناظر
عسى يلتقي لحظي ولحظك عندها
فتعرف ما تطوى عليه النواظر
عسى يلتقي روحي وروح عندها
على لحظة إن اللحاظ بصائر
عسى يشعر الولهان بالقرب منكم
ويجري بكم منه على البعد خاطر
يحدثني عنك الهلال إذا بدا
وتخبرني عنك النجوم الزواهر
وإني أحب البدر من أجل حبكم
وتسعدني حتى أراك الأزاهر
عسى تجمع الأحلام بيني وبينكم
ومن لي بها والطرف باك وساهر
وتذكرني في الحلم، والحلم باطل
فما لي في غير الكرى منك سامر
وهيهات لا في يقظة أنت ذاكري
وما لي في حلم الكرى منك ذاكر
وأهتف طول الليل باسمك جاهدا
وهاجس هذا الذكر داء مخامر
فتبدو لعيني صورة منك غضة
ألذ بها حتى كأنك حاضر
فما لي سوى الأوهام منك علالة
وما لي سواه منك عون وناصر
سيبقى لكم في القلب وجد ولوعة
وذخر هيام يوم تبلى السرائر
ويبدو لكم ما كنت أخفيه جاهدا
وفي البعث يبدو ما تكن الضمائر
فيا كعبة الحسن التي أنا عابد
مناسك تهيامي بها والمشاعر
ويا جنة الحسن التي أنا آمل
غديرك ملآن وزهرك ناضر
أما من سبيل لي إليك ومنهج
أم امتنعت مني إليك المصادر؟
أظل إذا ما لحت لي عن فجاءة
فؤادي مخمور ولبي طائر
فليتك تحلو والحوادث مرة
وليتك واف والأنام غوادر
إذا كنت لي خدنا ألوذ بحبه
فلست أبالي ما تعد المقادر
وإن نلت منك الود والعطف والرضا
فلست أبالي أن تدور الدوائر
وإن ترض عني فالحياة جميلة
وإن تبد صدا فالنهار دياجر
وإن حياتي ليلة مدلهمة
فهل تأتيني عن رضاك البشائر؟
وإن تبد لي عطفا فما الكون باطل
ولا العيش خوان ولا الدهر جائر
لقد صدقت مني الظواهر في الهوى
إذا كذبت فيما تقول الظواهر
أناجيك بالسحر الحلال من الهوى
وبالسحر من شعري فهل أنت شاعر؟
أتذكر ملقى بالحديقة طيبا
فإني له في الدهر ما عشت ذاكر
أشرت بتسليم، فسلمت مثله
فرحت وقلبي من جوى الحب حائر
فإن تهجروا فالقلب أسوان بائس
وإن تعطفوا فالقلب راض وصابر
وإن تبعدوا فالأرض جرداء جدبة
وإن تقربوا فالدهر فينان زاهر
وإن تغربوا فالعيش أسود داجن
وإن تشرقوا فالعيش أبلج ظاهر
حياتي إذا ما غبت عني زواخر
تموج وإظلام الدجى والأعاصر
فأي بقاء بعد بعدك نافع
وأي رجاء بعد بعدك باهر؟
وإن كنت عندي جئت بالعقل والحجى
وإن لم تجئ فالقلب مجنون ثائر
وإن حياتي إن قربت خصيبة
وإن حياتي إن بعدت لعاقر
وآمنت أن السحر حق فإنما
فؤادي مسحور وحسنك ساحر
وآمنت أن الحسن ملك ودولة
فقلبي مأسور وحسنك آسر
وآمنت أن الحب والوجد ميسر
فقلبي مقمور وحسنك قامر
إذا مت فاذكرني وزرني زورة
وهل عجب في أن تزار المقابر؟
وقف وتأمل ما بدا لك طرفة
ألا كل حي مثل ما سرت سائر
عسى دمعة حرى علي تريقها
وقد يعظ الموت الفتى وهو سادر
فلا تنذعر فالموت غاد ورائح
وكل جميل فهو لا بد غابر
سينفذ فيك الموت أمرا مقدرا
وتلقى الذي قد كنت قدما تحاذر
ويأكل منك الدود ما شاء حقبة
ووجهك مقبوح وعظمك ناخر
وريحك ريح النتن لا نتن مثله
تسد إذا ما شم منه المناخر
فلا تحسبن أني من الموت ضاحك
ولا تحسبن أني بحسنك ساخر!
ولكن وجدي منك جن جنونه
فها أنا من حبي لحسنك هاتر!
أما رحمة ترجى لديكم لبائس
حزين عليل، حبه لك ظاهر؟
وفي القرب لو تدنو دواء لهمه
وإنك إما غبت فالهم حاضر
فيا بؤس نفسي منك يا بؤس عيشتي
أما آن أن تغشى المنايا البواكر؟
أما آن أن ألقى حماما يريحني
فتهدأ أضلاعي وتهدا المحاجر؟
أما آن أن ألقى قضاء يميتني
فيرتاح حسادي وتسلو العواذر؟
وينساني الخل الوفي لميتتي
كأن لم نكن والحي للحي ذاكر
وينساني الوغد اللئيم لميتتي
ويرتد عني نابه والأظافر!
أما آن أن أنسى الحياة ولؤمها
فلا طمع يردي ولا اليأس ذاعر
أما آن أن يبكي لي الأهل طرفة
وأصبح ممن غيبته المقابر
وأصبح لا قلبي يجن بذكركم
ولا أنا مهجور ولا أنت هاجر
إذا ما الردى بالمرء حل قضاؤه
رويدك لا تغنى لديه المغافر
وإني أحس الموت يسري دبيبه
بروحي حتى فيه منه بوادر
نعيت لكم نفسي فلا لوم بيننا
فوقع المنايا بيننا متواتر !
فإما غدا أو بعد ذاك وإنما
تغادي المنايا شملنا وتباكر
سلام عليكم حيث كنتم فإننا
سيهلك منا أول ثم آخر!
الشعر والطبيعة
إذا غنت الأطيار في الأيك صدحا
تغنت لأشجان الفؤاد طيور
وللريح هبات وللنفس مثلها
تغني رخاء فيهما ودبور
وما الشعر إلا القلب هاج وجيبه
وما الشعر إلا أن يثير مثير
نرى في سماء النفس ما في سمائنا
ونبصر فيها البدر وهو منير
وما النفس إلا كالطبيعة وجهها
رياض وأضواء بها وبحور
وفيها صراخ اليم إن ماج موجه
وفيها خرير خافت وغدير
وليل وإصباح لها وكواكب
تسير بآفاق بها وتدور
إذا كنت في روض فقلبي طائر
يغني على أغصانه ويطير
وإن كنت فوق البحر فالقلب موجة
تسرب في أمواجه وتسير
وإن كنت فوق الشم فالقلب نسرها
وللنسر في شم الجبال وكور
وتنثر أغصان الخريف زهورها
كما جاد بالشعر الجليل شعور
فيا قوم ما للجهل ملء عيونكم
ألستم ترون الدائرات تدور؟
لبستم على الأيام ثوب مذلة
فكيف بنضو الثوب وهو نضير؟
إذا صاح ذاك العير فيكم صياحه
طربتم وقلتم شاعر وكبير
ويزعجكم أن الطيور صوادح
ويطربكم أن الغناء نعير
أصاب ذكائي منكم برد طبعكم
وأطفأ مني القلب وهو قدير
ويصدأ طبعي في خبيث هوائكم
وجوكم بالداهيات يمور
فلا تحسبوا أني أقول لتسمعوا
ولا أن مثلي بالقنوط جدير
وماذا يفيد الشعر والقلب ميت
وهل للنفوس الهامدات نشور؟
إذا كان يحيي الشعر نفسا مريضة
فهيهات تحيا النفس وهي قبور!
الأزاهير السود
قد جنينا من أزاهير الردى
زهرة اليأس وأزهار الأسى
زهرة سوداء لا تعدلها
زهرة حمراء من زهر الهوى
كيف نهوى زهرة، أوراقها
من دموع الصب تندى والدما؟
تشعل الوجد ولوعات الغليل
وهي مثل الجرح في صدر القتيل
ودماء القلب تجري بمسيل
دمه ري جذور وأصول
كلما زاد احمرارا لونها
راح جسمي بشحوب ونحول
قد جنينا من أزاهير الشقاء
زهرة سوداء من زهر القضاء
تبدل النفس سوادا من ضياء
ليس تنمو في رجاء أو رخاء
تنفح السم أريجا والبلاء
وهي تغذى من زفير وبكاء
كم جنينا من أفانين الألم
زهرة سوداء من زهر الندم
لونها المأخوذ من لون الظلم
عابس فوق شفاه المبتسم
زهرة سوداء من زهر النقم
فهي طيف من ممات قد ألم
كم جنينا من أزاهير القدر
وأفانين صروف وغير
زهرة سوداء من زهر الضجر
وهي من نبت هموم وكدر
فهي بالليل سهاد وسهر
وهي في الصبح الشقاء المنتظر
هذه الأزهار سود كالقضاء
في رياض من شقاء وعناء
ليس لي منها مفر أو نجاء
فهي حولي في صباح ومساء
إن هذا العيش داء أي دواء
ليس يمحى بشكاة أو بكاء!
طبع الإنسان
إنما المرء خيال زائل
سعة الآمال فيه كالقدم
مثل قدر الخلد أطماع له
وبه عجز وضيق في الهمم
ويود المرء لو نال السهى
وهو فوق الأرض لما يحتكم
فهو مثل الطفل في آماله
يبتغي النجم منالا من أمم
سفها أنظم في وصف الهوى
ولقد أنظر ما تأتي الأمم
من ذنوب ما لها من رادع
تترك الناس على بؤس وهم
غاب رشد الناس عن أنفسهم
ضاع منهم تحت أشلاء الرمم
يقتل المرء على الجرم ولا
يسأل الجبار عما يجترم
أسعد الناس قتيل هالك
رب عيش هو شر من عدم
إن بالمرء جنونا جاعلا
نوبة للشر فيه تحتدم
لا ينال البرء من نوبته
أو يذيع الشر منه والألم
هل لنا من كوكب ذي مرة
يصدع الأرض إذا ما يصطدم
فيريح الناس من آلامهم
ويزيل الشر منا والتهم
حدث الدهر حديثا صادقا
إنما الناس قطيع من غنم
وصفات الذئب طبع فيهم
وصفات القرد والكلب النهم
أين فخر الناس بالعلم وما
يردع الأهواء من خير الحكم؟
يبسط العلم عليهم جلدة
بضة الملمس تخفي من نقم
جلدة السخل بها الذئب ارتدى
فإذا ما غفل الراعي هجم
وإذا ما اقتدر المرء سطا
وإذا ما ضعف المرء حلم
لا ترجى منهم مرحمة
رحمة الخب بكى حتى احتكم
لو يكون المرء فينا آمنا
سطوات الشر منا ما رحم
نحن نبكي رحمة من خشية
أن نعاني الضيم من خطب يلم!
الحب واليأس
حجبت عيناك عني نورها
وابتساما فيهما كان يجول
فحياتي كظلام حالك
ونجومي قد تقاضاها الأفول
كنت أستهدي بمصباح الهوى
في طريق العيش والعيش وعر
كنت أستهدي بنور منكم
فحجبتم نور قلبي والبصر
صرت أستهدي بنار للشقاء
في ظلام اليأس تخبو وتنير
تقصر الأشجان فيها وتطول
كلما هبت بها ريح الزفير
فهي كالأشباح في جنح الظلام
راقصات بين نار ورياح
راقصات كشياطين الدجى
محييات للدجى حتى الصباح
فاهجروني إن سمعتم من نصيح
ما عليكم من ملام في جفاء
إن حبي مثل داء قاتل
فاستجيروا بمفر أو نجاء
أنتم كالزهر تمحو زهوه
ريح سوء حملت جرثوم داء
إن حبي ريح سوء قتلت
زهو قلبي من حياة ورجاء
فاحذروه واتقوني جهدكم
إن في قربي لكم عدوى الشقاء!
الحبيبان
مناجاة الحبيب الأول
يحكي فؤادي في هواك الجحيم
وأنت إبليس لذاك الجحيم
بالشر ألحاظك مبثوثة
وبالرزايا والبلاء المقيم
وخدك المشبوب في حمرة
كالجمر يذكو للعذاب الأليم
والريق كالمهل شراب الردى
يظمي ولا يشفي أوام الكليم
وحر أنفساك في مرها
يلفح لفحا مثل لفح السموم
يا تائها يختال في مشيه
كالصل إذ يعوج أو يستقيم
عيناك يغري لحظها بالبغاء
أحب عشاقك فينا الأثيم
أنت إله الشر في حسنه
وقبحه، ويح لحسن ذميم!
مناجاة الحبيب الثاني
يا جنة الحب وروض النعيم
لأنت برء للأسى والهموم
يا جنة تترك قلبي لها
كالروضة الغناء ذات الكروم
يا جنة ما إن بها حية
ينفث سما فمها أو سموم
يسعى إليك الكون من بدئه
كما سعى نحو الطبيب السقيم
فلفظك العذب رحيق الهوى
ووجهك الزاهر زهر عميم
تبرئ أنفاسك في مرها
من الجوى والوجد مثل النسيم
وطي ألحاظك نور الهدى
ودون أضلاعك قلب رحيم
وأنت كالدمية في شكلها
وحسنها الخالد خلد النجوم
للخير في الحسن خلود فلا
يصيبه الدهر مصاب الجسوم
صداقة الأموات والأحياء
لأي أمر خذلتموني
يا أهل ودي وإخوتي؟
كأنكم ما صحبتموني
إلا لنحسي وشقوتي!
أما كفى وقع نائبات
يقرعن عودي ومروتي؟
حسبي سقامي وطول همي
وذل عدمي ولوعتي
كلكم كاذب حقود
يشعل يأسي وحسرتي
أين الألى قربهم شفاء
يكشف غمي وكربتي؟
مرآهم نشوة وسكر
ونطقهم برء غلتي
أواه من وقعة المنايا
يقعن في خير نخبتي
ما العيش عيش إذا تناءوا
وصرت أبكي لوحشتي
كيف أرجي بكم شفائى
وأنتم أصل علتي؟
كأنني بينكم غريب
أندب حظي وغربتي
أنتم سهام تهيض عظمي
وهم وقائي وجنتي
لا يرتجى منكم معين
يغني إذا النعل زلت
غدا ينال الحمام منا
بكل شمل مشتت
حتى كأن لم نكن نرائي
على دهاء وخدعة
نعيش بالغش ما حيينا
غش عدى أو أحبة
حتى إذا لاحت المنايا
ورب حي كميت
طهرنا الموت من خطايا
بينة في الأسرة
ننسى عداء الذين ماتوا
والحي يقلى بزلة
فنحسب الميت ذا وفاء
نبكي عليه بحرقة
ولو يعود الدفين حيا
من بعد نشر ورجعة
لصار في وده كذوبا
وعاد يمنى بظنة
شاعر يحتضر
أألقى الموت لم أنبه بشعري
ولم يعلم سواد الناس أمري؟
وفي نفسي من الأبد اتساق
تدور الكائنات بها وتجري
فمن للقلب يطربه بلحن
يحن إليه من نظم ونثر؟
ومن للكون يرمقه بفكر
شبيه الكون في سعة وقدر؟
ومعنى الخلد يصغر عند نفسي
يضل الخلد في أنحاء فكري
إذا ظمئ الفؤاد إلى كمال
رأى طول الخلود كقيد شبر
رأيت الناس مثل البحر لجا
وكم في البحر من صدف ودر
هي الأقوام كالأمواج تعلو
كذاك الموج يسفل حين يجري
صحوت من المعيشة بعد سكر
فيا لهفي على نشوات سكري
شربت الحلو من كاسات دهري
كذاك المر من كاسات دهري
وحالات البقاء لها خمار
على طعميه من حلو ومر
فحالات السرور لها عقار
وللأرزاء فينا كأس خمر
وكان الجهل لي عيدا فولى
فيا شوقي إلى جهلات عمري!
وأعقبت التساؤل والتقصي
وما في ذاك من غبن وخسر
فمن لي بالسكينة في حياة
أعالجها كأني رهن أسر؟
ظمئت إلى الكمال فلم أنله
وذقت اليأس في صلة وهجر
وعالجت العواطف هائجات
هياج النار من لهب وجمر
وجملت الحياة بنظم شعر
شبيه الضوء في الأفق الأغر
قصائد نيرات خالدات
خلود النجم من شهب وزهر
أمل قديم
ذكراك كالغيث تحيي جدب آمالي
وتنقل العيش من حال إلى حال
من بعد ما طويت نفسي على مضض
وراح بي اليأس بين الصحب والآل
وطالعتني خطوب كلما عصفت
عفت على أمل كالمنزل الخالي
حتى كأن فؤادي منزل خرب
مهدم بين آثار وأطلال
من بعد ما يئست نفسي وما بلغت
من الحياة لباناتي وآمالي
وطنت نفسي أن أحيا إلى أمد
من الحياة سقيم الوجه والحال
حتى رأيت بروقا منك صادقة
تستنزل البر في دفق وتهطال
فصرت أثني على عيشي ولذته
وكنت أثني على موت وآجال
متى أراني ولي من رعيكم سبب
جم الأماني رخي العيش والبال؟
أضحى رجائي مثل الشمس منتشرا
يجلو همومي في حل وترحال
عل الزمان يرى ما لست أكتمه
من الرجاء فيدني بعض آمالي!
مرآة الضمائر
ضمائر هذا الخلق مثل طباعه
وكم من ضمير لا ينهنه بالزجر
وكم من ضمير فاسد تستشيره
فتلقاه عند الخير والشر لا يبري
وبعض المرائي خادع غير ناصح
يواجه وجها منك بالحسن والبشر
ولكن منها صادقا غير كاذب
يريك الذي قد بت تخفيه في الصدر
فإن تر يوما مثلها من وذيلة
فليس لها خير لديك من الكسر
إذا لاح يوما شكل وجهك فوقها
تبيت على ذعر وتصحو على ذعر
ترى فوقها ما بت تخفيه جاهدا
من السوء والأحقاد واللؤم والشر
يرى الناس فيها أوجها كلها خنا
يلوح كما تبدو الجماجم في القبر
وفي كل وجه لو فطنت إشارة
تدل على ما في الضمير من السر
وفي كل وجه من جنون ومن أذى
ملامح لا تخفى تناديك بالجهر
وكل ضمير لو فطنت مخادع
وكل ضمير لو بدا لك في خسر
بني آدم لا تذكروا العدل ذكرة
فما العدل إلا ما ترون من الأمر
إذا ما بدت من مطمح المرء حاجة
فلا عدل يرضاه ولا رحمة تسري
وكل ضمير بالمعاذير مولع
إذا ما أتى ذنبا أحال على العذر
وقد يحسب الشر الوجيع فضيلة
إذا خال فيه ما يلذ من الخير
وقد يحسب الشيء الحرام محللا
إذا ظن فيه ما يصاب من التجر
وقد يحسب العدل المبين ظلامة
إذا خاف منه ما يعاف من الضر
إذا ما بدا لي البشر في وجه صاحبي
أظل مروعا خوف عاقبة البشر
يحييك من ألحاظه بطلاقة
ويأكل عرضا منك بالناب والظفر
وكل صديق إن رأى بك حسرة
وكان بخير قال حظك في الصبر
هو الصبر حلو للذي لا يذوقه
فإن ذاقه فالصبر شر من المر!
ولو كان للآثام ريح خبيثة
تطيب كل الناس بالند والعطر
ولو كان سوء النفس داء بجلدهم
لأصبح كل الناس يوسم بالعر
فعالهم حتى الطلاقة متجر
وربح فإن البر يبذل للبر
هم ساوموا الخلاق في كل فعلة
يبيعون خيرا بالجزاء وبالأجر
هم يحسبون الدين رزقا ومتجرا
فيا عجبا للدين يخلط بالنكر
فعدلهم ظلم وخيرهم أذى
وودهم ود ينغص بالغدر
وصدقهم كذب وكل فعالهم
رياء كأن الغش في دمهم يجري!
عناء الطيف
أرحني يا طيف الحبيب بهجرة
فإنك توري حسرتي وتزيدها
ويا طيفه أنت السراب تكيدني
وحولي صحراء الغرام وبيدها
تروعني بالشوق في كل طرفة
إذا ما انقضت لوعات شوق تعيدها
ويا طيف قد قطعت قلبي صبابة
وعذب عيني دمعها وسهودها
ويا طيف لا في يقظة أنت تاركي
ولا في هجود العين يحلو هجودها
وتشعل من شوقي الذي أنا مطفئ
وتحدث منه لوعة لا أريدها
وتبتعث النفس اللجوج إلى الهوى
وقد شفها أن لا حبيب يعودها
كفاها من الوجد الأليم قديمها
فيا بؤسها إن لم يمتها جديدها
حنانيك لا حبي قليل ولا الهوى
لذيذ ولا الآمال يدنو بعيدها
وإن لنفسي كل يوم شقاوة
حبيب ينائيها وخب يكيدها
أما آن أن تلقى مماتا يريحها
فيصدع عنها كبلها وقيودها
حياتي على الهجران شر من الردى
فوا حسرتا أن لا حمام يبيدها!
ويا طيف أنت البو فيك مضاضة
وسخر وأم البو أودى وليدها
أبيت طوال الليل أبكي بحرقة
كأني ثكلى قد أصيب وحيدها
فيا ليت أن العمر أنغام منشد
إذا ما مضت لي لذة أستعيدها
ولذات نفسي في الحياة قليلة
فيا ويحها إن لم أجد من يعيدها
لقد قسمت في الحب بيني وبينكم
جدود الهوى والنفس شتى جدودها
فإن جدود الحب عند نحوسها
وإن جدود الحب فيكم سعودها
وللريح هبات وللشوق مثلها
وهبات شوقي لا يصاب ركودها
يسومون نفسي الصبر والصبر قاتل
لقد صبرت لو أن ذاك يفيدها!
سلوان الجنون
عسى ينعم الولهان منك بنظرة
وهل بعدكم في العيش حسن فينظر
عسى بالضلوع الخافقات من الجوى
تقر وبالقلب الجريح فيجبر
عسى تسعد الأقدار يوما بودكم
فيا طيبها لو أن قربا يقدر
عسى أن يعود النوم عينا كليلة
فلا الدمع يقذيها ولا النوم ينفر
عسى أن يعود العيش جما ضياؤه
وأحمد من مرآه ما كنت أبصر
عسى هجرة تدعو المحب فيرعوي
إلى سلوة تنهى الفؤاد فيزجر
فلا تحزنن إن أدركتني سلوة
فأنت الذي علمتني كيف أصبر
عسى أن تجن النفس فيكم جنونها
فلا ذكرة تصبي ولا فكر يخطر
فإن جنون النفس سعد وراحة
وإن عناء الحب ذاك التذكر
فأنساك حتى لست أدري أعائش
على الأرض تسعى أم دفين معفر!
وأنساك حتى لو عرضت مسلما
لما سرني منكم سلام ومحضر
وأنساك حتى لا أريد وصالكم
ولا الهجر يجري دمعتي حين تهجر
كأنك ما كنت الضياء لمقلتي
ولا مسمع فيكم لذيذ ومنظر
كأنك لم تضحك فتضحك عيشتي
ولم تك غضبانا فتدجو وتكدر
ولم تك لي الماء الزلال على الصدى
إذا ذاقه الظمآن يروى ويسكر
كأني لم أقض النهار بحسرة
ولم أك حتى مطلع الفجر أسهر
ولم يجر دمعي حرقة وصبابة
ولم يك قلبي والها يتسعر
ولم يك لي في كل قول تقوله
غناء وألحان تروق وتسحر
كأني لم أعشقك في كل نبضة
لقلبي ولم أعشقك من حيث أشعر
كأني لم أعشقك في كل طرفة
لعيني ولا في خطرة حين تخطر
ولم أك من خوفي عليكم مروعا
أبيت حذار السوء أبكي وأذعر
ولم أك من شوقي أمر ببيتكم
وأنتم نيام، خائفا أتستر
فإن يبلغ الحب الجنون فلا تلم
أما كل مجنون على الهجر يعذر؟
ليس لي شغل سواك
ليس لي شغل سواك
فأجز عني جفاك
شقيت بالناس عين
لا ترى حتى تراك
أنت خير الناس روحا
كل مخلوق فداك
لا يطيب العيش إلا
بالذي فيه رضاك
أنت لا تعرف ما قد
بت أخفي من هواك
أنت معنى كل حسن
فله الله اصطفاك
أنت معنى وهو لفظ
من عناه قد عناك
يا نبي الحسن إني
مؤمن يرجو هداك
إن طرفي في عناء
ليت طرفي ما رآك
إن قلبي في عذاب
ليت قلبي قد قلاك
فخر الكون وأبدى
بهجة حيث احتواك
أظلم العيش فجد لي
بضياء من سناك
بسلام أو كلام
أجتنيه في لقاك
إن نفسي لك غرس
كيف لا ترجو جداك
إن نفسي لك أرض
وقعت تحت علاك
أنت معنى كل مخلو
ق فلا حي سواك!
فتعطف يا حبيبي
لا تخيب من دعاك!
وابتسم يبتسم الده
ر ويدجو من جفاك
وقعت نفسي من حب
ك في شر الشباك
ليس لي فيه معين
لا ولا منه فكاك
لم لا تدني محبا
كلما حن بكاك؟
ما درى للعيش معنى
قلبه حتى هواك
ما رأى للعيش حسنا
لحظه حتى رآك
كيف تسلو عن محب
بك صب ما سلاك؟
لا هناك النوم يا سا
لب نومي لا هناك!
ما هناني النوم مذ لا
حت لعيني حلاك
أيها القلب اسل عنه
فهو لا يدري لظاك
ناعم البال قرير
ليته عانى جواك
أيها النشوان من خم
ر الهوى من ذا سقاك؟
أيها الواله من وج
د الهوى ماذا دهاك؟
ما نهاك الصد والإع
راض عمن قد جفاك؟
ما أظن الحب يحدو
بك إلا للهلاك!
حلم بالبعث
رأيت في النوم أني رهن مظلمة
من المقابر ميتا حوله رمم
ناء عن الناس لا صوت فيزعجني
ولا طموح ولا حلم ولا كلم
مطهر من عيوب العيش قاطبة
فليس يطرقني هم ولا ألم
ولست أشقى لأمر لست أعرفه
ولست أسعى لعيش شأنه العدم
فلا بكاء ولا ضحك ولا أمل
ولا ضمير ولا يأس ولا ندم
والموت أطهر من خبث الحياة وإن
راعت مظاهره الأحداث والظلم
ما زلت في اللحد ميتا ليس يلحقني
نبح العدو وبي عن نبحه صمم
مرت علي قرون لست أحفظها
عدا كأن مر بي الآباد والقدم
حتى بعثت على نفخ الملائك في
أبواقهم وتنادت تلكم الرمم
وقام حولي من الأموات زعنفة
هوجاء كالسيل جم لجه عرم
فذاك يبحث عن عين له فقدت
وتلك تعوزها الأصداغ واللمم
وذاك يمشي على رجل بلا قدم
وذاك غضبان لا ساق ولا قدم
ورب غاصب رأس ليس صاحبه
وصاحب الرأس يبكيه ويختصم
ويبحثون عن المرآة تخبرهم
عن قبح ما تترك الأجداث والعدم
جاءت ملائكة باللحم تعرضه
ليلبس اللحم من أضلاعنا الوضم
رقدت مستشعرا نوما لأوهمهم
أني عن البعث بي نوم وبي صمم
فأعجلوني وقالوا: قم فلا كسل
ينجي من البعث، إن الله محتكم
قد مت ما مت في خير وفي دعة
وقد بعثت فماذا ينفع الندم؟
أستغفر الله من لغو ومن عبث
ومن جناية ما يأتي به الكلم!
صنم الملاحة
صنم الملاحة والرشا
قة واللذاذة والألم!
ناجيت قلبك كي يرق
فما أحس ولا رحم
يقسو فؤادك يا صنم
أوليس من حجر أصم؟
وخدعتني بغدير حس
نك كالسراب إذا ألم
وتركتني كالمصحر ال
ظمآن يهلكه السقم
صنم الملاحة زفرتي
تحييك من سنة ونوم
وتبث فيك الحب يا
صنم الملاحة يا صنم!
فتحس فيك شجونه
وتصير من لحم ودم
فدع الجمود لأهله
إن الجمود هو العدم
صنم الملاحة إن حس
نك مثل ألحان النغم
فإذا لقيتك أو سمع
تك أو رأيتك في الحلم
تدع الفؤاد كطائر
إن هم بالطيران لم
وتنام ليلك ناعما
وأبيت ليلي لم أنم
صنم الملاحة إنني
وهواك في نحس وهم
بلغ الغرام إلى الجنو
ن فلا عتاب ولا ندم
وملكتني فظلمتني
والحسن أظلم من حكم
وحييت بين الناس مع
روفا بحبك متهم
والحب حلو ذائب
والحب من صاب وسم
ومن العجائب أنني
بسراب حسنك معتصم
فكأن حسنك ما جنى
شرا علي ولا اجترم
يا ليت حبك يا صنم
حلم تجيء به الظلم
فأفيق منه مسلما
مثل الظلام إذا انصرم
فكأن حسنك لم يكن
وكأن حبك لم يلم!
بين الحقيقة والخيال
أما علمت عيناك أني قتيلها
وكل حبيب بالمحب خبير؟
فليس عيون النرجس الغض مثلها
ولا القطر فوق الورد وهو نضير
وليس عيون النجم أبهى إذا بدت
وللنجم لحظ في الظلام منير
لعينيك سحر ليس للسحر فعله
فليس لها في الفاتنات نظير
أما علمت عيناك أني عاشق
وأني غريب في الحياة أسير؟
أما علمت عيناك أن لحاظها
تثير غراما واللحاظ تثير؟
إذا ما كررت اللحظ نحوك طرفة
رجعت ولحظي من سناك حسير
لقد كثر الناعون للود بيننا
فهل يأتيني عن رضاك بشير؟
حبيبي دع الدنيا تجيء بما تشا
فكل فضاء طائر سيطير
وجد لي بذخر من ودادك وافر
وكل قليل من رضاك كثير
وإن تلق ودا مثل ودي فلا تكن
له عائفا، أم الوداد نزور
ولا تحسبن الناس ناسا فإنهم
قرود إذا كشفتهم وحمير!
وأكثر ما خالوه صدقا وحكمة
نعيق إذا بينته ونعير!
وآذانهم مثل الحمير طويلة
وذيلهم لا كالقرود قصير!
بني آدم من قبل آدم قد مضت
عصور على أعقابهن عصور
فإن يك فيكم فطنة وضمائر
فللقرد عقل وافر وضمير!
ضمائركم لو تعلمون حبائل
لها من أباطيل النفاق سيور
حبيبي لا يحدث لك الحسن غرة
فكل حياة لو علمت غرور
أما أنت نسل القرد كالناس كلهم
وذلك رأي لو غضبت خطير!
مشابه لا تخفى لديك كثيرة
تحدثنا أن النظير نظير!
فإن قلت أنت البدر فالقول كاذب
وإن قلت أنت الشمس فهو فجور!
وما ذاك إلا خدعة وتعلل
وبعض الخداع للحياة نصير
وهل يستقيم العيش إلا بخدعة
وأي سرور في اليقين سرور؟
بلى أنت نسل البدر والشمس زوجا
وأنت جمال للحياة منير!
الحسود
أخ لي، وإخوان الصفاء قليل
خليل وهل في الحاسدين خليل؟
إذا ما بدت لي خصلة يستجيدها
طواها عنيف عند ذاك عجول
وأدركه مس الجنون وأظلمت
عليه السماء، والنهار جميل
تنفس أنفاسا سراعا، وأبرقت
له لحظات كلهن غليل
فرائصه مرجوفة، ودموعه
تحير في آماقه وتجول
وإن تبد مني ريبة قال باسما
ألا إنها طبع لديه دخيل
ويشدو بمدحي حاضرا، ومديحه
إذا غبت عنه كالهجاء ثقيل
ويبسم للزاري علي كأنما
يقول له أحسنت حين يقول
ويوهم صحبي أنني ذو عداوة
أجول بعيب فيهم وأصول
وأني مغتاب وأني حاسد
أعيب عليهم فضلهم وأذيل
إذا استخبروا عن شيمتي ومحاسني
يجمجم قولا مشكلا ويميل
وإن مدحوني جاهدين وأكثروا
تململ حقدا والحقود عليل
يعين على شتمي وإن هو لم يقل
مقالا وبعض الصامتين يقول
ويبغضني سرا كأني وترته
بفضلي وما تبغى لدي ذحول
ويعتد غنما أن تنيخ مصيبة
علي وأني في الشقاء أقيل
كأن جحيما موقدا في ضلوعه
تؤججه ريح عليه تجول
وفيه شياطين من الحقد وجهها
يروع إذا أبصرته ويهول
فلا زال مسموما من الحقد عانيا
ولا زال عني من هواه نكول
بالله ما تفعل لو بلغوك
بالله ما تفعل لو بلغوك
أني عرتني جنة من هواك؟
أأنت باك للمحب الذي
لم يعرف الذلة حتى رآك؟
أم ضاحك لاه به ساخر
والسخر أن تضحك ممن بكاك؟
بكاك للصد ولوعاته
إذ أظلمت عيشته من جفاك
وكيف لا يذهب لبي الهوى
إذ مضت لي أشهر لا أراك؟
أظل كالأعمى إذا غبتم
فالعين لا تبصر حتى تراك
يا نور عيني، غال عيني العمى
أغدق عليها رحمة من سناك
والعقل لا يعقل إن غبتم
والنفس لا تأمل إلا رضاك
أبيت لا أذكر إلا اسمكم
فليس لي في العيش شغل سواك
حتى متى لا ود لي منكم
حتى متى لا حظ لي من لقاك
مرآك مرآك الذي أبتغي
طوبى لعبد قاطن في ذراك
بالله ما تفعل لو بلغوك
أن الهوى أورد نفسي الهلاك
وأنني قد صرت في حفرة
قنيصة الدود ويا بؤس ذاك
والدود لا يفلت منه الرميم
والموت ما للمرء منه فكاك
أأنت تبكي للرميم الدفين
أم ضاحك مما جنته يداك؟
بالله ما تفعل لو بلغوك
أني أسعى عامدا للهلاك!
لما مللت العيش من بعدكم
سقاني السم الذي لا سقاك
جرعت منه جرعة كأسها
يروي صدى القلب الذي قد هواك
يا عجبا لو كنت لي راحما
أحرقة الرحمة تكوي حشاك؟
اضحك ولا تحزن لما نابني
الجسم والروح جميعا فداك!
الحب والحياة
إني أحبك يا صديق
والحب أهونه شديد
حبا يزيد على الملا
م كأنه الطفل العنيد
إني أحبك ما حيي
ت فإن قضيت فلا يبيد
وإذا بعثت فأنت شغ
لي لا الجزاء ولا الوعيد
والحب فيه لذي الصبا
إما الهلاك أو الخلود
والحب مثل الخمر تش
ربها فيغريك المزيد
والحب مثل الحرب إن
شبت يشيب لها الوليد
لا يسلمن من اللوا
حظ لا الجبان ولا الجليد
إن السعادة والشقا
وة والحمام لها جنود
فتكات طرفك كالمقا
در في المصادر والورود
لحظ يطل به الضيا
ء على المباسم والخدود
لحظ هو الصدق المبي
ن وغيره الكذب الرديد
لحظ به سر الحيا
ة وسرها أبدا جديد
لا تخجلن إذا وصف
ت بحسن طرف أو بجيد
فالحسن أعظم ميزة
والحسن كالذخر التليد
حدثت نفسي أن حب
ك لا الرشيد ولا الحميد
فإذا عفوت فإنني
وحياة حبك لا أعود
لو كان حسن العيش في ال
صبوات كالنغم السديد
فإذا انقضى عاودته
فأعيده للمستجيد
لقضيت منه مأربي
ونعمت بالأمل المديد
ليس السعادة للمحب
بل الجميل هو السعيد
والحب قد يجني على ال
معشوق من شر وكيد
أوما ترى حسن الطيو
ر يصاد للريش النضيد؟
تجني المناقب والصفا
ت على الذكي أو البليد
فالعير ذلله الغبا
وجنى الذكاء على القرود
تتكسب الرزق القلي
ل لتضحك القوم الجمود
حسبوا الأديب وقوله
كالقرد يضحك لا يفيد
أواه من عنت الجهو
ل وما يقول وما يكيد
لو كان قلبي كالرما
د لما ألمت من الخمود
ولئن ضحكت فإنه
ضحك البوارق والرعود
والحب فيه تعلة
تلهي الشقي عن الجدود
تلهي المحب عن الحيا
ة أو النحوس أو السعود
وتليح بالحلم اللذي
ذ وتحته الأمل الصدود
فاضرب بسهمك في الحيا
ة فما البكاء على فقيد؟
واندس في وسط الزحا
م فما الخمول وما القعود؟
وارقص على نغم الحيا
ة فما لها أبدا معيد
واضحك وكل واعمل ونم
وادأب على السعي المجيد
واحمل حياتك في يدي
ك فإن أصبت فما تميد
واستقبل الأيام في
دعة فمن بيض وسود
فإذا دعتك منية
والمرء كالزرع الحصيد
فادلف لها دلف المجر
ب لا يخور ولا يحيد!
سراب الود
ألوي إلى الناس وجها غير منبسط
وأتقيهم بقلب غير مسرور
أنى تلفت لم أبصر سوى رجل
بادي العداوة مخضوب الأظافير
هم يحسدوني على عيشي فوا أسفي
عيشي عليل وصنعي غير مشكور
تكشف الناس عن عاد له إحن
وعن ذليل شديد الغل مقهور
للناس في العيش من بدو وحاضرة
طبع العقور وإما طبع معقور
ما كنت أختار هذي الناس منزلة
لو أنني كنت حرا غير مجبور
الشر والكذب والأحقاد طبعهم
والحقد في الطبع باد غير مستور
أسقي التصافي خليلا لا يعاشرني
إلا على رنق منه وتكدير
إذا اتخذت خليلا لي أصادقه
دار الزمان علينا بالمقادير
فينجلي صرفه عن واتر حنق
وعن مروع كثير الهم موتور
عللت بالود قلبي وهو ذو أمل
لا الود يصفو ولا قلبي بمغرور
فما طلابي سرابا عز مطلبه
وقد ظفرت بحظ منه مقمور
أما حبيب رغيب ذو مصادقة
أقضي به العيش محمود المصادير؟
إني لأرحم نفسي أنني أبدا
بين البغال وأحلام العصافير!
يا ويح نفسي، أما ألقى أخا ثقة
كأنما روحه صيغت من النور؟
عبث الحياة (أرسل إلي صديقى الشاعر العبقري الجليل عباس أفندي محمود العقاد هذه الأبيات الآتية وهو مقيم بأسوان): «يا جار بحر الروم ما لك صامتا
هلا اقتديت بموجه المتجدد؟
غضبان من لؤم الحياة وإنها
أمة ولكن ما لها من سيد
إما غضبت ففي جوارك خضرم
غضبان يقذف باللغام المزبد
إني ألب بموطن لو أنه
قفر لأطربني صغير الفدفد
تمضي الشهور وفي الجوانح لوعة
تمشي على كبدي كحز المبرد
أشكو الزمان إلى القريض وتارة
أشكو القريض إلى الزمان المعتدي
فاكتب على هذا الزمان ذنوبه
إنا نؤجله الحساب إلى الغد
واضحك فإن قالوا تضاحك قانط
فاضرب لهم مثل الغمام المرعد
تالله لو علموا لكان مكاننا
فيهم أعز، وكيف علم المقتدي» (فأجبته بهذه الأبيات الآتية بالعنوان السابق):
ماذا يفيد تصوبي وتصعدي
في مسلك للعيش غير ممهد؟
كالبحر في أحواله متغيرا
عبثا يضج بموجه المتجدد
عبثا تعيث الريح في هباتها
كالحادثات إذا تروح وتغتدي
عبثا يسير النجم في أبراجه
متنقلا في سيره عن موعد
عبثا تضيء الشمس وجه مسالك
للعيش تزخر بالشقاء المزبد
لو كان يدري المرء قدر شقائه
في العيش ود لو انه لم يولد
والناس غرقى في الشقاء ولؤمه
من ناقم يشكو ومن متبلد
ومن البلية أنني بشقائهم
وشقاوتي أمحو لذيذ تجلدي
إن التبلد والبلادة والغبا
مثل الخمور لذيذة والمرقد!
ولرب صحو للخمار مبغض
يأتي بهم للحياة مجدد!
من لي بعيش لا أحس صروفه
كالماء أو كالنار أو كالجلمد!
ماذا يفيد تضاحك من قانط
نار الجحيم بقلبه المتوقد؟
ضحك يهد القلب وقع رعوده
ولرب ضحك في النعيم مغرد!
ماذا على الإنسان لولا نسله
إن باع دنياه بموت سرمد!
الحياة والفنون
جملك الله يا حياة كما
جمل وجه السماء بالشهب
حديقة للنفوس زاهية
ببدائع في الفنون والأدب
تجلو لك العيش من غياهبه
مستخلصا من شوائب الريب
تنور النفس نورها أبدا
في مشرق من ضيائها الذهبي
والحسن ضوء النفوس يظهرها
غراء في حلة من اللهب
والحسن ثوب النفوس تلبسه
والنفس تزهى بثوبها القشب
وكل فن إلى الجمال له
من محكم الصنع أقرب النسب
من علم المرء في بدايته
صنع مفيد الآلات والقضب؟
من علم المرء أن يقيم على ال
أرض بيوتا مرفوعة الطنب؟
من علم المرء أن ينال من ال
مزمار والصنج لذة الطرب؟
يحكي بها ضربه مغازلة ال
عاشق لينا وسورة الغضب
واللحن خمر النفوس تشربه
واللحن سكر مثل ابنة العنب
يحكي به موقع الحوادث وال
أقدار من مغنم ومن سلب
يحكي به الجد إذ يجد به ال
دهر وطورا كرقصة اللعب
يحكي به السعد والشقاء وما
نصيب من نعمة ومن كرب
يحكي به خفقة الفؤاد على
حاليه من راحة ومن تعب
من علم المرء أن يخط على ال
قرطاس لونا من أعجب العجب؟
يحكي به الضوء والدياجير وال
أجسام من ناضر ومن شحب
يحكي به الجلد في نعمومته
وما يليه من الدم السرب
يحكي به أوجه الحياة وما
نراه في بدئها وفي العقب
كأنما يقبس الضياء من ال
شمس ويأتي بظلمة السحب
من علم المرء أن يقد من ال
صخر دمي في وضاءة الشهب؟
تلك مثال الكمال صوره
يظل عريان غير محتجب
أو في ثياب كأنما يبرز ال
ريح بها الجسم ليس في حجب
تحسبها في الحياة ماثلة
تفكر فيما تريد من أرب
تحسب فيها القلوب نابضة
خافقة بالشعور والنصب
من علم المرء أن يقول من ال
شعر مقالا كاللحن في الطرب؟
يعلم الناس في سرورهم
حكمة هذي الصروف والنوب
وأن هذي الفنون قاطبة
جماعها في القريض والأدب
والفن جم والعيش آخره
دان دلوف بالحادث الأشب
وفي صروف القضاء عرقلة
تقتل روح الذكاء بالريب
وتبعث اليأس والملالة وال
شك وتودي بهمة الطلب
مناجاة الأرواح
بحق من خلق الأرواح ذاكية
وأودع الروح طول العمر في الجسد
وخالق الحب والأرواح تألفه
فيمنع المرء من صبر ومن جلد
وجاعل رسلا في القلب يرسلها
للقلب عن كثب تسعى وعن بعد
وباعث من ضمير الصب خاطرة
مثل الفراشة حامت حول ذي غيد
تلك المناجاة تدني الروح عن شحط
وتستقيدك في دل وفي ميد
بحق من أنت من آيات صنعته
صنعا يلوح بحسن الواحد الصمد
لو شاء بزك ثوب الحسن أجمعه
فصرت عريان من أثوابه الجدد
ألا بعثت خيالا منك في صلة
يزور بالليل في نوم وفي سهد؟
وما انتفاعي بطيف كله خدع
يا ليته كان ذا روح وذا جسد!
أو زرتني زورة في الدهر واحدة
تجيء عفوا فلم تخلف ولم تعد
كم قد دعوتك في الظلماء منفردا
وكم صدحت كصدح الطائر الغرد
أبيت سهران مشغوفا بذكركم
وليس يدنيك لا شوقي ولا سهدي
هيهات هيهات ما للقلب من رسل
إن الدعاء شفيع غير ذي سدد
لو أن للقلب ما خالوه من رسل
لكنت تعرف ما وجدي؟ وما كمدي؟
بل أنت لاه قرير اللعين ذو سنة
في حين وجدي شديد غير متئد!
أنا مجنون بحبك
أنا مجنون بحبك
فأزل غلة صبك
ليتني بالسحر معرو
ف فأبغي خلس لبك
ليتكم كأس عقار
وأنا مغرى بشربك
أيها الظالم رفقا
ليس قلبي مثل قلبك
إن يكن في البعد موت
فادنني أحي بقربك
أنت كالدهر مريب
نجني من سوء ريبك
ليتني طول حياتي
أحمد العيش بجنبك
ليتني في الموت طول ال
دهر مدفون بتربك
سلمك المأمول فردو
س فأخمد نار حربك
ودكم كالسحب وعد
ووعيد طي سحبك
عتبكم عتب الليالي
لم أجد عتبا كعتبك
أنا أهواك وما لي
منك إلا سوء غيبك
ألهدي ضوء عينك
أم لرجم لحظ شهبك
أنت بستان أنيق
نضجت أثمار رطبك
أتعد الذنب ذنبي
ليت لي قلبا كقلبك
ذنبي الحب لديكم
ليت ذنبي مثل ذنبك
يا طبيب الحب ليس ال
هجر من ناجع طبك
إن قلبي طول دهري
ناظر يرنو لصوبك
كل خير دون شرك
كل صدق دون كذبك
كل عذب دون مرك
كل جد دون لعبك
كل صعب دون سهلك
كل فضل دون عيبك!
ظالمي ما أعدلك
ظالمي ما أعدلك
فاقض إن الحكم لك
ليت روحي طرفة
وجده عنك ملك
مت من داء الهوى
ليت حبا قتلك
لا يغرنك أن ال
قلب عبد ذل لك
كم جميل ما بدا
فاتنا حتى هلك
أي ذنب جئته
عن ودادي نقلك؟
أي أمر طارق
عن دعائي شغلك؟
قد بدا لي يا حبيبي
منك أن لا قلب لك
إن يكن فيك جمال
إن شعري جملك
كل حسن شمته
فيك روحي حاك لك
ليت لي يا قلب قلبا
طائعا لي بدلك
قد دعا داعي الهوى
فاتئد ما أعجلك
لتموتن ولا تب
لغ منه أملك
ما أظن الحب إلا
بالغا بي أجلك!
ليتني وليتك
ألا يا ليتني نسمه
ويا ليتك لي زهره
فأهواك وتهواني
فلا عتب ولا هجره
وكنت الروض ممطورا
وكنت الغيث لي مطره
ألا يا ليتني ماء
ويا ليتك لي خمره
فأحويك وتحويني
ولا وجد ولا غدره
ألا يا ليتني ليل
وكنت الدهر لي بدره
ألست الليل أحويك
وأنت البدر لي غره؟
ألا يا ليتني طرف
وكنت الدهر لي نظره
فألقاك وتلقاني
فلا بعد ولا ذكره
ألا يا ليتني بحر
ويا ليتك لي قطره
ألا يا ليتني أفق
وكنت النجمة الزهره
ألا يا ليتني معنى
وكنت الدهر لي سره
ألا يا ليتني ميت
ويا ليتك لي حفره
فلا شوق ولا يأس
ولا نهي ولا زجره!
لولاك
لولاك ما ذقت طعم العيش لولاكا
فالحلو والمر معقود بجدواكا
لولاك ما بت طول الليل مكتئبا
ولا حننت لبرق من ثناياكا
تصيح بي الطير إني عاشق لكم
من علم الطير أن القلب يهواكا؟
والزهر يعذرني فيكم ويبسم لي
هل يعلم الزهر ما تجنيه عيناكا
يهب شوقي لريح الورد أنشقه
كأنما نفحات الورد ذكراكا
أهوى النسيم الذي من نحو بيتكم
يا طيبه حين يأتينا برياكا
أحببت من حبكم من كان يعرفكم
كأنما قربه من طيب رؤياكا
فإن في عينه عن حسنكم خبرا
ونظرة سرقت من حسن مرآكا
حبيب يا زهرة الدنيا وبهجتها
هل من وداد فتلقاني وألقاكا؟
أمشي أحدث نفسي عنكم أبدا
لعل قلبي يسعى بي لمثواكا
اختارني الحب دون الناس كلهم
فهب قلبي ولباه ولباكا
كم يخلق القلب من نجواكم رسلا
هل جاءكم هاتف منه فحياكا؟
يطيف بي هاتف من طيفكم أبدا
يا ما أميلحه لو كان إياكا!
من حبكم صرت أبغي عنكم بدلا
أقول يا ليت أن القلب يقلاكا
أشكو إلى الريح ما ألقى بحبكم
يا قلب صبرا فما تجديك شكواكا؟!
الربيع والصبا
يا قلب ما لك كالشتاء وبؤسه
أيعود شجوك في الربيع الآتي؟
قد كانت الآمال فيك صوادحا
تهفو بسمع أحبتي ولداتي
وتليح لي بمطامع مرجوة
إذ أنت تدعو والحبيب يؤاتي
يا قلب نابذك الهوى ونبذته
أفهل نسيت محاسن اللذات؟
ذهب الهوى بزهوره وطيوره
أفلا يصيخ لدعوتي وشكاتي؟
من لي بأيام له محمودة
ذهبية الأشواق والصبوات؟
نستقبل الأقدار وهي كوالح
فنعيدها مبيضة الصفحات
ذهب الربيع أخو الصبا بذهابه
فالطير خرس ميتة النغمات
أين السبيل إلى معاودة الصبا؟
أيعود شجو القلب بعد فوات؟
والقلب مثل الزهر يحييه الهوى
يوما ويدركه الأسى بممات
والمرء يحيا بعد فقد شجونه
ليست حياة بعدها بحياة
فالصدر قبر والشجون رفاته
ذكرى تليح بحفرتي ورفاتي!
ليلة القدر
أمانا ليلة الدهر
أمانا ليلة العمر
فقد أبصرت من أهوى
شبيه الوجه بالبدر
فبت الليل سهرانا
أنادي الله بالجهر
عسى يدني منى قلب
شقي فيك بالهجر
وأستدنيك بالنجوى
وأستدنيك بالسحر
فلم أظفر بمأمول
وولت ليلة القدر
عناء كلها كانت
من الإمساء للفجر
الرحمة (منقولة عن شكسبير)
وما الرحمة الغراء بالقهر تجتدى
ولا يستقيد القسر أفضال راحم
تجود كما جادت سماء بغيثها
فتجدي كما يجدي سخي الغمائم
أليست كقطر الغيث ريا ونعمة
تعيد وجوه الروض غر المباسم؟
وتبدر من قلب العظيم عظيمة
وأعظم نفعا في فعال الأعاظم؟
فطوبى لذي هم ينال شفاءها
وطوبى لذي فضل كثير المكارم
تطهر قلب المرء لو يستطيعها
وتكسر من شر الخطوب الهواجم
هو الرفق تاج للملوك يزينهم
بأحسن من تيجانهم والصوارم
وفي صولجان الملك روع لناظر
يدل على بطش الملوك القماقم
ويملأ قلب المرء خوفا وهيبة
فيفرق من سطو الطغاة الغواشم
ولكن ملك الرفق أعلى مكانة
تبوئهم ملكا رفيع الدعائم
فإني رأيت الرفق كالخلد ملكه
ولكن ملك السيف ليس بدائم
وما نعت الرحمن إلا بنعته
فطوبى لجم الرفق جم المراحم
إذا ما مزجت العدل بالرفق جاهدا
وإني رأيت الرفق خير المطاعم
بلغت رضاء الله في خير نعته
وسرت على نهج النفوس الكرائم
غروب الشباب
يموت شباب المرء والمرء غافل
ويعقبه بعد الشباب مشيب
ويمضي شباب العاشقين وما انقضى
لهم أرب من عيشهم ونصيب
شباب أضئ لي العيش كالشمس كلما
حداها إلى باب السماء غروب
طلعت طلوع الشمس والعمر واضح
شهي، وأثمار الحياة تطيب
وتغرب عنا مغرب الشمس رائعا
وأنت على ما كان فيك حبيب
تضيء بحار العمر كالشمس حقبة
وتطفئك الأحداث وهي خطوب
لك الشفق المشبوب كالنار كلما
تأجج في صم الضلوع لهيب
وتندبك الأشجان وهي سحائب
لها منظر عند الغروب مهيب
فقم يا مشيبي واملأ العيش وحشة
لها من دياجير الظلام ضروب
وما الشعر المشبوب في الرأس حلية
ولكن رماد للحياة يريب
وما الشعرات البيض فيك مضيئة
وليس لها في الزاهرات ضريب
الحب القديم والجديد
ذهب الحب فلا تحزن له
ومضى الوصل فلا يغني الندم
كنت تسقيني من كأس الهوى
جرعات هي من خير النعم
فإذا الحب نعيم ينقضي
وإذا حسنك طيف في الحلم
لا يحل البغض فينا منزلا
حله فينا الغرام المنصرم
كل شيء لبلاغ ومدى
ومدى الحب ملال وسأم
فابتدره وهو في إبانه
واسل عنه وهو نضو منثلم
أول الحب عباب زاخر
وبقاياه كموج منهزم
لا أريد الحب إلا رائعا
مالئا للنفس كالسيل العرم
ليس للعتبى مجال بيننا
فبنا عن رجعة العتبى صمم
إن نحاول رجع وصل دارس
لا يعود الذكر إلا بالألم
لذة الذكرى إذا ما لم يكن
كلف يجلب للقلب السقم
لك في الناس أليف عاشق
ولنا في الناس عشق مكتتم
قد بلوناك حميدا في الهوى
وبلوناه حميدا لا يذم
لك من ودي نصيب وافر
حافظ عهد الزمان المنصرم
ليس للحب قيود أو إسار
إنما الود كفيل بالذمم
أنت عندي مثل حلم رائق
أو خيال يطرق النوم ملم
أو كنور البدر فضيا له
وتر في القلب فضي النغم
غير أن الشمس يوري نورها
في نواحي القلب حبا كالضرم
يبعث الرغبة فينا حرها
إنما الرغبة نار تضطرم
ولنا في الناس إلف حسنه
مثل حسن الشمس جال للظلم
أنا منه كل يوم في جوى
يستبيح القلب من لحم ودم
ومن العشق جنون خابل
يزدري المرء له وقع التهم
ما على العاشق من لوعاته
ما يرى في الحب من عذل وذم
وحبيب باسم مثل الضحى
وإذا فاتحته الحب وجم
جاهل بالعيش لا يعرف ما
تخبأ الأيام من صرف القسم
يحسب الحب كحلى زائن
لابسا من دره ما ينتظم
إنما الحب جنون وجوى
ورجاء واجترام وندم
وبه للنفس محيا أو ممات
وبه للقلب غنم أو نقم
يرفع الحب ذليلا خاملا
ويذل الحب شهما لم يضم
كما محب هالك من لوعة
وحبيب بات كالصخر الأصم
ولقد يجني على الحسن الهوى
مثلما يجني على العيش العدم!
مواطن الحب
الحب طلاع الثنايا له
في كل واد جيئة أو ذهوب
وفي الجيال الشم وكر له
كأنه النسر إليها يئوب
وفي الكوخ نزال وفي الروضة ال
غناء نزال بها لا يريب
تراه في الصحراء في ظعنه
وفي القصور البيض إلف ربيب
لا في المكان الجدب مستوحشا
وليس يزهوه المكان الخصيب
له على الأمواج مسعى وفي ال
رياح مسعى رائع لا يخيب
فراشه الأرض على رحبها
وسقفه وجه السماء الرحيب
بين القبور ضاحك تارة
ونائح طورا وطورا قطوب
أما ترى العشاق في خلوة
وطاؤهم قبر وروض قشيب؟
فلم يبالي الميت في قبره
ما دام يخلو بالحبيب الحبيب؟
إن لهم في عيشهم فسحة
للفكر يحدوه الأسى والمشيب
فدعهم الآن على غرة
فإنما الغرة عيش خلوب
يلعب بالأرواح هذا الهوى
كالطفل يلهيه الذباب الصخوب
ليس فقير جاهلا أمره
ولا غني خاليا لا يريب
كلاهما طب بأمر الهوى
فإنما دار الغرام القلوب
في كل أرض منه إثر له
وكل ريح من شذاه تطيب
في كل دار من جواه مريض
وكل قلب فيه جرح رغيب
جنون الحياة
لا ترع فالدهر مجنون
كل حى فيه مغبون
جن من حول ومقدرة
وكذا ذو الحول مجنون
كل ثبت الجأش في دعة
وقليل الصبر محزون
إنما الدنيا لذي خلد
رأيه بالعزم مقرون
هذه الأقدار محدقة
غر منها الضيق واللين
نحن في أقدامها كرة
ما لنا في العيش تأمين
لا تفكر في مصادرها
كل هذا الفكر مظنون
لا تفكر في مصائبها
أي ما أملت ميقون
فعلام الخوف من غير
للعوادي شرها الحين
احس كأس العيش في دعة
لا يرعك العز والهون
كسراب البيد عيشتنا
ما لنا في الدهر تمكين
صور للدهر يعرضها
ثم تخفى وهو مدجون
كم ترى في العيش ذا وجل
أي شيء فيه مأمون
لو يفيد الخوف صاحبه
صح أن السعد مضمون
وتناجي ما مضى أبدا
أيجيب الحي مدفون؟
إن أتاك الهم مشتملا
سيفه والسيف مسنون
ورأيت القلب منك جرى
دمه والقلب مطعون
دار عنه الناس كلهم
إن بر الناس مظنون
ثم قهقه في وجوههم
وإذا ما لام محزون
فتضاحك، ثم قل أبدا
إن هذا الدهر مجنون!
دهرنا دار المجانين
كل حي فيه مسجون!
فراشة الحب
شربت بلحظك كأسا تلذ
فأسكرتني يا مليح الهشاش!
فأنت نعيمي وأنت شقائي
وأنت هلاكي وأنت معاشي!
وبعدك عني موت كريه
وقربك بعث يجد انتعاشي
فحتام أدعوك لا تستجيب
وطرفي إلى نور وجهك عاشي
أحوم عليه وفيه الهلاك
كما حام بالضوء طير الفراش
أظل إذا لحت ذا لوعة
كذي القر في هزة وارتعاش
أموت من الحب يوما فيوما
وحبك في القلب نام وناشي
وهيهات أسلو وحسنك ري
أيسلو عن الري سرب العطاش
وفي الحسن حاجة نفس الأديب
هي الطير وهو لها كعشاش
فلا تأخذن بقول العدو
فالكذب في الناس باد وفاشي
فخيرهم فيه طبع الجحاش
وشرهم فيه طبع الخشاش!
عصفور الجنة
ألا يا طائر الفردو
س قلبي لك بستان
ففيه الزهر والماء
وفيه الغصن فينان
فغرد فيه ما شئت
فإن الحب مرنان
وفيه منك أنغام
وفيه منك ألحان
وللأشجان أوتار
ونايات وعيدان
ألا يا طائر الفردو
س إن الشعر وجدان
وفي شدوك شعر النف
س لا زور وبهتان
فلا تعتد بالناس
فما في الخلق إنسان
وجد لي منك بالشعر
فإنا فيه إخوان
ألا يا طائر الفردو
س قلبي منك ولهان
فهل تأنف من روضي
وما في الروض ثعبان؟
وهل تفرق من جوي
وما في الجو عقبان؟
وهل تنفر من قلبي
كأن القلب خوان؟
فما لي منك إسعاد
ولا لي منك لقيان
ألا يا طائر الفردو
س إن الدهر ألوان
وللأقدار أحكام
وللمخلوق إذعان
أرى الأحداث إسرارا
ستمسي وهي إعلان
ويهفو بك ريب الده
ر إن الدهر طعان
فلا حسن ولا شدو
ولا زهر وأغصان
سيبقى لك في قلبي
مودات وتحنان
فإن ملك أحباب
وإن عقك إخوان
وإن رابك من عي
شك لوعات وأحزان
وإن باعدك الحسن
وثوب الحسن خلقان
فجرب عندها قلبي
فقلبي منك ملآن
إذن تعرف أن القل
ب من حبك نشوان
فعشش فيه في أمن
فقلبي بك جذلان
وأسمعني من الشعر
فإنا فيه خلان
وهل تفهم ما أعني
وهل للطير أذهان؟!
إلى الروح التي أهوى
إلى الروح التي أهوى
أعز الله مأواها
حياء صدها عنا
وسوء الظن أقصاها
فهل من عطفة ترجى
فإنا نتمناها
وروحي نحوها تهفو
فليت الحب أدناها
لعل الموت يدنينا
ويؤينا وإياها
أجوب العالم المجهو
ل جذلانا بلقياها
إلى الروح التي أهوى
أطاب الله مثواها
لقد أفسدت العيش
فليت القلب يقلاها
ونعم العيش لو تدنو
وبئس العيش لولاها
وكان العيش محمودا
بملقاها ورؤياها
فليت الحب أصماها
وليت الحب أعداها
فتدري لوعة الأشوا
ق واليأس وحاشاها
لعل الله يرعاها
فإن القلب يهواها
فهل من مبلغ قولي
إلى الروح التي أهوى؟
بعد الحسن
عتبت فلم ينفع لديك عتاب
وقلت وما لي في هواك جواب
وكنت أعد الحسن فيك فطانة
وإن جنوني في هواك صواب
سأصبر حتى يتلف الدهر حسنكم
وكل بناء لو علمت خراب
وكيف يتيه المرء من حسن وجهه
وعقبى جمال الفاتنين ذهاب؟
سأصبر حتى تنقضي منه دولة
وتصبح تقلى تارة وتعاب
فجرب ودادي تلقني لك حافظا
وإني أرضى والأنام غضاب
تجدني أخاك الصادق الود لم أخن
إذا خان من فوت الجمال صحاب
وتعلم ما ودي وما كان حسنكم
وتعرف أي الباقيين سراب
وأبصر فيك الحسن من بعد عهده
وأي وداد بعد ذاك يصاب
وليست حياة المرء إلا سحابة
تمر وما غر اللبيب سحاب
وتبكي على العهد القديم الذي مضى
وليس لحسن فات عنك إياب
وما ينفع المرء الحزين بكاؤه
إذا صال ظفر للزمان وناب
ستصبح يوما في التراب مجندلا
بفيك وفي العينين منك تراب
وتمسي رفاتا في التراب ذليلة
يقيء الفتى من مسها ويصاب
فخفف قليلا من جفائك واتعظ
فما ينفع الوجه الأغر شباب
أخي أما من عطفة أستفيدها
لديك فإن البعد عنك عقاب؟
ولا تحسبن أني سكت ملالة
فإن سكوتي في هواك خطاب!
الحب والخلود أو وحي الشعر
قد سقاني هواك كأس الخلود
وحدا بي للعزة القعساء
وسما بي فوق السموات حتى
صرت مثل السماء فوق السماء
وجرى بي شوطا بعيدا فخلف
ت ورائي نوابغ الشعراء
صرت كالبدر في السماء منيرا
في دجى من جهالة الجهلاء
حدثتني عنك النجوم حديثا
وحديث النجوم ومض الضياء
أنت وحيي ومنطقي وخيالي
وبياني وهمتي وذكائي
شاعر الحسن إن حسنك والخل
د وشعري ري النفوس الظماء
ظمأ دائم وري سراب
أم زلال ذو نشوة وصفاء؟
رب شعر كالداء مر وشعر
صادق الفعل ناجع كالدواء
منه ما يجلب بالزمانة والسق
م ومنه مستجلب للشفاء
إن تكن وحي شاعر يبلغ الشم
س ويربو على مدى الجوزاء
أنت كالشمس في نهاري مضيء
ومنير في الليلة القمراء
وملأت الفؤاد نورا ونارا
فانمحت منه آية الظلماء
وجعلت الفؤاد بحرا خضما
وشعورا يجيش كالهيجاء
كنت لي ناظرا يرى بلحاظ ال
ظن ما لا يلوح للبصراء
وجلوت الحياة غراء تزهو
فألاحت بالحجة البيضاء
وجعلت الفؤاد كالطير يشدو
أو فصيح مجود الغناء
وجعلت الفؤاد زهرا زكيا
وجنانا فسيحة الأرجاء
أنت أفهمتني الملالة واليأ
س وعلمتني صنوف الرجاء
أنت أنبت لي جناحا وأرهف
ت سهاما كثيرة الإصماء
لك في النفس منزل ومسير
كمسير الدماء في الأعضاء
وخلقت الحياة خلقا جديدا
ثم أبديت لي كنوز البقاء
وجعلت الفؤاد ينبض نبضا
ذا وئيد كالضربة الهوجاء
آه ما أتعس المعايش والأي
ام لولا عواطف الشعراء
كجنون النعيم والبؤس فيهم
وهي تبدو لغيرهم كذكاء
كنت لي نجمة تلوح لهديي
ورشادي في العيشة الكدراء
كنت نحسي وشقوتي ورخائي
وعنائي ولذتي وثرائي
كنت آتي بالشعر مما أراه
من ضياء وروضة وهواء
صرت لي في اللحاظ ضوءا وفي السم
ع غناء يطير بالأهواء
ونسيما في الأنف رطبا ذكيا
وعقاري وموردي وغذائي
وجعلت الكمال فيك مثالا
ووصفت الكمال للأحياء
وقبست الأشعار من حسنك الغض
وحكت القريض للفطناء
فلئن كنت قد أصبت وأبدع
ت فأنت الخليق بالإطراء
ولئن كنت قد عجزت وقصر
ت فحكم مقدر في القضاء
عبث نسبة الغناء إلى الرو
ض فليس الغراب كالورقاء!
الحب والود
ألا إن أشقى الناس من لا تقاربه
وإن سعيد الناس من أنت صاحبه!
وكيف أرجي للملمات صاحبا
أفاتحه ودي فيزور جانبه؟
وليس لقلبي جرأة فأؤمه
وليس لقلبي سلوة فأجانبه
وأقسم لو أني عليه مملك
لما كنت أفشي ذنبه أو أعاقبه
فكيف وما لي قدرة فأقيده
ولا لي منه عطفة فأعاتبه
فيا آفة القلب الطموح إلى الهوى
غلبت فرفقا بالذي أنت غالبه
أتهجر خلا وافيا أنت همه
وتترك قلبا والها أنت شاعبه؟
أراني إذا ما غبت عني كأنني
خميص قد استعصت عليه مكاسبه
طرقت بيوت الناس أبغي مودة
وكل خليل ماذق الود كاذبه
فلما بدا لي منكما ما أعزه
هويتكما والحب شتى معاطبه
وهل عجب أن يعشق الفضل والحجى
أديب يرى في الفضل قرنا يقاربه؟
وهل من جناح أن أكون أخاكما
فتزهر من ليل الحياة كواكبه؟
وما لي في حسن الحسان مآرب
إذا أردت المرء اللئيم مآربه
وما الحسن إلا زينة الفضل والنهى
وكل لئيم أسود الروح شاحبه
وما كل حب لاعج بمحرم
ولا كل من يهوى هوى هو شائبه
أما أنتما حب قديم كتمته
سنين وحب لا أزال أحاربه
فيا أخوي استيقنا وتبصرا
رويدكما فالدهر شتى عجائبه
وإن خليل الفضل ري ونعمة
وإن خليل السوء تسري عقاربه
فمن لي بمن ألقي إليه سريرتي
وأفضي إليه بالأسى وأصاحبه؟
فما أنا ممن يعشق الغيد قلبه
وتسكب من هجر الحسان سواكبه
ولكن قلبي يعشق الحسن والحجى
إذا اقترنا والخلق شتى مطالبه
منحتكما قلبي فهل ذاك نافعي ؟
أيرتجع الموهوب من هو واهبه؟
أحبكما للحسن والحسن باهر
وأهواكما للفضل شتى غرائبه
وأحسن فضل في الورى فضل باسم
جميل المحيا لا تصاب معايبه
بربكما لا تتركاني كغارق
يغالب لج اليأس واليأس غالبه
ولا تتركاني فارغ العيش خائبا
وكل حزين فارغ العيش خائبه
ولا تتركاني في الحياة كذي ضنى
تعدته عواد وملت أقاربه
ولا تحسبا أن السكوت جلادة
فما كل صمت يحمد العيش صاحبه
وإن غبتما فالعيش كالليل مظلم
تعب طواميه وتدجو غياهبه
وإن تهجراني فالسلام عليكما
سيصدع قلبي منكما ما أغالبه
ولن تجدا ودا كودي فجربا
هل العيش إلا طعمه وتجاربه
خليلي إن الدهر ما تعلمانه
وإن مرير الموت ما الخلق شاربه!
وعظ القدر
على الدهر والدنيا، على العيش والردى
فرائض لا تبلى ولا تتحول
وتهلك هاتيك الشعوب وتنطوي
كما يهلك المرء الضعيف المقتل •••
فقم واستمع خطو الحوادث بيننا
فكل ضعيف عاجز ليس يسمع
ترى سيرها سير الجيوش مهيبة
منظمة الأقدام تعدو وتسرع •••
لعل لها صوتا ينبه غافلا
فينشط مكسال ويفهم أخرق
فإن تكن الأقدار كالسحب إنها
يضج ضجيج الرعد فيها وتبرق •••
أما في رعود الحادثات مواعظ
أما في بروق للمقادير زاجر؟
نصحتكم لو تسمعون نصيحة
نعم تسمع المرء الضعيف الأوامر •••
سلاسل للأحداث فيكم قيودها
فليس بكم قيد الحوادث منبتا
وفيكم بقايا للحياة قليلة
فلا تحسبوا يا قوم أنكم موتى •••
إذا رضيت نفسي بحال رغيدة
فقد خنت آمالي وخنت عقيدتي
وما هذه الحالات إلا كسلم
فلا تقنعوا منها بحال حميدة •••
فما أفسد الحالات كالدهر مفسد
ولا جدد الحالات كالفكر مصلح
وكل قديم للبلى غير أنه
سيعقبه أمر به النفس تفلح •••
فقم عاون الأحداث في وصف سيرها
وألهب بسوط الجد خيل المقادر
وعش مع هذا الكون كونا معظما
وكن في قواه بين ناه وآمر •••
فإني رأيت النفس كالأفق بهوها
تسير بها الآمال سير الكواكب
هي النفس دنيا لا يقام نظامها
إذا اختل في الآفاق سير الرغائب
مشتري الأحلام
يا مشتري الأحلام يرغب في الكرى
كيما ينال من الكرى ما يطلب
عندي من الأحلام كل بضاعة
ومتاجر غبانة لا تكسب
حلم يروع ولا يسر وغيره
حلم يسر إذا يجيء ويعجب
حلم يزيل عن الفقير خصاصة
حتى يبيت على الدسوت يعصب
حلم ترى فيه العزيز مرجما
مستجديا خلفا يذل ويضرب
خذ مني الآمال حلما رائعا
شرق النواحي بالضياء يذهب
صداع قيد المستحيل سرابه
ووميضه البرق الكذوب الخلب
وفضائل ممدوحة ورذائل
مقبوحة أحلامها لا تنضب
والنور حلم والظلام وكلما
يبدو لعينك ظاهرا أو يحجب
إن الحياة إذا اختبرت أمورها
وبلوت من لذاتها ما يطرب
حلم على حلم يغر وقد ترى
حلما على حلم يغر ويعجب
وأزاهر الأحلام مثل نعيمها
وشقاؤها حلم يروع ويرهب
لا تحسب الأعمال تنفي أنها
حلم يجيء به الخيال فيكذب
فالمرء يطمع في المنام مطامعا
ويبيت يعمل جاهدا أو يلعب
يا مشتري الأحلام لا تزهى بها
فتعود تبكي للصروف وتندب
يا غبنتا للمرء في أحلامه
إن أيقظته الحادثات الغلب
لو يستحيل المستحيل على الورى
وأنال من أحلامه ما أطلب
لجننت جنة قادر متحكم
يرضى على هذا الأنام ويغضب
وأخذت من هذي الحياة لبابها
وشربت من أكوابها ما يشرب
والكون فكر الله ينظر في الذي
يرضيه من خلق الوجود ويعجب
إن راقه خلق الوجود مثاله
كيما يجيء على الكمال فيغرب
أو لم يرقه فهو ليس بصانع
دنيا تهون على هواه وتجدب
فالكون لم يخلق ونحن نظنه
خلقا يجيء به الزمان ويذهب
جنة الحسن
أيا جنة العشاق هل لي وقفة
أرفه قلبى ساعة في ظلالك
وأبصر منك الزهر والزهر باسم
وأسمع منك الطير تشدو هنالك
وأعبد فيك الحسن شتى صفاته
وكل جمال خالد في خلالك
ففيك معاني الخلد والخلد فاتن
هل الخلد إلا حلية من جلالك؟
أما أنت دنيا الحسن والحسن باهر
وما لي منها غير مكذوب آلك
ويا جنة الفردوس ماؤك خمرة
فهل أنا أسقى جرعة من زلالك؟
ويا جنة الفردوس هل أنا آثم
فيحرم قلبي حظه من نوالك؟
ويا فتنة العشاق هل من وذيلة
فتشقيك فيها فتنة من جمالك؟
ويا بهجة الطاووس حسنك زائل
رويدك فينا واسألي من مآلك
ويا زينة الدنيا التي أنا عاشق
حنانا لعيش من جفائك حالك
فهل زورة تشفي الفؤاد من الجوى
فليس دوائي زورة من خيالك
وإن تبتغي بالدل موتي فأبشري
هنيئا مريئا قد ظفرت بذلك
فيا ليتني فكر يكون ببالك
وهل نافعي أني أكون ببالك؟
صوت النذير (هذه قصيدة في وصف أخلاق المصريين، وإظهار أماكن النقص فيها، وحضهم على مزاولة الأعمال الاقتصادية النافعة ونشر العلوم. والعلم والمال أصل القوة، والقوة أساس الحياة.)
خل الهوينى فهذا أمرنا جلل
لا اليأس فينا بمحمود ولا الأمل
ولاح لي بيننا في عيشنا ظلم
فانظر بعينيك أي الأمر مقتبل
بوادر يعرف التاريخ فعلتها
تدعو إلى الموت لا شك ولا جدل
كم أمة هلكت من قبل ما عرفت
أن الهلاك إليها عامد عجل
تعلل النفس بالأحلام تنظرها
والهلك حتم ويخفى سيره المهل
تظن أن طريق العز مسلكها
والموت من حولها كالنقع ينسدل
لا الدهر غر ولا الأيام ظالمة
وإنما العيش فينا والردى علل
كل له أجل يسعى ليبلغه
وليس يفلت إما جاءه الأجل
لولا التنافس في الدنيا لما صلحت
ولا الحضارة والأيام والدول
وا حسرتاه لقوم ليس ينفعهم
نصح النصيح ولا الوعاظ والرسل!
مستنبتين بأرض العجز ليس لهم
عنه ولا عن فناء الجهل مرتحل
تسعى بهم غير الأيام واعظة
والقوم صم كما لا تشتهى همل
زاوين إلا عن الفحشاء أنفسهم
وفوقهم من بوادي خزيهم حلل
يا بارك الله مقدورا يعاجلهم
فتطهر الأرض لا رجس ولا خطل
بأي حق يعيش الغافلون ولا
نفع يجيء به قوم إذا غفلوا؟
ما باشروا الصدق في قول ولا عمل
فكذب الأصدقان: القول والعمل
إذا أصيبوا بشر هين خنعوا
وإن أصابوا منالا هينا جذلوا
ويغضبون على من رام نفعهم
فما يشجعه في السعي محتفل
ويحسنون إلى من رام ضرهم
فما يثبطه ردع ولا عذل
فلا حكيم ولا ندب ولا فطن
ولا عظيم ولا ثبت ولا بطل
إذا هممتم بأمر نفعه عمم
ألهاكم العجز والزلات والملل
وإن بدهتم بخطب ضره أمم
ضاقت لديكم به الغايات والسبل
وصاحب الجهل فيكم آمن فرح
وصاحب العقل فيكم حاذر وجل
إذا نطقتم بحق فيكم حصر
والبطل مبتدر منكم ومرتجل
فإن رقدتم فإن النوم عادتكم
وليس تصحو لكم روح ولا مقل
والعجز مهلكة والضعف مضيعة
وما لكم إن غفلتم عنهما نقل
هل خدعة أوهمتمكم أن جمعكم
جمع كثير فخير منكم رجل
تهافتون على الأدناس ما نتنت
مثل الذباب على الأدناس ينتقل
أفهامكم مثل أفهام الفراش إذا
حام الفراش على المصباح يشتعل
فإن دعيتم إلى خير ومكرمة
حكيتم البهم لا عقل ولا حيل
فما طبيب يداوي داءكم أبدا
إلا الهلاك وهذا ريثه عجل
ومن دلائل هذا الهلك أن لنا
فخرا فنحسب أن الفضل متصل
إذا خشيتم فأنتم معشر جبن
وإن رجيتم فأنتم معشر خذل
كم من نصيح لكم بالرشد ينصحكم
كأنما حظه من نصحه الصحل
كلوا وناموا ونالوا حظكم أبدا
من التثاؤب لا لوم ولا عذل
وعاقروا الخمر والأفيون في دعة
فعيشكم مثل ظل سوف يرتحل
واستخبروا عن هوى اللذات قاطبة
أما عن العز والعليا فلا تسلوا
وملء أشداقكم ضحك أأسكركم
من حسن حالكم خمر هي الجذل؟
أم ضحكة الرجل المجنون من حزن
لشد ما نال منك البؤس يا رجل؟
أم ضحكة الخنث الموهون أضحكه
أمر معيب فلا تقوى ولا خجل؟
أنا النذير إليكم والنصيح لكم
وليس يؤثر نصحا عاجز مذل
يمضي الزمان فلا عزم فيسعدكم
وليس يزداد إلا العجز والخيل
وفيكم من صفات السوء أخبثها
حتى لقد صار فيكم يضرب المثل
أشعلتم نار يأسي وهي خابية
وقد قتلتم ذكائي وهو مشتعل
هيهات هيهات إني مقول أبدا
حلق الزمان به في الناس يرتجل
أنتم بفي كطعم المر أمضغه
حتى تساوى لدي الصاب والعسل
فإن فهمتم فما لي فيكم أرب
وإن جهلتم فشر العادة الجهل
إذا هجوت فما أهجوكم أبدا
إلا ودمع على الخدين ينهمل
أنتم أحق بتأبين ومرثية
والزرء بالحي جرح ليس يندمل
أنتم علي وإن طالت مهانتكم
أعز ذي قدم يسعى وينتعل
فنحن في أمرنا طرا سواسية
وإن تفاوتت الأخلاق والنحل
وليس لي فيكم حظ ولا أمل
وليس لي في الورى من دونكم بدل
إني رأيت حياة الناس أولها
يدعو لآخر ما يأتي ويقتبل
لقد ورثنا قرونا كلها كمد
مور على القلب مثل النار يشتعل
فنحصد الشوك مما ذر أولنا
إنا ورثنا عن الأسلاف ما فعلوا
فمن خمول ومن جهل ومن كسل
وأعظم الخطب ما يأتي به الكسل
ثقل على النفس نمضيه ونصرفه
حتى يصح وحتى يصدق العمل
ونجتني العمر غضا كله ثمر
ونشرب العيش ريا كله جذل
إن الأماني دون القلب ما برحت
في القلب منزلها مستمرأ خضل
نستخبر القوم أنى وجهة سلكوا
فبلغتهم إلى عليائها القلل
هم زاولوا الجد قد دانت تجاربه
لهم فعزوا بها والدهر مقتبل
قوموا اجعلوا السعي في الأطماع رائدكم
ما أضيع المرء لولا السعي والأمل
بعض العلوم إلى الأعمال منتسب
وأحسن العلم ما يجدي به العمل
هذا السلاح الذي يدحو لهم سبلا
في مجدهم لا القنا الخطية الذبل
يا قوم هذا سبيل لا خفاء به
فيه الحياة لأقوام إذا عقلوا
إنا بمنزلة الفصل يتبعها
إما الحياة وإما الموت والأجل
حتام ننكر حقا غير مشتبه
لا يكره الحق إلا من به دخل
لا يصلح العلم مضنونا به أبدا
فأين شؤبوبه لا ينفع البلل
هذا الذي يدع الأقوام قادرة
فكل فرد كعضو ما به شلل
أذلك المال مضنون به أبدا
إن العزيز لدى الأوطان مبتذل
والعلم مثل عصا السحار يبسطها
فيصبح المال قد ضاقت به السبل
والعلم والمال مقرونان في قرن
لا نجتني المال حتى يصدق العمل
وإنما لغة الأقوام ميزتهم
فإن تولت فمجد القوم مرتحل
قد أصبح العلم والآداب ضائعة
وأصبح الشعر فوضى كله زلل
يرقى الوجود بعيش الصالحين له
من ليس يدركهم عجز ولا كلل
وما الحياة بمستشفى لمن سدكت
به الزمانات والأمراض والعلل
بل الحياة جهاد لا خفاء به
فليس يفلح إلا الأغلب البطل
إن الحياة كتنور ومعركة
يصلى الشجاع ويصلى العاجز الوكل
وكلكل الدهر لا يبقي على ضرع
وليس يخدعه جود ولا بخل
نلهو عن العيش، والأقدار نافذة
كأنهن مطايا تحتنا ذلل
إن المقادير أجناد مجندة
تصول بالحق لا ظلم ولا خطل
لا رحمة عندها ترجى ولا مقة
ولا الشفاعة تقصيها ولا الخول
كم أعصر قبلنا بادت وكم دول
حتى كأن لم يكن عصر ولا دول
كم معشر مثلكم ليموا فما انتفعوا
وأشعروا النقص فيهم ثم ما حفلوا
فبادرتهم يد الأقدار حاصدة
فما وقى جمعهم سهل ولا جبل
إذا ابتلى الله قوما بالهلاك فلا
سمع لديهم ولا عزم ولا حيل!
ليس التوكل في نوم وفي كسل
فهو المعين لمن يسعى ويختتل!
بين الحب والبغض
رمى الله في عينيك بالسهد والعمى
ولقاك من دنياك صابا وعلقما!
وعلمك السهد الطويل على الأسى
إذا حل هم في الفؤاد وخيما!
وعلمك الأحزان والبث والجوى
وما نكب المغرور إلا ليعلما!
وأودعك الليل البهيم همومه
وأصبحت حران الفؤاد متيما
وأتلف طول الهم عينيك بالبكا
إذا ما مضى دمع بكيت له دما
وخلف فيك اليأس كالسم في الحشا
تعالج داء من جواه مكتما
أأنسى بكائي والعيون هواجع
أراقب ليلا غائر النجم مظلما؟
أأنسى انفرادي والتياحي ولوعة
كأن لها بين الأضالع أرقما؟
أننسى عذاب القلب هاج وجيبه
كأن جحيما دونه وجهنما؟
لقد كنت في عيني ألذ من الكرى
وأطيب من طيب الحياة وأكرما
وجودت فيك الشعر والشعر ساحر
وهل تسحر الأشعار غرا وأعجما؟
فما ازددت إلا قسوة وتباعدا
وما ازددت إلا غلظة وتجهما
فعلمت قلبي كيف يقسو وإنه
ليحزن أن تلقى هوانا وتألما
جنيت على نفسي فليس بنافعي
إذا صال خطب أن تصاب وأندما
ولو كان في نفسي وقاء يصونكم
لأنزلت من نفسي المكان المكرما
وخطت عليك النفس خوفا من الردى
فكانت مجنا صادق الصنع محكما
وليت لساني سل مني ولم أقل
رمى الله في عينيك بالسهد والعمى!
سلمت، وما حي على الدهر سالما
وعشت سعيدا بالحياة منعما!
لقد سمت نفسي عنك صبرا وسلوة
وجشمت قلبي صبره فتجشما
ووالله ما لي عنك صبر أطيقه
فقد ودع الصبر القديم وسلما
وإني لتعروني إذا لحت هزة
كما ارتعش المصروع حينا وجمجما
وإن بقلبي من جفائك جنة
فإن رام يوما قتلكم ما تأثما!
فأسقي جنوني من دمائك جرعة
وهيهات يجدي القتل قلبا مكلما!
وأنفع منها غلتي وصبابتي
لعمرك إن الجرم لا ينقع الظما!
أأنت زهاك الحسن والحسن فتنة
لصاحبه حتى يرى الظلم مغنما
فأصبحت مغرورا تتيه وتنثني
رويدك هل تبغي إلى الشمس سلما!؟
كأني بصرف الدهر حل وعيده
فلم يبق لي في حسنكم متوسما
ولم يبق إلا منظرا لك شائنا
ووجها صفيقا في التراب مهدما
وهل تترك الأقدار يوما إذا سطت
على حسن إلا رفاتا وأعظما؟!
الفصل الرابع
زهر الربيع
إنما الشعر نغمة
كحنين المزامر
يرفع النفس سحره
عن وهاد الحقائر
يبلغ النفس أفقها
كجناح لطائر
يفتح النفس ضوءه
مثل ضوء التباشر
مثلما يفتح الصبا
ح زهي الأزاهر
من قصيدة «أغاريد شاعر» لصاحب الديوان
مقدمة فى الشعر لصاحب الديوان
إن وظيفة الشعر في الإبانة عن الصلات التي تربط أعضاء الوجود ومظاهره. والشعر يرجع إلى طبيعة التأليف بين الحقائق. ومن أجل ذلك ينبغي أن يكون الشاعر بعيد النظرة، غير آخذ رواء المظاهر، مأخذه نور الحق. فيميز بين معاني الحياة التي تعرفها العامة وأهل الغفلة. وبين معاني الحياة التي يوحي إليه بها الأبد. وكل شاعر عبقري، خليق بأن يدعى متنبئا، أليس هو الذي يرمي مجاهل الأبد بعين الصقر، فيكشف عنها غطاء الظلام، ويرينا من الأسرار الجليلة ما يهابها الناس، فتغرى به أهل القسوة والجهل؟
كل شيء في الوجود قصيدة من قصائد الله. والشاعر أبلغ قصائده.
الشاعر هو الذي لا يعيش مثل أكثر الناس، مقبورا في الأحوال التي تحوطه، هو الذي إذا عاش، كان له من شاعريته وقاء من عداء قتلى المظاهر. فإذا مات كانت الشهرة زهرة على قبره. فإذا لم تسعده الشهرة، هبطت روح الطبيعة على قبره، تظلله بجناحها، وتفرخ فوقه أبناءها الشعراء. تلك الأرواح التي تستمد الوحى من عظامه، وتسقيه من دموع الرحمة والحب والحنان.
وليس الشاعر الكبير من يعنى بصغيرات الأمور. ولكنه الذي يحلق، فوق ذلك اليوم الذي يعيش فيه، ثم ينظر في أعماق الزمن أخذا بأطراف ما مضى وما يستقبل. فيجيء شعره أبديا مثل نظرته. وهو الذي يلج إلى صميم النفس فينزع عنها غطاءها. وهو الذي إذا قذف بأشعاره في حلق الأبد ساغها. فعيب شعرائنا جهلهم جلالة وظيفة الشاعر. لقد كان بالأمس نديم الملوك، وحلية في بيوت الأمراء. ولكنه اليوم رسول الطبيعة ترسله مزودا بالنغمات العذاب، كي يصقل بها النفوس ويحركها، ويزيدها نورا ونارا، فعظم الشاعر في عظم إحساسه بالحياة، وفي صدق السريرة الذي هو سبب إحساسه بالحياة. وإذا رأيت شاعرا يأخذ الحقير مأخذ الجليل من الأمور، ويحسب الحوادث الصغيرة من الحوادث الكبيرة، فاعلم أنه ضئيل الشعر. فإن ضئيل الشعر يغتر بضجة الحوادث، ولا يعلم أن حوادث النفس على صمتها أجل الحوادث.
سئل وردزورث الشاعر الإنكليزي عن شعر شاعر، فقال: إنه ليس من الحتم في شيء. فكأنه يقول: إن أجل الشعر ما يخاله المرء قطعة من القضاء، لا بد من حدوثها. فإذا أردت أن تميز بين جلالة الشعر وحقارته، فخذ ديوانا واقرأه. فإذا رأيت أن شعره جزء من الطبيعة، مثل النجم أو السماء أو البحر، فاعلم أنه خير الشعر. وأما إذا رأيته وأكثره صنعة كاذبة. فاعلم أنه شر الشعر، فالشعر هو ما اتفق على نسجه الخيال والفكر إيضاحا لكلمات النفس وتفسيرا لها.
فالشعر هو كلمات العواطف والخيال والذوق السليم. فأصوله ثلاثة متزاوجة، فمن كان ضئيل الخيال أتى شعره ضئيل الشأن. ومن كان ضعيف العواطف أتى شعره ميتا لا حياة له. فإن حياة الشعر في الإبانة عن حركات تلك العواطف. وقوته مستخرجة من قوتها، وجلاله من جلالها. ومن كان سقيم الذوق، أتى شعره كالجنين ناقص الخلقة. غير أن بعض الناس يحسب أن سلامة الذوق في رصف الكلمات؛ كأنما الشعر عنده جلبة وقعقعة بلا طائل معنى. أو كأنما هو طنين الذباب. ولا يكون الشعر سائرا إلا إذا كان عند الشاعر مقدرة على التأليف بين اللفظ والمعنى . ولست أعجب من أحد عجبي من الأدباء الذين ينظمون الشعر في مواضيع تطلب منهم الكتابة فيها. فينظمون من أجل إرضاء من سألهم ذلك. كأنما الشاعر آلة وزن. ولكن الشاعر هو الذي لا ينظم حتى تنوبه تلك النوبة التي تدفعه إلى قول الشعر، بالرغم منه، في الأمر الذي تتهيأ له نفسه.
قد أصبح الشعر عندنا كلمات ميتة، ليس تحتها طائل معنى. يحسب الناس أنه إذا أخذ من النحو والصرف والعروض كفاية، وأصاب من طرف الشعر غاية؛ فقد أجاده. وإنما الشعر كلمات تخرج من النفس بيضاء مشبوبة. وكما أن العاطفة تنطق الشاعر، كذلك قد تخسره شدتها. ومن أجل ذلك كانت ذكرى العاطفة والتفكير فيها شعرا. وإنما نعني الذكرى التي تعيد العاطفة، والتفكير الذي يحييها. وليس شعر العاطفة بابا جديدا من أبواب الشعر، كما ظن بعض الناس، فإنه يشمل كل أبواب الشعر. وبعض الناس يقسم الشعر إلى أبواب منفردة. فيقول: باب الحكم، وباب الغزل، وباب الوصف ... إلخ. ولكن النفس إذا فاضت بالشعر أخرجت ما تكنه من الصفات والعواطف المختلفة في القصيدة الواحدة. فإن منزلة أقسام الشعر في النفس كمنزلة المعاني من العقل. فليس لكل معنى منها حجرة من العقل منفردة، بل تتزاوج وتتوالد فيه. فلا رأي لمن يريد أن يجعل كل عاطفة من عواطف النفس في قفص وحدها.
ومن القراء فئة كأنها تريد أن تشم من شعر الشاعر رائحة الدسم، وأن يملأ شعره بطون أفرادها لا عقولهم. كأن النفوس تقاس بالدرهم والدينار. وكأن الشعر لا يوزن إلا بالرطل والأقة! وبعض القراء يهذي بذكر الشعر الاجتماعي، ويعني شعر الحوادث اليومية، مثل: افتتاح خزان، أو بناء مدرسة، أو حملة جراد، أو حريق، أو زيارة ملك، أو حفلة في نادي الألعاب، أو مجيء طيار؛ فإذا ترفع الشاعر عن هذه الحوادث اليومية، قالوا: ما له؟ هل نضب ذهنه، أم خبت عاطفته، أم دجا خياله؟ ويجعلون منزلة الشاعر على قدر عدد قصائده في تلك الحوادث! فإذا نظم أحدهم قصيدتين في الجراد، كان عندهم أعلى منزلة ممن نظم قصيدة واحدة، وليس أدل على فوضى الأدب وفساد ذوق الجمهور من هذا الهراء. كأنما الشعر جريدة منظومة، أو كأنما الشاعر مصنع لصنع الأوزان. وإنما الشاعر هو الذي يحاول أن يبلغ إلى أعماق النفس، وأن يضرب على كل وتر من أوتارها، والذي تسمو معه النفس عن تلك الحوادث إلى سماء الشعر فينشقها نسيمه وينعشها بنفحاته، ويسمعها من ألحانه، ويريق عليها من ضيائه ما يرفعها عن منزلة البهم إلى منزلة الآلهة.
وهناك فئة تريد من الشاعر أن يكون أكثر شعره تكلفا للحكمة. فيأتي بأمثال من بطون الكتب، وأفواه العامة، نصفها حق ونصفها باطل. ثم يصوغها شعرا من غير أن يكون قد أحس لذعها في ذهنه، ولا شعر بقيمتها. وشر الحكمة التي يتكلفها الوزانون. وإنما حكمة الشاعر تبدو في كل قسم من أقسام شعره سواء الغزل والوصف والرثاء ... إلخ فإن شعر الشاعر مهما اختلفت أبوابه ينبئ عن نصيبه من التفكير. وحكمة الشاعر تجاربه وخواطره في الحياة. تلك الخواطر التي ينضجها الشعور والتفكير. والشاعر لا يسير على رأي واحد لا يتعداه. فإن المذاهب الفلسفية أزياء تأتي وتروح مثل أزياء باريس. والنفس أعظم من أزيائها. ولكل حالة زي والشاعر لا يعبر عن عاطفة واحدة، أو نفس واحدة، بل يعبر عن عواطف متغايرة، ونفوس متباينة. فلا رأي لمن يريد أن يقيده بمذهب من مذاهب الفلاسفة يذود عنه ويتعصب له. فإن الشاعر يرى جانب الصواب من كل مذهب، ويعبر عن كل نفس.
ولقد رأيت بعض القراء لا يفهم منزلة الغزل في الشعر. إن مزية الغزل سببها أن حب الجمال حب الحياة. وكلما كان نصيب المرء من حب الجمال أوفر، كان نصيبه من حب الحياة أعظم. وحب الحياة والجمال من العوامل الاجتماعية القوية التي تزجي الأمم إلى التفوق والاستعلاء. ولا أعني بالغزل غزل الشهوان، بل الغزل الروحاني الذي ترفع عن أوصاف الجسم. إلا ما بدا للروح أثر فيه. والحب أعلق العواطف بالنفس. ومنه تنشأ عواطف كثيرة، مثل البغض أو الود أو الرجاء أو اليأس، أو الحسد أو الندم، أو الشجاعة أو حب العلاء، أو الجود أو البخل. ومن أجل ذلك كان للغزل منزلة كبيرة في الشعر، من حيث هو جماع العواطف، ومظهر دروسها. فالغزل يعبر عن جميع العواطف النفسية. ومن حيث إن حب الجمال حب للحياة ترى فيه آراء الشاعر، وكل ما يعتوره في الحياة من الخواطر، ويصيبه من التجارب. وكل ما يسمو إليه فكره أو يحن إليه قلبه، وكل ما يعالجه من أساليب الحياة، وهذا الغزل الذي هو واسطة القلادة، وسلك العقد، وروح الشعر، ليس من شروطه تعليق العاطفة بفرد من أفراد الناس، وقصرها عليه. وإن كان ذلك أدعى إلى ظهروها. فإن الغزل الذي نعنيه سببه العاطفة التي تجعل المرء يحس الجمال إحساسا شديدا في جميع مظاهره، سواء جمال الوجوه والأجسام، أو جمال الأزهار والأنهار، أو جمال البرق في السحاب، أو جمال الليل ونجومه، أو الصباح ونسيمه، أو جمال النفوس والأخلاق، أو جمال الصفات، أو الحوادث والوقائع، أو جمال الخيالات التي يخلقها الذهن. وليست محبة الفرد للفرد إلا مظهرا من مظاهر هذه العاطفة الواسعة التي تحنو على كل جمال يستجلى في الحياة. وهذه العاطفة الشعرية تفيض ضياءها على كل شيء، حتى على جوانب الحياة المظلمة الكريهة. فتحبوها جمالا فنيا؛ مثل جمال الصورة البديعة التي يعجب المرء جمالها الفني، حتى ولو كانت صورة مذبحة، أو جمال الأنغام الحزينة التي تذيب القلب. والشاعر الناسب مثل المصور. إنما يستملي من صور الملاحة التي في ذهنه، ولقد سئل جيدو ربني المصور الإيطالي: من أين لك هذه الخلق المليحة التي تودعها صورك؟ فقال لسائله: انظر! ثم أتى بشيخ قبيح وأجلسه أمامه نموذجا، ورسم صورة فتاة مليحة، كأنما قد جمعت بين جمال الملائكة وجمال الحور. ثم قال: «أترى في هذا الشيخ الدميم مثل هذا الجمال؟ نحن أصحاب الفنون نحمل في نفوسنا دنيا أجمل من هذه الدنيا.» وما يدرينا لعل قيسا بن الملوح كان يشبب بليلى التي في الدنيا التي في نفسه، لا بليلى العامرية.
كان جيتي الشاعر يقدر الأشياء والناس، بقدر ما يستفيد من رؤيتهم ولقائهم من صفات الشعر ومواضيعه، وعواطفه وقصصه وبواعثه. فإذا رأى عجوزا تسعى، أو شيخا هرما أو فتاة أو طفلا أو فقيرا أو غنيا ... إلخ. عدهم كلهم بواعث من بواعث الشعر، مهما اختلفت صفاتهم. وكان يخزن من رؤيتهم ما اكتسبه لساعة الشعر والإلهام. فإن رؤيتهم تبعث على التفكير وتوقظ الملكة الفنية؛ أو كأنما رؤيتهم ريح تهيج أمواج نفس الشاعر فيعلوها درها وأصدافها، وكذلك يهيج الشاعر إلى الشعر لذاته وآلامه. فيصوغ الشعر من لذاته وآلامه وآماله، كما يصوغه من لذات الناس وآلامهم وآمالهم.
الباحث الأزلي
مقدمة
قد صور كثير من المفكرين والشعراء حياة الإنسان عصرا بعد عصر، كأنها حياة إنسان واحد، أو كأنها بحث متصل دهرا بعد دهر. وهذا البحث هو ما يزكون به حياة الإنسان، وما يعذرون به شقاءها وآلامها، ويأملون آمالا كبارا من وراء تقلب الإنسانية في بحث الحياة. ومن هذه الآمال رجاؤهم أن يعم الشعور بوحدة الإنسانية على اختلاف الأجناس والشعوب، والمطامع والضرورات والمطالب والنزعات النفسية، ويأملون إذا عم هذا الشعور بوحدة الإنسانية أن يقلل الإحساس العام بوحدتها، من البغضاء والشرور والحروب، والآلام والجشع، وأن يؤدي إلى التعاون على الحياة، بدل التقاتل عليها. وهذا البحث الإنساني المستفيض دهرا بعد دهر للحياة، وما يدعو إليه من الإحساس بكل شعور وكل حالة من الحالات، كي يعم مبدأ وحدة الإنسانية، هو الذي دعا إلى تخيل إنسان يعيش دهرا بعد دهر في كل حال وفي كل مكان، حتى يملأ العطف قلبه ويرى أن نشدان الحق غاية الحياة. وعلى فرض أن هذا الأمل الكبير في أن يعم، فإن بقاءه كمثل أعلى مما يخالط مرارة الحياة بحلاوة منه.
وعلى فرض أن المثل الأعلى لا يكون في تحقيق وحدة الإنسانية، ففي القصيدة مثل آخر وهو أن نشدان الحق هو الشعلة المقدسة التي ينبغي أن يرعاها الفرد، وأن ترعاها الإنسانية عامة.
بينما كنت سائرا لاح شيخ
ذو سكون ونظرة هوجاء
ويكاد الضياء ينفذ منه
فهو بين الأنام صنو الهواء
باحث في السماء يطلب شيئا
غاب عن عين غيره في السماء
وهو فينا جزء من الزمن الأو
ل ذكرى لسالف الآباء
وجهه رائع كوجه أبي الهو
ل رأى ما مضى على الغبراء
قلت: يا شيخ ما دهاك وما شأ
نك بين الأموات والأحياء؟
قال: من يدرس الحياة طويلا
لخليق بضحكة الجهلاء
كنت والكون في الطفولة أغدو
وشباب الأيام في الغلواء
وصرعت المنون حتى لأنسا
ني طول الحياة حكم الفناء
دول قد أتت وأخرى تقضت
وبقائي بين الأنام بقائي
وشهدت الصروف من قبل عاد
والمنايا تجر ذيل العفاء
أنشد الحق لست ألوي إلى البا
طل فالحق يطبى بالرجاء
عشت دهري بالبحث والأمل الحل
و ولولاه لم أفز بالنجاء
من سهام المنون إن سهام ال
موت فينا كثيرة الإصماء
همت يوما من قريتي أنشد الحق
لعلي أراه في الدهماء
عفت بيتي وبلدتي وهجرت ال
أهل أبغي ري النفوس الظماء
ظمأ النفس مثله ظمأ الجس
م وداء النفوس كالأدواء
زعم الناس بي الجنون وخالوا
طالب الحق أخرق الأحياء
كلما لاح شامخ قلت إن ال
حق يغدو من خلفه بإزائي
ورعيت الظماء علي أراه
خارجا من سائر الظلماء
وجزعت الصحراء أرجو لقاء
منه يرجى في وحدة الصحراء
ولكم غصت في العباب عليه
إنما الدر منه في الأحشاء
وأثرت الأصداء أبغي جوابا
لسؤالي في منطق الأصداء
وسألت الرياح فصمت
عن دعائي فلا تجيب دعائي
وسألت السماء تبرز وجها
منه يبهى في الأفق جم الضياء
وأعارتني الطيور جناحا
أرتجي منه لقية في الفضاء
طالما خاب ناشد الحق لكن
رجائي كما عهدت رجائي
قد يجيء الصباح منه بوجه
طالما كان مضمرا في الخفاء
أو تبين الأحلام منه ضياء
في سماء الأحلام مثل ذكاء
قد صحبت الأنام طرا كأني
بينهم في تلون الحرباء
كان لي نوح في السفينة خدنا
فنجونا من مهلك الأنواء
وحباني أشور في نينوى العظ
مى بسيب من جوده وثناء
ورآني فرعون أقدم في الجي
ش مشيحا ورافعا للواء
وتجلى آمون في معبد الأق
صر يقضي في شعبه بالقضاء
ولكم جلت في أثينا وأفلا
طون يتلو فصاحة الحكماء
ورأيت الرومان في رومة العظ
مى عظام الأعمال والأهواء
وصحبت المسيح في القدس دهرا
وحباني من روحه بالصفاء
وعبدت النيران قدما ولكن
قد سما بي الإيمان للسمحاء
وحمدت النعيم والترف الوا
فر قدما في صحبة الخلفاء
وحسوت النعيم والبؤس حتى
لم أدع كأس لذة أو شقاء
وصحبت العبيد في ظلمات ال
عيش حتى جننت بالضراء
وألمت الآلام طرا ولقي
ت عذابا أتيح للتعساء
وصحبت الوحوش في البيد حتى
أنست بي الوحوش في البيداء
وأرقت الدماء في الحرب حتى
جن قلبى من نشوة الهيجاء
لم أدع خطرة أتيحت ولا مع
نى ولا فكرة من الآراء
أو شعورا أو هاجسا أو طموحا
لا ولا مشهدا تركت لرائي
أنشد الحق بالتقلب في العي
ش وأبغي سريرة الأشياء
أنت أيضا شهدت هذا جميعا
غير أن لا تعد في الفطناء
قال ما قال ثم غاب عن العي
ن كما يخفت الصدى في الهواء!
سمو النفس
أهبت بحزمي فلم تسمعي
وعفت الطماح فلم تردعي
فيا نفس حتام هذا الطموح
وخير المكاسب أن تقنعي
فإن عزاء يريح النفو
س خير من الأمل المطمع
يعف الأبي وليست تعف
ذوات المخالب والأربع
ولو قد زهدت طلاب الحطام
لأشقاك حب العلا الأرفع
هممت بكسب فلم تبلغي
ورمت الكمال فلم ينفع
وخفت المقادير في ظلمها
وأشقاك يا نفس أن تخضعي
وأشقاك أن قيود المقاب
ح غلت عليك فلم تصدع
فأصبحت فيها كطير الحبائ
ل رمت الخلاص فلم ترفعي
وحر أوام لورد الفضائ
ل باق على الدهر لم ينقع
ردي العيش يا نفس لا تأنفي
وجوبي المقادير لا تخشعي
فكل حياة إلى منتهى
وكل شقاء إلى منزع
حديقة الصيف
هي برء من العشى
وشفاء من الكبر
وهي للشيخ مبعث
للأماني والذكر
وهي للطفل ملعب
فيه ملهى على غرر
وهي للبائس الحزي
ن ملاذ من الفكر
وهي للعاشقين ظ
ل ظليل ومستتر
في رياض من المنى
وأمان من الزهر
حيث تلهو العيون في
نزهة النفس والبصر
قم بنا ننثر الزهو
ر على صفحة الغدر
هذه الغيد في الغدي
ر جلت صفحة القمر
غرد الطير قائلا:
فاز بالحسن من نظر
وثمار قطوفها
تتدلى من الشجر
والغواني حديقة
ملؤها الزهر والثمر
وهجير كأنه
لهب النار يستعر
يدع المرء ناعسا
فاتر النطق والنظر
يدع المرء ناعما
نائم الهم والفكر
إنما الصيف زينة
غضة الحسن والأثر
تلبس الأرض حسنها
بعد ما غاب واستتر
وتراءى لعاشق
عبد الحسن ما ظهر
ينتشي المرء كلما
نال من نشرها العطر
مصارع النجباء
لو كنت ذا روح عظيم همه
لعذرتني في لوعتي وبكائي
تغدو وهمك في الحياة حطامها
إن النفوس قرارة الأدواء
ليس السعادة كنز كل فضيلة
فاذهب لشأنك لا يصبك شقائي
للمال والجاه العريض عصابة
وعصابة لمصارع النجباء
ففتى وحيد لا أنيس لنفسه
فرد من الخلصان والقرناء
وفتى له عيش الغريب وحاله
وأخو الذكاء يعد في الغرباء
وفتى يجود بماله وبنفسه
وفتى تذوب حشاه في الظلماء
شوقا إلى المجد العزيز مناله
مجد النفوس أحق بالبرحاء
يقضي الغبي حياته في غفلة
عن نفسه ويعد في الأحياء
إن الحياة جمالها وبهاؤها
هبة من النجباء والشهداء
لولا طماح الحالمين وهمهم
بقي الورى كالتربة الغبراء
الحالمون بكل مجد خالد
سامي المنال كمنزل الجوزاء
الغاضبون الناقمون على الورى
هبوا هبوب الصرصر الهوجاء
الشائدون الهادمون ذوو النهى
والعقل أعظم هادم بناء
الخالقون المهلكون الشارعو
ن المرسلون بآية غراء
آي الجلالة والذكاء جميعها
فيهم على السراء والضراء
فلئن أصابهم الزمان بمهلك
قبل ابتناء منازل العلياء
فحياتهم وفعالهم ودماؤهم
مثل الهدى وكواكب الإسراء
المجاهد الجريح
هو العيش حرب والحياة جهاد
وإن حياة العالمين سهاد
ولا أشتكي أني جرعت مريرها
فيا ليت عمرا في الحياة يعاد
فأجرع منه الحلو والمر إنما
مشارب من يهوى الحياة براد
وليست نفوس الناس إلا أسنة
لها كل يوم مطعن وجلاد
وليست نفوس الناس إلا سيوفهم
سيوف ولكن ما لهن غماد
ويصدأ وجه السيف والسيف قاطع
إذا كان سيفا ليس فيه مذاد
وليست حياة المرء إلا كشعلة
وآخر ذياك الضرام رماد
وفي العيش مسعى للبيب ومطلب
هل العيش إلا مطمح ومراد
وهب أن ما يأتي الفتى غير مقنع
أليست لذاذات الطراد تراد؟
ويحصد سعي المرء ما شاء عزمه
وللمرء يوم ليس فيه حصاد
وما ينفع المرء الحزين بكاؤه
إذا ظل ورد المرء وهو ثماد
ولولا خضوع النفس للجسم ما بكى
جريح ولم يعزز عليه تلاد
فلا تعذلوني إن ألمت فإنني
جريح من الأحداث وهي صعاد
ولا تعذلوني إن حزنت فطالما
أصبت ولي بين الكماة فؤاد
ويا طالما خضت الخطوب وصهوتي
رجاء ألا إن الرجاء جواد
فإن مت فاسعوا فوق قبري وباشروا
جلادكم إن الحياة جلاد
ولا تحسبوا أني جبنت لميتتي
ولي عزمات كلهن صلاد
وقلت لنفسي إنما الموت سنة
هم الناس ركب والمطامع زاد
وقدما مضت تلك العصور وأهلها
وبادت بلاد بعدها وبلاد
جهلنا فما ندري على العيش ما الذي
يراد بعيش نحن فيه نقاد
سوى أن عيش المرء بالشك فاسد
وأن يقينا في الحياة رشاد
يقينا بأن العيش نشوة صائل
له عزمات في الحياة حداد!
عبث الشكوى
يا صاحب العقل يقضي العيش في حزن
يشقى بك الناس أم تشقى من الناس؟
وتحسب الناس بهما لا عقول لها
وأنت فيهم كمصباح ونبراس
وأنت في الناس قطر ضاع قاطره
في لجة اليم لا راو ولا حاسي
وما أحسوا بهم من حاجة لهم
إليك، كلا، ولا جاءوا بمقياس
ملائك الله إن أرضوك بينهم
وإن غضبت فهم من نسل نسناس!
للنفس أفق مضيء نوره عمم
وأرضها النتن من رجس وأدناس
وراعك اليأس حتى خلت من جزع
أن الفضائل من أحلام وسواس
وكدت تنسى حياة أنت صاحبها
بين الأنام فأنت الذاكر الناسي
حتى إذا بلغت شكواك غايتها
علمت كيف تداوي اليأس بالياس
وما ضرارك نفسا بعدما علمت
أن الرخاء قنوع الطاعم الكاسي
وكم تريد حياة كلها جذل
غير الحياة وناسا غير ذا الناس
الناس والبهم تدري أن ذا عنت
يعطل العيش من بشر وإيناس!
الطائر الحبيس (وهي قصة جرت للشاعر، وهو غلام صغير ، مع عصفور في قفص اتخذه لعبة له.)
أذكر فيما مضى من العمر
وكنت ألهو في غفلة الصغر
وكنت ألهو بطائر غرد
مرتجل للغناء مبتدر
في حيث لا روضة له أنف
والشدو شعر لعاشق الزهر
بل كان يشدو الحبيس في قفص
شدو حزين الفؤاد منفطر
وكنت غفلان عن لواعجه
وكيف يرثي الجذلان للكدر؟
قد كنت كالطائر الطليق فلا
شجو يروع الفؤاد بالفكر
قد كان قلبي لقلبه حجرا
وكيف يجدي الغناء للحجر؟
قد كان لي لعبة أعابثها
ما كان سر الغناء من وطري
قد قمت ألهو بجانب القفص
في صخب رائع بلا حذر
وأقرع الأرض صارخا جذلا
وضجة الصوت شيمة الصغر
والطير من رعب قلبه حذر
يهتز مثل المقرور من خصر
حتى إذا ما سكت من كلل
قعدت ألهو عنه على غرر
إذا به صادحا ينوح من ال
رعب بلحن يقد في المرر
قد جمع اللحن من لواعجه
لم يبق من نغمة ولم يذر
لا ما لشدو من بعده أثر
في القلب باق كذلك الأثر
ناح على نفسه وما فقدت
بين ثمار الرياض من وطر
لم أك أدري ما هاج لوعته
والقلب من شدوه على كدر
حتى رأيت العصفور منجدلا
قد مات من لوعة ومن حذر
نسيته والسنون منسية
وكل ما فات ميت الخبر
حتى عرتني الخطوب في عمري
وروعتني الحياة بالغير
ذكرته والخطوب مذكرة
وصاحب الهم حاضر الذكر
نفسي كالطائر الحبيس فلا
مفر من جور سطوة القدر
قد شق صدري ناب الحياة فأم
سيت بقلب خفاق منذعر
يا طير لو كنت حاضري ألفت
نفسك نفسي من رحمة الخور
وأي خلق يلام في خور
والمرء فينا فريسة الخطر
لا يعرف الحزن غير ذائقه
فليس حزن العيان كالخبر
اقتص مني لك الزمان وقد
أصبحت مني في السمع والبصر!
الإنسان والكون
سلام على عهد الشباب سلام
سلام وهل يدني البعيد سلام؟
تعاودني ذكرى الربيع الذي مضى
كأن حبيبا قد طواه حمام
وأحسب أن الزهر يزهو لكي أرى
محاسن منه في الرياض ترام
وأحسب أن الماء كالخمر سلسلا
لأجرع منه والنمير جمام
وأحسب أن الشمس ترنو بلحظها
إلي وأن الليل منه خيام
وأحسب أن النجم حلي لناظري
وبرق الغوادي للضياء يشام
وأحسب أن الكون بيتي وأنني
أمير على عليائه وإمام
وأعلم أني هالك غير خالد
وأني رفات للثرى وعظام
وأني لا طير ينوح لميتتي
ولا الزهو شجوا إن هلكت يسام
ولا النور يدجو لا ولا الماء غائض
وليس على وجه الهلال سقام
كذلك لا يبكي على الحب طائر
وليس على نقض العهود يلام
ولا الزهر يأسى للفؤاد وشجوه
وليس بكاء ما يريق غمام
لقد جف قلبي والزهور نضيرة
وقد شاب قلبي والزمان غلام!
الإنسان والكون
سلام على عهد الشباب سلام
سلام وهل يدني البعيد سلام؟
تعاودني ذكرى الربيع الذي مضى
كأن حبيبا قد طواه حمام
وأحسب أن الزهر يزهو لكي أرى
محاسن منه في الرياض ترام
وأحسب أن الماء كالخمر سلسلا
لأجرع منه والنمير جمام
وأحسب أن الشمس ترنو بلحظها
إلي وأن الليل منه خيام
وأحسب أن النجم حلي لناظري
وبرق الغوادي للضياء يشام
وأحسب أن الكون بيتي وأنني
أمير على عليائه وإمام
وأعلم أني هالك غير خالد
وأني رفات للثرى وعظام
وأني لا طير ينوح لميتتي
ولا الزهو شجوا إن هلكت يسام
ولا النور يدجو لا ولا الماء غائض
وليس على وجه الهلال سقام
كذلك لا يبكي على الحب طائر
وليس على نقض العهود يلام
ولا الزهر يأسى للفؤاد وشجوه
وليس بكاء ما يريق غمام
لقد جف قلبي والزهور نضيرة
وقد شاب قلبي والزمان غلام!
وعظ الموت
تذكر شجي القلب أنا جميعنا
نئول إلى ورد الردى ونصير
هل العيش إلا ساعة ثم تنقضي
هل الدهر إلا أشهر وعصور؟
نرى حولنا الهلاك في كل منزل
كأن بيوت العالمين قبور
ونعلم علما ليس بالظن أننا
سنمضي على آثارهم فنحور
وهون عندي الموت ما الدهر صانع
فلست من الخطب العظيم أخور
وليست مساعي المرء إلا جنازة
تخب به نحو الردى وتسير
وما عرف الأيام إلا مجرب
لبيب بأحداث الزمان خبير
ونبكي لموتانا لأن حياتهم
منافع تغني في الخطوب وخير
يخلفنا الأحباب كالدوح هزه
شتاء يعري غصنه ودبور
أنشقى بفقد الميت والميت ناعم
سعيد بما جر الحمام قرير؟
وما الموت إلا الأمن والخلد صنوه
ألا إن فقدان الحياة حبور
خليق بنا أن نغبط الميت حاله
فإن حياة العالمين غرور
أبناء الشمال (الآريون)
إن أبناء الشمال
عمروا الأرض وصالوا
ورثوا الملك جميعا
كل من يسعى ينال
إن للملك اعتزازا
ليس يدنيه اتكال
فلهم فيه فلاح
ولهم فيه مجال
عمروا الأرض ونمنا
داؤنا الداء العضال
ولهم في الكون عرش
قيمة العرش الرجال
كل شيء لهم في ال
عيش مبذول حلال
حرم الأمر على العا
جز لا يخدعك آل
إنما القدرة إيما
ن وآمال ومال
إن أبناء الشمال
عمروا الأرض وصالوا
ورثوا العزم جميعا
ما عرا القوم ملال
هم لداعي السعي والآ
مال عمال عجال
تعرف البيداء مسعا
هم وتنبيك الجبال
وببطن الأرض مسعى
ولدى الجو منال
سل أقاصي الأرض تخبر
عظمت تلك الفعال
هي تنبي عن جلال ال
نفس للنفس جلال
بيديهم لجم الأق
دار يجريها الصيال
يركض الدهر لديهم
مثلما شاء الرجال
من ثمار القدرة العل
م وفي العجز الضلال
عيشهم كالنهر يجري
فهو حال ثم حال
كل يوم في جديد
كشفت عنه الفعال
وجديد المرء يبلي
ه ويفنيه ابتذال
ويكاد الغيب يبدو
لهم منه المآل
عرفوا العيش ففازوا
إنما العيش قتال
إنما العيش طموح
واعتزام واحتيال
بين عجز واقتدار
ضاق بالعجز المجال
إنما العجز هو الذل
إذا اشتد النضال
قيمة المرء مساعي
ه إذا عز المنال
إن أبناء الشمال
عمروا الأرض وصالوا
لم يرعهم فشل إن
ثبط الغر المطال
بذلوا النفس ليحظوا
إنما البذل نوال
قد بروا أهل الجمود
مثلما تبرى النعال
ويل أبناء الجنوب اع
تز بالملك الشمال
توأم النفس (الفكرة الأساسية التي بنيت عليها هذه القصيدة، هي أنك قد ترى أحد الناس أول رؤية، فيخيل لك كأنك رأيته وصحبته في حياة قبل هذه الحياة. فتكاد تصدق قول من يقول: إن الروح لا تخلق منفردة ولكن يخلق معها توأم لها!)
أخي وكل الناس صحب وإخوة
وكل امرئ تلقاه فهو قريب
أتذكرني بل لا أخالك ذاكرا
أيذكر مجهول لديك غريب؟
جلست على قرب ولم يك بيننا
إخاء ولا عهد إليه نئوب
تحدثني نفسي بأنك خدنها
وللنفس من ود النفوس نصيب
وأحسب أني قد صحبتك حقبة
من الدهر ذكراها لدي تطيب
حياة لنا قبل الحياة رغيدة
إذ العيش صفو والزمان أريب
فنفس الفتى في مسلك العيش توأم
لها في الأداني توأم وحبيب
وكل امرئ في العيش يبغي قرينه
وكل ضريب ينتحيه ضريب
فويح لنفس لم تجد من يحبها
وللقلب لم تعطف عليه قلوب
جلسنا ومنا مرسل لحظ عينه
وآخر محمود اللحاظ هيوب
نظرت وكم من نظرة لك سرها
جلي وفي لحظ العيون خطيب
جلوت لي النفس التي أنت ربها
فإني بأسرار اللحاظ لبيب
ولحظ الفتى من نفسه وخصاله
إذا طاب نفسا فاللحاظ تطيب
وفي لحظ أهل اللؤم لؤم وقسوة
وفي لحظ أهل المكرمات طبيب
وفي لحظ أهل الود أنس ورقة
وعطف وفي لحظ العدو قطوب
فقلت لعل القرب يدني نفوسنا
وكل جليس للجليس طروب
وما هي إلا لفتة وبشاشة
تروح رسولا بيننا وتئوب
فينشأ عطف بيننا وتعارف
ويورق غصن للوداد رطيب
وكل وداد لو فطنت تجارب
فمنها مضيء مغدق وخلوب
وما هي إلا لقية بعد لقية
يظل لها القلب الطروب يذوب
فنحيا ودوح الود سام وظله
ظليل وروض المكرمات قشيب
يقر بعيني أن أرى الضوء والدجى
إذا نظرت عيني وأنت قريب
وهيهات حالت دون ذلك وحشة
فقمنا وكل عن أخيه غريب
فوا حسرتا من نهزة ما انتهزتها
ورحت وعيشي من هواك جديب
أسائل عنك الدهر في كل ذكرة
يكاد لها عهد اللقاء يثوب
أعلل نفسي أن قلبك ذاكري
فيكذب ظني والرجاء كذوب
وأنت بعيد لست تعرف ذكرتي
ولا أن قلبي من نواك كئيب
وأعجب من هذا اللقاء وأمره
وكل لقاء في الحياة عجيب
فيا ويح هذا الخلق من كل وحشة
ومن فرصات في الحياة تخيب
يعيشون كالأشباح في العيش حقبة
لهم كل يوم إحنة وحروب
وكل لكل لو يفيقون جنة
وكل لكل منهل وقليب
فيا توأم النفس الذي أنا ناشد
دعوت فهل من سامع فيجيب؟
يقنت خلود النفس من بعد ميتة
لعل لقاء يا حبيب يئوب
فيرجى لنا في عيشة بعد هذه
من الحب والود المكين نصيب!
حلم النفس
ألا يا طلل القلب
وقبر الود والحب
لججت بحب خوان
وفي الوافين من يصبي
ذكي الحسن فتان
فتون الوجه واللب
هو الحلم الذي تبغي
فما بالعيش من عتب
فدع حلما مضى أبدا
أيروى القلب بالكذب؟
سراب كان فانقشعت
خلابة نبته الجدب
فهذا الطير صداح
شدا في الغصن الرطب
ألا يا طائرا يهوى
نضير الروض والعشب
لقلبي فيك تحنان
ينير القلب أو يخبي
فجدد دارس العهد
وجد لي منك بالقرب
وأطربني بألحان
كفيض الطاهر العذب
وداو غلة النفس
بما في الحسن من طب
لكي يصبح قلبي من
ك روض الود والحب
فما بالقلب من كلم
ولا في القلب من ندب
وأغدو بك جذلانا
خصيب الروض والترب
وأنسى حلم الجدب
بما في حلم الخصب
فإن الحب أحلام
وخير الحلم ما يصبي
وبعض الحلم جلاب
مرير الهم والكرب
ألا يا حلم النفس
أتروي غلة الصب؟
فما في الحب من عيب
ولا بالقلب من ريب
ألا يا طائر الحسن
أليف الروض والعشب
فؤادي لك فردوس
فطر في جوه الرطب
وصن لي حسنك الباه
ر من شين ومن عيب
وكن لي خير مصحوب
أكن من خيرة الصحب!
زهر الهوى ونبت الفيافي
بين زهر الهوى ونبت الفيافي
وزهور من النجوم رواني
جاء نجوى بمن أعز وأهوى
ملك من ملائك الرحمن
واقفا بين من أحب وبيني
بيدينا يداه معقودتان
بين زهر الهوى ونبت الفيافي
ثم خلى بيني وبين حبيبي
فاقتربنا اقتراب غير مريب
وعقدنا من العناق نطاقا
ما دهينا باللوم والتشريب
وروينا بالدمع غلة نفس
كيف يروى الجوى بدمع صبيب
بين زهر الهوى ونبت الفيافي
قال لي الناصح الكريم مقالا
في خفوت ورقة وسكون
كن أمينا على الفؤاد الأمين
إنما الحسن نهزة للخئون
هل جزاء الحبيب إلا وفاء
خالص من شوائب أو ظنون
بين زهر الهوى ونبت الفيافي
ثم ألقى إلى الحبيب مقالا
إن خير المقال نصح القلوب
كن رءوفا ووافيا ومنيلا
وطروبا إلى المحب الطروب
إنما المرء ساعة ثم يمضي
فاجعلنها في خلوة بحبيب!
بين زهر الهوى ونبت الفيافي
جنون الأماني
أيا روضة الريحان من لي بنفحة
تخفف من همي وتشفي فؤاديا؟
ويا نفحة الريحان هبي مع الصبا
فإن بقلبي لوعة هي ما هيا
وإن بقلبي لوعة أنت هجتها
فقد كنت دائي في الهوى ودوائيا
وما ظمئي للماء والقيظ لافح
بأوجع من شوقي وحر غراميا
فيا ظمأ القلب الجريح وريه
أما جرعة تطفي لهيب أواميا
ويا منهل الحسن الذي أنا حائم
عليه ولم أرو الغليل الذي بيا
ويا واحة العيش الجديب أحبه
على جدبه لو أن فيك مقاميا
لقد جبت هذا العيش والعيش بلقع
وأبت وما أعقبت إلا كلاليا
وأبصرت فيك الماء كالخمر سلسلا
وأبصرت فيك الغصن فينان زاهيا
وأبصرت أثمارا هناك وموردا
لذيذا فلم أملك عليه طماحيا
فقلت لقلبي: إنما العيش في الهوى
ولا عيش إلا أن تنال الأمانيا
وقلت لقلبي: إنما العيش خلسة
من الموت لا تبلغه يا قلب صاديا
لئن خانني العيش الذي كنت أرتجي
فيا بؤس آمالي وطول بلائيا
وما أحسب النفس اللجوج شفاؤها
من العيش ما يدنو وإن كان شافيا
فمن لي بماء الخلد أروي به الصدى
فما الخلد إلا نجعتي وشفائيا
وما العيش إلا مطلب بعد مطلب
فكيف أرى في العيش جذلان راضيا
وما العيش إلا عزة واستطالة
ترى الموت أن تحيا ذليلا مداجيا
ولو كنت ربا نافذ الأمر قادرا
لأعطيت نفسي سؤلها وعباديا
وأفسحت في الآباد للنفس منزلا
وأثملت بالآلاء منها الأمانيا
فمن لي بها أمنية ما أجلها
تجيء بأحلامي وترضي خياليا!
حبيبي، لا والله ما الكفر شائقي
ولكن قول النفس: يا ليت ذا ليا
ولو أنني رب لما نالك الردى
ولا قلت يوما: أين مني جماليا
جمالك مكلوء بعين رعايتي
فلست عليه الدهر والموت خاشيا
أزيدك من زهر الصبا وثماره
فتزهي بحسن فيك كالخلد ناميا
جنون الأماني فيك أحلى من الحجى
ألذ الأماني ما يجن فؤاديا!
هذا الحبيب
هذا الحبيب الذي قد لمتني فيه
يردد اللحظ بين الدل والتيه
فانظر محاسنه واحذر لواحظه
واحبس فؤادك لا تجري أمانيه
وارفق بلبك لا تودي اللحاظ به
واستبق دمعك لا تهمي هواميه
هذا الذي يدرك الأعمى محاسنه
ويلمس الهالك المودي فيحييه
هذا الذي إن رآه الشيخ عاوده
شرخ الشباب الذي قد راق ماضيه
هذا الذي ضحكات في مباسمه
أحلا لدى القلب من دهري وما فيه
تكاد طلعته من نور بهجته
إذا رآها مشوق الطرف تعشيه
ونعمة الحسن تهفو في معاطفه
وقسوة الحسن تبدو في مآقيه
وطلعة الحسن فيها قسوة جلل
تلوح للعاشق العاني فترديه
هذا الذي جمل الله الحياة به
وعلم الروح ما تحوي مراقيه
هذا الذي نبضات القلب تتبعه
ومهجة المرء تسعى في مساعيه
هذا الذي خطرات القلب صادحة
مثل الطيور إذا غنت تناجيه
فانظر لعلك أن تحظى بنظرته
فربما نظرة للمرء تشفيه
وربما نظرة للمرء تسعده
وربما نظرة للمرء تشقيه
هل الحياة سوى مسعى تعانيه
ومطمح النفس تبغيه وتدنيه
أحلام الصيف
إذا ما دعتني النفس يوما لريبة
تراودني حتى تلج وتستشري
ذكرتك كيما تحدث النفس عفة
فذكرك يثني النفس مني عن الشر
وذكرك يثني ناظري عن الخنا
ويسعد نفسي بالفضيلة والطهر
فأنت سميري في صحابي وخلوتي
وأنت هدى نفسي على السر والجهر
فلا تبتعد عني فبعدك فتنة
وقربك قرب للمكارم والخير
فأنت جميل كالنهار وضاءة
وأنت جميل كالكواكب والبدر
وأنت جميل كالزهور نضارة
وفيك جمال الأفق في وضح الفجر
فيا آية الكون الذي أنت عطره
كذاك جمال الروض يحمد في العطر
أظن نجوم الليل تزهو لكي ترى
محاسن من مرآك في الأنجم الزهر
وعذبت قلبي في يديك ضلالة
كما يلعب الطفل المدلل بالطير
فجد لي بيوم من لقائك صالح
فقد ضاع عمري في القطيعة والهجر
تعال أعلمك الهوى ما فعاله
لكيما ترى السر الجليل من الأمر
ولكنني أخشى عليك من الهوى
إذا ما ثوى بين الجوانح كالجمر
فإن الهوى مثل المدامة مسكر
وإن الهوى كأس أمر من الصبر
وأخشى عليك العيش فالعيش فتنة
وأخشى عليك الشر يطرق بالضر
فما أنت معصوما من الشر والأذى
ولا أنت معصوما من السوء والمكر
وكل امرئ في العيش لا بد فاعل
من الشر أمرا كان منه على قدر
لقد خلت أن الحب طير مغرد
فإني سمعت الحب يخفق في صدري
إذا زال عنك الحسن والحسن دولة
تزول ويبقى منه حسنك في شعري
ندمت على الهجران في غير علة
وما كنت تبديه من الصد والغدر
وهيهات أن تسري لحاظك بالهوى
إذا صرت منسيا كأمسك في العمر
كأن على الآفاق بعدك وحشة
أراها على وجه الخليفة كالستر
أبيت أنادي الجن في مستقرها
لتجمع ما بيني وبينك في السر
دعاء الفتى سحر وأبلغ دعوة
دعاء لهيف ذي لواعج مضطر
دعاء الذي ما من نزوع لقلبه
فينساك إلا أن يغيب في القبر
فلا تنس ذكري مثلما أنا ذاكر
عسى تلتقي روحي وروحك بالذكر
أحب من الأشياء ما كان مشبها
لوجهك إن الزهر يعرف بالزهر
فأرسل إلي الزهر منك علامة
فوجهك مثل الزهر يضحك من بشر
ولا تفخرن إني جننت محبة
فكل ضئيل النفس يفخر بالشر
ودعني أمن النفس عطف ورحمة
وأخف جنوني فيك بالصبر والكبر
فليتك حلم الصيف يحلو لحالم
ولكنما الذكرى أمر من الصبر
أعلل نفسي أن شوقي نافعي
لديك فإن الشوق ضرب من السحر
وهيهات لا تجدي لديك شفاعة
فإنك مقدود الفؤاد من الصخر
حسوت كئوس الحب طرا وإنني
أرقت كئوس العمر من طرب السكر
فلا تعذلا قلبي لإسراف نشوة
سواسية ما يأكل الدود في القبر
سيذكر هذا الدهر أمري وأمركم
فقد خط شعري في الصميم من الدهر
لقد كان قبلي عاطلا فحبوته
عقود معان لا تطوق بالنشر
وقد كان قبلي أخرس الفم أبكما
فأصبح يشدو بالجليل من الشعر
فمن لي بأسماع تعي ما يقوله
فحولي أناس كالجماد من الوقر!
ألا إن هذا الدهر أوتار شاعر
وشعري أحلى للنفوس من الخمر
ألا إن قلبي روضة الشعر والهوى
ومنك نسيم الحب يعبث في صدري
يحرك أغصان الخميلة مرة
فيوقظ أنغامي ويحمل من نشري!
فتنة الطهر
يا غلة القلب المشوق الصادي
كم ذا البعاد فقد أطلت بعادي
سل عني الليل البهيم وطوله
وسل الوساد فما قربت وسادي
أتخال أنك قد كشفت سرائري
وتظن أنك قد سبرت فؤادي
أو ما علمت بأن طهرك باعث
شوقي ومور من هواك زنادي
يوم يخال الظن فيك نقيصة
يوم يجيء براحتي ورقادي
لا بل يجىء بحسرة وندامة
ويزيد من غصص الزمان العادي
لست الخليق بأن تنال محبتي
إن لم تنل من عفة ورشاد
النفس أعظم أن تحب ذوي الخنا
أو أن تجل مظنة لفساد
إني أريدك كعبة لا حانة
إن الدنايا جمة الوراد
طهر الحبيب يزيل هم محبه
فكأنه القمر المنير الهادي
السعد أطهر أن ينال بخسة
شوهاء رهن حوائج الأجساد
خير الهوى حب الفضائل والنهى
ومودة الأمثال والأنداد
ظن الفتى كفعاله ومقاله
وخصاله من مضمر أو بادي
لا ترميني بالدنية باطلا
فتكون أنت مظنة الحساد
حب النقيصة إثرة مذمومة
يغدو لها الخلان كالأضداد
وهي المحاسن ألفة ومودة
وتناصر كتناصر الأجناد
انظر لنفسي في خصالك صادقا
فإذا وجدت مغامزا لأعادي
فاذهب كما ذهب الوباء مبغضا
نكب الأنام وفت في الأعضاد
وإذا وجدت محامدا ومحاسنا
خلصت من الأدناس والأحقاد
أقبل كإقبال الربيع محببا
تثني عليه ألسن الحصاد
الطير تشدو في الرياض محبة
تدعوك بالتغريد والإنشاد
والغصن كالنشوان من وله بكم
هز الزهور بقده المياد
والريح تبكي شجوها بأنينها
حتى الرياح عليك من حسادي
والنجم يومض عاشقا لجمالكم
نظر المحب إلى الحبيب البادي
وكواكب الفلك المدار رواقص
طربا فحبك زادها والحادي
والشمس صفراء الجبين مريضة
والبدر شيب بياضه بسواد
أنت الذي فتن الوجود جماله
يا غلة القلب المشوق الصادي!
في الفردوس
شريد اللب هامي الدمع عاني
نبت عيناه عن زهر الجنان
ترتل حوله الأملاك آيا
وطير الأيك تصدح بالأغاني
ونور الخلد وضاء عليه
ينير الزهر من حدق الحسان
تظل النفس منه في ربيع
مذاع العطر محمود الزمان
تظل النفس تمرح في رباه
وتبصر حولها حلم الأماني
تجلله ثمار في غصون
قطوف بين قاصيه وداني
بأية شقوة قد رعت حتى
فؤادك ليس ينعم بالأمان
يظل الناس حولك في نعيم
وقلبك كالكليم من الطعان
نفوس الناس في دعة وأمن
ونفسك بين حلقك واللسان
فيا بؤسا ويا تعسا لصب
شقي في الفرادس والجنان
دماؤك في العروق لها لهيب
كأن دماك ريقة أفعوان!
وأنفاس تصعدها طوال
ووجهك شاحب والدمع قاني
تمد إلى وجوه القوم لحظا
وتنشد صنو نفسك والجنان
وليس الحب إلا حب صب
يحن على القطيعة والليان
وليس الخلد إلا قرب خل
جميل النفس محمود العيان
ستصبر منه في الفردوس وجها
عميما حسنه جم المعاني
يسل الضغن لا واش فيخشى
ولا صب يروع بالشنان
فطرف منك معقود بلحظ
وطرف منه معهود البيان
يد بيد وقلب قرب قلب
وسر النفس ما توحي اليدان
تحييك الملائك بابتسام
وتطربك المثالث والمثاني
فقل للطير تصدح في رباها
فطيب اللحن في طيب الزمان!
حلم الفردوس
أيحرم حتى نظرتي وسلامي
وحتى حنيني نحوكم وهيامي!
أقيموا كما شئتم على الصد والجفا
فإنكم لا تصرفون غرامي
أعلل نفسي باقتراب ولقية
وليس اقترابي منكمو بحرام
فإن طرقتك الريح يوما بأنة
فقد سار في ذاك النسيم سلامي
ولو أنني في القبر ميت وزرتني
لحيتك من تحت الرجام عظامي
وإني إذا ما اعتادني الهم والأسى
وأبغضت في هذي الحياة مقامي
وأشعرت ذل العيش حتى قليته
وقد بان حتى راحتي ومنامي
وأصبحت أرجو الموت من سورة الأسى
ولم تشف من داء الهموم مدامي
أبين لنفسي صورة منك غضة
فأنقع من ذاك الخيال أوامي
ويفرح قلبي بعد يأس وحسرة
فقربك فيه راحتي وجمامي
وفي ذكركم روح الحياة وطيبها
ومرآك فيه نهلتي وطعامي
قنعت بذكراكم وبالطيف منكم
إذا جاد طيف منكم بلمام
لقد كنت أشكو الحب حتى رأيته
دواء همومي كلها وسقامي
فيا حلم الفردوس حبك ذكرة
لأيام عيش في الجنان وسام
ورثنا ولوعا بالنعيم وطيبه
وعيش قديم قد مضى بسلام
وكل مرام نرتجيه تذكر
لعهد جنان قد مضى ومرام
أكاد أرى الفردوس خضرا غصونه
فليت مقاما في الجنان مقامي
وأبصر فيه الضوء لا ضوء مثله
له بهجة في زهرها المتسامي
وأسمع فيها الطير تشدو فأنثني
وقلبي من ذكرى الفرادس دامي
فآوي إلى عهد مضى ثم أنثني
إلى مقبل من دهرنا المترامي
وكل جمال يسحر القلب طيبه
فيا ليت أوراق النعيم خيامي
سراب طماح المرء في غير كنهه
وما هو إلا مثل حلم نيام
فيا ليتني في الريف لا شيء شاغلي
من العيش إلا غلتي وسوامي
ولو أنني في الريف ما فاتني الأسى
ولا برئت نفسي وطاب منامي
حبيبي إن خبرت أني بحسرة
وأني في أيدي الخطوب زمامي
فأرسل خيالا منك يأسو لواعجي
كما لاح صبح من وراء ظلام
معيني على الأحزان لا مسك الأسى
ولا نالك الدهر الخئون بذام
أريد على الأيام عونا من الهوى
فأي مرام يا حبيب مرامي
أجل مرام في هواك أرومه
وأعظم سكر العاشقين هيامي
وإن هيام المرء فضل وفطنة
إذا كانت الأخلاق غير لئام
فيا حلم الأحلام هل لك عطفة
فتروى لحاظ من جفاك ظوامي؟
وأحيا حياة من هواك سعيدة
وأقضي وهل حب يرد حمامي؟
ولو رد هذا الموت شيء لرده
تصرم عام في هواك وعام
فحبك حلم بالخلود لعاشق
فلولا الردى بشرته بدوام
الجمال المنشود
رأيت في الحلم وجها منك أعبده
وفوقه من نجوم الليل تيجان
توجت نفسك بالأفلاك مكرمة
كما يتوج بالأزهار جذلان
فإن وجهك بدر يستضاء به
إذا بدوت ووجه الأفق غيمان
فقمت أملأ عيني من محاسنكم
وأنهل القلب منكم وهو صديان
إن راقب الناس في الأفلاك طالعهم
فإن عينيك لي سحر وتبيان
وإن طرفك نجم الحظ أرقبه
سعد ونحس وإحسان وحرمان
وقمت في الحلم أسعى نحو حالية
من الخمائل فيها الغصن فينان
لنور وجهك فيها بهجة أبدا
فالنجم من حسنكم والزهر يزدان
يا جنة الحلم كم لي فيك من أرب
يا طيبه لو دنا والدهر نيسان
أصفيت قلبي فلا والله ما سكنت
بين الأضالع أحقاد وأضغان
ويا هلالا أرى في النفس طلعته
أضئ حياتي فوجه العيش طخيان
وكيف يقبح عيش أنت بهجته
وكيف يدجو ولم يدركك نقصان
يا بدر إن أخاك البدر يؤنسني
فالصب والبدر والظلماء خلان
البدر في أفقه أدنى لناظره
منكم فما لكم عطف ولقيان
يلقي إلي بنور من أشعته
حتى أبيت وضوء البدر ندمان
وأنت في العيش حلم لست أدركه
لم يدنني منه تطلاب ونشدان
وأنت للحسن جني فته مرحا
ما نال شأوك لا إنس ولا جان
يا غاية العيش والآمال قاطبة
ومطلبا ليس لي من بعده شان
ما كنت أحسب حسنا أنت لابسه
يناله بين هذا الخلق إنسان
فذاك حسن عزيز معجز أبدا
صنع المخيلة لا يحويه جثمان
هل أنت طيف خيال زار في سنة
فإنما المرء في دنياه وسنان؟
أم كنت من جنة الفردوس في وطن
لك الملائك إخوان وخلصان؟
أي الكواكب قدما كنت ساكنه
قد نابه منك هجران وفقدان؟
أم كنت في الأفق نجما لا أفول له
إن السماء لزهر النجم بستان؟
وكيف أجحد هذا الكون خالقه
وفيك لله آيات وبرهان؟
اذكر حبيبي أن الموت غايتنا
وآفة الحسن أكفان وديدان
لا لقية بعده ترجى ولا صلة
ولا دلال ولا لطف وتحنان
ألم يعلمك وقع الخطب مرحمة
أم كل عيشك أزهار وأغصان؟
هيهات لا يرحم المسكين ذو ترف
منعم البال لا يؤذيه حدثان
يا ناعم البال ما لي راحة أبدا
وفارغ القلب قلبي منك ملآن
وراقد الليل ليلي لست أرقده
فالقلب من حبكم والطرف سهران
استجد لي رحمة وانظر إلي بها
أليس في الناس حسان وحنان؟
لا تحسبن قلوب الناس قاطبة
أشباه قلبك أحجار وصوان!
لا عيب في الطير لم يأنس بعاشقه
وأنت كالطير جذلان وغفلان
لا عيب في الزهر إن أردى بنكهته
وأنت زهر وبعض الحب ذيفان
لا عيب في الماء لم يبلغه طالبه
فأنت ري وقد أخطاك ظمآن
لا عيب في الضوء أعمى مقلة نظرت
فأنت نور وطرفي منك عشوان
لا عيب في النار أن النار محرقة
الحسن نار وقلبي منه حران
إني أعلمك الأعذار من سفه
يا بؤس نفسي إن أقصاك هجران
بالله لا تتخذ حبيك معذرة
في الهجر ما لي على الهجران أعوان
النار ليس لها قلب فنعذلها
لكن نصيبك وجدان وأشجان
لو تشعر النار لم تعنف بلامسها
أو تألم النار لم تحرقك نيران
لولا المصائب والآلام قاطبة
ما كان في الناس إشفاق وإحسان
وليس نظمي للأشعار من عبث
فإن شعري قلب منك ولهان
وإن شعري نفس فيك هالكة
وإن شعري أشواق وتحنان
فارحم شجون فؤاد طالما صدحت
فالقلب طير له في الحسن أوكان
يا نائي الروح روحي منك دانية
وصاحي القلب قلبي منك نشوان (أرسل حضرة الأستاذ الجليل حسن أفندي فهمي المحامي هذه الأبيات الرائقة إلى صاحب الديوان):
أتظلم أيامي ووجهك شمسها
وتجدب آمالي وأنت تليها؟
هجرت فقلبي قلب ثكلى حزينة
أصاب الردى يوما جميع بنيها
وأظمأت زهرا للمودة ناضرا
سأروي بدمعي زهرها وأقيها
وحدثني عنك الفؤاد بسلوة
فأضحى فؤادي للفؤاد كريها
فما سمعت أذني لشكري بسابق
ولا أبصرت عيناي قط شبيها
إذا قال شعرا خلته قال آية
هي السحر في ألباب مستمعيها
إذا أنزل الأشعار فالدهر ساجد
لمنزلها جاث لمتبعيها
لياليك أشهى للنفوس من المنى
ألذ الليالي ما رأيتك فيها (فبعثت صاحب الديوان إلى عمل هذه القصيدة):
منى النفس
منى النفس أن تحيا وأنت هواها
فإن جنوني في هواك هداها
وإن مماتي في هواك حياتها
وإن سلوي عن هواك رداها
فيا مطمح القلب الطلوب مودة
سلاها فلما أن رآك بغاها
كأني إذا ما غبت أضللت هاديا
رشيدا وعيني ما يزول عماها
فأطلب نهج الرشد في كل وجهة
وأنكت في أرض العراء ثراها
وإن لحت لاح الرشد حتى كأنني
بصير درى الأشياء حين رآها
لقد علقت نفسي بكم قبل قربكم
فإنك من قبل اللقاء مناها
فكنت كراء في الكرى زهر جنة
فلما تمشى في الصباح أتاها
فكان على وعد من الحلم ما أتى
فيا حلم نفسي هل تزيل صداها؟
ويا جنة الأحلام طالت فروعها
حبيب لقلبي ماؤها وشذاها
فأنت حبيبي ما حييت وإنما
منى كل نفس حيث كان هواها
فواها على العهد القديم الذي مضى
وواها على عهد الأحبة واها
وخير ليالي التي أنت حلمها
وما زان طيف من لدنك كراها
وخير ليالي التي أنا ذاكر
وشر الليالي ما أبيت أراها
وخير ليالي التي أنت بدرها
وقد شق عن وجه السماء دجاها
وخير ليالي القصار بقربكم
أرى بدأها يهدي إلي ضحاها
فيا بدر إن الليل بعدك مظلم
فهل ليلة لي من سناك حلاها
فرب ليال هن ذات قرابة
لقلب شجي إن عدته بكاها
بكاها فلما لم ير الدمع نافعا
تأسى وفي النفس اللجوج شجاها
أريد من الأيام ما لست مدركا
هوى كل نفس أن تنال مداها
فقل لطموح النفس حتام نحسها
كفاها من العيش القليل كفاها
أحبك يا دنيا على البعد مثلما
أحب هلوكا قاربت فقلاها
ألا فاسقني الأيام إن كئوسها
تقرب من نفس التعيس رداها
لعمرك إن العقل يفضي إلى الأسى
فمن لي بنفس ما يبين حجاها؟
وكيف ترجي العدل في قول حالم
تطلب دنيا حلمه فشكاها؟
عسى أن يصيب النفس صبر يحوطها
وتهدأ من نحس الحياة عساها
أأخشى طروق الحادثات ولبثها
كأن الليالي لا تدور رحاها؟
شقيت بنفسي شقوة لا أطيقها
فمن لي بنفس في الحياة سواها؟
سلاها علام الخوف من كل حادث
وحتام يضنيها الرجاء سلاها •••
ولولا نمير من ودادك طاهر
مزجت بنفسي ماءه فشفاها
لمت ولم أطفر بخل مصادق
يعلل نفسا قد أطيل صداها
أبا الفهم أن السحر ما أنت قائل
فهيئ لنفسي من لدنك رقاها
إذا قيلت النكباء كنت جلاءها
وان قيلت الجلى فأنت فتاها
فيا مدرها لا مدره اليوم مثله
أتحت لقلبي نهلة فحساها
خصيمي دهر ليس يرضى خصيمه
وكم حادثات لا تسوغ قضاها
ولي عند هذا الدهر حق أضاعه
وكم من ديون لي عليه لواها
وكم موقف تفري به كل بطلة
كأن خميسا من لدنك غزاها
فقم هات لي حقي من الدهر إنما
حقوقي أماني لديه حماها
فإنك يوم الحشر لو قمت دافعا
جناية جان ما يخال جناها
فإن بيانا منك يقصي جهنما
عن المرء حتى ما يخاف لظاها
تقارضنا الدنيا حياة بشقوة
وأفحش ما تقلى النفوس رباها
أدن هذه الدنيا بما أنت ربه
فأنت خليق أن تزيح خناها
أما إنها لو ألحقت بمسامع
لأدركها مما تقول هداها!
قريب بعيد
لقد عاود الطير المغرد روضه
فهل هو مخضر النبات قشيب؟
وهل عاده زهو الحياة وطيبها
وكل حياة بالحبيب تطيب؟
إذا الطير لم يأنس ولم يبد عطفة
فما بين أغصان الرياض رطيب
ولا خير في نيل الوداد بشافع
إذا أنت لم يطرب إليك حبيب
لقد كنت أبغي منك أنسا وألفة
وكل أديب للأديب طروب
وجئت فلم تظهر إخاء وعطفة
فإن بشاشات الوجوه تصوب
ولحظ العيون الفاتنات بشاشة
ولحظ العيون العاشقات نسيب
وزرت فلم تأنس كأنك لم تزر
ورب بعيد وهو منك قريب
ولم أر في عينيك إغراء عاطف
ويا رب لحظ للمحب طبيب
لقد كان في عينيك شك ووحشة
ألا إن ألحاظ العيون خطيب
ولم تتبسط بالمزاح توددا
وما كل مزح في الوداد يريب
فكل مزاح منك أنس أحبه
وماء طهور لا يعاف شروب
فلا أنت مشتاق ولا أنا شائق
وكيف يشوق القلب وهو كئيب
فاين ابتسام كنت أهوى وميضه
وأين ضياء في اللحاظ خلوب
تحدثني عيناك أنك مبغضي
فكل وداد بعد ذاك كذوب
أحبك حبا لست أهلا لمثله
وما كل حب للجمال يطيب
فإنك لا بر لديك لآمل
رضاك ولا ودا لديك أصيب
فنفسك مثل القبر قبح وظلمة
وحسنك غصن في القبور جديب
فلا تتركني بين يأس ومطمع
إذا لم يكن لي من هواك نصيب
ودعني أمت أو أحي دهرا كميت
تعدته عواد ومل طبيب
وإني خليق أن أبوء بسلوة
إذا أنا لم يعطف علي ضريب •••
وأهوى رفيقا ذاكي الروح والنهى
وما لي سواكم في الحياة طليب
فيا خالق الألحان جد لي بمنطق
وجد لي بلحن من لدنك يذيب
لأطرب قلبا لا يلين لمطرب
ألا كل شاد للجماد يخيب
أظل إذا ما غبت عني كأنني
يتيم غريب في الحياة سليب
شفيعي إليكم في المحبة أننا
كلانا يتيم في الحياة غريب
ولو كنت تدري كنه حسنك كله
عذرت ولم يعنف عليك رقيب
وعربدت من سكر الجمال وإنه
لسكر إذا فكرت فيه يطيب
ولو جن إنسان من الحسن كنته
فأنت فريد في الجمال عجيب
ولو كنت تدري سر حبي كله
لما خلت أني في هواك مريب
وما في الورى مثلي عليم بحسنكم
فإني بأسرار الجمال لبيب
أبيت أناجيكم على بعد داركم
وأدعو خيالا منكم فيجيب
وأطعمه زادي وأسقيه خمرتي
وأبغيه في الظلماء وهو قريب
وأجلسه جنبا لجنبي وإنني
إليه وإن طال البعاد أءوب
وأسأله عن حاله كيف حاله
ولي منه إلف شائق وجنيب
نظمت معاني الحب فيكم جميعها
فلم يبق منها شارد وغريب
ولم يبق إلا أن أجن بحبكم
وتهلك قلبي زفرة ونحيب
كأنكم طيف لطيف يزورني
فيا طيف طيف هل أراك تئوب؟!
عشيق القمر (وهي أنشودة من أناشيد الصيف والليل والقمر.)
نشر البدر على داركمو
خلعا والدار تزهو بالضياء
في ليالي الصيف حيث القلب من
شجوه بين التمني والرجاء
إن بيتا أنتم سكانه
لخليق ببهاء وسناء
لخليق أن يبيت البدر فيه
ساطعا بين عراص وفناء
أحسن الضوء على داركم
ما ديار الحي عندي بسواء
يخشع الطاووس من حسنكم
ويبيت البدر مسلوب العزاء
فكأن البدر من حبكم
حائر يقطع أرجاء السماء
فهو مثلي هالك من حبكم
وهو مثلي بين يأس ورجاء
ويطل البدر من طاقاتكم
ويحييكم بألحاظ بطاء
بسط البدر على فرشكم
حله فضية شتى الرواء
وعلا وجهكم منه ضياء
كضياء الطهر محمود الوضاء
وهو في أحلامكم آفاقه
وجهه في حلمكم جم السناء
وهو في أحضانكم ذو سنة
ليس يشقى فيكم بالرقباء
ليتني يا بدر ضوء ساطع
منك في دار ضنين باللقاء
فأراه وهو عني غافل
ليس يلقاني بعذل أو عداء
أأقضي العمر في هجركم
خائبا بين صباح ومساء؟
يا دواء القلب من أسقامه
كيف ترمي القلب بالداء العياء!
يا ليالي الصيف عودي بالهوى
كم عدتنا عنك أيام الشتاء
يا ليالي السعد عودي بالمنى
قد تمادى حكم أيام الشقاء!
الحب والرحمة
لما رأيتم حياتي في اقترابكم
وأن بعدكمو والموت سيان
بنتم فلا رحمة فيكم أؤملها
ولا تحسون ما بثي وتحناني
فادعوا لي الله أن أنساكم أبدا
وأن أبيت على صبر وسلوان!
حسبي الذي قد عناني من جفائكم
وقسوة كمنت في صخر صوان
والله لو مت من شوق ومن كمد
لما بللتم بماء الدمع أكفاني
ولا عناكم مماتي في محبتكم
بل كان حظي من سخر ونسيان
ولو جننت لما اهتاجت لواعجكم
ورحتم بين مزهو وجذلان
أبعد ما قد بدا لي من عداوتكم
تبدون للناس من صحبي وإخواني؟
يا طارق الموت فيك الأمن أنشده
فأنت أرحم من صحبي وخلاني!
أملح الناس
ألا يا أملح الناس
وطاق الورد والآس
لقد حللت إيحاشي
وقد حرمت إيناسي
ألا يا أملح الناس
أما لي فيك من آسي؟
وهل تزهد في حبي
وما بالحب من باس!
أما يقدر أن يرح
م قلبي قلبك القاسي
أبيت الليل سهرانا
على هم ووسواس
وأقضي اليوم في هم
أريق الهم في الكاس
وقد حببت لي الموت
فهل يهنيكم ياسي
سينعاني لك الموت
وأحسوه مع الحاسي
فهل يهنيكم موتي
وأن تركد أنفاسي؟
وأن أدرج في قبري
قتيل الحب والياس؟
فمن يصدح بالشعر
ومن يسخر بالناس؟
ولو أني دعوت البد
ر جهرا غير إبلاس
لحياني ولباني
على العينين والراس!
وأدعوك فلا تدنو
وأنت الغافل الناسي
ألا يا أملح الناس
وطاق الورد والآس
لقد خلفني الحب
صموتا بين جلاسي
وقد مزقني الحب
بأنياب وأضراس!
ذكرى الحبيب الأول
ذكرى الحبيب الأول
أم لحن شدو البلبل؟
أورى هيامك يا فؤا
د وكنت عنه بمعزل
فدع الشجون لأهلها
ليس الزمان بمقبل
أصبحت ربعا دارسا
بين الصبا والشمأل
ولقد عهدتك آهلا
بالحب غير معذل
وعهدت فيك الحب بي
ن منور ومكلل
يا قلب هل من مرجع
ذاك الزمان المنجلي
هيهات ليس بعائد
عهد الهوى المتحمل
أصبحت كالقبر الذلي
ل وكالظلام الأليل
من بعد ما قد كان حب
ك كالرحيق السلسل
فثملت من شجو ومن
يعشق كعشقك يثمل
وتقول إن أمل بدا
يا ليت ذلك كان لي
قد كان يعجبك الدلا
ل وعزة المتدلل
أصبحت لا أملا ترا
ه ولا رضا المتجمل
كأس الحياة تمجها
كالشهد شيب بحنظل
في كل يوم لوعة
بين الضلوع كمرجل
حتام أنت معذب
ترضى بعيش مذلل
ولقد ظمئت إلى السرا
ب فعش كقفر ممحل
هذا جزاء معاند
يرضى بحب مضلل
ويذوب إثر الغادري
ن بلهفة المتعجل
ويحب سحار اللوا
حظ قلبه كالجندل
فاكتم حنينك يا فؤا
د فما السراب بمنهل
ودع النسيب فسحره
أعياك من متغزل
إن الذي أحببته
ينأى بقلب معضل
يا قلب ما لك خافقا
أشجاك شدو البلبل؟ (أرسل الأستاذ الجليل عبد الحميد العبادي هذه الأبيات البديعة إلى صاحب الديوان):
يا شاعر القلب رفقا إنني وصب
دامي الفؤاد أحان أنت أم جان؟
رفقا فلي مهجة إن لم تكن فنيت
فقد غدت أشبه الأشياء بالفاني
قرأت شعرك كي آسو به حزني
والشعر خير دواء المدنف العاني
فهاج شعرك ما بي اليوم من كبد
مصدوعة وفؤاد جد حران
لله أنت أقوال بألسننا
تبدي خفي مشوق القلب ولهان
إلا تكن عارفا نجوى ضمائرنا
فما لنا قد حننا كل تحنان!
كم ذا أريد لأنساه فيخذلني
هوى دخيل وقلب غير معوان
سأقرأ الشعر يا «شكري» تبعثه
وإن أثار علي الشعر أشجاني
قد يعشق المرء ما يبلى حشاشته
كأنما موتها محيا لها ثان! (فبعثت صاحب الديوان إلى عمل هذه القصيدة):
الشعر
طرب الفؤاد فهاتها
فالخمر في أبياتها! «عبد الحميد» جلوتها
كالكأس في لمعاتها
إن النفوس صحائف
الشعر من آياتها
والنفس طير صادح
والسحر في نغماتها
لو راع كسر الدهر شيء
ريع من نبراتها
فترى الحياة قنيصة
في الشعر من عقداتها
والعيش نهزة شاعر
يقتص من فلتاتها
والشعر تاريخ النفو
س ومعقل لحياتها
والشعر كأس للنفو
س حذار من نشواتها
والشعر ورد يانع
غرسته في جناتها
والنفس ريح قد هفت
بالشعر من نفحاتها
والنفس طورا كالسمو
م تروع في لفحاتها
والنفس بحر زاخر
والشعر من موجاتها
والنفس طير في الحيا
ة يطير في روضاتها
في أرضها وسمائها
غرد وفي جنباتها
إن القلوب خوافق
والشعر من نبضاتها
فترى الحياة جميعها
منشورة بصفاتها
والشعر مرآة الحيا
ة تطل في مرآتها
تجلو أساليب الحيا
ة تلوح في صفحاتها
فتراه في آلامها
وتراه في لذاتها
والشعر في عبراتها
والشعر في ضحكاتها
وهو المعين على الحيا
ة يغض من نكباتها
والشعر نور ساطع
عاد على ظلماتها
ويصيغ من ألم النفو
س اللحن في أناتها
ويضيء كل جريمة
فيبين عن غاياتها
فهو الخبير بما يحث
النفس في فعلاتها
للنفس نشوة راقص
والشعر من رقصاتها
للنفس همة ساحر
والشعر من نفثاتها
في كل نفس منزل
للشعر من حركاتها
في الطفل والرجل الكبي
ر يجول في حالاتها
وتراه في فتيانها
وتراه في فتياتها
في حزنها وسرورها
وطموحها وشكاتها
والشعر نغمة صادح
والنفس من آلاتها
أشجانها أوتارها
والشعر من رناتها
ولكل شيء مبعث
للنفس من رقداتها
والشعر كالإلهام يأ
تي النفس في يقظاتها
والكون آية شاعر
يأتي بمبتكراتها!
بين العذر واللوم
ألا عللوني بالظنون الكواذب
ولا تتركوا قلبي لنهب النواهب
ولا تسألوني كيف أنت فإنني
أرى الموت في هجر الحبيب المجانب
بخلت به بخل الشحيح بماله
وكان جوادا بي على كل عاتب
فلا تحسبوا حبي غرورا وزهوة
كأني خليق باقتراب الحبائب
وإني لأدري أنني لست للهوى
وأني مشنوء كثير المعايب
لذاك أذود القلب عنكم فينثني
إليكم فقلبي عندكم غير آيب
فلا تعجبوا أني لججت بحبكم
فإن عزاء النفس شر العجائب
وكنت أظن الحب أمنا ولذة
فجار علي الحب بين النوائب
وكنت أظن الحب في العيش بلسما
فكان كريش في سهام المصائب
ومن لي بنزع السهم والسهم قاتل
إذا ولغت أطرافه كالمخالب
أأحبابنا رفقا بقلب موله
كثير الجوى عف الهوى والرغائب
جعلت لكم عذرا على الصد واسعا
فإن فؤادي عاذر غير عائب
وما كان لي في حبكم وجه حيلة
وكيف وقد سدت وجوه المذاهب
وخلفتموني أحسد الناس حبهم
وأوحشتموني من حبيب وصاحب
وخلفتموني إن مررت برفقة
بكيت على فقد اللدات الأصاحب
وما لي حق عندكم فألومكم
على الهجر إن أدلى محب بواجب
قبلتم غرامي رحمة وتطولا
فإن ارتضاء الحب جهد المناقب
وحسبي في حبيكمو أن علمتم
بأنكم في النفس خير الحبائب
فيا نشوة الحب الذي أنا شارب
هو الحب مثل الخمر مر العواقب
ومن لو رآني هالكا من صبابة
لخال فؤادي نهزة للواعب
أضئ لي وجوه العيش منك بعطفة
فقد ضل قلبي في سواد الغياهب
وأنت جميل كالحياة محبب
وإن كنت مثل العيش مر التجارب
أبيت وطرفي بالنجوم مقيد
أردد لحظي في عيون الكواكب
فيا نجمي النحس الذي أنا ناشد
أراك ضئيلا آفلا غير ثاقب
فليت حياتي غالها الموت غولة
وأصبحت في قبر ذليل الترائب
أدلى بمهواة سحيق قرارها
ويحثى علي الترب من كل جانب
فإن مت لا تبكوا علي بلهفة
ولا تسمعوا روحي نواح النوادب
فإن نفاقا ما يكون بكاؤكم
وخشية لوم ما نواح الأقارب
ويا قلب كم تبغي مصادقا
وتبصر في الأحلام صفو المشارب
فتغفى قليلا بين واف وصادق
وتصحو طويلا بين خب وكاذب
وإن غرورا بغية قد بغيتها
فلا تأس إن أمسيت في عيش خائب
أما أنت مثل الناس خبا وكاذبا
صميم الخنى جم الأذى والمثالب
وكل امرئ في العيش للعيش خادم
يقاد الفتى في العيش قود الجنائب
نجوى
أسارقه الألحاظ والناس بيننا
فترجعني عنه العيون النواظر
وينفر من قلبي وقلبي روضه
ويزهد في حبي وحبي طاهر
وهل أنت إلا كعبة أنا عابد
وهل أنت إلا منسك ومشاعر!
وإن كنت في الصحراء فهي خميلة
وإن كنت بين الزهر فالروض باكر
وكيف يكون الروض بعدك ناضرا
إذا لم يكن في أيكه منك طائر !
ألا إن روضي صوحت شجراته
فلا النبت مخضر ولا الزهر زاهر
وغاضت عيون الماء فيه وأدرجت
عليه أكاثيب التراب الأعاصر
وأصبح مهجورا خرابا تروده
وحوش الفيافي والطيور الكواسر
وقد كان كالفردوس حسنا وبهجة
فأهلكه صرف من الدهر غادر
وأهلكه أن لا حبيب يزوره
فلا الطير تهواه ولا الغيث ماطر
وكيف يعيش النبت والغيث باخل
وكيف يسر القلب والحسن هاجر؟
وما الحسن إلا روضة النفس، والهوى
علالة نحس الجد، والجد عاثر
وما الحسن إلا حاجة النفس إن أصب
فلست أبالي الدهر، والدهر غادر
وحبي فضل للذي أنا عاشق
وما كل حب فخر من هو فاخر
وأحببت من قد كان مثلك بهجة
فشطت به عني المنايا البواكر
يذكرنيه كل قول تقوله
وهيهات لا تجدي الحزين الخواطر
وكنت وإياه كعين وأختها
وكنا كسر غيبته الضمائر
وكنا نجوب الليل، والليل فاتن
وكنا نؤم الفجر، والفجر حاسر
وكان على رغم الحسود ودادنا
هياما وتحنانا تجن السرائر
سلام على البدر الذي غيب الردى
وليس على البدر الذي هو هاجر
فيا بدر إن العيش بعدك مظلم
ويا بدر إن الطرف بعدك ساهر
ويا بدر طهر بؤس عيشي ونحسه
بضوئك إن الضوء كالماء مائر
ففيك معاني الحسن والشعر والهوى
وأنت كما تهوى النهى والبصائر
فيا بؤس للحي الذي ليس فاتئا
ينوح على من غيبته المقابر!
عقوق الغدر
محضتك النصح في سري وإعلاني
كأنما النصح من ديني وإيماني!
قد كان لي حلم في الناس أنشده
يجلو همومي ويأسو كلم أحزاني
حلم من الصدق والإخلاص تنسجه
أواصر الشعر من سحر وتبيان
وشمت فيك خصال النفس زاهية
والنفس تجلى بأوصاف وعنوان
حسبت نفسك نورا ما به ظلم
فما اعتذاري إذا ما طاش حسباني؟
قوارص عنك تأتيني وأكتمها
بأي وجهيك بين الناس تلقاني؟
تذيع أن ودادي في منقصة
حسيبك الله من عاد ومن جاني
حسيبك الله ليس السوء من شيمي
ولا الخيانة والإسفاف من شاني
في أي شرع يجوز الغدر عندكم
حتى تقابل تحنانا بعدوان؟
تقول بالظن قولا لست صادقه
يا بعد ما بين ذي صدق وظنان
أحسنت ظني وحسن الظن تجهله
فسوء ظنك فيه شك حيران
أستودع الله ما قد خلته زمنا
فيكم وأبرأ من ود وتحنان
ما أنت أول من خانت أواصره
وراح ينقض بين الناس بنياني
أعيا على الناس أمر الناس كلهم
فالخلق للخلق شيطان لشيطان
ليت الزمان عداني عن لقائكم
كي لا ألام على سخر وأحزان
لولا خيانتكم ما خلت من شجن
إن الفضائل من أحلام غفلان
تغتابني ثم تلقاني وتضحك لي
والقلب ملآن من سوء وأضغان
كم ضاحك هو مثل الزهر مبسمه
وفيه حتفك من سم وذيفان
يا رب شاك شكاه الناس قاطبة
فراح يقدح في صحب وخلان
بينا أنوه في أمن بذكركم
إذ أنت تنقص من قدري ومن شاني
هذا جزاء امرئ بالناس منخدع
فالغافل الغر فينا فرصة الجاني
أقول عل الذي بلغته كذب
هيهات ما هو من إفك وبهتان
فقد أتى بدليل لست تدفعه
وهل يكذب من يسعى ببرهان؟
يا رب لا يرتجى في الأرض ذو ثقة
عف اللسان على صحب وخلصان
لأي أمر يعيش الغادرون بها
أما تضيق على خب وخوان
من صح نفسا فلا يزري به صغر
إن الكبير كبير النفس والشان
بعض القلوب قلوب قال بارئها
كوني عن الصدق والإخلاص في شان
بعض النفوس نفوس كلها جيف
فاربأ بنفسك عن نتن وديدان
وكن كما خلت فيك الفضل أجمعه
وحسب نفسك من لب وأذهان
اعتدت من أهل دهري كل منقصة
فلا ألومك في مكر وعدوان
وما عتابيك في طبع بليت به
الطبع أغلب من نصح وعرفان!
بعد الود
سلام عليكم يا أخلاي أنتم
لقد طال هجر منكم فنسيتم
فأصبحتم في العين كالناس كلهم
وقد كان قدما مطمح العين فيكم
وقد كنت قدما أبصر الزهر منكم
وأسمع شدو الطير إما نطقتم
فخلتم ودادي خلة العبد ضلة
فراح بنا عنكم عزاء ورحتم
فما كان من فضل لديكم وددتكم
ولم تر نفسي الود برا لديكم
خلعت عليكم نور حبي وخلتكم
كما يخلع القلب المحب عليكم
فكنتم لدى نفسي كما النفس تشتهي
يلوح لعيني مطمح النفس منكم
فأصبحتم ذكرى كأمس الذي مضى
وغضت لحاظ العين والقلب عنكم
فكونوا كما شئتم جفاة فإنني
عرفت عزاء الصبر حين غدرتم
وهونت من وجدى وكفكفت عبرتي
ونام على السلوان طرفي ونمتم
فإن غبتم ما حن قلبي لذكركم
ولا أنتم منا ولا نحن منكم
لقد هنتم إذ هان حبي لديكم
ولو صنتم ودي لكنا وكنتم
وكنتم مكان النجم عندي عزة
فأطغاكم ذاك المكان فهنتم
دعوتكم للود حين وددتكم
فكان بكم وقر إذا ما دعيتم
ورتلت آيات الإخاء عليكم
فهل كان ذنبي أنكم ما فهمتم
وأنتم وجدتم قسوة الغدر لذة
فلما بلونا راحة الصبر لمتم
قسوتم علينا إذ حننا إليكم
فلما أردنا هجركم ما رحمتم
نزعنا نزوع اليأس عنكم فلمتم
فإن شئتم عدنا إليكم وعدتم
الحب والطبيعة
رحم الله محبا والها
لم يجد من حبكم وجه المآب
إن مما نابه من هجركم
كأنين الريح في الربع الخراب
وهو كالعصفور غريدا على
غصنه والغصن يزهو كالشباب
وترى العاشق في لوعاته
أبدا بين سكون واصخطاب
وهو كالبحر وللحب جلال
كجلال البحر مخشي العباب
وقطوب كقطوب الليل إن
أقبل الليل كإقبال السحاب
وله بشر كبشر الفجر إن
سره وعد حبيب باقتراب
وهجير كهجير القيظ إذ
غلواء الصيف ريعان التصابي
وهو آنا عزة مثل السهى
وهو آنا ذلة مثل التراب
وهو مثل النار من أشجانه
أبدا بين اضطرام والتهاب
يحسب الكون إطارا دونه
رسم من يهوى مضيئا كالشهاب
أو كتابا فصلت آياته
وحبيب النفس معنى للكتاب
الهوى والمال والجاه سواء
نشوة العيش وغايات الطلاب
فهي تلهي المرء في دنياه عن
عبث للعيش خداع السراب
لا ترح بالصحو من كاساتها
فترى العيش بألحاظ غضاب
اسقني خمر المساعي والهوى
فجمال العيش في ذاك الشراب
نرجس
نرجس أنت الحسن يا نرجس
تشتاقك الأبصار والأنفس
ترضعك الشمس بأضوائها
واليوم صحو أفقه مشمس
تحنو على الغدران مستأنسا
يا زهرة في روضها تغرس
تبصر وجه الحسن في مائها
بحسنه كل امرئ يأنس
حتى إذا البدر بدا ضوءه
يزينه في ثوبه الحندس
أفقت في جسم كجسم الدمى
يلتذ منه الشم والملمس
كالدر من أصدافه خارجا
والدر في أصدافه يحرس
عند غدير شبم ماؤه
خلعت من ثوبك ما يلبس
لكي ترى حسنك في مائه
تخلس منه العين ما تخلس
تدل بالحسن على بدره
والبدر دان فوقه يلمس
فأنت والبدر على مائه
بدران قد حفهما الحندس
وتستحمان على مائه
وأنت من بدريكما الأنفس
تقوم قرب البدر في مائه
لكي ترى أيكما الأملس
تعوم كالنشوان من حسنه
تسكر من خمرته الأكؤس
نرجس أنت الحسن يا نرجس
يقبس منك الطرف ما يقبس
أشهى من الروضة إذ تنثني
قدك من أغصانها أميس
وطرفك الأدعج يا نرجس
يشوق فيه الحسن إذ ينعس!
الحطاب والحشرة أو دين الكون
خرجت من حجرات ال
أرض والعين تراها
ذات ذل وخشوع
تحسب الخير نماها
داسها العابر قدما
فهي لا يخشى أذاها
فرآها حاطب يس
عى لحاج قد بغاها
قال بالظن وقدما
كان ما ظن سفاها
قال لا يسعى إلى الشر
ضعيف قد تناهى
بلغ الإشفاق منه
مبلغا حتى حماها
قالت الحية قولا
حجة فيما عراها
إنما الحمد قيود ال
بله مفكوك عراها
بني الكون على الخد
عة لا دين سواها
كل نفس ذات مكر
حين تستدني مناها
كم مداج وجد الشر
مطايا فامتطاها
بلغ القصد ولما
يعبد التقوى إلها
بلغ النجح ولما
يبلغ الحسنى رضاها
لذعته لذعة الخب
فأخطاه أذاها
فرماها تحت رجلي
ه هوانا وقلاها
ليت وطئا ما عداها
ليت طرفا ما رآها
رب خب دفنوه
تحت أرض قد حشاها
لا تصب بالخير نفسا
ليس للخير هواها
قد يضل السوء حتى
تبلغ النفس عماها
فترجي كل خير
في الذي فيه رداها
إنما الرحمة ضعف
إن تصب من لا يراها!
الوتر المفقود
أحسست أن نفسي
من شجوها كعود
أوتارها ملية
بالنغم السديد
تخلق من ألحانها
روحا لذي الجمود
ألحانها معان
من محكم القصيد
لكل معنى وتر
في عودها المشدود
فللشقاء وتر
ووتر المسعود
ووتر يشدو لها
بالمطلب البعيد
كأن ريحا إن شدت
تطلق من ركود
ووتر الحزين
ووتر السعيد
ووتر مقتبس
من جنة الخلود
قد وقعت عليه ال
ألحان بالترديد
كأنها من لحنه
في فرح وعيد
تسمع في ألحانه
بلابل التغريد
يا نفس ما دهاك
من شقوة الجدود؟
فوقعي عليه
وغردي وعودي
واحسي الغناء وانتشي
من طرب النشيد
هيهات أين مني
ذو الوتر المنشود
قد كان في فؤادي
كجنة الخلود
لشد ما أعاني
للوتر المفقود!
أغاريد شاعر
نغمات البلابل
أم أغاريد شاعر
لعبت بالسرائر
واستبدت بخاطري
نقعت غلة الفؤا
د بري الهوامر
وغيوث مواطر
من غيوث البصائر
أخصب القلب بعدها
من صنوف الأزاهر
بعدما كان مجدبا
من قشيب وناضر
إنما الشعر نغمة
كحنين المزامر
أو رعود الرواعد
أو أنين الأعاصر
ومعان خوالد
كالنجوم الزواهر
إنما المرء ذرة
في رياح المقادر
إنما العيش نغمة
في زفير الزوافر
نغمة الخفض والنعي
م ونحس مخامر
إنما العيش قصة
أو أحاديث سامر
فأجز عني الهمو
م بألحان شاعر
نغمات شجية
هي خمر المشاعر
كل أمر نحسه
فرصات لشاعر
إنما الشعر في الحيا
ة كمنظار ناظر
يصف الناس كلهم
من تقي وفاجر
يشعر المرء حالهم
من صروف المقادر
يرفع النفس سحره
عن وهاد الحقائر
لسماء العظائم
عن حضيض الصغائر
فهو دين لطامح
من مصيب وعاثر
يصف العيش في الكما
ل عديم المحاذر
فيحن الورى إلي
ه حنين المسافر
فيه إغراء وارد
وبه حث صادر
يجعل اليأس والطمو
ح دواء المغامر
يدفع النفس بالخيا
ل لورد المآثر
يبلغ النفس أفقها
كجناح لطائر
لا تقاس النفوس بال
مال في ذخر ذاخر
وهو دين الضمائر
لا مقال المنابر
يفتح النفس ضوءه
مثل ضوء التباشر
مثلما يفتح الصبا
ح زهي الأزاهر
يلقح النفس وقعه
رب نفس كعاقر
صوت الله نجوى المؤمن
أنصت ففي الإنصات نجوى النفوس
فإن صوت الله دان كليم
وكلنا موسى لدى ربه
وكل روح حين يصفو عظيم
وإنما نفس الفتى معبد
يضيئها الله بنور عميم
والنفس بيت الله إن طهرت
والنفس إن لم تصف مثل الجحيم •••
أنصت أما تسمع ذاك الدعاء
صداه في الأنفس صوت الضمير؟
من ذا الذي أودع فيك الرجاء
ومطلب الخير وكره الشرور؟
يا هاتفا في جنح ليل بهيم
لبيك فالقلب كعبد أسير
أنت رجاء النفس في أسرها
تضيء في العيش ظلام الأمور
وأنت صحو الروح في بحثها
من نشوة الفكر وسكر الغرور •••
إن كرث الخطب وعم البلاء
فقربه للنفس قرب الرجاء
ففي الأسى يبدو ضياء المنى
وفي الأسى نبصر منه الضياء
والوقر عن نجواه وهن النفوس
والوهن في الأنفس داء عياء
نجواك نجواك دواء الأنام
من عنت العيش ووقع الشقاء •••
تسكب منك الضوء في الأنفس
فيرفل العيش ببرد قشيب
يعبدك الناس بأعمالهم
وما يعانون لوقع الخطوب
وبالأسى في عيشهم والندم
عبادة الندب الجليد المصيب
طوبى لمن روض من نفسه
فإن صوت الله منه قريب
وا رحمة للناس
تعلمني الأقدار أن أرحم الورى
فقلبي لكل العالمين رحيم
وأنظر في نفسي وأعرف عذرهم
على شرهم داء النفوس قديم
وإن جميع الناس أهلي وإخوتي
وإن كان فيهم جارم وذميم
فيا ويح هذا الخلق مما يصيبهم
مقادير يتلوها أذى وهموم
وليس خصيمي من يريد شقاوتي
فإنا جميعا للقضاء خصوم
أليس أسير الشر أولى برحمة
وأي امرئ مما يذم سليم
أليس أسير السوء يغدو معذبا
به من حزازات النفوس كلوم
وأحسن ما فات امرءا حسن نفسه
وإن خفيت عمن يود وصوم
وليس شقاء المرء رهنا بشره
وليس على قدر العقول نعيم
فوا رحمة للمرء حتى حياته
تناهب قوت إنه للئيم
وإن أشد اللؤم لؤم ابن طعمة
يبيع بها من نفسه ويسوم
وليس يبالي الناس هلك نفوسهم
إذا سلمت طول الحياة جسوم
فنون وآداب وفقه وصنعة
وفضل وجاه واسع وعلوم
وسائل يستدني بها رزق يومه
يريم به في عيشه ويقيم
فوا رحمة للمرء من سقم نفسه
وكل الذي يبغي الشرور سقيم
ووا رحمة للمرء من عجز نفسه
هو العزم إن حال القضاء عقيم
ووا رحمة للمرء إن بات عانيا
يحن إلى ورد المنى ويحوم
ووا رحمة للناس من سخر عيشهم
وسيان فيهم واجد وعديم
حياة كمستشفى السقام أليمة
فيسقم فيها أشيب وفطيم
خليق بنا أن يرحم المرء صنوه
فكل لكل عاذر ورحيم
جهاد المصلحين
أسائل عن هذا الورى ومآله
فيخرس داع بيننا ومجيب
أفي كل يوم معرك بعد معرك
حروب على آثارهن حروب
ولو كان يجدي أن تطيح ضحية
فإن شقاء العاملين حبيب
خليلي هذا الكون من أولياته
أأصلحه في العاملين طبيب؟
وكم من نفوس ساميات أذلها
فعادت بأدناس الحياة تطيب
ترى دنس الأشياء رؤية آلف
يرى أن أحلام النفوس لغوب
يظن جهاد المرء في العيش ضلة
وأن مساعي المصلحين تخيب
يرى أن خير الكون ما هو كائن
ووحي النفوس الساميات مريب
ويحسب أن الشر ضربة لازب
وأن أساليب الحياة ضروب
ويصبح في مجرى الحوادث ريشة
تجوب به الأيام حيث تجوب
ويطفئ نور النفس حتى كأنما
دواعي النفوس الساميات عيوب
ويحسب نشدان الكمال حماقة
وأن دعاء المصلحين ذنوب
لئن فشلت للعاملين أولي النهى
مساع وذلت أنفس وقلوب
فإن شرور العالمين كثيرة
وإن الخطوب العائقات تنوب
وهمة باغي الخير كالدهر صبرها
وقلب الذي يبغي الكمال رحيب
وإن أماني النفوس كثيرة
تريك ضياء النجح وهو قريب
وكيف يرى ساري الحياة سبيله
إذا حان من نجم الرجاء غروب
ولولا ضحايا العاملين لأرهقت
شرور على إثر الشرور تصيب
فلا تعجبن أن الشرور كثيرة
ولكن بأس العاملين عجيب!
الروح السوداء
يا سوأة ما مثلها سوأة
ما بك من حقد وأوغام
يا سوأة كالدهر في وسعه
تنمو بمر العام والعام
تنقص من خير ومن عفة
وعيبك المستنبت النامي
لو أطلقت روحك وسط الضحى
لألبسته ثوب إظلام
كأنما ينساب منها الدجى
يزخر في ديجوره الطامي
ما خلق الرحمن من خصلة
يطير فيها لوم لوام
إلا على وجهك مكتوبة
كأنها من خط أقلام
خاتم إبليس على جلده
بينة فيه لأفهام
روحك كانت قبل في ناهق
ريض بأسراج وألجام
فلسفة لا شك في صدقها
فلم تكن أضغاث أحلام!
في كل فضل قادح واقع
تنهشه في نابك الدامي
وذاك برهان على صدقها
والصدق ذو وقع وإحكام!
سنة العيش التنافس أم التعاون
إني لأفكر، والأيام موعظة
في السابقين وفي التالين من أمم
من عهد آدم كم من أنفس شقيت
وكم عيون بكت من شجوها بدم
في النور قوم، ضياء العيش خمرتهم
وكم أناس شقوا بالعيش في الظلم
ظن السعيد شقاء النحس متهما
مرأى الشقاء لدى المحدود كالتهم
فإنما طعمة المسعود يمزجها
عيش المناكيد بالأسقام والألم
ما نال طعمة قوت ساغها سغب
إلا كأن مزجت في صنعها بدم
لا تسمعن مقالا قال قائله
وما أصاب صواب الرأي في الكلم:
اضحك ولذ فإن العيش منتهب
وأضيع الأمر عيش حيط بالعدم
فذلك القول حرب للنهى أبدا
قد صير الناس للذات كالخدم
ظنوا الحياة محالا أمرها أبدا
إلا على الحقد والبغضاء والنقم
وإنما ملجأ النفس التي كرهت
عزو الأمور إلى الأقدار والقسم
إن المحال لديها كل ما كرهت
ليس المحال محال السعي والهمم
هذي المقابح طرا في تنافسهم
إن التنافس داء الجائع النهم
طبع قديم سينضو المرء خلعته
مثل الأديم نضته صمة الصمم
لا بد من فشل من بعده فشل
حتى يفيق سواد الناس من صمم
انظر إلى الناس ما في عيشهم أرب
داء الخماص وداء الهم والتخم
ظنوا التقاتل فيه سنة أبدا
فعل الوحوش على الأدناس والرمم
انظر إلى الناس هل يبدي تنافسهم
غير التباغض والأوجال والسأم
وكلما قام فيهم ناصح وجل
قالوا هو الغر يرعى روضة الحلم
العيش حرب ولكن في عدوهم
حرب الطبيعة حرب الخير والحكم
حرب الطبيعة حرب لا انتهاء لها
حسب العقول وحسب العزم والهمم
إن كان يخشى على الأرزاق أن كثروا
فأحسن الداء داء العقم في الرحم!
أتحمل الزوج كي يفنى الألى حملت
بين المصانع والأسياف والسقم!
لا يسعد الناس سن الحرص سنتهم
حتى يطهر داء الحرص بالندم!
الكونان
قلب اليائس
ضاق قلبي بما يجن
ونفسي بما تشا
فهي كالبيت مغلق
نازح الأهل قد خوى
راكد الجو قاتم
فاسد الماء والهوا
يفزع المرء من صدا
ه إذا ردد الصدى
يحسب الجن قد ثوى
جمعها فيه ما ثوى
أغبر اللون عابس
مظلم الأرض والسما
ضاق صدري بما يجن
ونفسي بما تشا
فهي كالبيت مفزع
يفزع الطرف بالدما
أهلك النفس جارم
فاتك النفس ما ارعوى
أصبح البيت خاليا
مسكن البوم والدجى
يسمع العابر المجد
صراخا إذا دنا
أسكت القلب وقعه
روع الأمن والكرى
ضاق صدري بما يجن
وروحي بما يشا
فهو قبر لعالم
قبل ذا الكون قد مضى
كل روح وذيلة
تهب العين ما يرى
فترى العين ما يجيء
ويبدو الذي انقضى
كان كالكون واسعا
لا يرى بعده مدى
قضي الأمر فانقضى
بقي السعي والمنى
ضاق قلبي بما يجن
ونفسي بما تشا
قلب الآمل
فمتى يصبح الخرا
ب جنانا كما مضى؟
ومتى تبلغ النفو
س مداها من الحجى؟
ومتى ينزع الورى
قسوة السوء والخنى؟
ومتى ينجلي الظلا
م عن الفجر والضحى؟
ومتى تطهر النفو
س من الشر والأذى؟
ضاق صدري بما يجن
ونفسي بما تشا
تبتغي عالما جدي
دا من الكون قد نشا
خارجا منه مثلما
تخرج الليلة الضحى
حدث الناس أنه
حلم النفس في الكرى
قبر ذا الكون مهد كو
ن جنين ما إن بدا
حدث الناس أنه
قول غر قد انتشى
ضاق صدري بما يجن
ونفسي بما تشا
أيظل الورى كذا
بئس ما يفعل الورى!
عبثا يحلم الورى
حلم الخير والنهى
أم لأمر مقدر
فهو للكون كالحدا
حلم الخير مبلغ ال
كون ما ينقع الظما
فلئن كان خدعة
عبثا ننقل الخطى
ضاق صدري بما يجن
ونفسي بما تشا!
نظرتان في النفس
إذا جعل الإنسان نصب لحاظه
مآثمه هانت عليه مكارمه
فييأس حتى يحسب الخير خدعة
وينحل عنه صبره وعزائمه
ويصبح لا يرجو صلاحا لنفسه
كأن سراب الخير ما هو شائمه
ويحسب كل الناس خبا وماكرا
يداريه عن آثامه ويكاتمه
ويحسب أن الخير والشر كذبة
وأن خيال الحق ما هو حالمه
فيلتذ ما قد كان بالأمس كارها
فتعدو عواديه وتسري أراقمه
وإن جعل الإنسان نصب لحاظه
مكارمه هانت عليه مآثمه
فيصبح مغرورا يتيه بخيره
يرى أن كل الخير ما هو عالمه
وإن صفات السوء ما ليس ربها
وإن فتكت أسيافه ولهاذمه
كأن محالا أن يجيء بريبة
وإن لامه في الخلق من هو لائمه
وإن هوان الفضل ينأى بلبه
عن الفضل حتى يغرم الفضل غارمه
وإن هوان الإثم يسعى بعزمه
إلى الإثم حتى يأتي الجرم جارمه
وكم مغرم للمرء في بعض غنمه
وكم مغنم تزجى إليه مغارمه
الفصل الخامس
الخطرات
إن القلوب خوافق
والشعر من نبضاتها
والشعر مرآة الحيا
ة تطل في مرآتها
فتراه في آلامها
وتراه في لذاتها
والشعر في عبراتها
والشعر في ضحكاتها
والشعر كالإلهام يأ
تي النفس في يقظاتها
والكون آية شاعر
يأتي بمبتكراتها
من قصيدة «الشعر» في الجزء الرابع لصاحب الديوان
مقدمة لصاحب الديوان (في الشعر ومذاهبه)
يقولون: إن الشعر ليس من لوازم الحياة. ولو جاز لنا أن نعد الإحساس غير لازم للنفس، أو التفكير غير لازم للعقل، لجاز لنا أن نعد الشعر غير لازم للحياة. أليس مجال الشعر الإحساس بخوالج النفس وشرح ما يعتورها؟ ويقولون: إن الشاعر ينبغي أن لا يجعل الشعر مالئا لحياته. كأن الشعر ليس ضرورة الشاعر ودينه. فإن الشاعر الصميم يرى أن الشعر أجل عمل يعمله في حياته، وأنه خلق للشعر، فليس الشعر متمما لحياته بل هو أساسها. هل العطر كمالي متمم للزهر، أم العذوبة كمالية للماء؟! كلا. فإن الزهر يراد لعطره، والماء لعذوبته، والنحل لشهده، والشاعر لشعره.
ولو جئت بنفس ليست من النفوس المنغومة الموسيقية، وأردت أن توقع عليها ألحان الشعر، ما أفلحت. ولكن الشاعر إذا لم يتعهد بالتهذيب، بقي كالحديقة التي طغى عليها كلؤها ومات زهرها. وينبغي للشاعر أن يتذكر كي يجيء شعره عظيما أنه لا يكتب للعامة، ولا لقرية، ولا لأمة، وإنما يكتب للعقل البشري، ونفس الإنسان، أين كان. وهو لا يكتب لليوم الذي يعيش فيه، وإنما يكتب لكل يوم وكل دهر. وهذا ليس معناه أنه لا يكتب أولا لأمته، المتأثر بحالتها ، والمتهيئ ببيئتها. ولا نقول إن كل شاعر قادر على أن يرقى إلى هذه المنزلة، ولكنه باعث من البواعث التي تجعل شعره أشبه بالمحيط - إن لم يكن محيطا - منه بالبركة العطنة في المستنقع الوبيء.
ويمتاز الشاعر العبقري بذلك الشره العقلي الذي يجعله راغبا في أن يفكر كل فكر، وأن يحس كل إحساس. وهذا هو الدافع الذي يدفعه - بالرغم منه - إلى أداء ما قد خلق له من التعبير عن حقائق هيأته لها الطبيعة. فهو يقدر أن يتحمل جهل الناس، لأن الشاعر الكبير يخلق الجيل الذي يفهمه ويهيئه لفهم شعره. ويعين الشاعر العبقري في أداء ما فرضته عليه الطبيعة ثقته من شعره بالرغم من كثرة إساءة ظنه به. فإن إساءة ظنه بشعره، إنما سببها رغبته في الكمال. وهي سائقة به إلى منازله. والشاعر العبقري يعلم أن حياة الشاعر حرب أدبية ينجلي بعدها النقع، فيعرف الظافر والمنهزم.
ولقد فسد ذوق المتأخرين في الحكم على الشعر. حتى صار الشعر كله عبثا لا طائل تحته. فإذا تغزلوا جعلوا حبيبهم مصنوعا من قمر، وغصن، وتل، وعين من عيون البقر، ولؤلؤ، وبرد، وعنب، ونرجس ... إلخ، ومثل ذلك قول الوأواء الدمشقي، وهو البيت الذي ينسب ظلما إلى يزيد بن معاوية:
فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت
وردا وعضت على العناب بالبرد
وذوق الأمويين بريء من أمثال هذا القول. ولا أريد أن أجمع على يزيد جرمين: قتل الحسين، وقول هذا الشعر الذي لا بأس به، إذا أريد للفكاهة والعبث، لا للغزل الذي يشرح عواطف النفس ويشعرك إياها. وإذا أراد المتأخرون وصف الحب، أكثروا من ذكر الدموع، وقالوا: إن دموعهم تغني عن المطر، وإن البحر قطرة إذا قيس بها، وإنهم سلخوا عاما لم يذوقوا فيه النوم، وإن جسمهم صار أقل من القليل، حتى إنهم يخشون أن يطيروا مع الهواء لنحولهم. وإنهم لا يريدون أن يروا حبيبهم بالليل؛ لأن طلعته تجعل الليل نهارا فيفتضحون، ولكنهم يريدون أن يروه نهارا؛ لأن طلعته من نورها تجعل ضوء النهار ظلاما، فيخفون عن العذال، إلى آخر ما ذكروا من هرائهم. وإذا رثوا قالوا: إن السماء كادت أن تسقط لموت المرثي. وإن الليالي لابسة حدادا عليه. وإنه قد شاعت تعازي الشهب باللمح بينها حزنا على النير الهاوي إلى الفلوات. وإن القمر به كلف حزنا عليه. وإن الرياح تنوح أسفا على موته. وإن الملائكة لبست السواد حدادا عليه. وإن القبر لا يسعه لأنه بحر. وإذا صلب أحد الأمراء، قالوا: إن قاتليه أجلوه فلم يرضوا له القبر. وينشدون أبيات الأنباري التي يقول فيها:
ولما ضاق بطن الأرض عن أن
يضم علاك من بعد الممات
أصاروا الجو قبرك ... ... ... ... ... ... ... إلخ
ويقولون: انظر إلى مهارة الشاعر في قلب الحقائق، وإظهار الذميم مظهر الحسن. وإذا مدحوا قالوا لممدوحهم: إن وجهك قمر، ولحيتك ذهب يطرز هذا القمر. وأنت بحر، وأسد، وغمام، وإن الدنيا لو دخلت في صدرك لوسعها لأنه رحيب، وأنشدوه قول المتنبي:
وقلبك في الدنيا ولو دخلت بنا
وبالجن فيه ما درت كيف ترجع
وقالوا له: إنك لو غضبت على النجوم، لأنطفأت من غضبك. وإنك لولا انقطاع الوحي لنزلت فيك الآيات والسور. وإذا مات للممدوح قريب، لم يكن في بيته حينما أدركته المنية، قالوا: إن المنية لم تجرؤ عليه إلا لأنه كان غائبا عنك.
وقد فسد ذوق القراء حتى إنهم إذا رأوا خيالا يفسر حقيقة، لم تتملكهم هزة الطرب التي تنويهم عند قراءة الخيال الفاسد، إنما يعجبهم من الخيال استحالته وبعده عن المألوف عقلا. وإذا وضح لهم فساده قالوا: إذن كل خيال فاسد. وزعموا أن حلاوة الشعر في قلب الحقائق! وإخراجنا من هذا العالم إلى عالم ليس للعقل فيه سبيل. عالم يرخص المرء لعقله أن يتنزه فيه أينما شاء من غير خشية رقيب. كما يفعل الموظف كل سنة حين يترك فروض الحياة. ومن أجل ذلك شاع عندهم أن الشعر نوع من الكذب، وليس أدل على جهلهم وظيفة الشعر من قرنهم الشعر إلى الكذب. فليس الشعر كذبا، بل هو منظار الحقائق المقلوبة، ووضع كل واحدة منها في مكانها. ولئن كان بعض الشعر نزهة، فإن بعض النزهة فرض. ولئن كان بعض الشعر رحلة، فهي رحلة إلى عالم أجمل وأكمل وأصدق من هذا العالم. رحلة إلى عالم يحس المرء فيه لذات التفكير، أكثر مما يحسها في هذا العالم الأرضي.
وإذا تدبرت ما ذكرته، عرفت فساد ذوق الجمهور في حكمه على الشعر، وكيف أنه يقبل على الشعر المرذول ويعده جيدا. ويعاف الشعر الجليل، الصادق الخيال، الكثير الحقائق، وبعض القراء يرى أن الشعر مقصور على التشبيه، مهما كان الشبه الذي فيه متوهما. ومثل الشاعر الذي يرمي بالتشبيهات على صحيفته من غير حساب مثل الرسام الذي تغره مظاهر الألوان، فيملأ بها رسمه من غير حساب. وليس الخيال مقصورا على التشبيه، فإنه يشمل روح القصيدة وموضوعها وخواطرها، وقد تكون القصيدة ملأى بالتشبيهات، وهي بالرغم من ذلك تدل على ضآلة خيال الشاعر، وقد تكون خالية من التشبيهات، وهي تدل على عظم خياله. وقيمة التشبيهات في إثارة الذكرى أو الأمل، أو عاطفة أخرى من عواطف النفس، أو إظهار حقيقة. ولا يراد التشبيه لنفسه، كما أن الوصف الذي استخدم التشبيه من أجله لا يطلب لذاته، وإنما يطلب لعلاقة الشيء الموصوف بالنفس البشرية وعقل الإنسان. وكلما كان الشيء الموصوف ألصق بالنفس، وأقرب إلى العقل، كان حقيقا بالوصف. وهذا يوضح فساد مذهب من يريد وصف الأشياء المادية لأنها مما يرى، لا لسبب آخر. وهذا الوصف خليق بأن يسمى الوصف الميكانيكي. فوصف الأشياء ليس بشعر إذا لم يكن مقرونا بعواطف الإنسان وخواطره، وذكره وأمانيه وصلات نفسه.
فالخيال ليس مقصورا على التشبيهات. والشاعر الكبير، ليس هو ذا التشبيهات الكثيرة، الذي يكثر من مثل وكأن. ولو كان ليس بعدها إلا المعنى المتضائل، والصورة المضطربة غير المتجانسة الأجزاء. فإن الخيال هو كل ما يتخيله الشاعر من وصف جوانب الحياة. وشرح عواطف النفس وحالاتها، والفكر وتقلباته، والموضوعات الشعرية وتباينها، والبواعث الشعرية. وهذا يحتاج فيه إلى خيال واسع. والتشبيه لا يراد لذاته كما يفعل الشاعر الصغير. وإنما يراد لشرح عاطفة أو توضيح حالة، أو بيان حقيقة. وإن أجل الشعر هو ما خلا من التشبيهات البعيدة والمغالطات المنطقية. انظر مثلا إلى قول مويلك يرثي امرأته وقد خلفت له بنتا صغيرة، فقال يصف حالها بعد موت أمها:
فلقد تركت صغيرة مرحومة
لم تدر ما جزع عليك فتجزع
فقدت شمائل من لزامك حلوة
فتبيت تسهر أهلها وتفجع
وإذا سمعت أنينها في ليلها
طفقت عليك شئون عيني تدمع
فهو لم يعلمك شيئا جديدا لم تكن تعرفه. ولم يبهر خيالك بالتشبيهات الفاسدة، والمغالطات المعنوية، ولكنه ذكر حقيقة، ومهارته في تخيل هذه الحالة ووصفها بدقة. وهذا أجل التخيل. وأجل المعاني الشعرية ما قيل في تحليل عواطف النفس، ووصف حركاتها كما يشرح الطبيب الجسم. ومن أمثال هذا الغزل قول ابن الدمينة في وصف حياء الحبيب:
بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له
ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب
ولم يعتذر عذر البريء ولم تزل
به سكتة حتى يقال مريب
مثل هذا الشعر يصل إلى أعماق النفس ويهزها هزا. والشعر ما أشعرك وجعلك تحس عواطف النفس إحساسا شديدا، لا ما كان لغزا منطقيا، أو خيالا من خيالات معاقري الحشيش، فالمعاني الشعرية هي خواطر المرء وآراؤه، وتجاربه وأحوال نفسه، وعبارات عواطفه. وليست المعاني الشعرية - كما يتوهم بعض الناس - التشبيهات والخيالات الفاسدة والمغالطات السقيمة، مما يتطلبه أصحاب الذوق القبيح. فإذا لم يجد هؤلاء في الشعر مغالاة سخيفة، أو مغالطة معنوية، أو ألعوبة منطقية، أو تشبيها بينه وبين الخيال مثل ما بين لعب الأطفال بالألوان. ويبن رسم تسشيانو ومهارته في استخدام الألوان. أقول: إذا لم يجدوا ذلك في الشعر قالوا: إنه ليس فيه معنى، فإذا سمعت هؤلاء يصفون قصيدة بأنها ملأى، حسبت أن قائلها ذو ذهن خصب، وعقل راجح كبير، ونفس عظيمة. وأنه جعلها ذخيرة الحقائق، والآراء السامية الشريفة. ولكن الأمر ليس كذلك، إذ إنهم يعنون أنها مملوءة بالخيالات والمغالطات المضطربة، وأن خيال صاحبها بهلوان شعري، أو مشعوذ يغرك بحركاته. فينبغي أن نميز، في معاني الشعر وصوره بين نوعين: نسمي أحدهما التخيل والآخر التوهم. فالتخيل هو أن يظهر الشاعر الصلات التي بين الأشياء والحقائق . ويشترط في هذا النوع أن يعبر عن حق. والتوهم أن يتوهم الشاعر بين شيئين صلة ليس لها وجود، وهذا النوع الثاني يغرى به الشعراء الصغار، ولم يسلم منه الشعراء الكبار، ومثله قول أبي العلاء المعري:
واهجم على جنح الدجى ولو انه
أسد يصول من الهلال بمخلب
فالصلة التي بين المشبه والمشبه به، صلة توهم، ليس لها وجود. وكذلك قول أبي العلاء في سهيل النجوم:
ضرجته دما سيوف الأعادي
فبكت رحمة له الشعريان
أي أعاد، وأي سيوف؟ في مثل هذا البيت ترى الفرق واضحا بين التخيل والتوهم. أما أمثلة الخيال الصحيح فهو أن يقول قائل: إن ضياء الأمل يظهر في ظلمة الشقاء، كما يقول البحتري:
كالكوكب الدري أخلص ضوءه
حلك الدجى حتى تألق وانجلى
فهذا تفسير لحقيقة وإيضاح لها. وكذلك قول الشريف:
ما للزمان رمى قومي فزعزعهم
تطاير القعب لما صكه الحجر
فهو يشبه تفرق قومه بتطاير أجزاء الإناء المكسور. وهذا أيضا توضيح لصورة حقيقة من الحقائق، وهي تفرق قومه.
فتكلف الخيال أن تجيء به كأنه السراب الخادع، فهو صادق إذا نظرت إليه من بعيد، وهو كاذب إذا نظرت إليه من قريب. وبينه وبين الخيال الصحيح، مثل ما بين الماس الصناعي وماس كمبرلي. وقد يكون سبب هذا الخيال الكاذب، التأليف بين شيئين لا يصح التأليف بينهما. ثم إن بعد وجه التأليف وخفاء الصلة ليس بمعيب إذا كان وجه الشبه بين الشيئين صحيحا صادقا، وكانت الصلة التي بينهما متينة. فليس ظهور الصلة لكل قارئ دليلا على متانتها. فقد تكون ظاهرة ضعيفة، وقد تكون خفية سليمة صادقة. فليس كل ما يخطر على أذهان العامة من الخيالات صادقا صحيحا. وهذا سبب من أسباب اشتباه العظيم من الشعراء بالضئيل. وعجز الناس عن التمييز بينهما. فإن العبقري قد يغرى باستخراج الصلات المتينة الصادقة بين الأشياء. فتقصر أذهان العامة عن إدراكها. وهذا ليس مذهب الناظم الوزان الذي يولع بأن يوجد صلات سقيمة بين حقائق ليس بينهما صلة. ولكن الشاعر الضئيل يشبه الشاعر الكبير من حيث إن الشاعر الضئيل يعرف أنه ضئيل بحسناته، كما يعرف أنه ضئيل بسيئاته. وكذلك الشاعر العبقري يعرف أنه عبقري بحسناته، كما يعرف أنه عبقري بسيئاته؛ لأن سيئاته سببها أنه واسع النفس، حر الذهن، غير مقيد بقيود المحاكاة في فن الشعر.
إن القراء من الجمهور إذا قرءوا قصيدة جعلوا يلتقطون منها ما يناسب أذواقهم، ثم ينبذون ما بقي من غير أن يبحثوا عن السبب الذي جعل الشاعر ينظم في قصيدته هذه المعاني، فهم كالمريض الذي فقد شهوة الطعام، يأخذه متكرها. فهم لا يغتفرون للشاعر أن يكون أوسع منهم روحا، وأسلم ذوقا، وأكبر عقلا. ويريدون منه أن ينزل إلى مستوى عقولهم ونفوسهم وأذواقهم. ويحكمون على قصيدته بأبيات منها تستهوي أنفسهم إما بحق وإما بباطل، لأنهم يعدون كل بيت وحدة تامة. وهذا خطأ؛ فإن قيمة البيت في الصلة التي بين معناه وبين موضوع القصيدة؛ لأن البيت جزء مكمل، ولا يصح أن يكون البيت شاذا خارجا عن مكانه من القصيدة، بعيدا عن موضوعها. وقد يكون الإحساس بطلاوة البيت وحسن معناه رهينا بتفهم الصلة التي بينه وبين موضوع القصيدة. ومن أجل ذلك لا يصح أن تحكم على البيت بالنظرة الأولى العجلى الطائشة، بل بالنظرة المتأملة الفنية. فينبغي أن ننظر إلى القصيدة من حيث هي شيء فرد كامل، لا من حيث هي أبيات مستقلة؛ فإننا إذا فعلنا ذلك وجدنا أن البيت قد لا يكون مما يستفز القارئ لغرابته، وهو بالرغم من ذلك جليل لازم لتمام معنى القصيدة. ومثل الشاعر الذي لا يعنى بإعطاء وحدة القصيدة حقها، مثل النقاش الذي يجعل نصيب كل أجزاء الصورة التي ينقشها من الضوء نصيبا واحدا.
وكما أنه ينبغي للنقاش أن يميز بين مقادير امتزاج النور والظلام في نقشه، كذلك ينبغي للشاعر أن يميز بين جوانب موضوع القصيدة، وما يستلزمه كل جانب من الخيال والتفكير. وكذلك ينبغي أن يميز بين ما يتطلبه كل موضوع. فإن بعض القراء يقسم الشعر إلى شعر عاطفة وشعر عقل. وهي مغالطة غريبة؛ إذ إن كل موضوع من موضوعات الشعر يستلزم نوعا ومقدارا خاصا من العاطفة والتفكير. فبعض شعر الشاعر تكون العاطفة فيه أوضح وألزم؛ وفي بعضه تكون أقل وضوحا. ولا ريب في ذلك؛ إذ إن الغزل مثلا يستلزم نوعا خاصا من العاطفة غير العاطفة التي تبعث على خواطر الحكم والوعظ.
والأدباء في مصر يخلطون في الكلام عن الأساليب خلطا كثيرا؛ فهم يتناسون أن أجل الشعر العربي وأفخمه، وأجزله وأسبره، وأكثره نفعا وتوكيدا لبقاء اللغة، هو الشعر الذي لم تتكلف فيه الغرابة. فإن المعلقات أسلس وأجزل شعر الجاهليين (ما عدا الغزل) وأقله غرابة وتعقيدا. وشعر الشريف أجله وأفخمه ما لم يتكلف فيه الغرابة، إن في شعر الشريف صفتين؛ حسن الديباجة والفخامة، والسلامة في أكثر شعره، وتكلف الغريب في بعضه، فصار الأدباء يخلطون بين الصفتين، ويزعمون أن الغريب من لوازم حسن الديباجة، ولو قرأت شعر الشريف لعلمت كذب ذلك.
وإذا نظرت في شعر الحريري، وجدت أنه مترع بالغريب، ولكنه بالرغم من ذلك، ليس من حسن الشعر. وهذه قصيدة ابن زريق، ليس فيها شيء من الغريب، ولكنها من أجل الشعر وأفخمه. وإذا شئت فقل وأضخمه؛ لأن الضخامة صفة في الأسلوب الملتهب الذي يشبه الصخور الذائبة، التي تسيل من فم البركان. ذلك الأسلوب الذي تؤججه العواطف القوية. وهذا الأبيوردي مغرى بالأساليب الغريبة، ولكن شعره ليس عليه طلاوة، وليس فيه مجتنى. فللشاعر أن يستخدم كل أسلوب صحيح، سواء كان غريبا أو معهودا أليفا. وليس له أن يتكلف بعض الأساليب. ولا أنكر أن الشعر من قواميس اللغة، ولكن له وظيفة كبيرة غير وظيفة القواميس. وعاطفة الغريب، الذائعة بين فئة خاصة منا هي رد فعل سببه ولوع شعراء القرنين الماضيين بالركيك من العبارات والأساليب. وقد وجدت بعض الأدباء يقسم الكلمات إلى شريفة ووضيعة. ويحسب أن كل كلمة كثر استعمالها صارت وضيعة. وكل كلمة قل استعمالها صارت شريفة! وهذا يؤدي إلى ضيق الذوق، وفوضى الآراء في الأدب. قرأ أحد الأدباء قول الشريف:
إن غدا مجدوعة أشرافه
فالبنى وافية والمجد عالي
فقال: المجد عالي، عبارة وضيعة من عبارات الفقهاء كثير استعمالها. ولو أردنا أن نحذف من شعر الشاعر، سواء كان الشريف الرضي أو امرأ القيس، العبارات الكثيرة الاستعمال، لحذفنا أكثر شعره!
إذن فامتهان الكلمة أو العبارة لكثرة استعمالها رأي غير رجيح. فإنا نجد أجل الشعر كانت عباراته كثيرا استعمالها. أفتريد أن نحذف ونمتهن كل ما كان من نوع قول المتنبي:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن
أو قول أبي نواس:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في ثياب صديق
أو قول أبي العلاء:
خفف الوطأ ما أظن أديم ال
أرض إلا من هذه الأجساد
أو قول ابن زريق:
لا تعذليه فإن العذل يولعه
إلى آخر القصيدة ...
أو غزل جميل، وكثير، وابن الدمينة، وغيرهم ...
هل يرى القارئ في أسلوب ما ذكرنا شيئا غريبا؟ كلا، ولكنه بالرغم من ذلك أجل وأفخم وأروع الأساليب. فإذن قولهم الروعة في الغريب هراء المتكلفين الوزانين، الذين يسرقون معانيهم. وجعلهم حسن الديباجة في الغريب مغالطة تكذبها كل دواوين أشعار العرب. فإن الشاعر الكبير يأتي بالأسلوب رائعا جليلا من غير تكلف للغريب. أما المبتدئ فهو الذي يتكلف الغريب، كى يخفي به ركاكة عبارته. وكذلك الوزان يتكلف الغريب، كي يخفي به جمود طبعه وقلة معانيه. وقد سمع أحد الأدباء قول مصطفى المنفلوطي في وصف العامل: «كأنه الآلة في المعمل.» وهذا وصف بديع لبؤس الصانع. فقال: الآلة من الكلمات الوضيعة؛ لأنها تبعث الذكر الوضيعة! ولو أخذنا برأي أمثال هذا لقضينا العمر في مجادلات لفظية ليس تحتها طائل، فإن الغرابة لا تستعصي على أحد. وإنما الصعوبة في الجمع بين المتانة والسهولة. وليس لشاعر بد من استعمال الكلمات المستعملة؛ إذ إن ثلاثة أرباع اللغة من هذا القبيل.
وقد تكون العبارة الملأى بالكلمات الغريبة أخس أسلوبا وديباجة، وأقل متانة من العبارة السهلة، التي ليس بها غير المألوف من الكلمات. فينبغي للشاعر المتبدئ أن يتطلب المتانة، وأن لا يخلط بينها وبين الغرابة؛ كي لا تضله الغرابة عن المتانة فيقنع بها. انظر مثلا إلى قول المتنبي :
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا
فلما دهتني لم تزدني بها علما
هذا أسلوب فخم جزل، رائع متين. ولكن ليس به غريب. ومن عجيب أدبائنا أن بعضهم إذا قرأت شعره لا تجد فيه شيئا غريبا، ولكنه يأتي أحيانا في بعض شعره بكلمات قليلة غريبة بعض الغرابة كي تجيز له ادعاء الغرابة. كأن الغرابة تستعصي على أقل الناس ذهنا واطلاعا! فإن الجزالة والمتانة تتطلب من الاطلاع أكثر مما يتطلبه استعمال الغريب؛ لأن المتانة تستلزم درس آداب كل العصور التي مرت على اللغة العربية حتى يكون ذوق الشاعر واسعا صحيحا. ولو فرضنا أن في الكلمات؛ الوضيعة والشريفة، لكان للكلمة الوضيعة منزلتها من الشعر مثل الكلمة الشريفة. وإنما العيب في استعمال الكلمات في غير مواضعها. فينبغي للشاعر أن يتعرف أية كلماته تعبر عن المعنى أو العاطفة التي يريد وصفها أتم تعبير. فالكلمة قد تكون شريفة أو وضيعة حسب الاستعمال. فشرف الكلمة في دلالتها على المعنى، وفي وقوعها موقعها الخاص بها من الشعر، لا في غرابتها. فلو كانت الكلمات وضيعة تلوكها الألسن فيزري بها ذلك، لأزرى باللغة العربية أن لاكتها الألسن هذه العصور الطويلة. فضعة الكلمة إذا هي غطت على المعنى والعاطفة وزادتهما غموضا، وأفسدت نغمة الشعر وروحه وخفة طبعه، وموهت غثاثة المعنى والعاطفة، وأخفت ضعف الشاعر وعجزه.
والذي يجني على بعض شعرائنا تعصبهم لشاعر دون شاعر أو لعصر دون عصر. في حين ينبغي تطلب صحة الذوق التي أساسها سعة الاطلاع. فإن الشاعر ينبغي أن يتمزز الأساليب كما يتمزز الخمر المعتقة، ويترشفها كما يترشف الكئوس، ولكنه يلتذ منها جمالها لا غربتها. فإن الأساليب الصحيحة مهما تبينت في غرابتها وسهولتها، من قماش واحد وذات لون واحد، هذه حقيقة يعرفها الطبع، وإن كان ينكرها التصنع.
والاطلاع شراب روح الشاعر. وفيه ما يوقظ ملكاته ويحركها، ويلقح ذهنه، ونفس الشاعر ينبوع، والاطلاع هو الآلة التي يرفع بها ماء ذلك الينبوع إلى الأماكن العالية. والشاعر في حاجة إلى محركات وبواعث. والاطلاع فيه كثير من هذه المحركات والبواعث. والأديب الذي لا يغرم بالاطلاع كالماء الأجن العطن. الذي لا يحركه محرك. وإنما عمل الشاعر فيما يطلع به عمل النحل في قول أبي العلاء المعري:
والنحل يجني المر من نور الربى
فيصير شهدا في طريق رضابه
فالعالم الماهر يخرج من الجيد جديدا، ولكن العبقري يخرج أيضا من الرديء جيدا، ولكن بعض القراء يقيء على صحيفته ما قد قرأه بدل أن يخرج من أزهار ما قرأ شهدا. وهذا هو الفرق بين العبقري وغيره من الناس. نعم إن المطلع بآداب لغة من اللغات، لا بد أن يجتني بعض ما يقرأ من المعاني والخيالات من غير أن يشعر. وإنك إذا أدمنت قراءة المتنبي مثلا علقت بذهنك بعض معانيه. وأما المعيب فهو أن يأخذ الشاعر المعنى عمدا. أما إثبات العمد فليس من الصعوبة بمكان؛ فمن مظاهر تعمد السرقة دقة النقل والأخذ لا المشابهة والتوليد. فإن المشابهة والتوليد لا تعد سرقة. ومنها تسلسل المعاني كما في الأصل. وكثرة المتشابه وعجز الشاعر عن الابتداع والتوليد.
وشعراء العرب لم يكونوا جهالا بآداب غيرهم وعلومهم وحضارتهم. فليس كل التربية مدرسية. انظر إلى زهير بن أبي سلمى وحكمه، وانظر إلى امرئ القيس وعلاقته بالحضارة البيزنطية، وعدي بن زيد وتفكيره وعلاقته بالحضارة الفارسية. وانظر إلى رواج العلوم في أيام الدولة العباسية، وتأثر أبي العتاهية وابن الرومي والمتنبي والشريف الرضي وأبي العلاء المعري بهذه العلوم. فإن هذا التأثر واضح في أشعارهم كل الوضوح، وإنما فسدت آداب العربية حين ساد الجهل في الممالك العربية في العصور الأخيرة. فإن سنة التقدم تقتضي الاطلاع بما يستحدث في الآداب والعلوم. وكلما كان الشاعر أبعد مرمى وأسمى روحا، كان أغزر اطلاعا؛ فلا يقصر همته على درس شيء قليل من شعر أمة من الأمم. فإن الشاعر يحاول أن يعبر عن العقل البشري والنفس البشرية، وأن يكون خلاصة زمنه. وأن يكون شعره تاريخا للنفوس، ومظهر ما بلغته النفوس في عصره، وما عجبت من شيء عجبي من القوم الذين يريدون أن يجعلوا حدا فاصلا بين آداب الغرب وآداب العرب؛ زاعمين أن هناك خيالا غربيا وخيالا عربيا.
نعم، إن كل لغة لها خصائص وذوق. ولكن بالرغم من ذلك نجد الخيال الجليل والمعنى الرائع المصيب محمودا حيث كان. إذ إنه ليس رهنا بخصائص اللغات؛ وإنما مرجعه العقل البشري والنفس الإنسانية. إنما المغالطات المنطقية والتشبيهات المتوهمة رهينة بخصائص اللغات. وتختلف في كل حسب ذوق الجماهير فيها. وإذا قرأ الشاعر العربي آداب الأمم الأخرى أكسبته قراءتها جدة في معانيه، وفتحت له أبواب التوليد. فإن الشاعر الكبير، كي يعبر عما في نفسه من العبقرية تمام التعبير حتى لا يبقى بعضها مكتوما مجهولا، لا بد أن يجدد ذهنه دائما بالاطلاع. وأن يحرك به نفسه، وأن ينوع من ذلك الاطلاع. فإن شره الإحساس والتفكير هو ميزة العبقري. فإن مذاهب القول التي تستلزمها حياتنا تقتضي درس آداب العناصر الأخرى التي عمرت العالم، وأنشأت لها حضارة وعلوما وفنونا. فإن درسها يوسع عقولنا، ويجدد آمالنا وقوانا، ويهيئ وحي ذكائنا ويعلي خيالنا، ولكن ينبغي أن لا نكون ناقلين، بل ينبغي أن نكون مفكرين باحثين فيها. ومن دلائل هلاك الأمم نظرها دائما إلى حياة أجدادها واحتذاؤهم فيها احتذاء روح لا قوة فيه، ولا ذكاء ولا فطنة. ولقد بدأ الناس يتهمون ذوي الاطلاع بالنقل والأخذ والسرقة. وهذا الاتهام شيء لا غرابة فيه؛ فإن دخول الآراء الجديدة والمذاهب والأغراض والمسالك الشعرية الحديثة، واتخاذ الآداب شكلا غير شكلها المعهود، يدعو إلى الظنة والاتهام.
ولكن مما زاد الطين بلة، أن بعض الأدباء لا يرعى حرمة، ولا يردعه ضميره عن السرقة الفظيعة. وأمثال هذه الأفعال قد بثت في أذهان كثير من القراء أن كل شيء جليل معناه، غريب موضوعه، مسروق لا محالة. وروج هذا الرأي طلاب فوضى الآداب الذين يمرحون في ظلامها مرح الخفافيش في الظلام، وهؤلاء هم الغلمان المغرورون والجهلاء، وأهل الحسد والحقد والكذب، ومغلقو الأذهان، ممن يكره كل جديد ويتهمه، وشعراء المسلك القديم الذين ظهر عجزهم ونقص تعليمهم، وفسدت معانيهم، وجهال القراء الذين يزعمون أنهم من الخاصة. ولكني أعتقد أن الشاعر العبقري الكبير يخرس هؤلاء - حتى ولو بعد موته - بكثرة ما يجيد، ويزيحهم من طريقه كما يزيح الخنفساء بنعله عن قارعة الطريق، وهو يعلم أن عداءهم له سنة طبيعية لا مناص منها، كانت لها مظاهر في كل عصر من عصور الآداب في الأمم كلها. ولكن - بالرغم من ذلك - ينبغي للقراء أن يميزوا ما يقال. فإنه ليس السبيل لمعرفة السارق أن يتهم كل المطلعين من غير حق. فإن هذه الزحمة فرصة السارق. فيزاول مهنته في خفاء وأمان. فالاتهام الذي أساسه سوء الظن والجهل والحسد والسفالة وقلة التبصر والكسل. والذي ينأى بالمتهم عن البحث والتدقيق، يؤدي إلى الفوضى التي هي فرصة ينتهزها اللص. ولو فرضنا أن أحد المتهمين (بالكسر) نظم قصيدة بديعة فاتهم أنه سارقها، بأي شيء كان يحارب المتهم؟ أبادعاء الجهل وقلة الاطلاع؟ إنه قد يكون جاهلا، ولكن الجهل لا يمنع من السرقة، كما أن الاطلاع لا يمنع من الأمانة.
وقد لفتني أديب إلى قصيدة المازني التي عنوانها «الشاعر المحتضر» اليائية التي نشرت في عكاظ، واتضح لنا أنها مأخوذة من قصيدة أدوني للشاعر شلي الإنكليزي. كما لفتني أديب آخر إلى قصيدة المازني التي عنوانها «قبر الشعر»، وهي منقولة عن هيني الشاعر الألماني. ولفتني آخر إلى قصيدة المازني «فتى في سياق الموت»، وهي للشاعر هود الإنكليزي. ولفتني أيضا أديب إلى قصيدة المازني التي عنوانها «الراعي المعبود»، وهي منقولة عن الشاعر لويل الأمريكي. وقصيدة المازني التي عنوانها «الوردة الرسول»، وهي للشاعر ولر الإنكليزي، وأشياء أخرى ليس هذا مكان إظهارها. وقرأت له في مجلة البيان مقالة «تناسخ الأرواح» وهي من أولها إلى آخرها من مجلة السبكتاتور لأدسون الكاتب الإنكليزي. ومن مقالاته في ابن الرومي التي نشرت في البيان، قطع طويلة عن العظماء، وهي مأخوذة من كتاب شكسبير والعظماء تأليف فكتور هيجو. ومن مقالات كارليل الأدبية، وقد ذاعت هذه الأشياء. ولو كنت أعرف أن المازني تعمد أخذها، لقلت إنه خان أصحابه بهذه الأعمال، ولكني لا أصدق تعمد أخذها. ولو أني رأيت عفريتا لما عراني من الحيرة والدهشة قدر ما عراني لرؤية هذه الأشياء! ولا أظن أني أبرأ من دهشتي طول عمري. وفي أقل من ذلك مبرر لمروجي الإشاعات والتهم. ولا أظن أن أحدا يجهل مدحي المازني، وإيثاري إياه، وإهدائي الجزء الثاني من ديواني إليه، وصداقتي له، ولكن كل هذا لا يمنع من إظهار ما أظهرت، ومعاتبته في عمله؛ لأن الشاعر مأخوذ إلى الأبد بكل ما صنع في ماضيه. حتى يداوي ما فعل ويرد كل شيء إلى أصله، وليس الاطلاع قاصرا على رجل دون رجل حتى يأمل المرء ظهور هذه الأشياء. ولسنا في قرية من قرى النمل حتى تخفى!
الصنع والكسب
قد حدثوا عن صانع حاذق
قد فاق كل الناس في صنعه
يرى من الحسن الذي لا يرى
سواه مما جل من بدعه
كأنما ينظر في عالم
يحسر طرف الناس عن علمه
والحسن في الصنعة طير بدا
إن يرمه عن عزمه يصمه
يا راقي الصنع إلى منزل
يرتد لحظ الناس عن سمته
يحار لب المرء في أمره
ويعجز الناعت عن نعته
الناس في السهل يرون الذرى
كما يرون الأفق في بعده
ويحمدون العقل في جزره
ويكرهون العقل في مده
كل امرئ يبغي هوى نفسه
وإن أصاب القبح من نفسه
فاصنع له إن شئت ما يبتغي
تستهو لب المرء في حسه
إن كان هذا الصنع قد صغته
كيما تنال الخير من بيعه
فالصنع واد أنت آجرته
للناس ما يخرج من ريعه
ولا تشك الدهر في فعله
قد حار كل الناس في فعله
ما حيرة المرء دليلا على
فساد هذا الكون في عقله
يا شاكيا من قومه جهلهم
اعذر سواد الناس في جهله
واستنزل الأرزاق من أفقها
كالغيث يحيي الأرض من وبله
فقد يحب الصنع من حسنه
وقد يحب الصنع من كسبه
وقد يراد الحق من نفعه
وقد يراد الحق من حبه
قد عنفته نفسه مرة
لما رأى الفقر على بابه
وعنكبوت من خمول به
قد تعبت في نسج جلبابه
فموه الصنع وجارى الورى
وراح يبغي الصيت في فنه
فازدحم الناس على بابه
وقيل هذا الصنع في حسنه
باللو والليت رموا صنعه
قدما فلجوا الآن في مدحه
لكنه بات على لوعة
يعاف ذاك المدح من قدحه
أثرى فلم ينفعه إثراؤه
وأخلف المأمول من عمره
وعاد يبكي صنعه خائبا
يبكي على ما فات من سره
وكان ذاك الصنع ربا له
هواه دين كهوى عرسه
فنال ما قد نال من رزقه
وباع ما قد باع من نفسه
وصار عبد الوفر في خفضه
وكان عبد الصنع في سحره
وخفضت من قدره نفسه
ورفع الجهال من قدره!
نجي النجوم
رأيت عقودا أم رأيت الدراريا
أم الزهر منثورا على الأفق زاهيا
كأني في بحر من الليل غارق
طفت فوقه زهر النجوم لآليا
وإني إذا ما طار بالنفس طيرها
وحلق في أفق السماء خياليا
أبيت فلا أدري أتلك أزاهر
مفتحة أم قد رأيت الدراريا
ويبعثن نحوي باللحاظ كأنما
يردن ليعرفن الذي في فؤاديا
فغضي عيون الليل لحظا بعثته
فإن بريق اللحظ أصمى جنانيا
أذاك بريق اللحظ لحظ رأى الأذى
وعود حتى صار كالصخر قاسيا
ولا عجب أن صار لحظك قاسيا
فقدما رأيت الشر في الناس فاشيا
أم اقتدحت فيك الحوادث رحمة
فعاطى حنانا قد أصبت حنانيا
وقد كنت ندمان الحزين وراحة ال
وحيد فسلي خائب القلب عانيا
وكم كنت هديا للرجاء وللمنى
إذا صار عيش المرء كالليل داجيا
وكم عشقت نفسي النجوم لأنها
إذا أبصرتها العين تحيي الأمانيا
وكم كنت نجوى عاشق وسميره
إذا غاب صب عن حبيب لياليا
وكم لحت لي والدمع في العين حائر
أودع آمالي وأندب حاليا
وقبة رمس في السماء نجومها
نثرن على قبري الزهور الزواهيا
أزاهر آمال مضت لا يعيدها
بكائي وهل يغني لديها بكائيا
فيا من لميت بالحياة معذب
ومن لي بميت طامع في حياتيا
ويا تاج ملك الليل تهنيك نعمة
وإن كان قلبي عاطل العرش خاليا
كأنك فردوس تقضى نعيمه
وخلف أطلالا لديك بواليا
تضيء هموما في الضلوع مقيمة
حنانك خل الهم أسود خافيا
فإني أداري النفس عما تكنه
وأخشى بريقا يترك الهم باديا
أبيت كأن النفس ليل وظلمة
وضوءك يفشي سرها في الدجى ليا
أفيك أناس للشقاء حياتهم
فإن شقاء العيش أصمى حياتيا
لعل حزينا فيك يرثي لشقوتي
وليس شقاء النحس للنحس شافيا
أبيت فلا أدري لعيشي علة
فيا بؤس أيامي وطول ملاليا
أسائل هذا النجم والنجم لا يعي
وماذا يقول النجم لو كان واعيا؟
فيا عين ما لحظ النجوم بنافع
فيا رب ذكرى هن قد هجنها ليا
وما في مرير الذكر أنس ولذة
إذا كان من أهواه أصبح نائيا
أتلك نجوم كن أبصرنه معي
وأبصرن مغبوطا من العيش حاليا
أم استحدثت بعدي السماء دراريا
سوى أنجم زن السنين الخوليا
أم العين غير العين أم أنا حالم
وهيهات ليس النحس حلما بدا ليا
فما لحظها مثل اللحاظ التي مضت
إذ القلب لا يلقى على الحب عاديا
وتلحظني لحظ الغريب جليسه
كأني ما كنت السمير المدانيا
كأني لم أرع النجوم بمقلة
بها كنت أرعى الحسن فينان زاهيا
وقد كان يصبيني الهلال إذا بدا
ويرتاح قلبي أن سهيل رنا ليا
وكم لي من نجوى لديها أسرها
وأنات قلب تترك الليل شاديا
ولم أعرف الأحباب حتى فقدتهم
وأصبحت منبوذا عن الناس ساليا
وما كنت أدري الحب حتى بدت له
ليال وأيام تخال لياليا
وودعت آمالي وودعت عزمتي
ولذات عيشي والحبيب المصافيا
فهل تنضر الأفلاك كالزهر حقبة
وتذبل حتى يصبح الكون ذاويا؟
وهيهات! إن القلب أصبح ذاويا
وأصبح نور الحسن في العين داجيا
سحر اللحاظ
أسرتنا منك بسحر حلال
أم ذاك لحظ نافذ كالنبال؟
أم تلك خمر من عصير النهى
أم ذلك النجم البعيد المنال؟
يا هل لطرفي منك من نظرة
فرب لحظ فيه رجع السؤال
يقول قلب قد رماه الهوى
يا عين ما أقتل هذا النضال
يا عين رفقا بفؤاد عليل
تكسرت فيه صدور النصال
قد عشق الحسن فلم يجده
غير علالات حكاها الخيال
قد لج هذا القلب في خفقه
يا ليته يجهل سحر الجمال
فالحسن في العين طرير غرير
والحب في الأحشاء داء عضال
آه على خيبة قلب طروب
شقاؤه في الحب حال فحال
أتعبتني يا قلب، يا طائرا
يحسب أن الحسن ماء زلال
يا طائرا بين ضلوعي ثوى
يحلم بالغصن وبرد الظلال
هذا جناح منك أدميته
على ضلوع نصبت كالحجال
هيهات أن تفلت من أسرها
يا قلب كم تبغي سراب المحال
وأنت يا عين عداك الكرى
شوقا إلى طلعة ذاك الجمال
يا حسرة ما مثلها حسرة
نهوى عيونا لحظها كالنصال
يا عين من أهوى رعاك الكرى
فليلتي منك ليال طوال
يا نجمة الآمال قد أشرقت
أبصرها في الحلم مثل الذبال
عودي بلحظ صادق ضوءه
يجلو دجى العيش وليل الخبال
يا طاقة أبصر منها النعيم
في جنة الخلد وريف الظلال
كأنها باب إلى جنة
ليس بها من شقوة أو ملال
عودي بلحظ أحتسي خمره
فالكوثر العذب شهي المنال
ولا يكن برقك لي خلبا
أهكذا حظي آل فآل!
مهما تناءت بك عنا الديار
وطال من ذاك العشير احتمال
فأنت أدنى من نجي الرجاء
وأنت أحلى من كئوس الثمال
فإن في ذكراك برء العليل
ورب ذكرى مثل شوك السلال
في لحظ عينيك عقال الهوى
نفوسنا في أسر ذاك العقال
تطل في العين معاني النفوس.
والنفس أسمى ما يحب الرجال
قوة الفكر
أسري من العقل إلى القلوب
أكاد أن أعرف في الوجيب
أبت فيها الهمم الصليبه
وأنزع العزيمة المغلوبه
كالكهرباء فعلها يبين
يخبر أين سرها المصون
لكنها عن العيون خافيه
ساكنة طورا وطورا عاديه
ألوي برب الفكر عن ذويه
وأذهل العازم عن أخيه
طورا وطورا راحة وسلما
أجبر عظما وأهيض عظما
وأرخص العزيز والكبيرا
حتى يصير هينا حقيرا
أليح بالمطامع البعيده
وأهلك الجحافل العديده
ورب غر كان عبد عمره
زودته من خيره وشره
كان صغيرا فغدا عظيما
كان يرى عيش النهى أليما
رفعته عن لذة وألم
فصار نارا أضرمت في علم
مشهرا بين الأنام معلما
مبغضا طورا وطورا مكرما
حملته مئونة العظائم
حتى استبان صابر ونادم
الكون بردي والزمان داري
أكتب فيها سير الدراري
والكون كالنشوان من كئوسي
ألا ترى تطرب النفوس؟
آمالها من طرب الخمار
فلذة الحياة من عقاري
كم حقبة قد اختمرت فيها
وكان كأسي قبلها كريها
أقوى على الأيام والدهور
كما صفت عتيقة الخمور
والناس قد غرهم خمودي
وهم على غرتهم وقودي
نبهتهم للحادث العظيم
كما تشب النار في الهشيم
فأشعل النيران واللهيبا
وأشغل الأحمق واللبيبا
طويت جيلا ونشرت جيلا
وكم بعثت فيهم رسولا
وكم رماني الجور في الأخدود
وقيدوني فوهت قيودي
واستبشروا بمقتلي وهلكي
وبينهم لو يفطنون ملكي
وأوسعوا من نالني عذابا
وقطعوا من لحمه عقابا
فصار لي في قتله انتشار
يقام لي من قبره منار
وصار لي من دمه مداد
يخط في الدهر به السداد
الفكر عدوى ما لها من راقي
وليس منها حافظ وواقي
يذر ذر البذر في الرياح
فيسعد النفوس باللقاح
سأغمر الأنام من مياهي
فلا ترع أن صلت بالدواهي
إن الخطوب سنة التجدد
فلا ترع من سهمها المسدد
وأول الفكر الكبير خطب
ثم يظل خيره يرب
وهو كطفل قد بدا ضعيفا
ثم اغتدى مجالدا عنيفا
يوسع من جالده عنادا
مضرما من عزمه جهادا
يا برما بالفكر يبغى خنقه
أأنت تدري سره وخلقه؟
الفكر نور الله في الوجود
فعمره كخلده المديد
يلبس بردا ثم ينضو بردا
إن لكل زي منه حدا
فهو كثير اللون كالحرباء
وهو كثير اللون كالضياء
إن حققوا بالفعل منه جانبا
أجد من أعماقه مطالبا
فكن كسيف في يديه ماض
فهو علينا حاكم وقاض!
الذكر
قد يفعل الذكر بالنفوس
ما تفعل الخمر بالرءوس
يعيد لي الذكر ما تقضى
من الهوى مترع الكئوس
فيقدح الشوق في فؤادي
كالنار في عودها اليبيس
فإن ذكراك في فؤادي
كالنار في معبد المجوس
راحة عيشي ونوم عيني
خصا لقربانها النفيس
والحسن كالنار في ضياء
والحب من جمره القبيس
فالذكر رمز إلى حبيب
والنار رمز إلى الشموس
أصغي إلى الذكر في فؤادي
وأحسب الذكر كالهسيس
كأنما شدوه خرير
أو نعمة المطرب الأنيس
كأنما شدوه أتي
قد غمر اليأس بالطموس
كأنه الريح حين هبت
بالروضة الغضة الميوس
والذكر كالريح في شذاها
وعطره نشوة النفوس
كم قرب الصب من حبيب
حتى يرى داني الحسيس
فينشق العطر من حبيب
يكاد ينقاد للموس
حتى كأن لم يكن بعيدا
ولم يكن طعمة الرموس
كأنه ساحر قدير
يدوف من نعمة وبوس
يليح للعين ما تقضى
كأنه خط في الطروس
يمزق الستر عن خفي
ويصدع القيد عن حبيس
ويرجع الدهر عن فريس
والناس للدهر كالفريس!
المجرم
يرى الناس أن النوم أم رحيمة
ولكن نوم الجارمين عقاب
يسل علي الحلم أسياف نقمة
فأحلام نومي كالجحيم عذاب
وكم هد من عزم صليب عذابها
وشيب وراد الذنوب فشابوا
فيا بلسم الأحزان أصبحت عونها
علي فبطل ما وعدت كذاب
أما يهرب المسكين فيك من الأذى
فيسكره مما تدوف شراب
شراب من النسيان يحلو لذائق
له من وميض النيرات حباب
يبيت فلا وقع الصروف بكارث
ولا تزدهيه عزمة وطلاب
وما العيش إلا نومة راع حلمها
ووقع سؤال ما عليه جواب
وغيرني عما عهدت جرائري
فليس إلى الحال القديم إياب
فلا تحسبن الشر يمحى بتوبة
وإن غفر الجرم العظيم متاب
كذلك فعل الطب يشفي دواؤه
فيحمد من مرأى السقام ذهاب
ولكن بعض الضعف في المرء كامن
وإن حسنت حال وراق إهاب
وروع عني الوزر كل محبب
فقد بان أحباب وفات شباب
وقد غاب بشر الناس عني وأنسهم
كأني على ضوء النهار سحاب
ألوح فيبدو الخوف في وجه مبصري
كأني سيف والرقاب قراب
أو ان دماء الهالكين جعلتها
على راحتي مما سفكت خضاب
ويسكت عني الناس سكتة مبغض
فما لي لديهم إن دعوت جواب
ولا أنس إلا أن يكون مخافه
على أنهم مما يخاف غضاب
فبيني وبين الخوف ود وألفة
وبيني وبين العالمين حجاب
ويلحظني المغرور لحظة جاهل
يسر بما أرمى به وأعاب
رجوت من الإجرام نفعا وإنما
هواه من الفعل الحميد ثواب
ولو لم يجد في الخير نفعا لعافه
وأصبح يخشى شره ويهاب
وإن رواء الطهر حيلة ماكر
يصيب بها من عيشه ويثاب
وإن يلق ما لاقيت أصبح خيره
ضئيلا وقال القائلون وعابوا
يواقع كل الناس بالفكر شرهم
وقد عابني أني جرؤت وهابوا
وكم حدثت بالشر ذا الخير نفسه
وذاك حديث ما عليه عقاب
ولكنه في النفس إثر يشوبها
وكل ضمير بالمعيب يشاب
ظمئنا فخلنا الشر في العيش منهلا
ولكن ورد الجارمين سراب
ليلة الحسن
أحيا اللواعج ماض من أمانينا
فعاود القلب عهدا كان مدفونا
وكان عهد الهوى يا حسن يضحكنا
فصار عهد الهوى يا حسن يبكينا
ما لي وللحسن لا أمري بمقتبل
ولست بالعيش واللذات مفتونا
ما العيش إلا ليال في الهوى سلفت
واها لها حسنات لا تؤاتينا
في ذكرها نفحات الحب عاطرة
تهفو علينا فتصبينا وتحيينا
إن تنس لا أنس ليلات لنا سلفت
إذ أنت حلم لذيذ في ليالينا
يا من رأى حلما بالحسن مرتديا
نسعى إليه ويسعى في مساعينا
يرنو إلينا فلا وهم ولا خدع
وإن يمس فلا تخطيه أيدينا
حسن تأنق فيه خالق لبق
راض الفنون فلبته أفانينا
كأنه صاغكم كيما يحبكم
يا فتنة الحسن قد جار الهوى فينا
كأنه صاغكم من عسجد بهج
ومرمر ناصع باللون يسبينا
فجاء حسنك ري النفس ما ظمئت
فالعيش يظمئنا والحسن يروينا
هل صاغ من ورق الأزهار حسنكم
فكنت في جنة وردا ونسرينا
أم من قطوف جنى الفردوس صاغكم
إن القطوف إلى الفردوس تشهينا
نرى الثمار كأن الشهد في فمنا
وأن رؤيتكم كالشهد تشفينا
وفيك فاكهة الأبصار يانعة
يكاد يأكلها لحظ المحبينا
هل أنت من فلتات الخلق معجزة
تعيي ذوي الفن خير الحسن يعيينا
يا صورة صاغها ذو الصنع متئدا
ودمية بث فيها الحسن واللينا
وبث فيها معاني الخلد أجمعها
فصار حسنك بالأرواح مقرونا
تسمو إليك نفوس الناس كلهم
حتى يبيت تقي النفس مفتونا
ففيك من كل نفس خير ما ضمنت
أنت الحبيب إلى كل المحبينا
تدعو النفوس فتأتي غير كارهة
فأنت كعبة أرواح الملبينا
يا حسن كيف سرت بي نشوة لعبت
بالقلب مني قد داويتها حينا
في بعض سكر الهوى عن بعضه عوض
كالخمر تصرعنا حينا وتحيينا
يا حسن من لي بسحر مثل سحركم
سحر العيون الذي قد بات يبلينا
يا حسن من لي بسحر أتقيك به
فالحسن يسحرنا والسحر يرقينا
يا حسن هل أنت ناس ليلة سلفت
طاف الغرام بها يا حسن يسقينا
خمر الغرام وخمر الحسن تسكرنا
وخمرة الكرم تروينا وتصبينا
كأننا نغمة في الليل سارية
تهفو ولليل أذن فيه تبغينا
كأننا نغمة بالنفس آخذة
فإنما الحب ضرب من تغنينا
ورق فيه أديم البدر مؤتلقا
حتى كأن سناه من تصافينا
قد بات يلحظنا ريبا ونلحظه
حتى كأن ضياء البدر واشينا
وبت ألحظكم طورا وألحظه
وفوق وجهك ضوء الحسن يشجينا
أبديت أحسن منه صفحة وسنا
فغار حتى لكاد البدر يأتينا
وصار يصقل وجها منه ذا كلف
وفتر اللحظ، لحظ الحسن يسبينا
وصار يغمرنا باللحظ في مهل
فعل الحسان بسهم الحظ تصمينا
هيهات يا بدر إن الحسن أجمعه
يسعى لدينا فنبغيه ويبغينا
يا حسن لا تحسبن البدر يشغلنا
يا حسن لولاك ما ابيضت ليالينا
لم أنس قولي له يوما أمازحه
كيما أضاحك ثغرا منه يلهينا
مذ ألف جيل مضت قد كنت أعرفكم
ولم أدن غير حبي حسنكم دينا
لا تخف عنا الذي ندري فإن لكم
سيما تعز وأوصافا أفانينا
فأنت أنت إله الحسن كم سجدت
لك النفوس ولباك المحبونا
جاذبته كفه كي لا يفارقني
فمنهل العيش حلو في تدانينا
وقوله لي في دل ومعتبة
أظمأتنا من قريض منك يروينا
فصف لنا ليلنا شعرا تقل عجبا
فإنما الشعر إلهام يناجينا
هذا قليل مقال أنت باعثه
إن شئت زدتك منه لو تؤاتينا!
البطل المنتظر
عليم بأسرار القلوب خبير
تناجيه منا أنفس وضمير
فيحكمها حكم المطرب عوده
أمين على وحي النفوس أمير
وقد كان سرا في الطبيعة كامنا
فقد حان من ذاك الكمين ظهور
وهل مخبر عن نابغ كيف خلقه
فذلك سر في الوجود ستير
تمر دهور والحياة كآجن
أمر وقدما كان وهو طهور
إلى أن يحل الغيث حبوة مائه
فيترع منه جدول وغدير
كذلك حال الناس فالناس آجن
مرير، وماء النابغين نمير
وبارقة تجلو الظلام وصاعق
يشب لهيبا، والأنام قشور
فيضطرم القلب الذي كان خامدا
ويصبح روض النفس وهو نضير
لذاك يرجى بينهم كل حقبة
بشير لمن يبغي العلى ونذير
ليصبح عزم الناس وهنا بعزمه
فيحمد منهم آسر وأسير
وقد كان مزج النفس بالنفس باعثا
يجد بها نحو العلى ويسير
كأن نفوس الناس طير تشردت
وللطير من نفس العظيم وكور
فيا ساكنا في الغيب هل أنت مسعد
أما آن من خلف الغيوب سفور؟
فإن نفوس الناس قد مات جدها
وليس لها إلا لديك نشور!
وصارت حياة القوم مزحة عابث
وقولك طب للنفوس قدير!
خميلة الحب
تمهل رعاك الله أقض لبانتي
وأتل على تلك الرياض تحيتي
فإني تعلمت الهوى في ظلالها
وفيها رأيت الحسن أول رؤية
تمهل خليلي في رباها فعندها
نظرت فلم أملك على الحب نظرتي
نظرت إلى زهرين، زهر نباتها
وزهرة حسن ناضر أي زهرة
هنا قد عرفت العيش جما ضياؤه
وقد كان قدما في سواد الدجنة
هنا نالني سحر الهوى في نسيمها
هنا كان بدء الحب قدما ونشوتي
هنا مهد آمالي، هنا حلم يقظتي
هنا سكرت نفسي غراما وجنت
هنا قد جرعت الحب حتى كأنني
جرعت به من خمرة أي خمرة
هنا زاد هذا القلب خفقا كأنه
جناح قطاة في الضلوع أجنت
وكم لي فيها من أمان لذيذة
وكم لي فيها من لقاء ونظرة
وناجيت فيها كل غصن لعله
رأى خطرة من شبهة أي خطرة
وساءلت فيها الطير هل مر صنوه
فغنى مغني الطير في كل أيكة
وناجيت فيها كل شاد وأعجم
وأنت بعيد لست تحنو للقيتي
وهل تنفع النجوى وقلبك صخرة
ألا خابت النجوى لدى كل صخرة
نعم يسمع النجوى الذي طاب روحه
فتعدي على بعد يروع وغيبة
وتدني أليفا من أليف موافق
كأن لم يرع قلبيهما شحط غربة
فيا دعوة بالروض لم تلق سامعا
ويا دعوة بالليل، يا طول دعوتي!
إلام يحب القلب من لا يحبه
وحتى متى يحنو على غير منصت؟
لعلك يوما بعد شحط من الصبا
وبعد مضي من جمال ونضرة
ترى في قريضي ما مضى من نضارة
لوجهك إن الحسن يجلى بذكرة
فإن قريضي جنة الخلد حسنه
وحسنك فيه خالد غير مفلت
فلا تنس حبي عندها ولواعجي
وهل نافعي حبي هناك ولوعتي؟
أيرضيك شعري فيك أنك وحيه
وأنك سحري يا حبيب ورقيتي؟
فمرني أن أهواك أزدد محبة
وإن كنت قد أحببت كل محبة
فإن نعيما أن أبثك لوعتي
فتضحك جذلانا ببثي وعبرتي
وإن نعيما أن تراني باكيا
فتمسح أجفاني وتوقف دمعتي
فيا ليت شعري هل يروقك أنني
أحبك أم تقري الهوى كل بغضة
فإن تكن الأخرى فإني مهلك
من اجلك حبي يا حبيب ومهجتي
فإن هلاك الحب حب لكاره
فإن تمقت النفس المشوقة أمقت
فيا ليت لي من صخر قلبك آلة
فأتلو عليها نغمة أي نغمة
يئن أنين العود من شجو ضارب
فيسعد قلبي في حنين وأنة
فيا صبوة القلب العفيف وهمه
أعيذك من صد يروع وجفوة
بك العيش حلو والحياة شهية
فأقطف من أثمار عيش جنية
وأنهل فيه من رحيق وسلسل
وأبصر فيه جنة أي جنة
وأنت جنان أنبت الحسن زهرها
وأنهلها من كوثر فتروت
وأنت ربيع ليس يخشى انقضاؤه
فأين ربيع القلب، يا طول حسرتى؟!
علالة العيش
أيا طالبا من عيشه ما يوده
أحق وملك يبتغى ويرام
سفاه سؤال المرء لو قدرت له
خطوب فما يجدي لديه ملام
ولو شاءت الأقدار لم يشك خطبها
ولكن أطماع النفوس قوام
وهل يحمد الأقدار من كل عيشه
أماني تدعو للكمال عظام؟
فلا تحزنن من ضجة العيش، إنها
سيخرسها مما يتاح حمام
لعلك بعد الموت تبغي ضجيجها
وهيهات لا يصبي الرميم مرام
ستسكن بعد الموت حتى تمله
وليس بمن تطوي المنون سآم
وإن ضياء العيش يزهو رواؤه
لأن حاطه بين الأنام ظلام
ظلام من الأحداث والخطب والردى
يبيت ضياء العيش فيه يشام
وما العيش إلا خمرة أنا شارب
فهل رائعي أن الخطوب أمام
وهل يفرق النشوان من صرف دهره
ويشقيه من وقع الخطوب لمام
وما لي لا أرضى وفي الخوف لذة
وليس لأدواء الكلوم دوام
مغالبة الأخطار سكر ولذة
وإن شب منها في الضلوع ضرام
وقد لا يزيل الهم إلا تعتب
فلا تنك من ذاقوا الصروف فلاموا
وإن صروف الدهر تأسو جراحها
وتظمي فيروى بالأوام أوام
ومن رحمة الأقدار كر خطوبها
ومن عادة ضيم فليس يضام
فسر في غمار العيش تعتد خطوبه
ويسهل بميدان الحياة مقام
ولا تحسبن الحزن تبقى قروحه
فليس لحزن ما بقيت دوام
كأن وجيع الحزن حلم إذا مضى
وذكرى دموع البائسين غمام
وإن شقيت بالعيش نفس كليلة
فللرمد من لون المنون جمام
ولولا الأذى ما ذقت في العيش لذة
فكل نقيض بالنقيض يشام
ولا شر إلا فيه للخير مألف
كما تألف الماء الطهور مدام
لقد وسعتنا الحادثات إراحة
لأن قادنا مما تريد زمام
فمن ضل في خرق من العيش لبه
هداه زمام جاذب وخطام
وهون وقع الخطب أنا ذرائع ال
قضاء فلا صون لديه يرام
لص أم أديب
أتسرق من شعري وتقدح في شعري
كذاك لصوص الشعر في مسلك وعر؟
كمن يسرق الدهماء من تحت راكب
وراكبها من خفة اللص لا يدري
وإنك كالمزمار أخرس أبكم
إذا لم تهيئه النوافخ للزمر
وإنك كالمزمار ما لك منطق
إذا لم تهيئك الأصابع بالنقر
فلا تحسبن الصبر في استكانة
فرب وعيد في التواضع والصبر
خلقتك من لا شيء لو شئت لم تكن
ولو شئت لم تحمد على السر والجهر
ورمت غرورا كنت فيك نفثته
فمن منصفي يا قوم من ورم غر؟
وهل يصلح الإنسان لوم يصيبه
إذا كان مطبوعا على اللؤم والغدر
يظن غبي جهله في سبة
إذا ما غباء فيه قصر عن شعري!
تزاوج النفوس
إن النفوس لأسرار مخبأة
فكل روح عن الأدنين مستتر
وكل روح على الأيام منفرد
إن النفوس لدى أسرارها جزر
إن كان روحك لغزا أنت باحثه
فكيف تعرف نفسا دأبها الحذر
مجاهل النفس هل من كاشف فطن
لقد بعدت فلا ركب ولا سفر
مجاهل النفس هل من باحث يقظ
طال التساؤل لا راو ولا خبر
والحب تكشف بعض النفس هبته
وأكثر النفس كنز صانه المدر
كأنما النفس تبدو خلف كلته
سحابة الصيف فيها البدر يستتر
للنفس بالنفس تلقيح يطيبها
كما يلقح في بستانه الشجر
وفي النفوس دروع للنفوس فلا
ترقى إلى كيدها الأقدار والغير
أهوت إلى النفس نفس تبتغي سكنا
حتى تطاير من حبيهما الشرر
يولد الحب نفسا غير ما ضمنا
فالوامقون بما قد عالجوا كثروا
وكل قلب يعيش الدهر منفردا
كالبيد والبيد لا ماء ولا شجر
والحب كالنار زان النفس صيقله
والحب كالنار لا يبقي ولا يذر
كم خائف جاءه من حيث يدفعه
خوفا وكم حاذر لم يجده الحذر
الخلد في وحشة كالموت نجنبه
فكل روح إلى الأرواح مفتقر
لا يبتغى الخلد إلا والهوى سكن
فالخلد لولا الهوى الزقوم والصبر
ويبتغي المرء وردا في الهوى أبدا
وقلبه جاهل لم يدر ما الصدر
والنفس للنفس زوج طاب عرسهما
ومهرها الحب لا يغلو لها المهر
من لي بنفس أرى نفسي بها مزجت
كما تمازج في وديانها الغدر
والنفس في عيشها شتى منافذها
منها القلوب ومنها السمع والبصر
والحب في الناس ذنب لا اغتفار له
لكنه في صميم النفس مغتفر
يثير في النفس ما قد كان ذا سنة
تبدو اللآلي ويبدو ماؤها العكر
والحب كالنهر يغري الروح رونقه
روح المحب به عريان منحسر
والنفس كالركب في الصحراء سيرتها
تمضي الشجون ويبقى بعدها الأثر
هذي العظام على الصحراء قد نخرت
والحب آثاره الآمال والذكر
ورب نفسين مثل اللجتين إذا
تهاوتا نحو شط اليم يبتدر
أو مثل قطر الحيا قد ضم شملهما
ود كما ضم قطر المزنة الزهر
تسربت أنفس في أنفس فمضت
آمالها أمل أوطارها وطر
ورب نفسين حال الدهر بينهما
كما يدين لصدع اللجة الحجر
كصخرة هد منها اليم فانشطرت
شطرين والنفس دون النفس تنشطر
وإن أوجع ما تمنى النفوس به
صدع الزمان وسوء الظن والضجر
وللنفوس مطاف بالنفوس كما
تدور حول النجوم الأنجم الزهر
والدهر للنفس بحر زاخر أبدا
بحر النفوس ومنها العشب والدرر
فما تآلف منها فهو منتظم
وما تناكر منها فهو منتشر
عيش الأدباء
أخشى عليك مصارع الأدباء
فالنحس رهن معيشة الأدباء
لا بل وقيت من الصروف وغدرها
ونعمت في حرز من الأرزاء
فالشعر ينفث في ذويه سمومه
ويسعر النيران في الأحشاء
لا تنحتن من الفؤاد قصيده
فالشعر يأكل جدة الأحياء
واجعل لنفسك ساعة من لهوه
وارفق بنفسك إنه كالداء
والصيت وهم في الحياة مخادع
مثل التماع الآل في الصحراء
هيهات ما هجر القريض مطاوعا
إلا امرؤ ما كان في الشعراء
يتهافتون على المحاسن كلها
والنحل لص الروضة الغناء
ذهب الخيال بحزمهم وحلومهم
فحلومهم رهن لدى العلياء
يستخلص الألم الوجيع نضارهم
كالنار تذكي العود بالإصلاء
فإذا خبرتهم وجدت لديهم
شيم الملوك وحالة الفقراء
لفتت دراري النجوم عيونهم
فتعثروا بمعاول الغبراء
فتنوا بلذات الحياة فعيشهم
مهد الردى وقرارة الأدواء
يا ويح من حسب الحياة ذخيرة
تنمو على الإسراف والإمضاء
فمخيب محت العقار ذكاءه
من ذا يعين ذكاءه بذكاء
وأخو هوى فتك الغرام بلبه
ورماه حيث تنازع الأهواء
لا عزم يهدي في المسالك خطوه
كالذر دان لعصفة الهوجاء
متواضعون فإن ألمت ذلة
ألفيتهم في منزل الجوزاء
ويرون وحي الشعر فرضا واجبا
فرض يئود وليه بأداء
وكأن فيه غذاءهم وشرابهم
يا ليتهم لم يخلقوا لغذاء
بل ليت في نشق الهواء غذاءهم
وشرابهم من خمرة الأضواء
إن الذي حلى الحياة بشعره
أحرى بحلي محاسن النعماء
عرفوا الحياة نعيمها وشقاءها
فمضوا بكل لذاذة وشقاء
جرعوا الحياة وليس يسأر جارع
منهم فإن ماتوا فموت ظماء
كم مات منهم خامل ذو شقوة
عيش الأديب وموته كالداء
فاحذر مصارعهم ولا يك عيشهم
عدوى تجيء بشقوة وعناء
وإذا استطعت فداو نفسك وانتبذ
خلق الأديب وخلة الأدباء
إلى المجهول
مقدمة
الولوع بالمجهول من أمور الحياة والطبيعة والنفس والكون. والشغف باستطلاعه وكشفه هو الذي أخرج الإنسان من المعيشة في الكهوف، ومن حضارة العصر الحجري من عصور الحضارة، وأزال عنه خوفه من مظاهر الطبيعة؛ فأخذ يبحث تلك المظاهر ... وهو الذي أدى إلى كشف القارات والبحار، وزاد علمه بالسماء، وعلمه ركوب الهواء في الطائرات، حتى طمع في الوصول إلى الأفلاك. وذلك الولوع بالمجهول هو الذي جعله يخترع مخترعات الحضارة التي زادت حياته بهاء ومتعة وراحة ولذة، وجعله يجد لذة حتى في ركوب الأخطار من أجل كشف مغاليق الكون والحياة والطبيعة، ويستشعر اللذة حتى فيما قد يصيبه من الألم أو الهلاك، في أثناء بحثه المجهول من أمور الحياة والكون.
والولوع بالمجهول هو الذي أدى إلى سيطرة الأمم القوية التي تمكنت من كشف المخترعات التي زادتها قوة واستعلاء. وإذا بحثت عما يميز أبناء الدول القوية التي تمتعت بالثروة والسطوة والعلم والحضارة، عن أبناء الأمم المتأخرة التي لا تزال تعيش في الكهوف أو الغابات، أو في المدن، أو الأحياء المتهدمة القديمة الفقيرة، المربوءة بالأسقام والأقذار، المغلوبة على أمرها، لرأيت أن صفة النفس التي ميزت أبناء الشعوب القوية السعيدة المسطيرة على الحياة والناس، هي الصفة التي تجعلهم يجدون لذتهم في كشف مغاليق المجهول من أمور الحياة، والأمة التي تريد أن تعلو وأن تأخذ مكانتها تحت الشمس، ينبغي أن تهيئ لأبنائها نوعا من التربية والتعليم يبث في نفوسهم حب استطلاع المجهول وكشف مغاليقه. أما التعليم الذي لا يبث هذه الصفة في النفوس، فهو تعليم لا يليق إلا بالذين يجدون لذتهم في حياة الخمول من المألوف الذي أصبح كالمخدرات. وكلما كان فقدان صفة حب استطلاع المجهول من النفوس أوضح وأظهر من أجل المؤثرات التاريخية المذلة المؤخرة، كان ذلك أدعى إلى إصلاح نظم التعليم، وإلى اتخاذ التربية التي تزيل هذه المؤثرات. والمراد بهذه القصيدة الدعوة إلى بث صفة حب استطلاع المجهول في نفوس النشء؛ لأن نفوس النشء تحب الاستطلاع الغريب والمجهول بطبيعتها. وترى لذاتها في ذلك قبل أن تعلمها التقاليد والأوضاع الخمول والقنوع بالمألوف. ومن الخطأ أن يظن أحد أن عاطفة الشغف بالمجهول لا تنمى بالتربية، وأنها قوة طبيعية في الأمم القوية فحسب ... لا ... بل إن أسلوب التربية والتعليم قد يقوي هذه العاطفة التي هي أساس الرقي العلمي والاجتماعي الصحيح، وهذا الأسلوب من التربية ألزم في الأمم الضعيفة لشدة احتياجها إليه.
الخطاب موجه إلى المجهول
يحوطني منك بحر لست أعرفه
ومهمه لست أدري ما أقاصيه
أقضي حياتي بنفس لست أعرفها
وحولي الكون لم تدرك مجاليه
يا ليت لي نظرة في الغيب تسعدني
لعل فيه ضياء الحق يبديه
أخال أني غريب وهو لي وطن
خاب الغريب الذي يرجو مقاصيه
أو ليت لي خطوة تدحو مجاهله
وتكشف الستر عن خافي مساعيه
كأن روحي عود أنت تحكمه
فابسط يديك وأطلق من أغانيه
والروح كالكون لا تبدو أسافله
عند اللبيب ولا تبدو أعاليه
وأكبر الظن أني هالك أبدا
شوقا إليك وقلبي فيه ما فيه
من حسرة وإباء لست أملكه
يأبى لي العيش لم تدرك معانيه
وأنت في الكون من قاص ومقترب
قد استوى فيك قاصيه ودانيه
كأنني منك في ناب لمفترس
المرء يسعى ولغز العيش يدميه
كم تجعل العقل طفلا حار حائره
ورب مطلب قد خاب باغيه
لو النبال نبال القوس مضمية
كنت ادريت بسهم القوس أرميه
أو كان للسحر سهم نافذ أبدا
لكان لي منه سهم صال راميه
يا مصلت السيف قد فلت مضاربه
ورامي السهم قد خابت مراميه
قلبي يحدثني أن لا يليق به
رضا بجهل ذليل اللب يرضيه
قد ثار ثائر نفس عز مطلبها
وطار طائر لب في مراقيه
كالنسر لا حاجب للشمس يحرقه
ولا الصواعق والأرواح تثنيه
وأنت كالليل والأفهام حائرة
مثل العيون علاها منك داجيه
ليل مهيب كليل البحر حندسه
تكاد تسمع منه صوت طاميه
فليت لي فكرة كالكون واسعة
أدحو بها الكون تبدو لي خوافيه
ليس الطموح إلى المجهول من سفه
ولا السمو إلى حق بمكروه
إن لم أنل منه ما أروي الغليل به
قد يحمد المرء ماء ليس يرويه
والقانعون بما قد دان عيشهم
موت فإن خضوع اللب يرديه
يا قلب يهنيك نبض كله حرق
إلى الغرائب مما عز ساميه
فالعيش حب لما استعصت مسالكه
تجارب المرء تدميه وتعليه
كم ليلة بتها ولهان ذا أمل
لم يسل قلبي أن غابت أمانيه
لعل خاطر فكر طارقي عرضا
يدنو بما أنا طول العمر أبغيه
يوضح الغامض المستور عن فطن
وأفهم العيش تستهوي بواديه
إلى ماض من العمر
شكا قلبي إلى يوم
ي ما ألقاه من دهري
وقال: لقد تركت هوا
ي في ماض من العمر
فدعني أقتفيه عسى
أقاد إليه بالإثر
وإن سبيل ما يمضي
سبيل المسلك الوعر
فراح القلب ولهانا
وظل بخفقه يجري
إلى ماض من العمر!
فقال اليوم يا قلب
علام تروغ من أسري؟
وما لك غير ساعتك ال
تي تلقاك في الدهر
لأمسك قلبك الماضي
وما للأمس من كر
لقد جشمت نفسك ما
عييت به من الضر
غدوت تقاد بالذكر
وفي التذكار ما يغري
بما قد فات من عمر!
فيا ماضي دع قلبي
فما لي عنه من صبر
وإنك قبر آمالي
فهل لي فيك من قبر؟
فآه لو يجول المر
ء فيما شاء من دهر
لطار القلب كالعصفو
ر عاف تريث السير
وحن لروضه النضر
وما آواه من وكر
لدى ماض من العمر!
إلى الريح
يا ريح هيجت قلبا شجوه واري
كما تهيجين عود الغاب بالنار
يا ريح رفقا بقلب هجت لوعته
يا ريح أفشيت أشجاني وأسراري
كم قد نسيت شجونا نارها خمدت
فهجت قلبي بإغراء وإذكار
يا ريح أي زئير فيك يفزعني
كما يروع زئير الفاتك الضاري
يا ريح أي أنين حن سامعه
فهل بليت بفقد الصحب والجار؟
يا ريح ما لك بين الخلق موحشة
مثل الغريب غريب الأهل والدار!
أم أنت ثكلى أصاب الموت واحدها
تظل تبغي يد الأقدار بالثار؟
يا ريح ما لك من إلف فجعت به
مثلي ولا لك آمالي وأوطاري
يا ريح كم لك من نفع يجيء به
حدو السحاب بصوب منه مدرار
وهبة منك تحيي النفس من عرض
بنفحة من شذى الأزهار معطار
يا ريح فيك جنون النفس يفزعني
إذا سطوت بعصف منك إعصار
يا ليت نفسي ريح لفح لافحها
يطهر الكون من شر وأشرار
وتنشر الخير نثر البذر يحمله
نسم الرياح على زهر وأثمار
أو ليت لي فيك نفسا حرة أبدا
الكون بيتي وما أهفو به داري
هيهات ما لك فيما شئت منطلق
تجري الرياح بأحكام ومقدار
أو ليت أن جناحا منك يسعدني
كما أطير إلى أفنان أشجار
فأنشد الشعر كالغريد في فنن
وتحملين أغاريدي وأشعاري
يا ريح هل أنت طير طائر أبدا
أما تقرين في روض وأوكار؟
يا ريح يا صنو نفس طالما شقيت
قد خان نفسي أحبابي وأنصاري
فليتها ملك في الجو دولته
في جحفل من جنود الريح جرار
أشكو إليك هموم العيش قاطبة
شكوى الضعيف لبادي البطش مغوار
يا ريح ما لك من عطف ولا مقة
فما حنوي لقاسي القلب جبار
لا تسألين عن الحادي وحكمته
ولا تنوحين من صولات أقدار
وليس يعنيك لا سؤل ولا سبب
فليت مثلك إيرادي وإصداري
طيف الجنون
أقلب طرفي في وجوه كثيرة
وأكثر من تلحاظها وأطيل
وأبغي بديلا من هواك يتاح لي
وهيهات ما لي من هواك بديل
وكيف وعندي من خيالك حارس
تجسم حتى ما يكاد يزول
فيهمس في أذني ويسري بخاطري
ويسمع ما أشدو به ويقول
ويشغلني عما سواه فإن أرد
سلوا تصدى دونه فيحول
كأني أسير وهو في السجن حارس
فما لي إلى وجه الخلاص سبيل
وأفزع حتى تشعر النفس جنة
وأرجو مجيرا في الممات يغول
وأعجب من أمري وكيف عشقتكم
وقد كنت لا يقوى علي غليل
وأرخصني حبيك من طول هجرة
فإن عزيز العاشقين ذليل
فأبكي على نفسي وليس بنافعي
إذا تلفت نفسي لديك عويل
وأبكي على العزم الذي أنا ناشد
فعزمي شريد في هواك ضئيل
أناديه هل من سلوة فتريحني
وقد صم عزم من هواك قتيل؟
فيا جنة العشاق ظلك وارف
وإني في حر الغرام أقيل
لئن لم يرحني الطيف منه بهجرة
جننت فهل يبكي علي خليل؟
فإن اقتراب الطيف سخر وشقوة
وخبل أليم في الفؤاد دخيل
تملك أرضي رحبها وفضاءها
وأصبح في أفق السماء يجول
ويسخر بي طورا وطورا يهش لي
فأنت قطوع والخيال وصول
وأحسب شيطانا من الجن آثما
يليح بحسن منكم ويصول
وكيف يفر المرء من ظل جسمه
فطيفك لي ظل لدي ظليل
وأستعطف النسيان في الحب إنه
طبيب وقلبي من هواك عليل
فمن لي بكأس منه تمحو لواعجي
فحبك داء للضلوع أكول؟
المموه
شهادة للكريم يبغضه ال
وغد صيال اللئام بالتهم
ولست أخشى زور المقال إذا
أودت بما يخلقونه شيمي
يحزنني المرء ذو الفطانة وال
لب بنفس شنعاء كالظلم
قد تسفل النفس والحجى صعد
في راجح العقل ساقط الهمم
وأنت لا فطنة ولا أدب
يكبح شين الخصال باللجم
إن أخا اللؤم ينتشي بأذى ال
شتم ويبغي الخليل بالألم
يغالط الناس عن مقابحه
وهو كناب مخضب بدم
يحسب خفضي لشأنه عظما
هيهات ما كان ذاك من عظم
لست ملوما إذا علوت وأخ
طاك علاء فالذنب للقسم
يحسب قدري رهنا بسبته
هيهات ليس الحضيض كالعلم
هيهات ما سبة الحقير أذى
كل امرئ قادر على التهم
وليس قول السباب معجزة
حتى تباهي بالهجر في الكلم
وغادر قد غفرت زلته
فما رعى لي فضيلة الكرم
وعاد يبغي بشتمه ألمي
يا خب، ماذا تلذ في ألمي؟
ويوهم الناس أنه ملك
وأنني لست راعي الذمم
بحسب رأي الأنام نهبة خد
اع وأن الصواب كالحلم
يزعم ما سطر الورى كذبا
والفضل والنقص ليس في الشيم
بل في ادعاء اللبيب إن خدع ال
ناس جميعا بباطل الكلم
يحوك من نسج كذبه كفنا
للنفس، والنفس منه كالرمم
أو عنكبوت ذميمة سكنت
بيتا من الكذب حيك في الظلم
الكذب أحبولة يصاد بها ال
قانص فيها عدل من النقم
لتقضمن البنان من ندم
لو كنت تدري فضيلة الندم
والشر قد تجتويه من ندم
يدعو نفوسا لأحسن الشيم
لا يندم المرء نفسه خبثت
فأنكرت خبثها من السقم
تحمل الناس وزرها أبدا
وذاك يغري بزلة القدم
شقوة العيش
حياتي! أما للنحس حد ولا مدى
فإني كرهت العيش في أول الصبا!
حياتي! إن الجسم يبلى ودونه
فؤاد شجي ليس يدركه البلى
إلام حياتى أذرف الدمع حسرة
ولا ينفع المحزون أن ردد البكا
وبين ضلوعي للتصبر لوعة
تحملني ما لا أطيق من الأسى
وحتى متى أبلو نفوسا ضئيلة
أبين لها ودي فتبدي لي القلى؟
وحتى متى يبغون ضري وشقوتي
وما لي لو خيرت في الناس من عدى؟
يهيجون أقذار النفوس بشرهم
فما يقنعون الدهر مني بالصفا
فيكدر ماء العيش والعيش منهل
إذا ما طفا من كدرة الشرذ ما طفا
وليس لهم نفع يرجون نيله
إذا ما كوى قلبي من الهم ما كوى
كأن عذاب المرء للمرء ضحكة
فقد أغرم الإنسان بالشر والأذى
ينالون من قلبي بناب ومخلب
وما راعهم أن خضبوا القلب بالدما
كأني ربيب النحس ليس يجوزني
فيا شر ما راع يجور إذا رعى
إذا كان في نحس الفتى شرف له
فما لي لم أشبع من المجد والعلا؟
يقولون بؤس العيش نيل لصابر
فلا مجد إلا في ذوي النحس والشقا
فإن كان في هذا العذاب مهذب
فأغدق على راجيه يا عيش ما رجا
حياتي! أعفوا جئت أم عمد عامد
قضى من صروف الدهر في الخلق ما قضى
ولو أنني كالناس لؤما وغلظة
جريت على شرع الزمان كما جرى
فيا موت أقبل لا كإقبال رائع
مرير كطعم العيش يؤلم من حسا
ولكن كترنيق النعاس بمقلة
طواها الكرى أو مثلما تفعل الطلا
وكن لي على الأحزان عونا ورحمة
فما نافعي في العيش لوم ولا رضا
وما طلبي للموت تطلاب كاذب
رأى الموت ينحوه فأبكاه ما رأى
فإن حياتي غلة ريها الردى
وخير شراب المرء ما نقع الظما
فتخمد نار كان جما ضرامها
إذا ما خبا من لوعة العيش ما خبا
فيا قلب كن في الصدر كالميت واسترح
كفى من مرير العيش يا قلب ما مضى
لعلك إن نهنهت يا قلب رغبة
وعفت طماح العيش يدركك الردى
فيا ليت أن المرء إما دعا الردى
أتاه فلا نحس يروع ولا أسى
أما يصطفيني الدهر إلا لحسرة
فهلا اصطفى لي عيشة غير ما اصطفى
ويشعل في قلبي جحيما، وناسه
شياطين، فيه تضرم الهم والجوى
أداريهم جهدي وما ذاك نافعي
وأمنح منهم مدعي الفهم ما ادعى
فأصبحت أخشى الناس في كل خطرة
وأفرق من داعي المودة إن دعا
ومن شقوة الإنسان أن حار لبه
وأصبح خفاق الأضالع والحشى
كأني بين الناس من أهل عالم
جديد غريب أخطأ الأهل والحمى
فما لي من عطف لديهم ورحمة
ولا لي فيهم من إخاء ولا هوى
يعيبون نفسي ضلة وجهالة
ويرمونني بالسوء والمكر والخنى
إذا ما أراد المرء إخفاء عيبه
رمى غيره بالعيب لم يعد من رمى
وما قومي القوم الذين أراهم
ألا إن قومي في البعيد من الدنى
كأن حياة الناس ضجة أخرق
وعيشي فيهم نغمة البؤس والأسى
وأوجع ما لاقيت جاه مصدق
كأن ثياب الجاه خيطت من الحجى
يخال ذووها في كمال وعفة
وتحت ثياب الجاه ما شئت من خنى
يصدق رأي الجمع والجمع ظالم
ويحقر رأي الفرد ريان من نهى
بذا قضت الأخلاق ما بين أهلها
وما تنفع الشكوى ألا خاب من شكا!
وكم من جموع ليس تعدل واحدا
فإن ظلام الجهل في الناس كالعمى
فيا شقوة الأيام هل منك مهرب
فأعدو وهل ينجو من النحس من عدا؟
كأن هموم المرء ذنب مراوغ
فيا بؤس مقتول ويا بؤس من نجا
وبعض دواعي العقل حرب لبعضها
فلا يعرف الإنسان في العيش من دعا
أليس الحجى والحق لغزا ومجهلا
فهل سعد الإنسان بالعقل واهتدى؟
أمل ميت
لحبك من عمري أخير وأول
وإنك في قلبي حبيب مبجل
قصرت عليك الأنفسين محبة
فحظك من حبي فؤاد ومقول
وإن كنت قد قطعت قلبي صبابة
وعرضت نفسي للذي ليس يجمل
وذكرتني العهد القديم الذي مضى
وشوقني الود الأغر المحجل
فحتام أرجو منك ما ليس واقعا
وحتام أذوي في ثراك وأذبل؟
سفاهة أحلام تغر وتنثني
وتترك قلبي والها يتململ
وبشرت نفسي منك بالسعد والمنى
فأصبحت أبكي إن ذكرت وأعول
خذ اليأس مني مدحة لك إنه
جزاؤك عندي نعم ما أتبدل
لفظت الأماني كالبصاق ولم أكن
لأغتر بالآمال لولا التعلل
هو الرغب مثل الريق إن ساء طعمه
فإخراجه بالمرء أحرى وأمثل
ولكن يأس الحب حب وذكرة
وفي اليأس ما يلقى الفتى حيث يأمل
وهل أنت إلا كالأنام وحالهم
لهم عزمة في كل يوم تقلقل
يريدون أمرا طرفة ثم غيره
فلا العهد محفوظا ولا القول يفعل
التفاهم في الحب
إن خبروك بسلوة كذبا
فأخو الملام كثيرة تهمه
ولقد رأوك على جفائك تح
نو نحو قلب هان فيك دمه
فتحدثوا أني استعضت هوى
وهواك دون القلب مضطرمه
ساموك نسيانا لذي سقم
لا عيشه تدري ولا عدمه
إن كنت أنت وأنت ذو فطن
ضاعت لديك من الهوى ذممه
أفمنصفي من ليس يفهم ما
أعني ولا محمودة كلمه
أفمنصفي من ليس مثلك في
لب ولا حسنت بكم شيمه
أقسمت بالأشواق نحوكم
وجوى المحب مشفع قسمه
فانظر إلى روحي وروحكم
تبد لديك من الهوى حكمه
فلقد خلقتم كي يحبكم
قلبي فتخصب قلبكم ديمه
والحب يخصب قلب صاحبه
حتى يفيض على الورى كرمه
قلبي على الهجران ذو أمل
إن الرجاء محبب حلمه
بيني وبينك حاجب فمتى
تنجاب عنا في الهوى ظلمه
ومتى أحقق فيكم حلمي
ويطيب من شجن الهوى نغمه
ولقد عشقت فما عشقت سدى
إن الغرام كثيرة نعمه
ملك القلوب
حجبوك عن طرفي وأنت سميره
ونفوك عن قلبي وأنت أميره
فوحق حسنك وهو خير ألية
الحسن فيك غريبه وغريره
ووحق حسنك ما انتفعت بعيشة
لم يأن فيها من سناك سفوره
كالليل، والبحر الخضم، وصرصر
تغدو عليه تميره وتثيره
ظلم على لجج تجيء وتنثني
حتى يروع من العباب زئيره
يا أيها الملك البعيد بوده
لك من هواي جليه وستيره
القلب فوضى وهو ملك واسع
وكلت إليك شئونه وأموره
فارفق بملكك في فؤادي واحتكم
فالملك ملكك تاجه وسريره
والحب خرق والوفاء سرابه
هبهات ما نفع المحب غديره
والحب كأس قد شربت عقاره
لم يغن فيك صغيره وكبيره
أوما أويت لعاشق متعبد
لجليل حسنك دينه وضميره
إن كنت أنت مع الزمان عدوه
من ذا على جور الزمان يجيره؟
والشعر مثل الروض باكره الحيا
يجنى لذي الحسن الطرير نضيره
وبعثت قلبي قاطفا من روضه
والقلب يسعى في هواك أسيره
فجنيت من ثمر القريض أطايبا
يجنى لغيرك يا حبيب مريره
هذي قصائدي التي يزهى بها
وخيال شعر للجلال خطيره
ذهب الوفاء فلا حبيب صفوه
يرجى ولا أمل تذر دروره
الحق المكتوم
الحق حمل يئود النفس محمله
إذا مضيت بشلو منه مقبور
إذا كتمت، فداء لا دواء له
بل طبه حين يبدو غير مستور
كأنما النفس منه اليم مصطخبا
يظل يضربه وقع الأعاصير
والفكر كالنار في الأحشاء كامنة
حتى يذاع فيبدو ساطع النور
لا تكتم النفس حقا أبصرت أبدا
فللأجنة حد في المقادير
هو الوليد وليد النفس تحمله
كأنه الطفل يغذى في المقاصير
إن كتمته على رغم لذلتها
عاشت بحال بغيض العيش مصدور
والحر إن لم يطق إرسال فكرته
راع الأنام بدامي الصدر منحور
قد حدثت نفسه عيسى بقلتها
وكاد أحمد يقضي غير مذكور
أشقاهما من لجاج الحق شدته
والحق في الناس خاف غير مشهور
والحق يقتل نفس الحر إن كتمت
نداءه خوف إقدام وتشمير
والحق تذعر نفس الحر روعته
وغافل القلب ميت غير مذعور
والحق إن لم يجب كالوحش مفترسا
كأنما وقعه وقع الأظافير
ويوسع النفس لسعا حين تكتمه
كأنما لسعه لسع الزنابير
والحق منكتما كبل وجامعة
غلت على خاشع الآمال مأسور
وليس ينفيه نكران ولا فرق
وليس مندفعا بالزور والجور
بلاغ الحب
أيا نفس من نفسي إليه مشوقة
ومن هو في نفسي أمير وحاكم
أحبك حبا ليس يدركه قلى
قلى الحب ما أدت إليه المآثم
إلام تحول الحجب بيني وبينكم
كأنك أحلام وإني نائم
ولو كنت تدري قدر حبي كله
لأبديت لي النفس التي أنت كاتم
فلا تخف عني يا حبيب سريرة
فلست بشار للنفوس يساوم
وكن لي مثل الماء يبدي ضميره
ولا تك مثل الليل، والليل قاتم
بذاك يصح الحب بيني وبينكم
وتثبت منه في الخطوب الدعائم
فلو كنت بين الناس ربا معززا
ونادوك أني فاتك النفس جارم
لالفيت غفرانا لديك ورحمة
فما يغفر الزلات إلا الأعاظم
وإنك لو أصبحت فيهم مرجما
فإن فؤادي ناصر لك راحم
ستعلم يوما أنني لك عاذر
وإن كان بين الناس عاد ولائم
فإني قتلت العيش علما وخبرة
فما راعني في الناس خب مسالم
ولست كمن يرجو على الحب رشوة
وينفث فيها ما تكيد الأراقم
بسطت لكم عرضي مجنا يقيكم
وأنف الذي يسعى لكيدك راغم
نظرت إلى الأعمال كيف ابتعاثها
فما راعني إلا النفوس الرواغم
وما قسموا الأفعال قسمة عادل
وهل حاكم بين السرائر حاكم
فللمرء فينا خادم من ضميره
وما لسواه منه عون وخادم
يرى أنه في فعله غير آثم
وأن سواه فاتك النفس آثم
وما العيش إلا خدعة بعد خدعة
وما الناس إلا مستغيث وظالم
وما دنس أن تمنح الحب ماكرا
إذا أنت غرتك الثنايا البواسم
يعيبك أن محضته الحب جاهدا
أينقم أن محضته الحب ناقم
وما خير حب أحكم الكيد أمره
سيدهمه صرف من الدهر هادم
وكل لئيم يجعل الحب سبة
فتعدو عواديه وتسري المظالم
وهل سبة في الزهر أن فاح نشره
وأن هدلت في وكرهن الحمائم
وألوم من عاداك من هو حقبة
شريكك في أفعاله ومقاسم
فلا تأس أن الناس خب وكائد
نصيبك من قلبي مجير وعاصم
وإنك لا تجديك خشية كائد
وإنك لا يجديك أنك نادم
فيا ليت لي عزم القضاء وحوله
فتحمد بين الناس منك العزائم
أعلمك الأمر الذي أنا عالم
وأمنحك العزم الذي أنا عازم
فإن أنت لم يكسبك حبي رفعة
ولم ترو نفسي من هواك المكارم
ولم أخل من شك تعالج مثله
ولم يزج نفسا نحو نفس تفاهم
ولم تمتزج نفسي بنفس أحبها
كما يمزج الصهباء بالماء ناعم
ولم يبتعث حبي للبك فطنة
ولم تطبيني من هواك العظائم
فوا أسفا لا حب يجدي لديكم
علا الحب ما تبغي النفوس الكرائم
الآمال الذاوية
أيا فتنة الأحلام قد لاح كذبها
محال علينا أن نلذ بك النوما
لقد كنت في عيشي مصابيح حلية
فقد صارت الأيام أغربة سحما
فيا حسن مرأى العيش لو عاد حلمه
وإن ألذ العيش ما خلته حلما
عزيز علينا أن نقول بكذبه
وأن لا يكون الحسن إلا كذا وهما
لقد كنت زادي في الحياة ونهلتي
فلما استبان الحق زودتني الهما
أأرثيك أم أقلاك لو ينفع القلى
كلا ذين في قلبي يجدد لي كلما
كأني غريق اليم قد لاح حينه
ألوذ بزهر منك أعلو به اليما
فيا لائذا بالزهر خاب تشبث
بوهن فما وهن لدى مهلك عصما
يرجي غريق اليم حتى عدوه
ويحسب زهرا طافيا أجبلا شما
فيا حسن أحلام تقضت لذيذة
ويا طيبها خدنا ويا طيبها خلما
وكانت حبيبا مات أنكرت هلكه
أقلبه طورا وأوسعه لثما
عسى أن تعود الروح جسما أحبه
فأكلأ من وقع البلى ذلك الجسما
وهيهات يعفي النتن جسما نحبه
فكم ذل جسم لم ينل قبله وصما
كذا أنت آمالي التي غالها الردى
وكم غال آمالا يلاذ بها قدما
علام تري الأقدار ما لا نناله
وتزجي نفوسا كي تتوق وكي تظما
إذا لم يكن في منهل العيش طبها
فيا رب أطماع تدوف لها السما
أعيري جناحا كي أنال به المنى
ونبلا لكي أرمي به مثلما أرمى
فإن سنا الآمال أعشى لواحظي
فيا طيبها رؤيا تهيج بي السقما
وما فتنة الآمال إلا كغادة
تلين لنا كذبا وتوسعنا صرما
وقد تسعد الآمال بعد فسادها
كذاك ثمار السوء أخبثها طعما
ولو كان قلب المرء بالعقل حكمه
لما زود الأقدار مدحا ولا ذما!
شكوى
حياة كدمع العين أما مذاقها
فمر، وأما وقعها فوجيع
وإن الأماني التي أنا ناشد
فقاقيع، طرفي نحوهن نزوع
تقدمني في الناس من لم يجارني
وأخرني أن الذكاء يروع
وأخرني أن اللبيب محسد
على فطنة يعصي بها ويطيع
كأني بجاري النهر صخر تجوزه ال
مياه وما للجاريات رجوع
يمر لداتي واحدا بعد واحد
أمامي، وعيشي في الهوان يضيع
وأوجع ذل النفس طاعة سائد
تعلى، وقدما كان وهو مطيع
أيخشون مني خلة عبقرية
فيغلو مقال أو يسوء صنيع ؟
ويبغون أن لا يجتلى البرق في الدجى
بعين ولا طيب النسيم يضوع؟
فيا نفس صبرا إنما العيش لوعة
وما للذي يشقي القضاء شفيع
وإن حياة الطامحين عواصف ال
شتاء وعيش القانعين ربيع!
العلم وعزة النفس
رأيت بيوتا كالوجار ذليلة
ألا إن عيش الجاهلين عليل
رضاء بعيش البهم والخصب وافر
ومركب من يبغي العلاء ذلول
يعيشون كالأنعام في نفع ربها
ولكن مرعى الجاهلين وبيل
ويعلو الفتى بالعلم عن كل ذلة
وكل جهول لو فطنت ذليل
وفي الجهل أسر للنفوس ورهبة
هو الجهل داء للنفوس قتول
ويرضى جهول بالقليل مهابة
ولا يطبي المرء العليم قليل
وتعظم نفس المرء حتى كأنها
عوالم فيها الكائنات تجول
على قدر علم المرء عزة نفسه
فأهل النهى في الصاغرين قليل
وأكثر ذل العاقلين خديعة
وأكثر ذل الجاهلين خمول
وما العلم إلا قوة واستطالة
يحكمه أهل النهى فيصول
فلا تحسبن الحرب سهما ومغفرا
فإن سلاح الصائلين عقول
وكم بلغت شأو العلا في منية
نفوس على حد السيوف تسيل
وكم أخطأ العلياء غر ونالها
سريع إلى داعي المنون عجول
وفي ملك أهل الجهل جبن وذلة
تراه إذا ما لم يزل سيزول
وفي العلم حسن للنفوس وبهجة
وعيش نبيل لو فطنت جميل
ويفزع أهل الجهل من كل حادث
كما خاف طفل في الظلام يجول
وكم خفض الأقوام أن زال علمهم
فأصبح صرح العلم وهو طلول
وكم ترف للعلم والعز قاتل
يزل حميات النهى فتزول
فلا علم إلا عابث كل ذهنه
ألا إن ذهن المترفين كليل
كذلك حال الغابرين فلا ترى
علاء مضى إلا عليه دليل
فإن صروف الدهر في وثباتها
سيول على آثارهن سيول
فيا من لغرقى أثقل الجهل ظهرهم
وللجهل حمل في الحياة ثقيل
كأن ظلام الجهل بين عيونهم
ستار على ما يكرهون سديل
لقد أرمدت شمس العلاء عيونهم
فطرفهم دون العلاء كليل
هم يحسبون المجد نهبة باخل
يقتر في مسعاته ويكيل
وما علموا أن النفوس وسائل
يجود بها باغي العلا ويصول
وما غبن الأقدار باغي طليبة
ضنين بما يدني الطليب بخيل
على قدر ما يعطي الفتى هو آخذ
فمجد الذي يعطي الجزيل جزيل
ويبذل من أعماله وحياته
عظيم بنيل الساميات كفيل
وقد يضجر اليقظان من سقم عيشه
وليس بجمع الجاهلين ملول
فصبر الجهول الفدم نومة راقد
ولكن صبر العاقلين مقيل
نجم الحياة
أنتم رجاء حياتي
يا طيبه من رجاء
وأنتم نجم سعد
يضيء وجه سمائي
لولاه كانت حياتي
كالليلة الليلاء
ما لي لديك شفيع
إليك غير وفائي
لا تتركن حياتي
فريسة للشقاء
فإن نبهت ذكاء
فأنت واقي ذكائي
وإن بلغت علاء
فأنت أصل علائي
وأنتم نجم حظي
من شقوة ورخاء
إن شئت وقيت عيشي
مصارع الأدباء
فلا تكلني لقوم
لا يسمعون دعائي!
ذل المشيب
تمر بي الأيام حتى تروعني
لذل مشيبي لا لوقع شعوب
وأخشى مزيد العمر يسلب جدتي
فأشقى بوهني واتصال عيوبي
ولم ألف خلا في الشباب مصادقا
فكيف أرجي في المشيب حبيبي؟
فيا خيبة للمرء قاربه الردى
يقول لأيام الشبيبة: أوبي
يجوب فيافي الشيب والموت راصد
كما يرصد الغربان هلك غريب
يرى فيه أشباح السنين التي مضت
كما روع السفاح روح سليب
وكم نهزة في العيش يبكي ضياعها
ولم يرو من جماتها بذنوب
تجد له يا ليت شجوا وحسرة
وهل قوله يا ليت غير لغوب؟
ولم أحمد الأيام أيام شرتي
أأحسب سؤر العيش غير مريب؟
أظل غريبا بين أهلي ومعشري
وكم أشيب في قومه كغريب
وأصبح كلا في العشيرة مقعدا
يقتر رزقي أو يمل قريبي
ويهزأ بي الأهلون من بعد هيبة
وأخشى وقدما كنت غير هيوب
وأصبح منسيا وإن كنت شاهدا
كأني خفي الجسم غير قريب
وكم قائل ما باله طال عمره
سها الموت أم ما عمره لشعوب
ويخطئ سعي الرزق أيام مرتي
فكيف إذا أصبحت غير كسوب؟
فزرني في ليل الشباب كسارق
ولا تنتظر يا موت ذل مشيبي!
خطوة عن عالم الحسن
خطوة لا خطوتها أبد العم
ر خطت بي في عالم الأرواح
أخرجتني من عالم الحس حتى
خلت أني أقضي بحيني المتاح
غاب عني الوجود واستشعر الحس
اغترابا عن صرف دهري الوقاح
خلت أني في النوم أبصر حلما
كيف أغفي والقلب يقظان صاحي
رحت أسعى كمصحر بان عنه ال
صحب فردا ذا وحشة واطراح
أو كذي الجرم حين طال به السج
ن يضل الطريق عند السراح
عالم غير عالم الحس أبغي
فيه عونا على الصروف الشحاح
حيث تبدو النفوس فيه جهارا
عاريات من جسمها والوشاح
فنفوس ملساء كالغادة الرو
د وأخرى قد أدميت من جراح
وأرى فيه كل أمر تقضى
من سرور وخيبة ونجاح
وأرى ما دفنت من خطرات
وأرى فيه ما مضى من طماح
وتكاد الأشباح يلمسها المر
ء لها جرس فرحة أو نواح
وأرى أوجه الدهور التي فا
تت بسلم من أمرها وكفاح
وأرى أوجه الليالي التي مر
ت سراعا بنا كمر الرياح
وأرى عيشي الذي قد تقضى
في صلاح أو غية وجماح
وأرى وجه من عرفت ومن ما
توا وواراهم أديم البطاح
فعراني القنوط من صولة المو
ت وما لاح في رباه الفساح
وابتغيت الطريق أرجع للحس
فأشفي به أوار التياحي
غير أني أضللته ومضى بي ال
خطو حتى أنكرت وجه رواحي
خطوة إثر خطوة فيه حتى
قد هداني خطوي لنهج النجاح
خذ بقولي ولا تضل عن الحس
فيا رب نعمة في انتصاح
إنما الفكر خطوة تنقل المر
ء فحاذر إضلال وجه المراح
الحسن الكاذب
وددتكم جهدي فما نفع الود
ولم يدنني منكم وفاء ولا عهد
فلا ترحموا قلبا يحن إليكم
فإن فؤادا ليس يهجركم وغد
لئن لم أبت خلوا من الشجو والجوى
أقر وألهو ليس يكرثني البعد
فإني خليق بالتنقص والجفا
وإني خليق أن يتيه بك الصد •••
وعنفت قلبي أن عتبت عليكم
فبعض عتاب المرء يبعثه الحب
أتعذل من أبدى لك الغدر والقلى
وأنت ملوم في حنينك يا قلب
وقد عابني أني حننت إليكم
لديكم صدقتم أن حبيكم عيب
ولو ود قلبي غيركم لعذرتم
ولكن حبا ليس يعدوكم ذنب •••
وقد خلت أن العقل عندك وافر
لقد كان ذاك الظن من سفه الحب
فلا تحسبن أني عنيتك بالهوى
فقد كان خلق غير خلقك في قلبي
وقد كنت أهوى فيك ما قد ظننته
وقد كنت أهوى ما خلقت من اللب
فما أنا إن جافيت بالواله الجوي
ولا أنا إن باعدت بالهالك الصب
تمثال سوء
يا خب ما لحظات البغض قاتلة
فارجع بلحظك مقهورا ومخذولا
وقطع اللحظ دوني لا ترى رجلا
تحني له الرأي تعظيما وتبجيلا
لقد تقمت عليه الفضل أجمعه
فصار بغضك تضليلا وتغفيلا
سلاحك الجهل لا تهنأ بمضربه
وسيفك الحمق لا تتركه مسلولا
وفي غبائك لو تدريه معذرة
عذر البهائم محقورا ومرذولا
لو ضم شمل لئام الناس ملكهم
أعطيت في ملكهم تاجا وإكليلا
فأنت تمثال سوء صاغه لبق
يمثل الشر والأحقاد تمثيلا!
يقظة في الفجر
قم فإن الدهر غفلان
وقضاء النحس وسنان
رق ليل أنت راقده
فكأن الليل ولهان
إن جرما أن تنام به
ما لهذا الجرم غفران
إن حسن الليل مكرمة
بغضها لله نكران
قد أراق البدر بهجته
وجحود الحسن كفران
خذ نصيبا من أشعته
إن روحي منه ملآن
وهمومي منه في سنة
وفؤادي منه يقظان
وهو للأشجان أنغام
وأناشيد وتحنان
قم فإن البدر زائرنا
إن عمر المرء عجلان
رب حسن كنت أنشده
في ضياء البدر عريان
اسقني من ضوئه جرعا
أنا منه الدهر نشوان
لي منه خمرة لطفت
وعلالات وسلوان
قد نسيت العيش أجمعه
إن طيب العيش نسيان
باع أهل الحسن حسنهم
ما لحسن الليل أثمان
لذ بما يعطيك من ملح
كل ما يعطيك مجان
كم رأى من قبلنا أمما
وكأن القوم ما كانوا
فتمتع إنها فرص
وطباع الدهر حرمان
قم فإن النفس يؤنسها
من نجوم الأفق جيران
ونجوم الأفق تنظمها
فوق رأس الليل تيجان
وهي جنات لذي أمل
وهي للأرواح أوطان
وهي للمفلوك عقيان
وهي للمهجور سلوان
وكأن النفس طائرة
فلها في النجم بستان
إن حسن الليل آيته
فى ضمير الكون وجدان
وقصيد الكون يطربنا
منه أشعار وألحان
قم فإن الفجر طارقنا
إن وجه الأفق عريان
في احمرار الخد رونقه
فكأن الأفق خجلان
ونسيم الفجر يلثمكم
ففؤادي منه غيران!
قبر في القلب
وجعلت أبحث في الفؤاد كأنني
في الأرض أنكت جاهدا لا أفتر
حتى رأيت هناك قبرا غائرا
للحب قدما كان غدرك يحفر
وعليه مكتوب بحرف من دم
الحسن خداع يغر ويغدر
قبر دفنت به الصبابة والمنى
ولذيذ عيشي في جوارك يزهر
وجزعت حتى قيل ليس بصابر
وصبرت حتى قيل لا يتذكر
وخبرت حالات التسلي والهوى
فرأيت خير الحسن ما لا يخبر
فالحسن ثوب باللجين مطرز
والقبح في ثوب المحاسن يستر
يا قبر هذا الشعر فوقك حلية
والزهر في قبر الأحبة ينثر
يا قبر أنت قرارة أرمي بها
ما لا أطيق من الهموم فتغمر
والقلب مثل البحر يفزع قاعه
أهنا قلوب الخلق ما لا يسبر
كم فيه من أثر العواصف راسب
أبدا به لا يستطاع فينظر
فاطو الفؤاد على الهموم كأنها
رمم على رمم به لا تنشر
لو كشفت سير النفوس لراعها
منها علامات تسوء وتذعر!
صرصور الشعر
يا أيها الشانئ المغرور يشتمني
ارفق بنفسك ليس الشتم يؤذيني!
لذ بالجبال وضعها فوق فضلي واش
تمنى كما شئت شتم الوغد يعليني
واجهد علي إذا ما شمت محمدة
مني فكل خفاء ليس يخفيني
واذمم مقالي وازعم أنني رجل
مغرى بكل ضئيل الرأي مأفون
وانسب إلي عيوبا لست محصيها
وصل بكل رهيف الحد مسنون
فإن فضلي مثل الشمس مشتهرا
يبين نقصك من نتن ومن دون
أبعد شدوي بالآيات يا عجبا
وبعد مسعاي في الغر الميامين
يتاح لي منك صرصور يناوئني
بالرجس والنتن يا صرصور ترمينى؟
لو شئت صبت عليك النعل مسكتة
صوتا يغرد في بيت المساكين
بيت من النظم لا شعر فتحكمه
ولا نثير متين غير موزون!
لكن نعلي يا صرصور طاهرة
عن لمس كل قبيح الشكل ملعون!
لوازم الحب
عبثا أحاول قرب روحكم
سفه بقلبي ظل يوهمه
أفمنصفي في الحب من زمني
من ليس يفهمني وأفهمه؟
لا السن دانية ولا فطن
وتشابه في الحب يحكمه
وتغاير في السن ينقضه
وتفاوت في العقل يهدمه
فاظفر بظئر درها عمم
إن الصغير ذكاؤه فمه!
النقد القذر
نقدك هذا وضر الزيت
لوث به ما شئت من بيت
يغسله الدهر بأمواجه
إذ أنت فيه طعمة الموت
شعري مثل الدهر في صوته
وأنت غر خافت الصوت
إن تعب الناقد في نقده
بادره باللو والليت!
إيكاروس العبد الروماني (حادثة في حياة الرومان)
مضى العبد إيكاروس في بيت سيد
يرى الظلم حقا ليس فيه ملام
فيا شقوة العبد الذليل ونحسه
وفي الظلم لذات الظلوم ترام
فلما طغى بالعبد نحس وشقوة
وما كل نفس في الحضيض تقام
تأبط سيفا مرهفا وسعى به
إلى حيث مولاه الظلوم ينام
فأورده من سيفه مورد الردى
وذلك في حكم الأنام جسام
وأشعل نارا ليس تخبو ضرامها
فأصبح ذاك القصر وهو ضرام
وجندله بالسيف أنصار ربه
فقال وقد أهوى إليه حمام
قول العبد
حلال أباحوا ورده وحرام
وليس على العبد الذليل حرام
قيود بها يشقى الضعيف ذليلة
لها في أنوف الخانعين خطام
وكم خدردت نفس بخشخاش مينهم
فصالوا وجاروا والنفوس نيام
أخالوا حلالا أن أذلوا بحولهم
نفوسا ولا مثل المذلة ذام
فإن قدروا جورا فقد قدر الإبا
وذلك في حكم القضاء نظام
وإن جميع الناس في الضعف إخوة
إذا لم يخف مرعى الحرام سوام
ألا إن دفع الشر بالشر سنة
ومن جن من جور فليس يلام
هو العبد عبد النفس من عاش راضيا
ولا يخضع القلب الأبي زمام
وما ظلم المظلوم إلا رضاؤه
وفي كل ظلم للنفوس مدام
وبعض التقى والحزم جبن وذلة
وفي الشر نبل والحياة عرام
وما الناس إلا مالكا غير عادل
وآخر يرضى بالأذى ويضام
وما كل ذي ذل على الشر قادرا
وهل كل من سيم الهوان سنام؟
ولو خوف الإنسان من شر عيره
لما قاد ذاك العير منه لجام
رضينا «بنيرون» فكنا بناره
جديرين إن الأتقياء حطام
وهل نافعي لو عاش في الناس ناعما
وعشت وحظي في الحياة أوام؟
قول الواعظ
قضى الله أن الجرم للجرم باعث
ورب بريق شب منه ضرام
فلا تحسبن الشر فردا فإنه
تؤام إذا جد الردى وتؤام
وللشر عدوى كالوباء وعدوة
هو الشر في هذي النفوس سقام
فلا تقصدن بالشر نفسا بريئة
فقد ينتحيك الشر وهو سهام
وإنك لا تدري بما الشر واقع
وفي أي دار للمصاب مقام
فأنت قسيمي في اتقاء مصابه
وإنا لأكفاء عليه كرام
ألا إن درأ الشر عنك رهينة
بدرئك عمن كان منك يضام
فلا تعد مظلوما ولا تعد ظالما
فكل عرام يقتفيه عرام
دعابة (أي مواقع التقبيل أحسنها؟)
رأى دلها أن لا تضن بقبلة
لأنزل لثمي في أعز مكان!
أقبل منها الحسن في خير موقع
برغم حسود راح بالشنآن!
فيا ليت أن الناس تغفي عيونهم
فألثمها في خفية وأمان!
فوالله ما أدري أخدك أحسن
أم العين أم ما تحجب الشفتان؟
أم الشفة الحمراء أطيب موقع
به الشم والتقبيل يستبقان؟
أم العنق المعقود بالنحر أطيب
أم الصدر حلى وجهه جبلان؟
أألثمها في الخد والفم طيب
ولي في لذيذات النحور أماني!
لقد حرت حتى ما أرى لي حيلة
وليس لمثلي بالسلو يدان!
دعيني أقبل كل ما لاح حسنه
فكل مكان فيك خير مكان!
خليلي في التقبيل أطيب متعة
ولست أرى في الحب ما تريان!
العيش والرجاء
لو أدرك الإنسان آماله
وصابه منها كقطر المطر
ولم يعد يعرف ما يبتغي
ولم يجد في العيش ما ينتظر
لكان أشقى الناس في عيشه
حتى تقول النفس أين المفر
لا عيش إلا بطلاب المنى
لولا المنى في عيشه لانتحر!
بعد زينة
ابتعد عمن أحبك
لا ترح بالقرب صبك
أنت في البعد جميل
لست أبغي منك قربك
قد حمدنا منك بعدا
إذ حمدنا منك غيبك
للفقاقيع بهاء
قد حكت في الحسن قلبك!
فاعتصم بالصمت كي لا
يعرف العاشق لبك
وإذا لحت قريبا
ما بعثت اللحظ صوبك
خشية أن يأخذ اللح
ظ إذا ما لحت عيبك!
الروضة المنتهبة
غرست روضا زاهيا زهره
وحطته من خشية بالبنا
فجاءه الغلمان في طيشهم
والطيش ضرب من غرور الصبا
وهدموا الأسوار من قفزهم
وانتهبوا الزهر وطيب الجنى
كأنما نيل العلا لعبة
ما لهم لو عقلوا والعلا!
أكثر من طيشهم جهلهم
يعدون من عاشرهم بالغبا
حتى يرى في عقله ظلمة
يضل فيها الرأي إما سرى
إن يسألوا عما بأيديهم
قالوا اشتريناه كما يشترى
أو يسألوا عن روضتي جمجموا
أن ليس في أغصانها مجتنى
ولوثوا الزهر بأيديهم
فهان حتى صار لا يجتدى
ثم ادعوا كي يعذروا نهبهم
أني لم أغرس بها ما زها
فكلهم يسرق من روضتي
وكلهم ينكر ما قد جنى
من يرتج الشر لدى أحمق
يبدله عدوانا بما قد رجا
حلم وردة (وردة في الشتاء تحلم بالصيف)
وردة في غصنها طال كراها
عبق في نومها طيب شذاها
مثل أنفاس حبيب راقد
نشرت نفس محب في سراها
ما لها وسنانة ذابلة
هل ترى في النوم أحلام هواها!
حلمت بالصيف في ريعانه
وبضوء البدر يسقيها طلاها
وحبيب من هواها صادح
بأغان ينتشي من قد حساها
لا أرى البلبل جسما طائرا
هو نفس تشتكي ما قد عناها
لو بدا للنفس صوت وفم
كان شدو الطير معنى في لغاها
بات يشكوها بشعر ساحر
شجو نفس قد نأت عنها مناها
يا عروس الروض رفقا بمحب
نفسه في شدوه فاض جواها
وهي من أشجانه حائرة
خجلا تحمر منه وجنتاها
تحمل الأنفاس عنها نشرها
كلما غنى لها في الشدو آها
أي شيء قد نفى عنها كراها
أترى البلبل قد قبل فاها؟
فرأت أن شتاء لم يزل
حولها يا ويح ما منى كراها
حلم ما فيه من شين سوى
أنه غادرها حيث بداها
الهوى حلم العمي
كان عهدي بالأماني في الشباب
كالغواني راقصات من هيام
صار عهدي بالأماني كالسحاب
في دجى العيش ظلام في ظلام
كنت أرجو العيش حلو الثمرات
صرت أخشى إن دعا داعي الأمل
كنت أقلي الموت مر الجرعات
فحلا لي بعدكم مر الأجل
إن عيشي بعدكم مثل الظلام
أنتم كنتم ضياء البصر
احملي يا ريح عن قلبي سلامي
وارجعي عنهم بطيب الخبر
عاد فجر الحب ليلا داجيا
إن أضواء الهوى حلم العمي
بعد ما كنت زمانا راضيا
أرتجي من حبكم ما أرتجي
الفصل السادس
ديوان الأفنان
فصل في أن الشعراء كماليون
مقدمة لصاحب الديوان
يحكى أن دوناتلي الإيطالي صنع دمية فأجاد صنعها، فلما رآها أستاذه قال له مازحا: ما ينقصها غير أمر واحد. ثم كتمه عنه حتى مرض دوناتلي من الأسف عليه، والفكر فيه، وحتى أشرف على الهلاك. فدعا أستاذه وقال له: قد رأيت ما بي من الداء. وأني هامة اليوم أو غدا. فأخبرني أي نقص رأيت في دميتي؟ قال: ما ينقصها غير الكلام! فقام المريض محموما حتى أطل على دميته وقال: تكلمي، تكلمي، فما ينقصك غير الكلام، ثم وقع ميتا!
وكل ذي فن في فنه مثل دوناتلي في طموحه إلى مرتبة الكمال. وإنما يجيد حسب فضل الملكة المهذبة التي يسترشدها من نفسه، لا لأنه يقصد إلى ما أولع به الناس، مما يستفز إعجابهم؛ فإن إعجاب الناس - وإن كان حبيبا - يتطلب بإرضاء ملكته المهذبة لا بإرضائهم، ويأمل أن يقنعهم ما أقنعه من نفسه. وهذا سبيل أثره فيهم الذي يأمله في حياته أو بعد موته. وسواء أأكبر الناس شعره أم أصغروه، فإنه يعيش بحسرة على ما يعجز عنه، وبلهفة على ما لم يقل، وإن جل ما يقول.
ومن هنا ولج التحاسد إلى أفئدة الشعراء؛ فإن الشاعر يعالج حسرة على كل فوز لم يفزه، وطائر أمل لم يقنصه. فإن نفس الشاعر طماحة أبدا. وخليق بمن يعرف أن فوق كل إجادة إجادة أن لا يدع للحسد سبيلا إلى قلبه، وأن يعد كل قصيدة جليلة فوزا يزهى به عالم الحسن على عالم القبح، ونصرا أصابته الحياة على الموت، غير مفرق بين قائل وقائل في الإعجاب الذي لا يتقاضاه الشاعر، بل يتقاضاه شعره.
ألا وإن أجل شعر شكسبير هو ما كان يحلم به شكسبير، ويود لو قيده بقيود الكلام، وليس أجل شعره ما يعجب به الناس ويعجب منه، فإن كل حسن في الفنون عنوان لحسن، وكل فوز وعد بفوز. فإن الشاعر ليرى في نفسه القصائد التي يحلم بها كما يرى العاقر أبناءه الذين لم يلدهم. أو كما كان ميشيل أنجلو يرى الدمى التي لم ينحتها كأنها محبوسة في الصخر الأصم الذي لم يلمسه بعد. وقد ورد عن كثير من كبار ذوي الفنون ما يثبت هذا الظمأ الذي هو خير لشعر الشاعر شر لنفسه.
ولو كانت الحياة شجرة لكان الجمال زهرها والشعر طائرها. ولولا الشعر افتقد جمال الحياة، وكل حي شاعر بمقدار ما يحس الجمال في الأشياء والأخلاق والأعمال التي ينشدها. والعالم عالمان؛ عالم الجمال وعالم القبح، وكل منهما ممتزج بأخيه، منعدم فيه. والشاعر رسول الجمال يسعى في تحقيق عالمه. وإنما الخير ضرب من الجمال، والشر ضرب من القبح. والشاعر يعرف أن الشر محتوم ولكنه يعرف أن من الحتم أيضا الطموح إلى ما وراء الشر المحتوم من الخير المحتوم. ومن أجل ذلك كان كل شاعر كماليا سواء أعرف أم لم يعرف. وهو إذا نبذ عقيدة اقتران الجمال والخير، إنما ينبذها شوقا إليها، كما يهجر المحب عشيقته من هجرها إياه، وإنما الحياة أو الحق كالميزان، لا يعتدل أعلاه إلا إذا استوى جانباه. ومن أجل ذلك صار الشاعر يعدل بطموحه وخياله وجمال شعره جانب الذين لا يعرفون فروض الشعر ومنزلته من الحياة، كما يعدل كل نقيض نقيضه. وهذا أساس الحياة. ألا ترى كيف عدل عيسى - عليه السلام - روح الأثرة في دولة الرومان؟ وكيف أن رفض شوبنهور للحياة يعدل تقديس نيتشه إياها، وتقديس كل ما تغري به؟ ومنزلة السعادة في الحياة كمنزلة الشعر من النثر. والذين يسعون في نصرة الخير واستخلاص السعادة التي فيما دون المحال، يأخذون نثر الحوادث فيجعلونه أوزانا وأنغاما.
ومن أجل ذلك يتغنى الشاعر بالبطولة ورجالها الذين يشايعونه في مداواة قبح الحياة، ولو لم يكن من المكافحة كي يستخلص من الحياة جمالها إلا التغني بما يلهي المكافحين، ويليح لهم بمثال الجمال المنشود أو تحذيرهم باليأس والسخر إذا استناموا إلى الأمثل، أو اتخذوا منه مرقدا لكفى.
ولا ريب أن شعر الشاعر ابن طبعه ومزاجه ، وأن الشعر ضروب متغايرة. وذلك لا ينفي ما ذكرنا. هذا شكسبير ما ترك جانبا من جوانب النفس وهو من رحب النفس بحيث يسع الجرم والمجرم، ولكنك لا تجد فيه تزيينا للباطل إلا على لسان أهله وصفا لهم. كما أنك لا تجد فيه وعظ من لا يرى إلا جانبه من الحق. وإنما نريد بذكر ما ذكرنا، أن الرغبة في الشعر من أجل أنه شعر، لا من أجل مقصد خلقي حق إذا عنى الراغب أن الشاعر ينبغي أن لا يتجاوز أصول فنه التي يهيئ بها لذات الفنون، كي يبلغ من النفس مبلغه من التأثير فيها بتلك اللذات، وأما إذا قيل: إن الشعر لهو ساعة؛ فهذا قول من اللغو!
الحياة والحق
هات اسقني الذكر الخوالد هات
إن النفوس كثيرة اللفتات
يا ساقي الذكرى، كئوسك أضرمت
من ذا الرحيق النار في لهواتي
أصحوت من خمر الحياة وإنما
طيب الحياة يصاب في الغفلات
والعقل أليق بالفتى من غفلة
للسعد تحكي غفوة النشوات
لولا فروض العيش لم أعبأ له
جيشا من الآراء والعزمات
وتكاثر الحاجات ينبئ أنما
خلق النفوس لأعظم الغايات
وهي المنى صوت صداه صرخة
لليأس ثم الموت كالسكتات
واليأس ينبئ أن فوق جهودنا
خير المنال وأعظم الرغبات
لولاه لاستوت المطالب كلها
حيث الحضيض ووهدة الوهدات
إن الفضيلة والرذيلة لذة
خير الجنى يجنى لخير جناة
لا تسعد المجدود منك برحمة
أهل الجحيم أحق بالرحمات!
وهي التجارب للعقول صياقل
صفحاتها للغيب كالمرآة
إن التجارب كالأزاهر جمة
أوما اغتفرت الشوك للزهرات؟
يا قلب لا يغنيك ذعرك للأسى
فالخوف أول مهبط المهواة
والموت ظل الله أبشر إن دنا
في ظله أمن من الحسرات
ثبت الزمان ونحن نعدو عمرنا
ونخال أن الدهر ذو نقلات
كالراكب العجلان ينظر حوله
فيرى الشخوص سريعة العدوات
والعيش كالحرباء يخدع لونه
والحس بعض حبائل الخدعات
فالمرء يسري وهو قيد مكانه
سكن الوجود لشدة الحركات
والحق مثل الشمس يهلك آله
والشمس أم الخير والآفات
أم الهدى لكن بعض ضيائها
رفع السراب وغر في الفلوات
والحق مثل الشمس يجعل ضوءه
بعض النفوس قرارة الحشرات
والمرء في دنياه خابط حندس
آراؤه ضرب من الخطوات
كم حكمة فيها الدواء لعاقل
لو يدرك المعلول عزم أساة
والعزم شيء لا يباع فيشترى
من للشقي ببائع العزمات
والموت بحر والنفوس لآلئ
والعيش فوق الموت كالموجات
لسنا نصيب الحق فيما نبتغي
لكن كظل الحق في الصفحات
نبغي من الدنيا نظام محدد
فى رحبها برء من الغايات
فنظامها ألف النقيض نقيضه
ونقائض الأيام كالأخوات
والعيش غيم والعقول جلاؤه
كالشمس تنقش جانب المزنات
نظر الأنام إلى الحقائق في الدنى
كتطلع الحمقاء في المرآة
كالطفل ينظر في الأضاة فينثني
متسائلا عن روضة وأضاة
والفكر دائرة يظل يدورها
في دهره متقارب الدورات
فلكل دهر دورة معلومة
ومطالب موصوفة المسعاة
والفكر يعظم وهو في دوراته
كالماء حول مواقع الحصبات
والحق في الأضداد يلقي سره
ولقلما ندريه بين عداة
كالمرء ينكر في الوجوه غريبها
ويحن نحو أحبة ولدات
والحق مختلف المقاطع والنهى
متباين الأسباب واللهجات
والعيش مثل الشمس يعمي ضوءه
عن أنجم تزدان بالظلمات
ولعل في ظلم الحمام زواهرا
تجلو الظنون وتكشف الغمات
احزن ولذ وقل لكل مقدر
يا مرحبا بالحزن والفرحات!
وخذ الأنام على عوائد كيده
واغنم صفاء العيش في الفلتات!
أبو الهول
أنخت فوق الدهر بالكلكل
وكنت مثل الواعظ المرسل
عند فلاة قل قطانها
هل باختيار كنت في معزل؟
مضى الألى شادوك في مجدهم
كأنه منك لدى موئل
فهل مللت العيش من بعدهم
كأنما جللت بالمثقل
ثقل من الدهر تحملته
لو حل بالأطواد لم تحمل
فهل يدر العيش من بعدهم
أم ما ضروع الدهر بالحفل؟
وأنت مثل الخان في لبثه
ونحن مثل الراكب المعجل
غدا ترى عيناك من بعدنا
غير حلول الحي والمنزل
كم أمة من بعدها أمة
قد رحلت عنك ولم ترحل
فأنت سفر الدهر خطت به
يداه آي المحكم المنزل
فاتل لنا من آيه آية
لعلنا نجنب ما يبتلي
كم وعظ الدهر فلم نزدجر
وكم سما الناس ولم نعتل
قيدنا العجز ونرجو علا
يسمو الذي في الطير لم يكبل
نعاف مستطرف ما يرتجى
كأننا في العيش لم نجبل
فيا مثال الدهر يا رمزه
كم صنم في القلب لم يبطل
كأن روح الدهر في جسمه
إن تره من نحوه تمثل
تحسبه من هيبة عاقلا
من حسب المرهوب لم يعقل
كأنما في طي ألحاظه
ذكرى لعهد الزمن الأول
كأنه في صمته حارس
يحرس باب القدر المقفل
يا عجبا أبصرت ما قد مضى
ونظرات منك لم تقتل
أبصرت أكل الدهر أبناءه
ألم ترع من ذلك المأكل؟
بينكما نجوى على صمته
وصمته في فيك كالمقول
عشش فيك الحادث المجتوي
وكنت عرش الرمية الضئبل
مرت بك الأيام مخشية
كأنها مرت على هيكل
فابعث لنا من عزمها عدة
فلو سألت الدهر لم يبخل
ولو نهيت الدهر لم يعتد
ولو زجرت الدهر لم يقبل
والدهر كم تسحر أحداثه
لب غضيض اللب والمفصل
أي حكيم قد رأى ما رأت
عيناك في الدهر ولم يذهل؟
يا ناظرا ينظر هذا الورى
نظرة طرف الناظر المعضل
انظر إلى الأقدار في غيبها
واذكر مآل العيش في المقبل
أغابر الأيام في صرفها
كمضمر في الغيب مستقبل
أمالك عوجل عن ملكه
كذي علاء بعد لم ينزل
والناس حلي القاهر المعتلي
يألم نار الحاذق الصيقل
يصوغهم كل غلوب على
سنة ملك الرمح والمنصل
كم عبرة للناس أبصرتها
وعبرة للهاطل المسبل
فهل دموع النحس تحيي الورى
مثل عقيب المطر المرسل؟
أراك لا ترثي لما نابهم
يا ليتني مثلك لم أحفل!
ومقلة تخبر ألحاظها
أن عيون الدهر لم تسمل
والدهر وهو الساهر المعتدي
يغضي وعين لك لم تغفل
ورب لحظ منك قد رشته
في قلب هذا الدهر كالموغل
فابحث خباياه وأحناءه
واكشف لنا عن ذلك الغيطل
كأن روح الدهر تبغي به
وكنا لها أحكم كالمعقل
تحسبه لو جئته ناشدا
معنى حياة الناس لم يجهل
يا من سؤال العيش في صمته
اسأل ومن لم يدره فاقتل
كم امتطى الأيام تجري به
كأنه والخلد في منزل
كم عب لج الدهر ثم انثنى
إلا بقايا الماء في الجندل
كأنه منتظر موعدا
حين كي ينطق بالمقول
لو فاه يوما ذاكرا سره
لم يعجب الرائي ولم يعجل
أو أنه المسحور في صمته
قد كان يمشي مشية المشبل
فخاف صرف الدهر من فتكه
وعلمه بالحادث المقبل
فذاده بالسحر عن نطقه
حتى تناسى عيشه المنجلي
هرم خوفو
يا موجة للدهر لم تهزم
تعلو علو الجبل الأعظم
وما رأينا قبلها موجة
تعلو فلا تحدر للمحطم
ما الناس والآثار من بعدهم
إلا كموج إن علا يهزم
موج لبحر ما له ساحل
غير الردى في لحده المظلم
كم عند شط الموت شلو ردى
يقذفه الدهر إلى ضيغم
هل أنت شلو لزمان قضى
رفاته الآثار لم تردم
لم يبق من عمران من قد مضوا
إلا بقايا الجلد والأعظم
كأنما يدخر من مجدهم
ما يدخر النمل من المطعم
كيف نرجي الدهر ذا عفة
إن ذاق طعم اللحم لم يقرم
لا يسمع الدهر سوى منصت
بالروح إن يصغ له يبكم
همهمة يطلقها عارم
إن يمضع المودى به يبغم
هل خاف هذا الدهر صرف الردى
فشاد صرحا منك لم يثلم؟
لا يجرؤ الموت على بيته
في هرم كالجبل الأدهم
أم شادك العقل لكيما يرى
من فوقك الأقدار لم تهجم؟
بعيدة لم تبد أشخاصها
تهفو لنا في يومها الأيوم
كي يؤذن الناس بإقبالها
من قبل أن تفجأ بالمقدم
إن أرزم الرعد على شاهق
ففوقك الأيام كالمرزم
أو كللت هامته ديمة
وطفاء مثل المجسد المسهم
فوقك أرواح عصور خلت
كديمة سوداء لم تحسم
هدت يد الدهر مشيد البنا
وهو إذا أمك كالأجذم
كم أنزل الدهر شآبيبه
على جبين منك لم يهرم
كالمزن فوق الزهر يحيا به
زهر الربى من غيثه المرهم
كأنما الأيام ظئر به
تغذوه منها بسليل الدم
كأنما ينمو على مرها
فيرتدي تاجا من الأنجم
قد شمخ الترب به عزة
كشامخ بالأنف لم يخطم
أم قلصت وجه الثرى كبرة
فأنت من تجعيدها الأقدم
أم كفنيق ما له راكب
يمنع ظهر المكرم المقرم
أم ثدي مصر إنها ناهد
عشيقة للقدر الأزلم
أم أنت ناب الأرض ذا شحذة
خلف في شدق فم الأهتم؟
أخرج صخر الأرض طياته
حتى بدت كالهرم المفعم
أم كيف شاد القوم أحجاره
حتى بدت في عظم المخرم؟
كأنما روح زمان مضى
معشش فوقك كالقشعم
يا معبدا يعبد فيه الحجى
إلى الحجى في صنعه ينتمي
أجل ما تعبد فيه النهى
سليلها في صنعه المحكم
قد حلمتك الأرض في بطنها
كأنها المقلات لم تعقم
تمخضت عن علم أروع
مفذة في الحمل لم تتئم
ثم تردى بعلها بعده
كيف نرجي النسل من أيم
يا علم الدنيا الذي قد غدا
عجيبة الغائر والمتهم
علت بك الأرض كمن قد علا
برأسه الكبر فلم يهضم
رفعت رأسا منك ما طاله
رأس البناء الشامخ الأقوم
كأنما كل البنا سجد
من هيبة للملك الأعظم
يا ملكا ما انحل سلطانه
قد هدم الماضي ولم يهدم
كم دولة قد ضاع سلطانها
ودولة الأهرام لم تهرم
كم شابكت كفاك أيدي الردى
ثم انثنى عنك ولم تكلم
يا غير الأيام في كرها
من أبيض نأمن أو أسحم
تباعدي إن شئت أو فاهجمي
على شبيه البطل المعلم
هيهات لم يبد له مقتل
قد أخطأ الرامي فأشوى الرمي
كم خال فيك الناس سرا طوا
ه الدهر لم يكشف ولم يعلم
خلوا الألى شادوك قد أودعوا
فيك رموز المطلب الأكرم
ما أودعوا إلا كنوزا غدت
نهبة كف الصائل المجرم
وكل ما لم يبد كنه له
يخال كنز الحق والمغنم
والمرء يبغي الحق في خدره
ولو بدا في أعين الأنجم
ورمة خبأها كاهن
لفاتك الآراء والمخذم
رمة رب رائع عزمه
قد أخرجت من بعد للمرجم
جلال روح منه ذي همة
مجسم في صنعه المحكم
لا تحسبن الناس لم يجدهم
غير منال البرد والمطعم
فالنفس تبغي أن يرى كنهها
مجسما في صنعها الأعظم
لم يصلح الناس لذي أمرهم
غير شفيع السيف والدرهم
أظلمهم من ساغ طعم الأذى
ليس الذي يظلم بالأظلم
كل ضعيف خيره علة
من ذا الذي صح فلم يعرم؟
الليل
يا جوهرا نفسي له صورة
لأنت عندي بالمكان المصون
كالنجم في البحر يرى نفسه
في كوكب الأفق القصي! الشطون
قم حدث الليل حديث الكرى
فطيره قد عششت في الجفون
كأنه المرآة مصقولة
تصقله الأحلام صقل القيون
الكون وكر والدجى واقع
كالطير تؤوي فرخها في الوكون
يصيخ قلبي تحت أستاره
كالطفل يصغي لدعاء القرين
كأنما أحسب أستاره
مسدولة فوق اليقين المبين
أكاد أن أسمع في جنحه
وجيب قلب منه جم الشجون
وناطق بالصمت كانت له
هذي الدراري مكان العيون
أحسبه قد شاب مما رأى
فالشهب فيه شعرات السنين
كلا هو الخالد في ملكه
متوجا بالنجم فوق الجبين
تكاد تبدو النفس في جنحه
كالوضع يبدي من خفي الجنين
تشدو لك النفس بأنغامه
كالريح تشدو في حفيف الغصون
في فحمة الليل وقود النهى
وفي دجى الليل ضياء الحزين
كأنني في جنحه مفردا
سحابة الحزن بقلب الركين
كأن روح الموت في جنحه
تخطر في أثناء هذا السكون
الصمت سجن والدجى حارس
والصوت مأسور عليل الأنين
أو كوليد كل من ضحكه
تحصنه أم رءوم حضون
أو هو صب عاشق للدجى
تناجيا باللحظ بين الجفون
كأنما هذا الدجى معبد
وفي خشوع الحي صمت اليقين
أو كضريح النور يخفى به
قد خط فيه للنهار الدفين
هل ذهلة الأصوات أن قد رأت
ما أودع الليل غلاة الظنون؟
تلفت الريح به خيفة
هل عادها من ذعرها كالجنون؟
كأنه ظل ظليل بدا
لدوحة الفردوس ذات الغصون
أما ترى أثمارها في الدجى
نجما تناءى مثل ذخر الضنين؟
أم هو ظل الموت إما دنا
سغبان يسعى لاقتضاء الديون؟
أم هامة اليوم الذي قد مضى
يهيج من روع الجبان الظنين؟
فالكون منه خاشع حائر
مات به الصوت ومات السكون
وخلفا روحيهما في الدجى
كما يروع الحي روح الدفين
قلبي عود خافق قلبه
أوتاره تنبض نبض الوتين
تفهو بي الذكرة في جنحه
كأنها هامة ماضي السنين
أو دمية ينحتها ناحت
يحكي بها من أمس هلكى الشجون
أو كهدايا هالك غابر
تطير عنها خطرات المنون
الليل مثل الماء في ركدة
والصبح يبدو مثل ماء معين
سؤر العيش
يمر بي زمني كالصل منفلتا
من بعد ما كان كالأطيار وثابا
أمسي كنهي أرى في قاعه دررا
تذكي اللواعج أن قد غاب ما غابا
حتى لقد صار لي عشا ألوذ به
والقلب إن ذيد عن أوكاره آبا
كم طارت النفس في رأد الصبا مرحا
كالطير يبغي بنهي الشمس تشرابا
مثل الندى وجناح الضوء يحفزه
يسمو بخارا فإن حط الدجى آبا
قد تهبط النفس مثل الطير عاجلها
نسر الظلام فكان النسر غلابا
أحارس كان هذا الموت من قدم
أغفى فأفلت صل العيش وانسابا
وكان حية حواء التي خدعت
بلذة العيش أوابا ولعابا
ولذة العيش أثمار مهدلة
تبقى رمادا إذا ذيقت وتورابا
إن الصبا معبد للعيش نعبده
على مضاضته بوركت محرابا
ظل الجنان رفلنا في غضارتها
حتى تقلص ظل الخلد وانجابا
والموت كالأسد العداء تلقمه
لذائذ العيش تخشى منه أنيابا
لا بل هو الظئر والأرواح في يده
كالطفل في المهد لا تألوه إطرابا
والعيش كالنرد ترمي غير محتكم
فيطلع العيش حرمانا وإنهابا
أدلى لي الدهر خيطا من حبائله
فعدت ما عاد هيابا ووثابا
كالحوت أفلت مكلوم اللهاة فإن
أدليت خيطك ألفى فيه آرابا
كم عشي القلب في ضوء الصبا فمضى
كخابط الليل أعمى بات جوابا
والظل والشمس لا يبغي افتراقهما
فما ابتغاؤك عيشا لم يذق صابا
فاجعل همومك بيتا غال قاطنه
عادي الوباء فلا تطرق له بابا
كزائف الذخر قلب ليس ينفق في
سوق الحياة وإن أثرى وإن طابا
وما انتفاعي بخير كله فشل
يأسى الصفي ويمضي الخب خلابا
والمرء يغفل عن أمر الحياة وما
جبنا يطامن بل حزما وإصحابا
ضمائر الناس كالرعديد يزعجها
صوت السكون فتبغي فيه صخابا
يندس في غمرات العيش جارمهم
وقد يبيت لوحي النفس هيابا
كذلك المرء يخشى أن يرى أبدا
مفكرا خاب تسآلا وتطلابا
قارض مضيفك من بشر ومن كرم
إن الزمان إذا ريبته رابا
والسخر مرآة إبليس التي نصبت
إن تبصر الحق فيها عاد كذابا
ذكرى أمس
مدت لك الذكرى وجيع القيود
مخبوءة في خدعات الجدود
كأنها ذو إحنة ماكر
يهدي صلالا تحت زهر نضيد
وقبر أمس شاحب مائل
كذي حياة راكع بالوصيد
والذكر دوح فوقه باسق
أفنانه مثمرة بالوعود
والذكر صل لاذع نابه
يا ليته يخلع رث العهود
كالحية الرقطاء في خفية
ينخر من قلب الأبي الجليد
مطية الذكر على نهجها
معكوسة المسعى لخلف تحيد
كأنما إذ عفت باب الردى
تبغي خلاصا من سبيل الوليد
كي تتخطى أزلا ماضيا
ترجع منه عن طريق الخلود
كم تبتغي أمسك إن ساءك ال
يوم وأمس معجز من يعيد
يا مخرج الملحود من قبره
لم يبق منه غير عظم ودود
أمس الذي فات على قربه
كالأبد الآبد قاص بعيد
وإن يسؤك اليوم ترج غدا
إن غدا ليس بيوم جديد
فانظر إلى أمس مضى واستعن
منه على اليوم برأي سديد
الشيخ يبغي ضلة أمسه
وفي غد اليافع حلم سعيد
نعسة الطرف
عيناك عيناك منبت الذكر
كالزهر في قاع رائق الغدر
فنعسة الطرف أنه أبدا
كذاهل قد أصاخ للفكر
بالله ما تذكر العيون أأل
حاظ مشوق بالصبر مستتر؟
أم تذكر العهد حيث لا عذل
يلوي بصاد عن مورد خصر؟
أم طرفك الناعس النئوم يرى
ما من من فتنة ومن سكر؟
لواعج العاشقين ذخرك وال
ذكرى وعاء لخير مدكر
تنظر في أنفس وفي مهج
فعل غني يرنو إلى الذخر
أم رحمة غضت اللواحظ م
ما يشتكي العاشقون بالنظر
أم لوعة رنقت لحاظك إذ
عشقت عشقا لحسنك العطر
أم غضة في لواحظ حلم
بعالم الحسن طيب الخبر!
بعالم أنت من بشائره
بشرى طيور الربيع بالزهر
يخفي اقتدار العيون إن نعست
كصولة في الخفاء للقدر
كم صائل سيفه تشفعه
وصائل بالحياء والخفر
قد تقصف الريح كل عاتية
وتعجز الريح عن أذى الخور
عينك من لمحة الزواهر أم
مقبوسة الضوء من سنا القمر؟
أم من غدير الحياة حف به
من هدب عينيك باسق الشجر!
كم جاءك العاشقون من نذر ال
حب بخير الزهور والثمر
فكيف ترعى لحب محتضر
ينبت من قبره على مدر؟
ولست أرضى لمثل وجهك قل
با بين جنبي غائض العذر
نفسي بحر ظللت أسبره
كما يغوص الغواص للدرر
والذكر كالبحر كم رمى جيفا
تبدو كغرقى السنين من عمري
فانعم فإن الحياة دانية
قطوفها، وامضها على غرر!
قبس الحسن
شعري بحر وأنت ساحله
قد صده عنك قلبك الحجر
يا ليت أن الخلود لي قبس
من حسنك الغض ناله الشرر
كيما أنير الحياة قاطبة
أوضاحها من جداك والغرر
كالبدر يكسو الأشياء حلته
وشي من السحر حاكه القمر
فاكس بأنوارك الورى أبدا
كي لا يبين الشقاء والعسر
يا شمس حسن حياتنا ثمر
ينضج في ضوء حسنك الثمر
ويخصب القلب إن رآك كأن
الحسن إما جلوته مطر
أشعل بألحاظك الحياة فإن
الصخر إما رمقته درر
يا عار حسن جلوت غرته
إن لم يرق في قريضي الأثر
وأنضب الناس فطنة وحجى
تنبع فيه من حسنك الغدر
عطرت برد الحياة قاطبة
فكل شيء لمسته زهر
أنت أعرت الحسان روقتها
كأنها منك أنجم زهر
والحسن روح الحياة يستره
للقبح ستر كالقشر يندثر
أو مثل لمع البريق آونة
لناظر، والظلام معتكر
يا بارق الحسن في الحياة أما
تبصر من شاق قلبه النظر؟
ود شحيح رأى جمالك لو
تصاغ منه الحلي والبدر!
درع الحياة
البس على السمع درعا
والبس على العين درعا
فالناس شاك وعاد
يبغون في الدرع صدعا
والمرء جد شقي
إن ضاق باللؤم ذرعا
واقهر فلست بناج
إن رمت باللين طوعا
تقلى من الصحب مما
نرضى من النفس خدعا
إن نعمة بك حلت
ساءت لدى الإلف وقعا
حتى كأن لها في
حشاه نهشا وقطعا
تكاد تخطم أنفا
منه وتثقب سمعا
فليس يبرأ صدرا
إلا إذا شام نفعا
تخال في العين منه
أفعى وفي الثغر أفعى
يروم خفضك كيما
ينال بالخفض رفعا
وليس يرحم إلا
من هاب للشر وقعا
أو من يسر بأن قد
عداه ما بت ترعى
فإن رجوت رحيما
في الخطب ألفيت قذعا
عدوا الشقاء اجتراما
والخفض فضلا وصنعا
فالبس على الصدر درعا
والبس على القلب درعا
طائر السعادة
لعمرك ما اللذات إلا حمائم
تنوح على أفنانها وتطير
نشدتك يا طير اللذاذة والهوى
أما لك في هذي الحياة وكور؟
وإن الذي يرجو السعادة واثب
على ظله لو أن ذاك يجير
وبعض مساعي المرء حمى وخيبة ال
مطامع برء للحجى ونشور
ومن لم يجد في نفسه ذخر عيشه
فليس له بين الأنام نصير
وهل يستقيم السعد للمرء في الدنى
ومطلبه بين الضلوع سعير
وليس شقاء المرء فيما يصيبه
ولكنه طبع له وضمير
هو العيش كالحسناء تبغض محجما
جبانا، ويحظى بالوصال جسور
ومهما يتح في العيش فالخوف خادم
وكل جريء في الحياة أمير
ومن صان عن رق المطالب عنقه
رأى أن خطب الدهر ليس يضير
قلى العيش حب العيش قد شط رغده
كما يبغض المهجور وهو أسير
كمن يبغض الحسناء يقلى دلالها
وفي الصدر منه لوعة وزفير
إذا أخطأ المرء السعادة خالها
سرابا يغر العين منه غدير
وليس عجيبا أن يرى العيش مجهلا
فإن الحجى طرف لديه ضرير
وما السعد إلا حكمة وتجاوز
وإنك رب في الأنام غفور
تكيد بصفو الصفح من يبتغي القذى
لوردك، إن الشائبين كثير
ومن لم يجد في عيشه فرض آمل
رأى أن سعدا في الحياة عسير
ومن ضم قلبا أخطأ السعد خاله
يتاح له بعد الممات حبور
أماني خلف الموت ظل حياته
يقيل بها والحادثات هجير
بدا لي أن لا سعد إلا تصبر
تقر به في النائبات صدور
وعزم وإيمان وطبع وحكمة
ورأي بآلاء الحياة خبير
وإن أجل الخلق ما هو مقبل
تهيئه بعد الدهور دهور
وإن الأذى سبر القلوب وصيرف ال
نفوس وقين للعقول وظير
وراجي حياة ليس للشر بينها
مثار تنال النفس منه حرور
كمن يرتجي أسباب أمر يعافه
وذاك محال في الدنى وغرور
وليس أعز الرغب سعدا فإنه
يضن بعيش ليس فيه سرور
ولو أن خلدا كان أمرا مقدرا
أهاب الفتى بالموت وهو قرير
لا مرحبا بالأقدار
ألا ليت للأقدار قلبا وفطنة
أيرحمنا من لا يساء ويجذل؟
وهل نافعي ذم القضاء وجوره
كما ينقم الظلم الأسير المكبل؟
وهل يملك المظلوم إلا شكاته
وإن كان حمل الحتم بالصبر يجمل؟
ولو كان هذا الحتم قرنا قتلته
فإمرته حمل على النفس يثقل
ولو كان سعدا خلت أني ملكته
ولكنه نوء من الشر مسبل
إذا فر نحو الدار طرف لراكب
توهمه طوعا إلى الدار يرقل
ولو أن صبرا كان روع بالذي
بليت به ما كان للصبر موئل
ولو أن خطبا نابه بعض شره
لأصبح لا يصمي ولا يتغلغل
فمن لي بنفس في الشقاء نعيمها
كأني في نار الشقاء سمندل!
مرحبا بالأقدار
إن الذي بث في الخوف علمنى
حمل الهموم فكل الأمر أقسام
إن كان بي جزع فالصبر غايته
أو كان بي سقم فالعيش أسقام
وإن دمعي حتم لست أدفعه
إذا ابتلاني إثخان وإيلام
فإن تربت فعيش المرء متربة
وإن غرمت فبعض الغرم إنعام
وإن مدحت فأمر كان عن قدر
يجري القضاء فيسري اللوم والذام
يا مرحبا بالذي يأتي القضاء به
حظ المحكم ترحيب وإعظام
حزم المزور إذا ما زاره ملك
أن لا يلوح به حقد وأوغام
أدر علي كئوس العيش قاطبة
سعد ونحس وإهوان وإكرام
إن كان عيش فإن العيش محتمل
أو كان موت فما لي عنه إحجام
الظمء والجوع والأسقام قاطبة
والذل والفقر تقدير وإرغام
وإن لجأت إلى موت ألوذ به
فالموت عن قدر والعيش أعوام
فإن فررت فمن حتم إلى قدر
قد استوى فيه إحجام وإقدام
والجسم في العيش لا يعيا بمؤلمه
وإن أتيح له نوح وإرزام
هذي مرارة كأس لذ شاربها
خمارها فهو عباس وبسام
والنفس كالخيل والأقدار رائضها
فالبؤس ركض ورغد العيش إجمام
ما دمت تعدو من الأقدار عدوك من
ضاري الفواتك فالأقدار آلام!
خلود التجارب
وكم ساعة كالخلد فزت بخيرها
هو الروح حر لا يذل لتحكيم
بلغت بها أقصى منى النفس كلها
كأن قضاء الدهر ليس بمحتوم
نفوس تود العيش نهزة لاعب
فتحسب أن العيش أضغاث محموم
ترجي سني العمر كالنحل ضمنا
لعيش كأري النحل ليس بموهوم
ترجي خلودا والخلود عناؤها
وأي بقاء خالد غير مسئوم
وما الخلد إلا ساعة تقنع الحجى
وتسعد نفسا لا تدين لتهويم
وقالوا بأن العيش فرض مبغض
وذلك حرص منهم غير مكتوم
وعذر على حب الحياة ولهفة
وأي امرئ في العيش ليس بمكلوم
يعيش شقي الناس من خير عيشه
وإن كان يسعى في الورى جد مهموم
يظل فتى في نفسه ذخر ذاخر
وإن كان محروما كأن غير محروم
فما العيش إلا حكمة وتهادن
فيخلط مجهولا لديه بمعلوم
ويخلط حلوا في الحياة بحنظل
ويأخذ من عيش حميد ومذموم
وقد صح أن الجد يلهي عن الأسى
وإن كان جدا لا يجيء بمغنوم
وكم نهزة بالحس لم أحس خمرها
حسوت بنفس تستقاد بتكريم
هو الروح مثل الحس في كل لذة
وليس نعيم نال روح بمحلوم
وطالعت في سفر الحياة كأنني
ظفرت بسفر في التجارب مرقوم
فما نفع هاتيك التجارب هديها
وليس أخو التجريب فينا بمعصوم
ولكنها لذات نفس تمرست
بوقع مرجى أو مواقع منقوم
فمنها مصيف للنفوس ومربع
ومنها كعام المحل ليس بمرهوم
المثل الأعلى
يزعم الزاعمون أن أخس ال
خلق في النفس لازب لن يزولا
كيف لا يخلد الخسيس من النف
س إذا ما اعتقدت أن لن يحولا
مرحبا بالمحال فك عن النف
س من العجز والقنوع كبولا
يشرق المرء بالزلال فهل كا
ن زلال من أجله مرذولا
إنما التذت الحياة لأن كا
ن ستير من أمرها مجهولا
كل معنى عرفته كان مملو
لا ومعنى جهلته مأمولا
إني ولعت بروقة الأحلام
أألام في طربي وفي استغرامي؟
دنيا يشط بها المنام إذا نأى
صد الحبيب يشط بعد لمام
ومن استنام إلى الحقائق لم يجد
عزما سوى ناب لديه كهام
عجبا نعاف الخير وهو محبب
حتى كأن الخير في الإحجام
جهل الورى فمضى الورى في الشر إن
الخير كل الخير في الأحلام!
ما في الوجود حقيقة غير النهى
فاطمح بنفسك للذرى والهام
أتنال أوهام الحقائق قانعا
وتعاف خير حقائق الأوهام؟
والعيش إن لم تبغه لعظيمة
فالعيش حلم طوارق الأعوام
لفررت عن دار المذلة والأذى
لو فر بعض الناس في الأحلام
وبدا له بين الحقيقة والكرى
باب لولاج العوالم سامي
فيفر منه إلى الفضائل والنهى
وينال ما يغلو على المستام
إن خلت أن الذام ضربة لازب
في النفس كيف تعاف ضر الذام؟
والنفس إما شئت كانت عالما
يسع الدنى في طوله المترامي
فكأنما جزع الزمان جناحها
فرأته من خلف له وأمام
وكأنما حد الفضاء يحدها
يا طيبه من منزل ومقام!
فإذا سكنت إلى مجالي عيشها
ذللتها بخزامة وزمام
ورأيت عالمها الوسيع كعالم
للنمل يصغر عن مدى الإعظام
لو كنت تعرف قدر مقبل علمها
أو جهلها لكشفت كل قتام
وعرفت ما العرفان لا يلوي به
أقصر فليس مرامه بمرام
والمرء يضمر للبعيد مهابة
فإذا دنا ألفاه حظ طغام
ويرى المحبب بين ذين يرومه
بالنصر آونة وبالإكرام
ولرب نفس كالخشاش مطارها
زحف الصلال تدب في الآجام
أنى يكون معبد لحياته
بين الأباة الصيد والأعلام
ولرب مصفود بلذة عيشه
كالنحل يصفد في الجنى بحمام
ومن النفوس ذوات أجنحة ترى
كالطير ناهضة على الآطام
ولذاذة الآثام في ندم علي
ها قد أتيح لجدة الآثام
إن السكينة قد يمل نزيلها
حتى يلذ العيش في الآلام
بئست حياة قد رضيت براكد
من أمرها وقنعت بالإجمام
فالنفس للمثل الأجل طموحها
كالنجم يهدي من وراء ظلام
طورا كما رقص السراب وتارة
يشفى به من غلة وأوام
كالبدر في ليل العواصف ساطع
في أفق مخشي الزماجر طامي
يبغي به الملاح هدي سفينه
في زاخر باللج كالآكام
كم صان من جأش الحزين وكشفت
لمحاته من سدفة الإظلام
من ذاد عنه النفس يخشى هلكها
كمعالج للظمء خوف جمام
صنو الذي لم ترضه لمحاته
من يبتغي في النجم فضل ضرام
لولا وقوع شعاعه في نهجها
ضلت عليه طليقة الأيام
والمرء إن نبذ الكمال وهديه
شق العصا وأحل كل حرام
ورأى الأنام فريسة مذخورة
لموفق في شره عزام
ولقد يعود قذى يصيب به العمى
فينال من عزم ومن إقدام
كالنار يهلك حرها وضياؤها
يعشى وفيها من هدى وقوام
يحكى أضاميم السقام ولوعه
فكأنه سقم من الأسقام
ولطالما خاض الفتى من أجله
كيما يكون زواخر الآثام
أقسى الأنام من استبد به الحجى
فسها عن العبرات والآلام!
الفصول
طيري أماني النفوس وغردي
فلقد دعاك الروض خير دعائه
هذي عيون للطبيعة قد رنت
في الزهر من أكمامه وخبائه
بسط الربيع على الحياة رداءه
يا ليتها أبدا ترى بردائه
بل ليته برد نخيط على هوى
هذي النفوس لكي ترى بروائه
والشيء لولا أن يروع بفقده
ما شاق عند قدومه بلقائه •••
لا كالشتاء تزايلت أوراقه
كتزايل المهجور عن قرنائه
تتناثر الأزهار عن أفنانه
كتناثر اللذات من أهوائه
وتخال إذ دلف الشتاء كأنما
ساق السنا بدبوره ورخائه
هرب الضياء من السحاب وريحه
هرب الكعاب من الهوى وقضائه
فر الخريف من الشتاء وخلفه
عاد يريد لحاقه بجرائه
مثل المريض يفر من عادي الردى
هيهات ذا، والدهر من أعدائه
راع الشتاء بقره فكأنما
أنفاس ثغر الموت قر هوائه
والريح مثل فم الشتاء وصوتها
شكوى العجوز يخاف من أبنائه
نقم العقوق فقام يشكو أمره
للناس ينشد آسيا لبكائه
والأرض تنظر في فروج أديمها
نظر الفقير إلى ثقوب ردائه
من بعد ما نفدت نفائس كنزه
سرفا وشح العيش بعد سخائه
وكأنما دجن الشتاء مقطبا
ذكرى العجوز لزهوه وفتائه
وكأنما دوح الخمائل في الدجى
نشوى شياطين انتشت بسقائه
شربت من الإظلام حتى أكثبت
تبغي النهوض كمكثب من دائه
في كل غض في الظلام نواظر
كنواظر للغيب خلف كفائه
وكأنما دوح الظلام ثواكل
لبست حداد الثكل فعل نسائه
تحنو عليك غصونها فكأنما
تبغي سرار السمع من إصغائه
والدوح يهفو كالمؤرق في الكرى
يلوي على الأفنان فضل كسائه
تتردد الأرواح في أفنانه
كتنفس الرعديد في لأوائه
وكأن في إطراقها وسكونها
فكر المصيخ لروحه وندائه
يا ليت بعض العمر تقطع بيده
وثبا ويمهل في سني رخائه
كالسفر تقرأ بعضه متريثا
جذلا وتطوي بعضه لهرائه
أو ليت حادي الأرض يعكس سيرها
عن بعض دورتها بوقع حدائه
أو ليت هذا الدهر عقرب ساعة
يلوي به عن نحسه وشقائه
آمال أمس كزهرة قد صوحت
عود الربيع مجدد لرجائه
يا نفس لا تأسي لعمر قد مضى
بربيعه زمن أتى بشتائه
تتشوفين إلى قديم عهوده
نظر الغريق إلى السهى وسمائه
بشراك خلف الموت لو تردينه
نبت الربيع يروق في غلوائه
كالطير بعد الصيف تترك عشها
نحو الجنوب ترود أرض ثوائه •••
عطف النسيم على الأزاهر هامسا
أن الربيع سعى إلى ندمائه
إن الربيع أخا الصبيحة مقبل
إقبال وجه الحب في لألائه
كالظئر بشرت النئوم بأن بدا
فجر لعيد كان قيد رجائه
والقلب مثل الطير في وضح الضحى
يتلو على الإصباح آي غنائه
وكأنما أم الخلائق دوحة
من قبل آدم فهي من قربائه
تشدو كشدو الأم ناح وليدها
تحنو عليه لصونه ووقائه
والريح طير شاد في أفنانها
وكرا كأن الزهر من أبنائه
وكأن أجنحة الملائك نسمها
نسم يطب برفقه وصفائه
وكأن ينبوه الحياة غديرها
خلد الصبا في جرعة من مائه
والقلب مثل النهر باشر ماءه
جسم الحبيب تراه في سودائه
أهواك يا روح الربيع فهيئي
جسما كجسم الغيد في لألائه
ثم ارقصي بين الخمائل في الضحى
رقص المدل بحسنه وبهائه
فلعل في قبلات ثغرك برء ما
أعيا الأنام بحكمه وقضائه
أرد الخلود بقبلة وبضمة
تروي ظماء الخلد من لميائه
والزهر يبعث بالطيور إلى الضحى
تفضي إلى الآفاق من أنبائه
الأرض أم للخلائق كلهم
والشمس بعل شاقها بفتائه
فالناس والأطيار في وضح الضحى
والزهر في الأكمام من أبنائه
النار والأمواه من آبائنا
والنار والأمواه من آبائه
يهنيك يا دوح الخميلة بعده
نسيان نيسان وطيب هوائه
تنسى الربيع كأنه آزفه
نغم البلابل في مثير حدائه
لا تمنع المشتاة عود زهوره
وأريج نسمته وحلي كسائه
يا ليت طيب العمر ينسي ورده
فأبيت مثلك لا أحن لمائه
لكن طيب العمر ليس بعائد
لأخي صدى يظميه صوب بكائه
وترى كحالات النفوس تغيرا
في روضه وسمائه ونهائه
فكأنما للكون روح خلقه
يبدو لنا في غيمه وضيائه
تتغير الأشياء فوق وجوهه
لتغير الأشجان في حوبائه
من لي بأجنحة الزمان أهيضها
كي لا يطير بصفوه ورخائه
أو ليته الغرد الحبيس أقيمه
كيما أراح لشدوه وغنائه
كي يذكر العهد الأنيق وأوجها
كانت تطل على وذيلة مائه
خلع الجمال قناعه وسعى إلى
عشاقه وعفاته وظمائه
والمرء لولا صيفه وربيعه
ما ذاق حلم السعد في لأوائه
والروض باب للجنان وثغرة
منها ترى الفردوس خلف فنائه
وكأنما صبغ الأزاهر صابغ
فتكاد تأخذ منه إثر طلائه
والضوء غدران ترقرق تبرها
وأراق منها الأفق فضل إنائه
واللون شعر للطبيعة وقعه
في العين وقع اللحن في سودائه
شهد الشتاء بأن أفق سمائه
أدنى إلينا من قصي فضائه
والنفس تعظم في الربيع كأنها
في زهره ونسيمه وصفائه
والضوء خمر للنفوس ونشوة
ودم الحياة يشام في أثنائه
والأرض كالحسناء قد قميصها
فبدت محاسن جسمها ووضائه
فكأنما رفع الربيع حجابها
فانجاب ستر الحسن عن حسنائه
والضوء كالحسناء بز رداؤها
فأماط عنها العري ستر غطائه
والقلب مثل الطير هيض جناحه
في نزوه وحنينه وغنائه
والطير أفواه الرياض فشدوها
أبدا يزجي الدهر وقع حدائه
وكأنما نغم الحفيف هواتف
في القلب دوت منه في أنحائه
والضوء من خلل الغصون كأنه
طير الفراش نراه من شجرائه
وكأنه والقلب يذكو شجوه
شرر الغرام يطير من حوبائه
نثرت ذكاء على البسيطة عسجدا
فاذخر ليوم الدجن كنز ثرائه
ولكل شيء منطق يشدو به
والنفس تعرف كنه سحر غنائه
تتلو عليك الطير طيب ثماره
وأريج روضته ورقة مائه
والحسن ظل للسعادة في الورى
إن السعادة لا ترى بفنائه
ظل الجنان على البسيطة واقع
فاستقبل اللذات من آلائه
ينسي الحياة وبؤسها وشقاءها
حتى يخال الحلم أصل شقائه
فكأنه كون حلمت بحسنه
حتى نقلت إلى ذرى خضرائه
هذي الطيور صوامت كنواطق
ذخر النسيم نشيدها لهوائه •••
وكأنما زهر الخميلة إن بدا
حلم الهوى في طيبه ووضائه
والطير أرواح الزهور وصيفها
عهد الشباب يروق في لألائه
ضحك الزمان فذاع من ضحكاته
صيف يعيد الحب في غلوائه
والقيظ يزفر بالهجير كأنما
يتنفس الولهان من برحائه
فكأنما مرح الحياة وحسنها
لهب ترقرق في خفي دمائه
وكأنما نغم الطيور أريجها
يسقاه زهر الروض في أندائه
فيحيله نشرا يضوع ورونقا
يشتار منه النحل أري عطائه
ودت ذوات الحسن أن حليها
كحليه ورداءها كردائه
مرح الكعاب الرود في خطراتها
كالنهر يرقص في ترقرق مائه
والريح تعبث بالغصون كأنها
طفل يعيث على رءوس إمائه
وترى جذور الدوح مثل أصابع
بسط الشحيح يصون كنز ثرائه
وكأنما نغم البلابل مطرة
فوق اللجين شجا مرن إنائه
تندى على القلب الجديب فينثني
روضا يرف بزهره وأضائه
والزهر في وضح الصبيحة قد صحا
صحو المفيق من الكرى وقضائه
وجلت ذكاء ندى الزهور كأنها
أم الوليد تزيل فضل بكائه
حتى إذا اشتد الهجير حسبته
نشوان أثمله اللظى بسقائه
وإذا الأصيل علا السماء حسبته
ذا لوعة حانت نوى قربائه
وحمى على قبل الظلام ثغوره
كمعشق متستر بردائه
وتراه يرنو للنجوم كأنها
حلم يطل عليه في حوبائه
كالطفل يبصر في الوذيلة وجهه
فيخال ذاك الوجه من قرنائه
تحكي النجوم الزهر في دوراتها
رقص المدل بعيشه وروائه
والنجم من خلل الغصون كأنه
ثمر تدلى من علي سمائه
درس السماء صفاءها وضياءها
حتى جرى بعروقه ودمائه
والحي يحيا كالذي هو ناظر
كالأفق يرسم في متون نهائه
والزهر يحلم بالفرادس طرفه
حلم الغريب بأهله وفنائه
حسب الطيور تحاملت عن قلبه
وبدت تبوح بشجوه ورجائه
والقلب مرآة الزمان فصيفه
في صيفه وشتاؤه كشتائه
والكون مرآة الفؤاد فقبحه
وجماله في نحسه ورخائه
والضوء مثل دم الربيع فلا تعف
جرعا تنيل الخلد من ضذائه
هذي الطيور لسانه وغناؤها
مستأنف من شدوه وغنائه
والزهر في حر الهواجر نائم
سحرته باللحظات عين ذكائه
والأرض تحلم بالجنان فصيفها
حلم يزيح القلب من ضرائه
بسط الجمال على الفضاء جناحه
فالصيف من لألائه وروائه
فكأنه ملك يحلق فوقها
فتصيب من آلائه وعطائه
يا ليت أن المرء في أرجائها
متفرق في أرضه وسمائه
حتى يصير من الجمال بمنزل
في مائه ونسيمه وضيائه
وتظل تسمو النفس في آفاقه
كالطير حلق في أديم فضائه
خواطر الأرق
يا ليل أين أليف الهم والذكر
مسهد القلب عون لي على السهر؟
وصاحب الهم يبغي صنوه أبدا
كساهر الليل يقضي الليل بالسمر
فقل لأحلامك اللاتي نراح لها
قولي لمن هو روح الضوء والبصر
خاض الزمان مياه الحب فاعتكرت
كخائض النهر أبدى كدرة العكر
مراسم لك دون القلب يدرسها
كالريح تمحو ظلال الزهر في النهر
وعنكبوت من النسيان ناسجة
خيطا على القلب يخفي أنفس الذخر
جلت عن القلب ذكرى منك طارقة
كمن يزيح القذى عن شرعه الغدر
فابعث بذكراك في قلب نبت به
كالجذر مستوثقا في منبت الشجر
فإن زهرة حسن أنت لابسها
تسقي دمي مثل ري الماء للزهر
والذكر كالطرف إما نابه أرق
يا عازب النوم أسدل حاجب الذكر!
خواطر كطيور الروض سانحة
تستدرج القلب أخذ الطير بالنظر
إن غربت فإلى ذكراك عائدة
عود الطيور إلى الأوكار في الشجر
قد قلت للحب لا تعتب على سكني
لنبوة منه في أيامك الأخر
كم لي وكم لك من يوم لنا بهج
بطلعة منه تحكي طلعة القمر
إن يقس قلبك فالأقدار قاسية
وأسعد الناس من يأتم بالقدر
أو يجف قلبك فالأثمار يانعة
ودون ذلك يبس من نوى الثمر
أو كان قولك مر الطعم لا عجبا
فإن ثغرك كأس العابس الأشر
فارجم بقلبك قلبا أنت مالكه
فإن قلبك مثل الماس في الحجر
ولست أول من أصمى فلا حرج
للناس رجم كرجم القرد بالمدر
لم يترك الناس من قلبي له رمقا
حتى أقول تحرج من دم هدر
يرمونني بقلوب في مودتهم
أقسى من الصخر فعل الراجم المكر
كأنها بعض أحجار الجحيم رمت
بها شياطين تبدي صورة البشر
والحب كالبحر لا يخشى به غرقا
من غاص فيه على الأصداف والدرر
وخالط في الهوى لم يدر لذته
كخالط الكأس أخطا لذة السكر!
غل السرائر
لقد عابني للناس أن عفت لؤمهم
ومن لم يسغه فهو أجنب بائن
وإن رضاء النفس ما ينبغي لها
وليس رضاء النفس ما هو كائن
فيا عائبا نفسي بقولة كاذب
وما عاب نفسا جائر القول مائن
أتبصق في المحراب وهو مطهر
وتحسب أن البصق لله شائن؟
يقولون: رزق المرء مفتاح قلبه
ألا إنه قفل على القلب صائن
فدع عنك هذا الناس إن كنت فاعلا
يكاد المبادي والصديق المداهن
أقولك للأنعام عزي يعزها
وإن قلت لليث اصطبر هو ساكن!
وكيف يطيب العيش للمرء وحده
ومن حوله في الناس باك وحائن
يضير شقاء الخلق من حيث لا يرى
كما تطرق العدوى وإن قيل آمن
يقارب في بغضي عدو عدوه
كما اقتربت في الصدر منه الضغائن
ولخت صدور العجم تضمر بغضتي
فقد شاكلتها في الأنام القرائن
ومن نغص الحساد نعمى يسيغها
رأى أن لحظ الشمس في الأفق عائن
سخائم لا يدري سوى الموت سلها
إذا بشمت منها النفوس البوائن
لئن بلغ الإنسان أفق وهاده
تعجب من غل طوته البواطن
وقد يعجب الإنسان من غل غيره
وقد عمرت في الصدر منه المواطن
وكل امرئ فينا حسود محسد
ولكن على قدر النفوس التباين
لئن كان في نفسي عدو أخافه
فلا غرو إن الناس عاد ولاعن
حياتي حياة إن يلح لي حسنها
يهش لها من سادر الموت ماجن
تضيء شموس المجد آثار من مضوا
أتدفأ منها في الضريح الدفائن؟
آلة الضمير
ألا من لدهر وأيامه
وخب يكيد بإبهامه
يود عشير الورى صنوه
لكيما يسر بإيلامه
وليس الضمير لخير سواه
ولكن ليحظى بأحكامه
ليمنع إتيانه مأثما
يرى مهلكا دون إنعامه
فإن لم يجد فيه هلكا يعاف
تناءى الضمير بآلامه
فلا تبتغ النصف من خير
يرى الطهر في روث آثامه
هل التبر يحمر من سفكه
دماء تصيح بإجرامه؟
وما الناس إلا أخو خجلة
بريء شقي بأحلامه
وذو لوثة ما له من حياء
يخفض من حق إكرامه
فداو الحياء ببعض الشرور
لتفلت من ظن لوامه!
وما كل باغ لخير الشرو
ر ينقع من غل تهيامه
بقدر تقاك يضيرك شر
ك ضير النقيض بإلمامه
وبعض الضمائر داء عياء
يذل البريء بأسقامه
وآخر كالسيف حرب الخطوب
ونور المغذ بإلهامه
ومن لذة العيش جهل المغام
ر لؤم الضمير وأوهامه
وذلك من خير هذي النفو
س، والشر يثني بإبرامه
دعوة المصلح
ألا يا صيحة أطل
قها المحتث في الوادي
لئن كنت طواك الده
ر فينا طي أبراد
أما يزجي خفاء البذ
ر زهر الفنن البادي؟
سقاك السامع الواعي
بصوب الرائح الغادي
وغنى هاتف النفس
بغصن منك مياد
ففي النفس بلاغ من
ك مخبوء لميعاد
وفي النفس اقتدار من
ك مثل الضيغم العادي
غدا ينفجر الصخر
بري الهالك الصادي
وصمت منك قد يحدو
بإبراق وإرعاد
وإن الدهر بانيك
بأطناب وأعماد
وخصت لك في الغيب
مقادير بمرصاد
وكم من دعوة قامت
مقام الماء والزاد
وكم من خافت الأصوا
ت ذي وعد وإيعاد
سيسعى لك أفواج
بإتهام وإنجاد
ويهفو منك في الأقوا
م من غي وإرشاد
ويحكي صادر عنك
إذا مر بوراد
وكم من مختف ينخ
ر في صرح وأطواد
ألا يا صيحة خيلت
أضل طريقها الحادي
وظلت وهي كامنة
كمون الصل في النادي
كما تختمر الخمر
ة في الدن لميعاد
الشهرة بعد الموت
ما أحسن الصيت لو أن الفتى
يزاد عمر الصيت في عمره!
أما ولا نفع يرجى به
وا غبنة الميت في ذكره
يهدم من لذات أيامه
كيما يشاد الذكر في قبره!
وما رأينا بائعا من غد
بما مضى بالذكر من دهره
بشهرة من أزل غابر
ليومه المعنق في فره
سيان صيت قد مضى عهده
والمقبل المرجو من أمره
والذكر ظل لحياة مضت
يخفيه جرم الدهر في مره
ورب ظل خلف ساع سعى
يخفيه جرم الدهر في مره
صيت يعيد الذهن كالمنتضي
والسيف راق العين من شهره
والنفس تبغي الخلد في وهمها
والوهم مثل الحق في خدره
فالبطل في إيمانها نافع
إن لم يربها الوهم في غدره
تحتال بالأهرام طورا وبال
قرطاس يحوي اللب في سفره
سفائن لا بد من هلكها
إذا استفاض الدهر في بحره
دلال الربيع
أنت روح الربيع حين تلالا
يا ربيعا زاد الربيع جمالا
غير أن الربيع وهو عزيز
ليس يسلي عن الحياة رجالا
إن أتى كان قرة ووصالا
أو مضى كان ذكرة ومقالا
أيها المعرض المدل بطرف
وبثغر يحكي لنا الجربالا
زد مطالا فلست أبكي وصالا
ته دلالا فلست أخشى دلالا
أنا كالليل يفزع الغر منه
ويزيد الحكيم فيه جلالا
ويرى الرأي في الدجنة ما لا
تبصر العين حكمة ومقالا
هو نعم الطبيب إن كرث الخط
ب وأنحى على اليتيم وطالا
وابتدار الربيع عانقه كا
نون أرعى من أن يطيل زيالا
وسريع كر الزمان فإن فا
ت شتاء حدا الربيع زوالا
وطلوع الربيع وهو قرين
لشتاء أرجى وأجدى نوالا
ضم قلبي من الحوادث ذخرا
تارة مطرة وطورا هلالا
يا شبيه الربيع إنك حال
وفؤادي قد شام حالا وحالا
وفؤادي كالكون لا بل هو الكو
ن حوى منك نضرة وجمالا
فابتعد إن قدرت هل يجد البد
ر عن البحر والسماء مجالا
وائتني في الشتاء أرتجع الصي
ف إذا شئت قيظه والظلالا
بزفير يحيي الغصون ويلقي
فى رواء الزهور سحرا حلالا
فيفر الشتاء في غابر الده
ر ارتياعا وحيرة وضلالا
غير أني أقلى من الصيف إن جا
ء وقد آذن الربيع ارتحالا
يا ربيعا مضى وخلف في القل
ب غراما كالصيف أوفى وغالى
ربيع القلوب
ربيع القلوب وعهد الزهور
مطارك مثل مطار الطيور
تضم لنا الإلف بين الوكور
معللنا بالرجاء القصير
وخادعنا عن صروف الدهور
وخير الخمار خمار السرور
وخير زمان زمان الزهور
وعهد الهدوى ونجي الصدور
ويا رب عهد كوجه البشير
كثير الماني جم الحبور
وهل يصقل العيش غير الغرور
وهل يشبه الزهر غير الثغور؟
تمر علينا بلفح الحرور
وطيب الزهور ونفح العبير
وتخلف ذكرى كشدو الخرير
ربيع القلوب وعهد الزهور
فقم واستمع نصح هذي الطيور
تقول اغتنم صفو عيش نضير
ولا تغبنن في الشباب القصير
فعهد الشباب كعهد الزهور
فيا قمرا في ليالي الحبور
طلعت علينا طلوع البدور
لتغرب في ظلمات القبور
تمتع بضوئك قبل المسير
فمكثك فينا كمكث الزهور
وملكك في ضوء هذا السفور
وعادى الردى يده في النحور
وفي كل جيد ممر الجرير
وكم ثمر عطن في الثغور
ويعبث بالزهر عصف الدبور
ولا يندم المرء قبل القتير
وقبل انجلاء غشاء الأمور
فإن الشباب كثير الغرور
وفعل الرجاء كفعل الخمور
وهل ينفع المرء وعظ النذير
إذا فات عهد الشباب النضير؟
حقيقة أم وهم
إن يكن ريع من خرائب نفس
في ضلوع من الحوادث درس
فبما قد أفاض من وضح الحس
ن عليها كالبدر فوق الرمس
أو أكن قد بكيت للنأي فالأر
ض تريق الندى لنأي الشمس
ولو ان الأيام تدرك ودا
لبكى لي من حرقة النأي أمسى
أنت نفسي وليس من حق نفسي
أن يقول العذول أبغضت نفسي
أشقاء في الحب قد صار سعدا
أم هو السعد حائل للنحس
فكأني أحببت منك خيالا
خلت إياك غير جسم وجرس
وكأني لم ألف بعد لقاء
أتقرى اليقين منك بلمس
فلعلي إذا لمستك لم أل
فك فينا إلا مجاجة شمس
إن تكن قد نفيت عني آما
لي وجرعتني مرارة يأسي
فالأسى لا كأنت إلف ودود
أنت خلفته فأكثر أنسي
فهو عندي وديعة فاطرحها
في ضلوع على الصبابة حبس
لو عداني نحس شقيت به من
ك لما خف من أساي ونحسي
وشقي الهوى ليشقى ولو أخ
طأ منه صبابة المتحسي
إنما السعد والشقاء من النف
س فما لي أنحى على غير نفسي
سنن سنها القضاء فقد أص
بح حربي من كنت أعتد ترسي
عالم الحسن
ذراني أبيح الحسن قود عناني
فهذي عيون للمنون تراني
وأكبر ما أقلى من الموت أنني
إذا مت لم أبصر وجوه حسان!
ففي كل معنى فتنة ولذاذة
وفي كل وجه للجمال معاني
فمن لي بخلد أبصر الغيد كلها
سواء أقاص في الدنى وأداني
وأبصر حسنا أطفأ القبر نوره
وأبصر ما لم يبصر الملوان
وترنو عيون سوف يملك سحرها
عنان قلوب نحوهن رواني
وتبدو وجوه في الغيوب مهودها
وأسمع ما لم تسمع الأذنان
كأني بتربي يعرف الغيد إن سعت
عليه فتدوي الأرض بالخفقان
فيا عاشقيها إن في القبر عاشقا
وأي قلوب في التراب حواني
وقلبي عود أحكم الحسن لحنه
فحسب الهوى من نغمة ومثاني
تقاطر ماء في المناقع من عل
تقاطر حسن الكون دون جناني
أحس إذا ما أبصر الطرف حسنه
كأن بسمعي أنة لحناني
كأن وجوه الكون نغمة منشد
يرتل آمالي بغير لسان
فيا من ضياء الشمس بين عروقه
دماء تضيء الوجه بالجريان
ويا من رحيق الخلد من خمر ثغره
يداوي به من غائل الحدثان
فلو نال منه خائف الموت جرعة
إذن لأصاب الخلد كل جبان
جمعت صفات الحسن والخلد كلها
فلم يبق منها في الحسان معاني!
سواء حسان بعد لم يبد حسنها
وأخرى حداها الموت بالوخدان
فما عشق العشاق من عهد آدم
سوى لمعات منك غير دواني!
رميت جميلا والوليد بفتنة
وها إن سهما من هواك رماني
دعاني دعاء العيش والموت دونه
فلبيت فيك الشوق حين دعاني
دعاني دعاء الليل رق نسيمه
ورب صموت ناطق ببيان
دعاني دعاء البحر يشجو خريره
ويحكي عباب الدهر بالنهضان
دعاني دعاء الذكر والذكر هاتف
ويا رب ذكر هاتف بأماني
دعاني دعاء العود في البحر ليلة
رعى البحر فيها بدرها ورعاني
دعاني دعاء الزهر والطير روحها
تشوق فؤاد الصب للطيران
دعاني دعاء الفجر والفجر شائق
كأن انفجار الفجر خلق كيان
فلا تدعون قلبي إلى الحب دعوة
لكيما تثيب الحب بالشنآن
دعوتك بالحسن الذي أنت ربه
لكي لا تخال القلب نهزة جاني
ولا تنقمن أني نقمت خديعة
من الناس غالت مهجتي وجناني
ولا يك فوضى قلبك الغض أنه
فؤاد على رعي الأمانة حاني
فإن كان لي في بعض خلقي ومنطقي
شفيع إلى لقياك ليس بواني
فحسبك فاصدع حاجب الود بيننا
بإمرة معبود الجمال مداني
وإلا فناكرني على الحب يسترح
فؤاد حبيس في حبالك عاني
سواك يهز القلب كالظئر طفلها
وأنت تجن القلب بالخفقان
اختفاء الحق
لو عددنا متاجر ال
حق ألفيت مفلسا
تاجر الحق بالمعا
ني فقد نال واكتسى
كان يشري نسيئة
فرأى التجر أبخسا
فاختفى خشية القضا
ء فهل ناله الأسى؟
كتم العيش منزل ال
حق إذ كان أخرسا
هو طب بأمره
فحماه ليبلسا
علموه خط ابن مق
لة إن كان ألبسا
وسلوه يخط في ال
طرس أسراره عسى
أو فصبوا له الشرا
ب ليفشي إذا احتسى
لمت قومي لجعلهم
صفقة البطل منفسا
ذلك الحق بينكم
بعد ما كان أشوسا
صاح في القوم قائل:
إنه عاش مفلسا
وهو إن عاش مفلسا
كان بطلا مقدسا!
زورة الملائكة
مرحبا بالملأ الأعلى الذي
شرفت داري منه والفناء
حلما في النوم أم حقا أرى
يا ولاة الحق يا أهل السماء
يا ولاة الحق يا أهل النهى
تبعثون البرء في جرح القضاء
أسعدوني أقتبس من نوركم
بلغة النفس وريا للظماء
ملك الفضل حيي لحظه
وعميم الفضل قرن للحياء
ملك الطهر صبيح وجهه
إن وجه الطهر معبود الرواء
ملك الحق اختفى في نوره
ما أضل الطرف في ذاك الضياء
ملك الرفق دواء لحظه
إن بعض اللحظ يشفي كالدواء
ملك الجود ضحوك بشره
مثل ضحك التبر في وجه الشقاء
ملك العفو رجيح رأيه
إنما النقمة ضرب من غباء
يرحم الجاني عليه كذبا
ويرى الأفعال في غيب القضاء
طهرت نفسي في أضوائكم
مثلما تطهر أجسام بماء
وشممت الخلد من أنفاسكم
نفس يشفي من الداء العياء
أسمعوني منطقا أحيا به
يطرف النفس بألحان العلاء
منطقا كاللحن حلو رجعه
لو وعته الريح في سمع الهواء
زورة فكت أخيذا عانيا
بحبال اليأس مصفود الرجاء
وأرى في النفس رسما منهم
مثل رسم النجم في متن النهاء
وعبيرا كشذا الأزهار إن
خلفت في الأنف ذكرى كالذماء
خلفوني وادعا من بعدهم
أحمد العيش وأستقصي البقاء
الأم المسكينة
أمنا الأرض كالعجوز التي تش
قى وتسعى لرزق نسل كثير
فإذا ما غدت تدلل طفلا
ضج طفل من خلفها بالنعير
كلنا ود لو تمد له الأر
ض فراشا من النعيم الوثير
وتغني له بما يطرد الهم
كهز الرءوم مهد الصغير
وهي عمياء لا ملام عليها
لا يصيب الصواب غير البصير
لا ترى أدمع الشقي ولا تب
صر وجه المحزون والمصدور
وهي صماء ما وعت صرخات ال
نحس في الخلق من شقاء الأمور
فهي أولى برحمة وبإشفا
ق عليها من مشفق وعذير
جد أم لعب
يبكي بريء الورى لمذنبه
فقل لراجي القضاء ريع به
ذا صولجان القضاء منفلت
أما ترى الليل ظل مضربه
هذي كرات الدنى تدار به
لعبة من جد في تطربه
فلا تقل حقه وحكمته
أتبتغي الحق بين ملعبه؟
يا حية الخلد كم لبست وكم
نضوت جلدا يشقى الآنام به
كأن هذي الحياة غانية
تعاف بردا من بعد مطلبه
كأنما الناس بردها أبدا
تعاف ملبوسه لمعجبه
ثوبا فثوبا تظل تخلعه
إذا خصي الحمام آب به
كأن مرآتها الكمال فما
ترضى بما لم يرق بمذهبه
يا ضيعة الخلد لهو غانية
يقضي به الخلد في تسربه
وهكذا المرء عيشه طلب
حتى ليؤذى بنيل مأربه
هل لنفوس الورى الظماء وهل
للعيش من ناقع يبل به؟
أم ظمؤها قاطع بأن لها
خير منال تظمى لمشربه
أم ظمؤها غلة الجريح أخي ال
داء هلاك لا برء منه به
اصبر
اصبر لعل النحس في لونه
إذا دجا ظل لجرم النعيم
لعل دمعا منك لم تحتسب
ينبت زهرا في اليباب العقيم
لعل دمع النحس در له
يسلك في عقد الرخاء النظيم
والصبر طرف مجهد أعرج
لكنه يبلغ شأو الظليم
ومبتغ محو الأسى بالأسى
كمبتغ بالزفر طرد الغيوم
أو مبتغ إطفاء شمس الضحى
بنفخة يرسلها في النسيم
أو ناصب للريح أشراكه
يرجع عنها وهو عين الكظيم
وهل زفير الحزن هاد لفل
ك الرعب في بحر الأسى والغموم
أطماعنا كالجن إن رامها ال
أهوج تدمي قلبه بالكلوم
كالكلب يدمي قلب كلابه
آنا ويعنو للبيب الحليم
إذا هدى الناس ضياء الرجا
ء اهتاجت الأطماع نار الهموم
كم خيبة تعقد عزم الفتى
للنهر لولا الصخر خطو السقيم
صلع الدهر (من شعر السخر)
ناص صروف الدهر مستقبلا
قذاله لو جزه أصلع!
فجز من لمته خصلة
لعلها من خلفه ترقع!
فالدهر إن أقبلت ذو لمة
لكنه من خلفها أقرع!
مطلعه مثل طلوع المنى
وحسرة ما خلف المطلع!
ولا ترم بالذم صفعا له
فإنما يصلع إذ يصفع!
قراعه مثل قراع الظبى
وإنما يقرع إذ يقرع!
فاطل قفاه بمداد لعل
اللون من روقته يخدع!
وغض عنه نظرا واعيا
فإنما يعديك ما يطبع!
وإن جرى في الدم كره له
فخير ما يجدي لك المبضع!
حجامة لا شك في نفعها
وقد يضير المرء ما ينفع!
ولا تعف صحبته، إنه
بالرغم من صلعته أروع!
واحن له الرأس لكي لا ترى
فإنها من خلفه تلمع!
قرد النهى أو الفلسفة الحديثة
لئن كان خلق القرد والناس واحدا
وصدق ما خالوه من ذلك القول
فسائل بهذا الدهر إن جد جده
أيا دهر ما للقرد ويبك والعقل!
مقيم على الدقعاء يسمو برأيه
إلى خير ما جاءت به حكمة الرسل
وقل لبغيض يحسب الحق جرعة
مقال رشيد القول والخلق والفعل
جهلت، ولكني بجهلي عالم
وإنك لا تدري بما فيك من جهل
ودعهم ولج بالرأي في كل مغلق
فإنك يا قرد النهى معوز المثل
ولو كان ذاك العقل نقلا حمدته
ليهنك يا قرد النهى مطعم النقل
ولكنه كالآل يظمى غديره
وإن نلت من جدواه نيلا على نيل
قبلة الوداع
قبلة ثم فرقة وتنائي
أيعيد الزمان عهد اللقاء؟
وعناق كملتقى اللج في اليم
وضم الغريق وجه الماء
وانثناء عن العناق كما ين
هار عن بعضه مشيد البناء
قبل كالطيور تصدح بالحب
فتصغي قلوبنا للغناء
عابقات كأنها الزهر الغض
تذيع العبير في الأرجاء
خالدات كأنها النجم في الأف
ق تزين النفوس بالآلاء
وهي في ظلمة الحياة نجوم
هن هدي الهوى وهدي الرجاء
قبل صوتها ككلحبة الني
ران في يابس الغضا والإضاء
فهي روح العهد القديم وهل تؤ
تى نفوس من ميتة وعفاء؟
يسمع العابر المجد صداها
فوق هذا الثرى وتحت السماء
فيخال الهواء قبل إلفا
لفه من نسيمه في رداء
وحماه عن العيون فما يخ
طر إلا في طي هذا الهواء
كذب الظن إنها ذكر الما
ضي ونفس كثيرة الأصداء
تبر النفوس
لو أن لي حكمة مثل التمائم أو
رقى سعدت بها لو ينفع الراقي
فعل الفتى هو شطر من تفكره
أجل شطريه من أفكاره الباقي
داو النفوس بلذات الجسوم ودا
و الجسم بالنفس فعل الحافظ الواقي
نار الأسى شعلة تهدي النفوس كما
يهدي المغلس من لمح وإبراق
والبغض في زهرات الحب ريقته
كالصل يجمع من سم وترياق
أنت النعيم وروحي في جحيم هوى
ترى الفرادس من دمع وآماق
شوق إليكم يحيل النفس مثلكم
شكلا بشكل وأخلاقا بأخلاق
فاطرد مثال كمال في الضمير له
لمع السراب لعين الركب والناق
بطلعة منك مثل الشمس رافعة
ذاك المثال على لألاء رقراق
يطل في النفس مزهوا بصورته
كمن يطل على الأحياء من طاق
الضوء تبر ولكن ما له لمع
على خصاصة إقتار وإملاق
والتبر ضوء يطيع اللمس رائقه
يذل بالحرص من هام وأعناق
فأنت تبر وضوء الحسن وهجته
وأنت شمس تعلت بعد إشراق
فلا تكن لك روح في وضاءته
مثل الدميم بقصر جد براق
الزهر زهر وإن لم يلق ناشقه
وعاطل الحسن كالحالي بعشاق
لئن مضى الزمن الماضي بروقته
عدلا تقضى بأحزان وأعلاق
وخلف الذكر روحا منه شائقة
كالبدر يهتك من إظلام آفاق!
ليت شعري
ألا ليت شعري فتنة من جمالكا
ويا ليت شعري خطرة من دلالكا
ويا ليته من سحر لحظك نشوة
أداوي بها قلبا بحبك هالكا
ويا ليته عطف كعطفك نافع
ويا ليته مستأنف من وصالكا
دع اللحظ يسق القلب منك، ولا تخف
على منهل الألحاظ رشف نهالكا
أتنقص من رشف العيون كأنما
تبقى مثالا ناحلا من خيالكا؟
وقد تصقل الوجه الصبيح لواحظ
تبث الهوى بث الهوى من صقالكا
وما لضياء الحسن ظل على الثرى
ولكنها روحي ترى في ظلالكا
إذا اسطعت فاجحد ما عشقناه نتخذ
على الحسن عونا ناصرا من مقالكا
إذا كان رب الحسن بالحسن كافرا
فذلك سهم قاتل من نبالكا
تباله بالنكران كيما يغرنا
دلالك يا ويح الهوى من دلالكا!
أتنكر أن الحب أنت سننته
وأوردتنا ورد الهوى في عقالكا؟
جمالك ولاج إلى القلب بالغ
سريرة قلب برؤه في جمالكا
فلا تجعل النكران كلما ولوعة
فحسبي كلوم جمة في نزالكا
ولا تجعلني خاطر السوء في الورى
تضن عليه أن يلم ببالكا
ولا تتركن قلبي كأطلال معبد
يري الناظر العجلان عقبى زيالكا
وإن خلت بي الكفران فاسأل محاسنا
لديك أقلبي مفلت من حبالكا؟
جمالك أشراك القضاء فما لنا
فكاك فقد أحمى علينا المسالكا
أأنت والربيع (أغنية)
أما كفى الربيع
يهيج إذ يضوع؟
وقلبي الصديع
في نشره يذيع
أأنت والربيع؟
جلاك لي السطوع
يا قمرا يروع
من حسنه شفيع
جد بي الولوع
أأنت والربيع؟
روح له سنيع
منك له طلوع
اليأس والطموع
والحب والربيع
أما كفى الربيع؟
وعيشنا شروع
يا لهف من يضيع
أطياره وقوع
زيالها سريع
أأنت والربيع؟
ها شملنا جميع
وعيشنا وديع
وما له رجوع
وأنت لي قطوع
أأنت والربيع؟
تعيا به الضلوع
من شجو ما يذيع
قلبي له سميع
إذا دعا يطيع
أأنت والربيع؟
نافسك الربيع
من غيرة يضوع
فغر وصل تليع
حسنا له يضيع
أأنت والربيع؟
حلم بالأرواح الطليقة
تعوم فوق النور
كالغيد في الغدير
مرسلة الشعور
كفاتنات الحور
في فلك مسحور
تمرح كالطيور
على ذرى الأثير
والخلد كالوكور
وكلة الخدور
ترقص مثل النور
في روضه النضير
ومائه الطهور
كرقصة البدور
في صفحة الغدير
تنفح بالعبير
كنفحة الزهور
صافية الضمير
كلمعة البلور
مثل ندى الزهور
في عيشها المنير
لم تعي بالأمور
وطارق المقدور
وصولة الدهور
كصولة النسور
لم تدر في الحبور
ما عيشة المأسور
فى نطفة الفجور!
الوحدة
عذيري من باغ أغذ وأوضعا
وأسمع بالقول المضيض وأوقعا
وما سرني أن نلت منه بسبة
إذا صار بين الناس شلوا مبضعا
لسهلت لي غدر الحياة بغدرة
وهونت عندي الحادث المتوقعا
وعلمتني الصبر الجميل على الأسى
بصبري على ما قد أمض وأوجعا
وقد صرت لا ألقاك إلا براحة
وقد كنت لا ألقاك إلا مروعا
وكم نعمة للناس في جنب غدرهم
ويا رب شر عاد بالخير ممرعا
سأهجر هذا الخلق لا هجر عائد
ولكن يأسا حين لم يبق مطمعا
وإني رأيت العقل كالضوء حلية
لروض فإن يسطع على القبر روعا
وإن كنت بين الناس ظل مفرقا
فإن عفت هذا الخلق كان مجمعا
وما جامعات الضوء إلا كوحدة
تجمع من ضوء النهى ما تذعذعا
فيشعل نيران الذكاء اقترانه
وقد كان بين الناس نهبا مضيعا
وكنت إذا ما خلت فيك مودة
أحبك حتى أحسب الحب مصرعا
وحتى تصير الأذن عينا بصيرة
وحتى تصير العين للقلب مسمعا
فكنت كمن يرمي إلى الطفل درة
ويأمل منه أن يشاق ويهرعا!
من الحي إلى الميت
من لحي بميت يترجى
عنده الحق أبلجا لا يفوت
خبريني نفائس اللحد هل ق
بة تلك السماء والتابوت
توأمان استسر في الجدث الدو
د وفوق الأجداث حي يموت
خبريني نفائس اللحد أم كل
رميم في لحده صميت
هل لحي من ميت هاتف يو
ضح أمر الحياة وهو مقيت
هل عدته الحياة أم ليس يدري
تلك حلم وما لحلم ثبوت؟
رب ميت يسائل الحي عنها
وهو في اللحد حائر مكبوت
خبريني عن الحجى أين يمضي
أين تمضي عرامة وقنوت؟
أين يمضي الذكاء والأمل الحل
و وأين المعشوق والمنعوت؟
أين نار الحياة كالنار في ره
ط مجوس ما خيف فيها الخبوت؟
أين ذكرى في النفس تمضي وتثني
رب عهد يمضي وذكرى تفوت؟
أمحاها الحمام كالريح تمحو
نؤي دار والشمل شمل شتيت؟
أم وعاها الحمام كالدر في الظل
مة يرنو لضوئه السبروت؟
أم ترى هذه المشاعر أوها
م فلسنا نحيا ولسنا تموت؟
ليس إلا كما يقول ركين
لا يفيت الصواب منه مفيت
فوقنا الأنجم الصوامت لا تد
ري وتحت الرجام صم سكوت
سجن الفضيلة
إن الفضيلة ماسة
صنها عن الرائي الحسود
صون الشحيح لفلسه
حذر المداهن والحقود
صون الجبان لنفسه
حذر البوارق والرعود
صون المثمر ماله
حذر المؤمر والجنود
صون الشفيق فتاته
حذر الوعيد أو الوعود
واجعل لها بين الضلو
ع خبيئة الذخر التليد
فضياؤها كالحق أف
تن وهو في ظلم الجحود
وصفاؤها كالخمر تص
قل في الدنان على الخلود
إن الفضيلة زهرة
تذوي بأنفاس الحسود
ونسيمها كالعطر فاح
ذر أن يذيع فلا يعود!
بيت اليأس
بنيت بيت الحياة أبغي
في ظله مسكنا فسيحا
جرى غراب القضاء نحوي
ولم يكن طائرا سنيحا
فأرعشت كف من بناه
فلم يكن أسه صحيحا
يغبقني طارق الرزايا
من بعد ما علني صبوحا
اعتادني الهم غير غب
فلم يمت قلبي القريحا
كشارب السم كي يصادى
من عله سمه صريحا
يا بيت سوء على ذراه
ذو نعبة هم كي يصيحا
يا دهر لم لم تبح جناني
إلى سبيل النهى جنوحا؟
خصصتنا بالنهى فهلا
جعلتها عزمة نصوحا؟
أودعت في الناس كل طبع
يعنو له عيشهم ربيحا
من يشتري نهية بطبع
يمضي إلى نفعه نجيحا
ألحت لي بالسراب حتى
عشقت ضوءا له لموحا
كمن بنى بالتراب بيتا
فانهار حتى غدا ضريحا
كذاك صرح الحياة أمسى
رسم فلاة بها طريحا
ودك بيت الحياة فوقي
وقمت من تحته جريحا!
لغز الحياة
الشك أول منزل العرفان
إن اليقين هو المكان الثاني
مد وجزر في النفوس كأنما
يتنازعان سريرة الوجدان
والعقل فوق الخلد مد جناحه
كالطير هابطة على الأوكان
والعقل ريح صرصر تهفو به
والدهر بحر فائض الأزمان
تبدو إذا ما هاج من أعماقه
قنص الردى وجواهر الدهقان
والشك مشعال الحكيم وربما
أضحى حريقا للجهول الواني
كون ترقرق في منادح رحبه
سر جرى كالماء في الأغصان
سر الحياة لحسها ولعقلها
يحكي دماء القلب في الأبدان
روح الحياة كذي البراثن رابض
دامي المخالب شاحذ الأسنان
يلقي على الأحياء قولة سائل
يا هول عيش فريسة الحدثان
إن الحياة لغادة معشوقة
تصبو إلى المتماجن الفتان
وتصد عن متسائل متشوف
للحق ينشده بكل مكان
يا عاشق الحسناء كيف أغرتها
أو كنت تبغيها بقلب ثاني
روح الحياة على العقول مؤمر
يعتز بالأضغان والأشجان
مثل الوصي على الوليد إذا نشا
يلوي عليه جوامع السجان
كي يستبد بماله وعقاره
ويليح زخرف خدعة المنان
ثار الحبيس على الوصي وظلمه
فرماه بالعصيان والنكران
ورأى به لمما وليس كما رأى
لو كان يغنى العقل بالعصيان
ماذا أرجي في العقول وصوبها
رشح الطباع وغلة الظمآن؟
ولرب غر بالغ بطباعه
ما ليس يبلغه ذوو الأذهان
خواطر في الحياة (أرسلت إلى الأستاذ الأديب الشيخ محمود محمود.)
أنت على خلتيك محمود
فعد بيمن الحياة محمود
وإنما العيش هكذا نقل
والدهر خرق سنيه القود
وخير ما يطلب الرخاء به ال
صبر، ومن قد عداه مكدود
والدهر مثل الشحيح في عدة
أصدق آلائه المواعيد
كل رجاء نرمي الطليب به
فهو قنا في الضلوع مقصود
ورب رام أصاب مهجته
سهم رجاء إليه مردود
والسخط غربال جاهد قصد ال
سيل كأن الأتي مسدود
آمالنا هامة نراع بها
للسعد وهو الطليب ملحود
وحيرة النفس كالظلام وقد
يهدي ويقلي الضياء مزءود
والرغب عجب النفوس تخدعها
مرآتها والطماح معبود
وقد تزين الحسناء دمعتها
والنفس تجدي سنيها السود
كم عدة في الحياة خائنة
كما يخون الخميس رعديد
كخازن الحب للمشيب وما
يعطف من أجل ذخره جيد
يبخر في خيبة لنا أمل
بحر الندى والظمي مجهود
ما لي أهدي إليك من حكم
يا ليتها الدر وهو منضود
أحبوك من حكمة القريض كما
يهدى لروض الربيع أملود
وأنت أحجى بأن تزف لنا ال
حكمة فيها اليقين مشهود
وخير ما يبعث الفتى طرف
من عقله والمزيد تأويد
الشجرة والغراب
رأيت الحوادث في وكرها
ونبت المقادر في برها
كأن غرابا على فرعها
يحط فيأكل من خيرها
إذا ذدته آب يهوي بها
على دوحها وعلى نهرها
فقلت له: أبق من خيرها
تذوق إذا جعت من شرها
وإلا فأرسل عليها الطيور
أبابيل تقضي على أمرها
وهل أزجر الطير عن دوحة
تذوقت ما مر من تمرها
فقال: أتأكل من حلوها
وتترك للدهر من مرها؟
إذا أنت ما ذقت من ضرها
أتعرف ما الخير من شرها؟
خذ الحلو والمر من رطبها
أقاسمك السوء من ضرها
ومن صبر النفس في ضيقها
رأى الرغب أوجع من صبرها
وفي الصبر صبر يريك الدنى
كأنك رفعت عن أمرها
تظل مطلا على دهرها
كأنك أعفيت من مرها
يريك مساوئ خود الحياة
كأنك ما بت في خدرها
كأنك ما التحت من ثغرها
ونافست رهطك في برها
كأنك ما كنت من ناسها
ولا كنت تسعى إلى نكرها
ولا بت يومك في درعها
ولا تقت دهرا إلى سرها
يا شاعر الكون (حية إلى صديقنا العقاد لظهور ديوانه الثاني.)
يا شاعر الكون أطلق من سرائره
نور الحياة فشعر منك يذكيه
لك الخليقة والأيام ماثلة
فما نأت بمقال أنت باغيه
كأنها لك بستان وفاكهة
تجنى وخير الجنى ما أنت جانيه
الفضل أغلب من غر يصاقبه
والعقل أعدى على غمر يدانيه
فلم يضرك جوار من أخي جهل
الفكر عدوى وجار المرء يعديه
قد ينكر الفضل بين الناس صاحبه
ويمدح الفضل بين الناس باغيه
كم أكبر الناس أمرا أنت تصغره
وغاب عنهم جلال أنت تدريه
إن يعظموك فبالنفس التي صغرت
أو ينظروا فبطرف أنت ثانيه
كالمرء وهو قعيد رهن عرصته
يخال خير مكان بيته فيه
لو أنصف الأرض قال: الأرض واسعة
والكون أكبر من زعم أناجيه
يا ناطقا يذر الألباب صامتة
كأنما فاه ذاك الخلد من فيه
تذكي الذكاء بسحر أنت نافثه
حتى لشدة ما تذكيه تفنيه
تقصيا لمعان لا انتهاء لها
يفنى الذكاء ولا تفنى معانيه
حتى يظل ولا ذهن يراك به
لولا بريق خيال أنت موريه
كمن يرى الشيء لا ينحو سواه فيخ
فى عنه حتى كأن قد زال باديه
إطار شعرك خلد أنت زائنه
كواحة الخرق زين في صحاريه
أصورة الكون أم ذا الكون صورته
كالآل يحكي ضياء أنت مبديه
أو كالغدير يرى في الماء مرتسما
رسم الدراري يحكيها وتحكيه
كعبة النفس
أيا كعبة الآمال ذات المحارم
مكانك من قلبي كمحراب صائم
فلا تأخذوني بالرجاء فإنما
رجائي إيمان النفوس الحوائم
وهل تسجد الأرواح إلا لذي النهى
وتعبد إلا ساميات العظائم
وأكرم سؤل النفس ما كان وقعه
على الفضل من أهل النهى والمكارم
ولولا احتذاء الفضل في الشعر ما غدت
صروح المعالي باديات المعالم
ومن كان ذا روح بريء من الأذى
كروحك لم يعرف وجوه المظالم
ولم يدر ما يلتذه الناس من أذى
ولو كان نارا في لهاة الحلاقم
يرى المرء أن النفس خيل لراكض
وإن كان محذور الردى في الشكائم
أظل رقيب السوء حتى يمسني
وأجعل أنفي نهبة للخواطم
وأي امرئ في العيش يحمد خلقه
إذا لم يعوذ من حقود الرجائم
فكم راجم بالغيب نفسا بريئة
ورب مقال مثل لذع الأراقم
وهل يعدل الإنسان في بعض فعله
إذا كان فيه مدرج للنمائم؟
وما النفس إلا تربة ليس ريها
من العيش إلا بالنفوس السواجم
الصنم المكسور
عابد يبكي على صنمه
عاف ورد العيش من سقمه
عابد من حسنه صنما
خال كل الفضل في صنمه
حطمته قولة فهوى
كيم الجص منهشمه
كنت لي حلما ألوذ به
خاب من يبكي على حلمه
إن رضيت العيش بعدكم
فحياة المرء في ألمه
أو بكى شعري فلا عجب
بعض شعر المرء من لممه
كنتم للعين باصرها
وجلاء العيش من ظلمه
كم لأهل الفكر من ذمم
كيف لم تبقوا على ذممه
كان قلبي معبدا لكم
ويح قلب ريع في صنمه!
غلة النفس
رأيت محمقا يجري
يحاذي الماء في النهر
يكلمه ويسأله
ويحسب أنه يدري!
يقول له: أعن سبب
ومن أرب إلى أرب
ويحسب في الخرير له
لسان الناطق اللجب
تريد النفس رؤيتها
مخارجها وغايتها
سؤال ليس يسأله
مبيح النفس نشوتها
رأيت محمقا يفد
وراء الريح تطرد
وزمر الريح يطربه
يحدثه فلا يجد
كذاك المرء في الزمن
يداوي غلة الفطن
ولكن ليس ينفعه
شراب الآل في الدمن
وما من غلة عرضت
بغير دوائها خلقت
فأين الري تطلبه
نفوس طالما ظمئت
أجز للعيش معركه
لعل الكون يدركه
ضمير ما استبان له
يروضه ويملكه
ولولا ظلمة الحين
وجبن المرء للبين
لبغضت الحياة له
وخص الموت بالزين!
الفصل السابع
ديوان أزهار الخريف
الإهداء
أهدي هذا الديوان إلى إخواني القليلين في أنحاء القطر المصري، الذين أيدوني بثقتهم ورسائلهم ، وأعانوني بها في الحياة على بعد الشقة، ومن غير سابق لقاء، وبالرغم من عداوة السفهاء، وسباب الأخساء، الذين يقول فيهم المتنبي:
وانه المشير عليك في بضلة
فالحر ممتحن بأولاد الزنى!
والذين يقول فيهم أيضا:
أتنكر موتهم وأنا سهيل
طلعت بموت أولاد الزناء؟
مقدمة
لقد ذكرنا في مقدمة الديوان الرابع أن الشاعر لا يهمه الناس إلا لأنهم باعث من بواعث الشعر، ولم أعن بذلك - كما زعم بعضهم - أن القصيدة الواحدة يبعث إليها إنسان خاص، يكون موضوعا لها ويستثير في الشاعر جميع الخواطر التي دفعت إليها. فإن الشاعر ليس بالراسم. ولو كان راسما لاستفاد أيضا من أفراد كثيرين في عمل رسم فني خيالي كبير.
ولقد رأى القارئ في بعض هذه الدواوين قصائد في شرح أخلاق السوء كالحسد أو البغض، فحسب بعض الناس أنه المعني بها. ولعمري لو كان غير ذكي لقلت إنه يريد أن يشرف بهذا الادعاء؛ ولكنه أجل من هذه المرتبة. فلم يبق إلا أن يكون ذلك منه وسيلة لإظهار كيده وشافعا له، وكما أني لا أعني أحدا بقصائد الهجاء، كذلك لا أعني أحدا بقصائد النسيب. ولا أنكر أن الأفراد من الناس هم الذين يستثيرون خواطر الشعر، ولكن هذا القول لا يستدعي أن تكون كل قصيدة في فرد معين. نعم، الأمر يستدعي ذلك عند المداحين والهجائين ومن جرى مجراهم، ممن لم يضع لنفسه سننا عامة في فنه، يجري في نهجها. أما القول في أفراد، فهذا أول مذهب وأول عصر من مذاهب الشعر وعصوره. وأما المذهب الحديث فهو أن تكون الطبيعة البشرية ماثلة أمام الشاعر، يأخذ منها لقصيدته ما يقتضيه الفن. ومثل ذلك أن قصيدة «صرصور الشعر» في الجزء الخامس بعث إلى كتابتها صرصور من صراصير الحقيقة لا صراصير الخيال ولا صراصير البشر. وقصيدة «سم الخسة» مأخوذة من مسودات كنت قد ألفتها في كتاب اسمه «مجالي الأخلاق»، لم ينشر؛ وكثيرا من قصائد الغزل في هذا الديوان خواطر كانت تخطر لي فأقيدها في رسائل سميتها: «رسائل الحب» لم تنشر. ولذلك أرى من العبث والجهل بفروض الشعر، قول قائل إني أعني أحدا بما أقول في أي باب من أبواب الشعر.
ولي كلمة أريد ذكرها في العقيدة، ومن يذيع بين الناس أني على غير هدى! وأكثر أمثال هذا إما من الجهلاء الأغبياء وإما أهل الحقد والحسد. فليس التساؤل والامتعاض من مظاهر الشر قلة في الإيمان، بل إن ذلك غاية الإيمان. وإن الذي يتهرب من الله إلى نفسه، وينكر آياته في والوجود، يجد الله في نفسه في خير نزعاتها. وإن في الله حاجة من حوائج النفس البشرية، وكلما خفيت عنا أدلة وجود الله لعظم الشر والإثم، كان ذلك الخفاء أدعى إلى تطلبه ونشدانه والإيمان به على الوجه الصحيح.
فالإيمان بالله والخير ضرورة وحاجة، لعظم الشر والشقاء. إذ إن الزيغ وقلة الإيمان لا تعين على الشر والشقاء. بل تزيد الحياة اختلالا؛ كما ذكرت في قصيدة «صوت الله أو نجوى المؤمن» في الديوان الرابع. وقد أساء بعض الناس فهم قصيدة «ليتني كنت إلها» في الديوان الثاني، ولا أعراف كيف فات من صفت نفسه من سوء النية من القراء أن نسبتي سوء الفعل إلى ذلك المتطلب مرتبة إله، خرافة من خرافات الوثنيين، والذي يريد أن يصلح نظام الحياة والكون، هي غاية الإيمان لبيان أن المرء ينتقد ويتسخط الشر والإثم، حتى إذا حكم أتى الشر الذي نقمه. ولو أني جعلت أفعاله في القصيدة حميدة، لكان ذلك اعترافا مني بأنه مصيب في نقده وأنه رشيد عادل!
هذه قصيدة «الملك الثائر»، لقد حاول غبي أن يقرأها مرة، فقرأ منها أبياتا، ورأى عصيان الملك، فأخذ منه الغضب كل مأخذ، ولم يتم قراءة القصيدة، فلما قرأت له ما لاقاه الملك الثائر من العقاب لعصاينه انشرح صدره وقال: «إنه جدير بهذا العقاب!»
وهذه الحادثة تشرح السبب في سوء الفهم الذي يعتور بعض الناس في قراءة القصائد التي تشرح أمثال هذه الخواطر والعواطف النفسية التي لها علاقة بالحياة والخلق. فإنه لا يحاول تفهم مغزى القصيدة الذي لا يستخلص من أبيات مفردة من القصيدة، بل يستخلصه بأن يفهم وحدة القصيدة الفنية وما تقضيه المقابلة الفنية من اختلاف جوانب الرأي فيها واختلاف حالات النفس التي ضمنتها القصيدة.
آية الحسن
يا قلب قصرك لا تولع بإنسان
لقد كلفت بساجي الطرف وسنان
قد صار لي ألف عين بعد رؤيتكم
من بعد ما كان لي كالناس عينان
مذ صار حسنك في الإمكان منشأة
فكل معجز أمر رهن إمكان
ومعجز الحسن في خلق خصصت به
كمعجز الحب في شعري وتحناني
وصار لي ألف قلب أرتجيك بها
يا ليتني زدت في روح وأشجان
كي لا يضيع جمال منك أبصره
ورقة اللفظ في سحر وتبيان
بل ليتني الكون طرا ليس يبصركم
سواي في الخلق من وحش وإنسان
هل نافعي أنني في الحب منفرد
فليس في الخلق تحنان كتحناني
بل ذاك ضائر قلب لست راحمه
وكيف يرحم نضوا قلب غفلان
ما كان مثلك في الأكوان منشأة
إلا بخبرة أزمان وأزمان
استخلصتك دهارير كما خلص ال
عطر الزكي فيا عطرا لأكوان
مجاهل الزمن الماضي وحاضره
لصنع حسنك في بدع وإتقان
فجئت آيته الكبرى التي خشعت
لها القلوب ولم تدحض بكفران
ليت الكواكب تعنو لي فأنظمها
لآلئا لك تحكي عقد أشجاني
إخالها ما بدت إلا لتبصرها
مرأة حسنك لا يمنى بنكران
والطير ما نطقت إلا لحسنكم
فأنت للكون طرا خير عنوان
يا سالب الكون أشهى ما يراد له
مذا تركت لأحقاب وأزمان
عميت عن كل حسن غير حسنكم
كأنني غير صاحي الطرف يقظان
أعشيت طرفي بشمس منك طالعة
من بعد ما كان عيشي رهن إدجان
لا أكثرن من الألحاظ أرسلها
إن البلاء لطرف العاشق الراني
وهل أخاف وقد سقى الفؤاد هوى
العيش والموت في صرف وحدثان؟
أو القضاء وما يخشى الورى أبدا
من قسمة الدهر في ربح وخسران
كلا لعمرك إن الحب يرفعني
عن الحياة وعن عيش لها فاني
إني أهابك من حسن تجور به
حتى لأقلاك في أثناء أحيان
ماذا يضيرك من حب تزان به؟
فالحب للحسن نشر حول أفنان
هبه المقادر من يأبى المقادر لا
يرى الحياة بعين الناعم الهاني
فاضحك فضحكك أنغام مرتلة
أوتارها قلب صب منك ولهان
لم يبق في الكون من شدو نسر به
إلا جمعت بحسن منك مرنان
في كل نظرة عين ذكرة لكم
وكل نبضة قلب جد حران
حبيك لا شك يعروه ولا جدل
كأنما هو من أرباب أديان
في منزل الله مكلوء بهيبته
سر الإله وسر الحب سيان
ولن يضيع رجاء في الحياة إذا
ما ظل حبي مكلوءا بإيماني
أخلفت وعد لحاظ أنت مرسلها
تقول لي اعشق فإني جد فتان
لا تنكرن مقال اللحظ من خجل
كم حجة لك في تبيان وسنان
الحب أقوى من الأغلال تحكمها
عاد الحياة لقلب العاشق العاني
قد بعت راحة أيامي وصحتها
بنظرة بدلت سري وإعلاني
احمل جناية حسن لست خالقه
كما تحمل مقدورا له الجاني
ولا يكفر عن لحظ تصول به
إلا ترفق عطف منك يرعاني
لو فرق الدهر حبي في مجاهله
لعاد منه بمثل الخلد ملآن
ولو خبرت بحبي العيش أجمعه
إذن لباء بسر منه ضحيان
ما مس حبيك أمرا خس معدنه
إلا أضاء كماس عند دهقان
ما أضأل العيش لولا ما يتاح بكم
من الهوى وطماح ليسى بالواني
خير لنفسك إن لم تدر ما ضمنت
من فتنة الخلق في حسن وإحسان
إذن لأفرطت من سكر ومن خبل
ورحت تنعم في ظلم وعدوان
وكيف ترحمني إن لم تجد أربا
في أن تكون حبيبا جد فنان؟
يا هل تراني إذا ما جاء يسعدني
طيف لحسنك ألقاه ويلقاني
حتى ليوشك أن تكسي مراسمه
جسما فيا من رأى طيفا بجثمان
أكاد أنشق أنفاسا يرددها
وأحتسي منه من كاسات ندمان
يا ليت أني أناجيه ويسمعني
على النوى ورجاء ليس بالداني
حولي خيالات حسن أنت صورتها
طوبى فإنك جيراني وأقراني
لا بل شقائي أوهام أغر بها
مثل السراب إذا أودى بظمآن
أنسى فناء جمال أنت لابسه
حتى كأن لم يكن حال له ثاني
يروع حسنك في حب أعالجه
كروعة الحسن في نيران بركان
لو قسم الدهر بين الناس قاطبة
لذائذا لي في قرب ولقيان
وفرحة لي إما لحت عن عرض
تجلو همومي وتأسو كلم أحزاني
غاض الشقاء وغاض النحس أجمعه
وعطل الدهر من منع وحرمان
لو صور الخلد كانت منك صورته
شكلا بشكل وعنوانا كعنوان
قد قلت للحب في قلب أضر به
برح الهوى وطلاب المعوز الداني
لئن أضاعك وسنان بغرته
كم في الزواخر من در ومرجان
لم يحل بالغيد في بادي ترائبها
ولم يحد بميزان وأثمان
وأنت في لجة للقلب منغمر
ما أمك الرائح الغادي بنشدان
ما أنت أول حب عز مطلبه
ولا بأول قلب غير جذلان
فأين أخبأ طرفي عن محاسنكم
وأين أخبأ قلبا جد ظمآن؟
وإنما الحب كالمقدار مدخله
رغم الأواخي من عزم وإيقان
لو كانت البيد تنجي منك ما رضيت
نفسي قيودك في أهلي وأوطاني
بل ليت أني حلم في الكرى بهج
يأتي إليك بأزهار وريحان
أقول للناصح المغرى بتعزية
انظر أفي الكون ما يغري بسلوان؟
والكون كالميت لا ماء ولا شجر
ولا جمال تراءى حول أفنان
وإن لم يبل ظمي الحب غلته
ولا تصافى بصفو الحب روحان
ولا أتيح لقلب قلب ذي مقة
ولا تدانى بنجوى الحب صنوان
كأنما الكون لم يخلق له سبب
أو أنه حلم بادي الهم أسوان!
فاهبط مع اليأس في قلبي فإن له
في القلب منزل صدق غير بهتان
وما ألمت ليأس مثلما حزنت
نفسي على أمل كالآل حليان
استنفد الكذب آيات الكمال فما
أرضى لحبي منها أي تبيان
فليت لي لغة ما شابها كذب
ترضي الملائك لم تخلق لإنسان
وما لحبي في الأكوان من مثل
ولا رموز ولا شبه ولا داني
فكيف يشفع لي لفظ يغر به
من الخليقة شيطان بشيطان؟
ولست ألحاك إن لم تلف ذا عوز
إن الوداد لقلب الناقص الفاني
كأن حسنك من إبداع ما ضمنت
منك الخوالج من صدق وإحسان
يا من به قد نسيت الشر أجمعه
لا يجتلى الحسن والأرزاء في آن
ما خلت أن مكانا ضم حسنكم
يحوي من الشر ما يودي بثهلان
دنياك دنيا رخاء لا شقاء بها
كأنما الشر لم ينزل بإنسان
أبعد معرفتي الأيام يا عجبا
وأوجه الدهر من طلق وطخيان
أبغي الحياة وأبغي منكم مقة
إن الحياة حياة الناعم الهاني!
نزلت يا قلب عن غالي نفائسها
لما عرفت الليالي أي عرفان
حتى فرحت بصبر منك عن خدع
من الحياة وعن إلف وخلصان
وقلت لي الآن لا شجو ولا جزع
على الحياة ولا إعياء وجدان
فعدت لا صبر تبديه ولا جلدا
حتى كأنك لم تسكن لسلوان
يا دوحة الحب لا شمس ولا مطر
من اللقاء ولا واف ولا حاني
فكيف أينعت في قلب أضر به
جدب الزمان وإلف غير معوان؟
أتى الربيع فهب لي منك مكرمة
يوما نقضيه بين السرو والبان
ونسمع الطير تبدي سر أنفسنا
حيث الهوى ورواء الزهر سيان
ذخر لمقبل أيامي إذا بردت
نار الحياة ونار الحب في آن
لا تنس حبي إذا ما الموت عاجلني
لعل ذكرك دون القبر سلواني
وسائل الليل عن روحي فإن لها
في الليل خطرة حي الهم أسوان
لا بل دع الذكر لي إني به قمن
وانعم بحسنك في غدر ونسيان
ولا تعني بذكرى منك خاطرة
حسبي حبوري بقلب منك جذلان
عذب فؤادي بالآلام قاطبة
الحب ذخر منى يشرى بأثمان
وارحم أو اقس ولا تحرجك معتبة
ماذا تضيرك آلامي وأشجاني؟
وليس في الحب خسران ولا فشل
وإن منيت ببعد أو بهجران
ألم أعش غير عيش الناس قاطبة
وأقطع الدهر في فرحات نشوان؟
الشلال
فلعل الحياة كالماء تجري
بين هذا الثرى وبين السماء
من القصيدة
يا أخا الصمت في الجلالة والرو
ع وصنو النكباء والهوجاء
إن في القلب لوعة ما تقضى
أنت حاكيت همتي ورجائي
أحسب الخلد مثل مائك ينها
ر ونفسي في مائه كالهباء
أنت فجرت في ضلوعي ينبو
عا من الشجو مسرعا في دمائي
ليت أن الحياة مثلك تعدو
لا تراخي مثل الجياد البطاء
إن للعيش كدرة تذر النف
س ركودا كآسن في نهاء
فأعني على الأواسن من نف
سي بفيض ينهار مثل البناء
يا ابن ماء السماء هل تذكر الرع
د تحاكي إرزامه في الغناء؟
وهل البرق لا يزال خفيا
في ثنايا صدر كصدر الغماء
أنت ريح الأمواه أم أنت روح ال
ماء يمضي في مائه كالهواء؟
قد هددت الصخور تنشد خصبا
أم لذخر تبغيه في الدقعاء
إنما أنت ناقم ينصف السه
ل بفضل الشواهق الشماء
تجعل السهل والحزون سواء
ليس نجد ووهدة بسواء
مرح أنت أم كما يسرع الفا
رس في نجدة إلى الهيجاء
لك بالشم مولد وعلى صد
ر أبيك المحيط وقع الفناء
غير أن الميلاد في قمم الشم
حمام لهاطل الأنواء
فلعل الحياة كالماء تجري
بين هذا الثرى وبين السماء
لك في النفس نشوة مثلما استش
رف راء من شاهقات العلاء
ويفيض النفوس مرأى جلال
لك حتى تطير كالأنداء
فكأني في مائك الغمر أمضي
وكأني في كل دان ونائي
أنت أيقظتني وقد كنت وسنا
ن فخلت الأكوان طرا ردائي
هاتف في خرير مائك قد أذ
كرني عزمتي وماضي مضائي
أنت أصفى من الوداد وأنقى
من حبور النعيم والسراء
أنت أرجوحة لنفسي وصوت
منك كالظئر هاتف بالغناء
أنت مثل الشباب عزما وبطشا
ووضاء أحبب به من وضاء
لك وقع الأقدار حتى لقد خل
تك رمزا رمزته للقضاء
أنت كالدهر تأخذ الترب والعس
جد حتى تعيده بالحباء
لم تهب كرة الدهور ولم تج
زع لذكر الشقاء والأرزاء
يا سليل السماء حدث طويلا
بحديث العلى وصدق السناء
تبعث الصخر من صخورك يزهو
فوق صدر العشيقة الحسناء
سوف تغدو كالشيخ في أخريات ال
نهر تسعى بهمة شمطاء
فاغتبط بالمضاء وامرح طويلا
كل شيء لطية وفناء
يا وضيء البسمات
يا وضيء البسمات
وحيي الوجنات
ليت لي منك ائتلافا
كائتلاف النغمات
أنت في الدهر ابتسام
كابتسام الزهرات
كل حسن آمل في
ك وبشرى للعفاة
فإذا الشمس تعلت
قلت حبي سيؤاتي
صف لنا حسن الفرادي
س بحسن القسمات
عذروا صدك من سم
وك بدرا في السمات
أنت عنوان لما أن
شده في الخطوات
كل كون كان أو لم
يك من ماض وآت
فيك لي منه أماني
النفوس الساميات
أنتشي منك بلفظ
مثل طيب النفحات
هو موصول بقلبي
في وجيب الخفقات
خلت أن قد كنت أحبب
تك من قبل الحياة
هات لي خلدا على خل
د لأرضي صبواتي
إنما الخلد كقيد
للأماني الرائعات
أنت كالضوء وهل ير
ضي الأكف الناشدات؟
إن تخل دمعي نجوما
في ليالي الجفوات
فاسر في ضوء نجومي
وائتني في الفلتات
أو تخل دمعي درا
فادخر من عبراتي
أوجيب القلب ما قد
ر لي في النبضات
لسوى عد الرزايا
والهموم الطارقات
سألوا: في أي حال
هو أحلى في الصفات
قلت: أحلى ما تراه
فى حديث اللحظات
فإذا أرخى لحاظا
كان أحلى في السبات
وهو أحلى منه إن فا
ه وأحلى في الصمات
وهو أحلى ما تراه
عاطيا باللفتات
وإذا صد فما أح
لاه جهم النظرات
فإذا لان فما أح
لاه طلق اللمحات
كل حال منه أشهى
حالة في الحسنات
إن حبي درة تج
لو دياجي الجفوات
إن حبي مثل حب الله
غفرانا لعاتي
كيف تلحاني على حب
به تبلو أناتي؟
إنما الحب ضياء
من صبيح الصفحات
تبعث الحب إلينا
كابتعاث اللحظات
يعذر الحسن وإن قط
ب نضو اللهفات
راحما يقسو اتقاء
لهناة الرحمات
إن يكن حبي خلدا
أعطني خلد الممات
وأرحني من خلود ال
شجو موفور الأذاة!
إنما الخلد نجاء ال
نفس من وخز الشكاة
لا ترد لي سلوة تش
عل نار الحرقات
إنما السلوان هاما
ت الشجون الهالكات
آه لو يرشق قلبا
لك سهم اللحظات
لحظات لك تمضي
بالسهام المصميات
أه لو تألم أخذ ال
دهر من زاهي الشيات
وترى حسنك نهبا
للخطوب المقبلات
وترى آثار أقدا
م الصروف الدالفات
وترى الأرض كأنا
في العصور الخاليات
وترى الأرض كأنا
في العصور القادمات
لا ترى للحسن إلا ال
حب فرض الفرصات
فتؤاتيني بعطف
منك يجلو حسراتي
لا يرى القسوة دينا
غير قن الغفلات
والذي يبصر كر ال
دهر جم العدوات
لخليق أن رآه
باختلاج الرحمات
ولئن خاتلنا العي
ش بآل الطيبات
ولئن خاتلنا الحب
بغض القسمات
فلعل الموت مكذو
ب كتلك الخدعات
ولعل الحب يجزى
صالحا بعد الحياة!
وسائل الحب
إن الذين وددتهم ورضيتهم
نالوا رضاك بآية لك تذخر
نالوا رضاك بمنحة أم خدعة
أم بالرقى ترقى النفوس وتسحر
أتقربوا بالبغض إن محبة
أقصت فؤادا وافيا لا يغدر
مرني لأفعل ما تشاء فإنما
لك من هوى نفسي المكان الأكبر
إن شئت أن أرد السماء وردتها
ليلا ليقنص دبها والأنسر
أو شئت أن أهذي بكل فكاهة
كالآل لا حق يصوب ويغمر
لقرأت واستظهرت كل فكاهة
وذكرت من عبث النهى ما يذكر
وسمعت ما أعيا السميع سماعه
من صامت، ورأيت ما لا يبصر
أو شئت مدحي للئام مدحتهم
وحسبت أن الفضل غر يزمز
أو شئت أن أرد الرياء فإنني
لكما تشاء إلى رضاك مسير
أو شئت أن أهوى الكلاب عشقتها
ولقلت كلب ترتضيه غضنفر!
هيهات لو أن المحال فعلته
لوددت ما بعد المحال وتعذر
فعلان يربح واحد ولربما
يمضي أخوه على السواء فيخسر
ذاك القضاء فإن أصيب بجنة
كم ماق سلطان وجن مؤمر
والعطف مقمور بغير كفاية
ونبالة، والحب ذاك الميسر!
حجة النائي
إيه يا قلب هل أمنت من النا
س حبيبا يرعى وحبا جديدا
قل لمن قد هويته أي حالي
ك يعيد المشوق نضوا عميدا
ولو ان الحياة خلد مديد
لأسغنا في الحب نأيا مديدا
غير أن الحياة كالحلم تمضي
إنما العمر طائر لن يعودا
أنت لو كنت في الشغاف من القل
ب رجونا من اقتراب مزيدا
رحمة بي بعدت أم لحياء
خفت لي في الجمال منك وعيدا
يا شفيقا علي بالبعد كم إش
فاق ناء قد جر خطبا شديدا
أم لإغراء ظامئ رعت بالنأ
ي وخلفت بعدك التصريدا
خطوات النفوس فيك عبادي
د فسيان دانيا وبعيدا
ولأنت الحياة في القرب تظمى
وظماء المودي أحر وقودا
إن تكن مشفقا فلا تبد طرفا
منك يسجو لحظا وثغرا برودا
وابتعد إن لقيتني، إن مرا
منك يوحي في القلب نبضا وئيدا
أو تكن مغريا بنأيك فارحم
ليت لي في هواك قلبا جليدا
ليت قلبي تحنو عليه ضلوع
منك حتى تخشى عليه الزنودا
خلت نارا أججتها زينة في
ه كضوء المصباح حليا وعيدا
يا شبيه الثمار والزهر والفج
ر تمل العيش الرخي الرغيدا
إن من جمل الحياة محيا
ه خليق بأن يكون سعيدا
أنت أشهى من الخلود وهل تل
في لنفس فوق الخلود مزيدا؟
فادكر في الرخاء نضوا طليحا
بات يدنيك ذكرة وسهودا
إن يمت تبكه اللواعج والهم
فقد كان للشقاء عقيدا
وسل الليل والكواكب هل كا
ن دعائي إلا القريب البعيدا؟
فطنة الحسن
يا ذكي الفؤاد هذا فؤادي
انتجع فيه من هوى مكتوم
وأشد الهوى هوى كتم الصد
ر فأضحى كالمرجل المختوم
ما ترى فرحتي إذا ما تراءى
منك طرف يوحي لقلبي الكليم
ما ترى الدمع حائرا في جفوني
حيرتي في سواد حظي البهيم
ما ترى لحظة يرق لها الصخ
ر كسهم براه وقع الهموم
لحظات في إثرها لحظات
هائمات يحكين لحظ السقيم
خان عهدي الخلان حتى لقد أص
بحت لا أرتجي إخاء كريم
كم رجوت الإخاء دهرا وكم أح
ببت، آه لقلبي المكلوم
فإذا الحب والإخاء سواء
خدعات يقتلن لب الحكيم
ومن العدل أن يحب صبيح
حسنه كي يكون جد رحيم
ولو ان القلوب تألم للأح
ياء طرا من أجنب وحميم
لرأين الحياة جنات عدن
رافلات في نضرة ونعيم
يا ذكي الفواد لبك طب
بسوى لوعتي وحبي القديم
فلعلي أبهمت منه كلغز ال
عيش واستعجمت حصاة الفهيم
أم شقائي لذاذة لك فانعم
ببكائي ولوعتي يا ظلومي
وسل الشعر والأصالة عن صب
مصيخ لحسنك المنغوم
مت من شعره إليك بأسبا
ب ومن قلبه بدامي الكلوم
لك لحظ يأسو ويكلم يا له
في لآس يزيد سقم السقيم!
كم طوى الدهر من غرام ومن حس
ن ومن مغرم وحب نديم
ومن الخطب أن يزول جمال
كان ريا وغلة للحلوم
ما عذابي بخالد فيك حتى
أشتكي منه قاتلي وغريمي
فلئن مت كان منك فكاكي
من حياة كحرقة المظلوم
نعمة موتي الذي ليس يؤسي
ك وما أنت كالحمام حميمي
ولئن عشت فالحياة هموم
لست فيها بزائد من همومي
ما شقائي بخالد يا حبيبي
لا ولا حسن وجهك الموسوم
ولئن غض من جمالك دهر
لم يبخ حر غلة المحروم
يا ذكي الفؤاد تفديك نفسي
من طروق الردى ووقع الغموم!
الأماني والذكر
الذكر يشجوه والآمال تخدعه
قلب تلوى إلى مغناك أخدعه؟
يسائل الذكر عن عهد لنا خضل
لعل مقبل هذا الدهر يرجعه
فقال سائل به الآمال إن لها
في مقبل العيش حكما لست أدفعه
وما انتفاعي بآمالي التي حرمت
على فؤادي إذ لا عطف ينفعه
جعلت بعدك آمالي محرمة
إني لأبغض وردا لست تنبعه
نأيت من بعد عهد جف يانعه
كالعود في الصمت لا شدو فنسمعه
غير ادكار ترانيم إذا تليت
من ذكر عطفك أعشى الطرف مدمعه
والحسن شدو لمن أصغت جوانحه
له صدى تتهاوى منه أضلعه
قد أصبح الذكر قبر الحب وانتثرت
عليه مني المنى كالزهر تمرعه
وعزة الغابر المذكور مؤذنة
بذلة الحال إذ لا ري ينقعه
فهل تغضن وجه المرء مبتسما
كي يجد الدمع مجرى منه يتبعه
فيا سمائي إن غامت فإن لها
في نهر عيشي غيم أنت تطبعه
قد نمق القلب حسنا أنت طلعته
أغرت حتى بصد منك تصدعه
القلب مرآة ما أبديت من ملح
فاصقله بالقرب عل القلب يبدعه
تذوي الزهور فلا عهد يعود بها
لكن للوصل روحا منه يرجعه
أصبحت في البعد مثل الروح محتجبا
وأمره الأمر مغداه ومرجعه
أو كالقضاء إذا ما صال صائله
في خفية ونفوس الخلق مرتعه
والحب كالموت يأتي في فجاءته
من غير إذن ولا ساع يشفعه
إني أحبك حبا لست أفهمه
أيفهم الكون منشاه ومنزعه
يا راصد النجم مزهوا بخبرته
ارصد هلالا بأفق السعد مطلعه
وارصد لحاظا لمن أهواه ماضية
بقسمة السعد تعطيه وتمنعه
الحب روح من الفردوس هبته
ليوقظ النفس شدو لا يوقعه
والحب كالخلد لا يلقاه ذو عدم
إلا فواقا لعيش حان مصرعه
خمر الخلود فنادمني على مهل
سيحبس الدن عنا من يشعشعه
لو قسمت فرحتي إما أراك على
هذا الأنام لغاض النحس أجمعه
فما حنين هزار للربيع بأو
فى من حنين فؤاد أنت مربعه
وأنت شمسي وقطري والنسيم معا
بل الحياة وما أبغي وأمنعه!
الحب والشفاعة
لما رفعتك عن ذا الخلق قاطبة
كأنما أنت لم تخلق من البشر
نأيت عني كما ينأى المؤمر إذ
يبغي المهابة في ستر وفي صعر
أخفت في القرب ما يردى بتكرمة
تنفي العيان وليس الخبر كالخبر
لو كنت إبليس لم تعد الكمال ولم
نسمع بذمك في الأمثال والسور
إن أستغث بخصال الحمد أعوزني
منك الوفاء وفاء غير مقتسر
لعل بعض خصال السوء يسعدني
بشافع غير مردود ومنزجر
بما بخلقك من عيب ومنقصة
من كل مكتتم منه ومشتهر
وما يعيش به الأحياء قاطبة
من النفاق ومن كذب ومن نكر
أدعوك دعوة ذي خبر وذي مقة
ما إن رأى لك ذنبا غير مغتفر
فإن غضبت فلا عتب ولا عذل
أدعوك بالفضل والإحسان والغرر
لا بالحميد ولا المرذول أنشدكم
فهل شفيعي خلق الغادر المكر
أم هل شفيعي أن أسلوك منصرفا
عن حرقة الحب كي تقفو على أثري
إن كان ذاك فما قلبي بمنأطر
إلى اللقاء ولا روحي بمدكر
فاغضب لحسنك وارم القلب عن كثب
واقرب وأشعل فؤادا غير منصهر
فما يزينك قلب غير مدكر
من العباد وخد غير منعفر
فاحلف بحسنك أن تدنو لترجعني
إلى اللواعج والأسقام والذكر
ولا تقل رحمة تنأى فلي كبد
لم تخش منك صيال اللفظ والبصر
أغر الجمال بنا كيما نكفر عن
وزر الجحود جحود الحسن والغرر
فإن فشلت فبئست تلك منقصة
تنفي الجمال وبئس العجز في العرر
وإن ظفرت فقد دانيت منعطفا
فاثأر لحسنك واعرف لذة الظفر!
لا تحسب الحب أعمى ضل رائده
الحب أبصر بالأخلاق والسير!
نجوى المحتجب
حجبوك من حذر عليك صيانة
يا ليتهم في مهجتي حجبوكا
ولئن حجبت ففي الرحيق مشابه
في الدن أو ما يحتويه فوكا
أو في اللآلئ وهي أنفس ما يرى
عيفت لها الأصداف واختصوكا
لولا ظنون السوء وهي كثيرة
يغرى بها من خشية أهلوكا
لحججت معتمرا ببيتك طائفا
أبغي إليك من الطواف سلوكا
يا ويح أهل الدار لو علموا الذي
تحوي إذا سجدت لديك ذووكا
هم يحسبونك واحدا في أمة
ولأنت دنيا الحسن لو عرفوكا
لو يعلمون مخاوفي ومحاذري
حرسوك في عيني إذ حرسوكا
ولقد وقفت على ديارك بعد ما
هجع الخليقة سوقة وملوكا
نجوى وثقت بدينها وبربها
رب المحاسن خاب من يدعوكا
إذ أم قلبي شطر قلبك حاسبا
نجوى المحبة منهجا مسلوكا
كيما تجيء على الوفاق وما نأى
ناء إذا سلك الدعاء سلوكا
يا قلب ما لك لا تبوء بسلوة
عل الحبيب بهجره يبلوكا
يا ساحرا خابت وسائل سحره
أو ما عرفت على اليقين شكوكا
لا تبلغ النجوى أغض مرفها
غفلان يجهل دمعك المسفوكا
يا ليت أن الوحي كنت ملكته
حتى تناجى غافلا يجفوكا
إني اتهمت محبتي لما نأت
بك عني النجوى فلا تدعوكا
يا من به افتتن القضاء كأنما
صرف القضاء بحسنه يرشوكا
ويلي من الآمال فيك فإنها
زفت إلي حديثها المأفوكا
يا أين منك وداداة للقلب لا
تألوه مصطفيا ولا يألوكا
الحب والحذر
كيف لا أغري بك الحذرا
إن تكن تغري بي الحذرا
تبت من ود ومن مقة
فأقل من تاب واعتذرا
صرت أخشى منك طارقة
مشمتا بي كل من أمرا
رب مأمون بغرته
حير الألباب إذ غدرا
كم وسعت النفس معرفة
أتقصى الفعل والسيرا
فأتت ما لست أعرفه
وكأني لم أصب خبرا
ما عجيب أن صبرت فكم
جازع من كارث صبرا
إن قلبا لم يدن بهوى
قط شر من جو خسرا
إن مخدوعا على ثقة
زين خب لم يثق حذرا
إن من صحت طويته
لم يكتم حبه ذعرا
عجب أن لست تأمنني
قد أمنت البدو والحضرا
آمنا من ليس يأمنه
سابر يدري الذي سبرا
أنت ممن عاش في كلم ال
ناس يقفو فيهم أثرا
إن حب السوء مكتتما
بز حب الطهر مشتهرا
خلت أن الناس لو كشروا
شاحذين الناب والظفرا
كنت لي خدنا ألوذ به
تدري الآلام والكدرا
حببوا لي العيش إذ قذعوا
كي أنال الفضل مقتسرا
كنت أرضى حسن رأيك لو
لم أعالج قبلك الغيرا
كم صديق بت أكلؤه
من عدى أغرى بي الحجرا
أول الرامين معتذرا
من صفاء كان لي ذخرا
لم ألم خلقا نأيت به
بل ألوم الدهر والقدرا
قد أمنت الدهر أرقبه
فدجا بالسوء واعتكرا
وأمنت الصيت أنشده
فشآني الغر وابتدرا
خلته شهدا لمقتطف
فسقاني الصاب والصبرا
وأمنت الحق أعبده
فحماني الورد والصدرا
ثم ألقاني إلى نفر
يعبدون الكذب والنكرا
فامض مثل الدهر لا وطرا
مالئ قلبي ولا خطرا
وامض مثل الصيت إن به
في الورى عن هامنا قصرا
وامض مثل الحق لا شجنا
بعده ألفي ولا ذعرا
وامض مثل العيش إن لنا
بعده في راحة وطرا
موارد الحب
يا رائد القلب يحدو بي إلى حسن
انزل بقلبي في خصب من الدمن
الأرض تهدي بأعلام وأودية
والأفق يبعث بالأضواء للسفن
وفي السماء رياح جد معملة
تحدو الطيور إلى الأوكار في الفنن
فما الضلال بحسن لا دليل به
إلا مصارع قوم لسن بالسنن
لا بالحنين ولا بالصدق أدركه
وكيف أدرك آلا غير ذي منن
وأنت كالحق مخبوء ومطلب
والحق ذو صلب يجتن بالجنن
لا موت يظمي إلى حسن وإن صبرت
عن شرعة الحق نفس الهالك الضمن
لئن نأيت كنأي الشمس عن دنف
يرنو إليك رنو المرء للوطن
لم يخرس الطير أن الشمس نائية
إذا بدا الصبح تتلو آية اللسن
لا تحسب الحسن مثل الشمس يسعدنا
في البعد بالضوء إذ يؤذي على قرن
فالحسن يحرق في هجر وفي بعد
ويبهج القلب في قرب من السكن
يا ليت للشعر آلاما فتبصرها
كيما ترق لما يحكيه من حزني
أو ليت لي مسلكا كالفكر أسلكه
يخفى عن الناس في حل وفي ظعن
أو ليت أني قضاء لا مرد له
آتي إليك بنعماء من الزمن
أو ليت أني شجون منك قد نزلت
في صدرك الغض قلبا ضاق عن شجنى
وما صبرت على صد قسوت به
كلا لعمرك إن اليأس صبرني
إن عذب السهد عينا غير مغفية
إفك مقالي إن الطيف يؤنسني
يا باخلا بلقاء ليس يحربه
ما كنت أحسب أن الحب يبعدني
ما كنت أشقى بآمال أعالجها
لو أنني عاكف أحنو على وثن
وإن نأيت فقد أرخيت لي طولا
لكن قلبي مشدود على الرسن
لو كنت أسطيع سلوانا عذرتكم
وكيف أسلو وأنت الروح في البدن؟
وكيف تمنعني وجها تلوح به
للناس طرا بلا من ولا ثمن؟
أنت المقادير كالعشواء خابطة
بالسعد والنحس من نعمى ومن محن
فأنت توحشني من غير ما سبب
وأنت تؤنسهم بالمنظر الحسن
نام الخليون ممن قد رأوك وما
نام الشجي وقد باعدت يا سكني!
الصبر والجزع
يا لابسا حلل الربيع مخايلا
في خلعة الفردوس من لألائه
من لي بصبر عنك ليس بكائن
صبرا يداوي القلب من برحائه
صبر القتيل عن الحياة وطيبها
وعن اقتسار الثأر من أعدائه
من لي بصبر الدهر من أزل الدنى
صبرا على المقدور من عدوائه!
من لي بصبر الغصن أجج عوده
صبر النجوم على السرى وعنائه!
صبر النيام عن الضياء وحسنه
وعن الرجاء ونجحه ورخائه
صبر السماء عن الطيور تصوبت
صبر العيون عن الغماء ومائه
أواه أعوزني اصطبار لاتني
تفنيه نار الحسن في إعيائه
مثل الذبالة نورها بفنائها
قمن وصبر المرء عقب شقائه
ولئن أصابك في حياتك مثلما
فزع الجريح إلى نقيع سقائه
لرثيت للصديان من حرق الجوى
ورحمت هيمانا لفرط بكائه
إني لبعدك كاليتيم تباعدت
أنصاره فبكى على آبائه
ولكم جزعت لجفوة لك أفرطت
جزع الجبان يفر من هيجائه
لعرفت ما جزعي لو انك خابر
جزع المريض من الردى وقضائه
جزع الثكالى غال أوحدها الردى
فوددن طعن الموت في أحشائه
جزع لباغي العدل روع جأشه
طاغ يخال العدل من إجرائه
لا بل جزعت وليس يعرف جازع
جزعي لبعد شيبهة وعنائه
غلآن في جيدي لحبك واحد
ولصولة المقدور في غلوائه
إن غبت عني ظلت ناشد حاجة
مجهولة لم يدر وجه دعائه
متلفتا حولي كأني مشعر
روحا يحس وإن نأى بخفائه
وأرى الفضاء بلحظة هوجاء لا
تبغيه بل تبغي ضمير هوائه
فكأنما أبغي عوالم خلفه
سترت بغيب غطائه وكفائه
لحظات عين لا تراك كطائش
من نبل أخرق حاد في إجرائه
إن لاح إنسان حسبتك طالعا
أو لم تكنه فأنت من قربائه
حتى أحب الخلق إنك منهم
وأقيل جرم الدهر في عدوائه
فإذا استبان علمت أني مبصر
من لا أسر بوده ولقائه
إن غبت عني خلت أن عوالما
خسفت خسوف البدر في ليلائه
كالسيف إن صدئ الغرار وطالما
راق العيون بطبعه وروائه
وأكاد أهتف في الندي بذكركم
قهرا أذل لأمره وقضائه
لولا مغالبة اللسان وصونه
بان اختبال اللب من برحائه
وأود لو تدنو إلي بزلة
أهلا بجرم نلتقي بعدائه!
بل ليت لي منك ائتلاف مسعد
إلف القصيد لعوده وغنائه
إلف الأزاهر والمياه تصافيا
وجرى الربيع عليهما بجلائه
فلطرفة تمضي ولست بشاهد
خلد الجحيم بنحسه وشقائه
زورة المباعد
يا زائري أعبقت منك محاسنا
كالزهر يترك نفحة المرتاد
أخصبت تربة أنفس ظمآنة
شامت سناك فكان خير عهاد
وأفضت شؤبوب المحاسن والنهى
طيبا على المهجات والأكباد
يا زورة كالعيد إلا أنها
جلت عن الفرحات والأعياد
يا ليت أن الدهر أوقف سيره
حتى تحين قيامة وتنادي
لهفي عليك أعائد بك ما مضى
أم كل عهد فات غير معاد
عجبا أما صابت لحاظك مهجتي
صوبا يبل به أوام الصادي
كتقاطر الرحمات عقب سوابق
من نقمة والحادث المرعاد
طرف تألق منك حتى خلته
قبس المجوس يضيء للعباد
لوددت أن أرعاه رعية عابد
يبغي الخلود له على الآباد
يا ليت أن النفس درة غائص
أهديك من نفسي أعز عتاد
النفس مرآة فقارب وجهها
يخلص ضمير النفس من أضداد
كوذيلتين تحاذتا وتصافتا
ما إن ترى غير الشكول بوادي
أترى ظلال الموت تسحب ذيلها
وتظل رهن قطيعة وبعاد؟
سأسوم قلبي عنك سلوة صابر
القلب أحجى منك بالإسعاد
قد يلهم القلب الشجي عزاءه
هجر أطلت لسلوة ورشاد
ها رحمت القلب رحمة مبصر
لما نأيت بريه والزاد
أم لست تعرف أن حسنك مهلك
بز المهالك في ردى وعوادي؟
أم أنت متهم هواي فلم تخف
منه علي لواعجي وصفادي؟
وحسبت أني عابث بدعابة
فلهوت بالتقريب والإبعاد
اجحد حياتك ما استطعت جحودها
فلئن قدرت فلوعتي وودادي
لو كنت شاهد عبرتي وصبابتي
لما برمت بصدك المتمادي
وصدعت أبواب السماء بدعوة
كادت تهد شواهق الأطواد
لعلمت أنك بالسلو وبالقلى
أحجى ولكن لا يطيع فؤادي
لو قلت أنت قتلتني لضحكت إذ
كارا وإن أهلكت بالإبعاد
ولرب باغ سعد خل هالك
منه بخلق غير ما إسعاد
فاعط الصبا فرض المراح ولا تصل
حذرا علي من الشقاء العادي
واهنأ بأتراب حنوت عليهم
وتركتني خلوا من الأوداد
فغصونهم كغصونك الفيحاء مو
رقة وغصني عاد شوك قتاد
لو كنت لم أبل الحياة وصرفها
لقصدتهم بالغل والأحقاد
أما وقبري بالوصيد موطأ
ألفي لديه راحتي ووسادي
سفه بمثلي أن يلوم على الجفا
إلف الهوى بقوامه المنآد
لو كنت تجهل ما أعاني من جوى
إن غبت عني آخذا بفؤادي
لرجوت منك مودة لم ألقها
وصبرت للبلوى كصبر إباد
لكن علمت فلم تعد لي حيلة
لولا سراب رجائي المياد
أدنوت كي تنأى ولنت مخادعا
لأسام خفضا بعد عز قيادي
رحماك يا غض المحاسن لم تكن
عندي بأهل خديعة وعناد
ماذا اجترمت فكدتني بخديعة
تبغي عذاب فؤادي المنقاد
إن المروءة والشهامة غير ما
يأتي المصادق من أذى الأوداد
قد كنت أحسب كل حسن فطنة
تودي بقسوة وحشة الأضداد
فمنيت منك بغير ما أملته
أسفا لقلب منك غير جواد
يا ليت أنك صخرة مهجورة
ليست تغر بفطنة وفؤاد
أدعوك بالآلام وهي مضيفة
مما خبرت لفرقة الأنداد
أدعوك بالعبرات إن رقرقتها
من مقلة حرى بغير رقاد
وبكل ما عانيت من حرق الجوى
وبروعة الأحلام والتسهاد
أدعوك بالزفرات إن صعدتها
من غدر أحباب وغل أعادي
وبوقع خفقة قلبك القاسي إذا
حذر الردى ومراكب الأعواد
وبما ألمت من الشقاوة والأذى
والخوف يقدح في الحشا بزناد
وبما يتاح من المهود إلى الردى
من لوعة الإصدار والإيراد
أدعوك كي تدري حنين جوانحي
بحنين قلب منك غير جماد
وبكل ما عالجت من صرف النوى
والمرء رهن روائح وغوادي
كيما ترق للوعتي ولواعجي
وتزيل دولة صدك المتمادي
يا قلب بعض الحب ليس بفطنة
فاجنب هواك لفطنة وسداد
لو أن شجو القلب يبعث مثله
في صنوه لبلغت كل مراد
أيقنت أنك مولع بمباعد
هانت عليه حرارة الأكباد
فاقرن يقينك بالعزاء ولا تقف
بالشك موقف حيرة وتمادي
وارجع إلى يأس سكنت لجنحه
زمنا، فكان أبر بالأنداد!
يا ضوء
تضيء ما يستر الظلام من ال
قبح وتكسوه حلة البدر
وأمك النار وهي صائلة
للخير والشر صولة الغير
كسوت وجهي وخاطري حللا
وكنت للعين علة النظر
لولاك لم يرحم الذي حمد ال
حسن أخاه ذا الآفة الكدر
تلوح للهالك السقيم فيع
تدك خير اللذات والذخر
تلوح للجارم الحبيس كما
يلوح ماضي النعيم في الصور
تغذوه أم في عينها أبدا
سحر حنان يضيء في البصر
وهو وليد قد أولعت يده
بخطفة الضوء حلية الحجر
وكلنا ذلك الوليد إذا
لاح سراب الرجاء والوطر!
وأنت في المعبد المشيد كضو
ء الله في صالح من الخبر
أو مثل ضوء الضمير محتبس
في النفس أو كالصفاء في السير
تبعدك الطير في الصباح بما
تتلوه من آية ومن سور
تهبط فوق الغدير في مرح
مثل هبوط الطيور في الشجر
أم أنت روح الحبور قد برزت
تنير وجه الحياة في خفر
كأن في الأرض قلب والهة
تسبي عشيقا بحلة الزهر
سنابل النبت أنت صغت لها
من عسجد حلة من الحبر
ترقص رقص الحسناء إن لها
رقصا كرقص الضياء في النهر
يا علما للحياة ينشره ال
كون فيقصي القلوب عن خور
ورب فجر بثقته بهج
كفجر حب في القلب منفجر
أو مثل فجر الآمال إن لها
فجرا وليلا يضاء بالذكر
فظرز السحب مثلما حسن ال
نحس بضوء الرجاء في الكدر
كأنما أنت سلم لعلا
ء النفس تسمو لآية العمر
أو أنت حسن الجنان نبصره
منبعثا خارجا من الثغر
ترمد طرف الحزين إن أخاك
الليل بر بالخاطر الكدر
تليح بالسعد والمنى أبدا
لذي طموح بالترب منعفر
وأنت كاليم، دره الفلك ال
دوار أو فاقع من الزهر
ويا بشيرا بما نخال من ال
آلاء في مقبل من الغير
حكيت ذخر الآمال تبعثها
للوهم يزهو كالتبر في الذخر
تخال من رقة المراسم مع
نى لا يراه البصير بالبصر
أشهى ضياء يكسو الحبيب خما
را نعم ذاك الكساء في الخمر
تستبق الطير في أشعتك ال
غراء فعل الحسان في الغدر
وضاءة الماس منك قد قبست
وأنت في الروض خمرة الزهر
والضوء في المنزل الخراب كقل
ب الندب يشقى بالجسم في الكبر
خواطر الخير كالملائك أو
كالضوء يزهو في قمة الشجر
كل جليل مشبه بك في ال
مدح، وليس التراب كالدرر
فالحق والحسن والمطامع أش
باهك في قول ناعت الغرر
أضئ إن اسطعت ما يخال من ال
غيوب والطارقات والقدر
كم ذا رأيت الأنام في عنت ال
عيش نشاوى من غير ما سكر
فلم تقطب على الشقاء ولم
تبد كوجه لليل معتكر
كالشيخ شام الخطوب قاطبة
يذخر غفرا لزلة البشر
خبر وما ينفع الورى أبدا
طلاب ذاك الطليب في الخبر
أثغرة ذا الحمام نبصر من
ها الضوء، أم حفرة من الحفر؟
الصديق المنشود
إليك يا من قضيت العمر أنشده
في الناس، لو أن فيهم من يصافيني
هم مثال سراب لاح عن عرض
وأنت أنت سراب الحسن تظميني
وأي شيء إذا جد الطلاب به
لم ألف آلا من الأهواء يرديني
أو كالأجاج إذا أظمى بجرعته
وطالما خلت كأسا منه ترويني
يأسي من الخلق يحدو بي إلى أمل
في ذي جفاء إذا دانيت يقصيني
عرفت أني لن أهنا بلقيته
فلم أصب برء أحلام تناجيني
يا بؤس نفسي لا صبر ولا صلة
ولا عزاء يؤاسيني ويأسوني
يا لائمي أنني لم ألف ذا مقة
أفضي إليه بأمر منه يشجوني
احمد زمانك في جد حباك به
لقد حباني بجد منه مدجون
ما إن أبيت حباء الدهر لو صدقت
آلاؤه، وحباني بالميامين
يا مغريا لي بخلق لا أشاكله
أبغيك في كل نابي الطبع مأفون
وكيف أنقم إفكا منهم، ولكم
كذبتني بحديث منك يغريني؟
أقول عل بعيدا لست أعرفه
يوما يجيء بخلق لا ينافيني
لم يغن قلبي فيكم ما يعالجه
هل تعلمون بديلا منه يغنيني؟
لو كان للعيش عود كان لي أمل
في أن أصيبك في عيش يصافيني
لكنه مرة في الدهر واحدة
ثم العفاء على آمال محزون!
الملك الثائر
مقدمة
هذه الأقصوصة تحتوي نزعتين: النزعة الأولى سخط النفس من شرور الحياة وآلامها، والنزعة الثانية تهوين أمرها على النفس؛ لأن رفض الألم رفض للسعادة؛ إذ الإحساس الذي يحس السعادة لا بد أن يحس الألم. ورفض الشر في الحياة رفض للخير؛ إذ الخير في محاربة الشر؛ ولأن الرحمة نفسها التي تدعو إلى هذا السخط ما كانت تكون لولا الشر. والقصة هى قصة ملك عصى ربه وهبط إلى الأرض، كي يدعو الناس إلى محو الشر فآذوه وألحقوا به كل شر؛ وخسر رضوان الله كما خسر رحمة الناس وعدلهم ومحبتهم. والمراد العظة وتحبيب الحياة والثقة بالله.
نبئت أن ملاكا ثار من حزن
يسائل الله في خلق الرزيئات
قول الملك الثائر يناجي الله
تكلم الشر فابعث منك هاتفة
من الجوامع ترضي في المناجاة
الأرض مبنره وهو الخطيب بها
يدعو النفسو إلى هوج المطيات
فارحم مسامع لم تسمع نجيك أو
نفسا لضوئك ترنو في الخصاصات
وارحم عيونا إلى مرآك ظامئة
آبت من النحس في شك كليلات
إذن أعرها لحاظا منك صادقة
تدحو لها العيش محمود الصحيفات
وابعث لنا حكمة مما خصصت به
فحكمة لك تطفي حر غلات
ندري الوجود كما تدري الوجود بها
ونرتضيه بأرواح أبيات
فما الخلود ولا الفردوس من أربي
ولا كمال لمعصوم السجيات
حتى أرى الناس لا دمع ولا حزن
ولا شقاء بإجرام وغمات
سأبلغ الأرض آسى مثلما حزنوا
وأبرئ الناس من جرح البليات
إن الجهاد على النقص الذي طبعوا
عليه أفضل من عصم السجيات
فالسيف أفضل مشهورا وإن صدئت
بالصون ما درنت منه بإصلات
صوت من السماء
اهبط إلى الناس واندبهم إلى خلق
كما تشاء على تقوى وإخبات
وارغب بهم عن شرور أنت ناقمها
وداو ما اسطعت كلم المصمئلات
أوردهم الخلق الأعلى لعل لهم
إلى الدنيات طبعا غير منصات
فإن فشلت فلا غرو فإن لنا
في الخلق حكمة مخبوء العلامات
مسعى الملك الثائر واضطهاد الناس إياه وفشله
سعى إلى الناس ساع نحو خيرهم
يدر للخير أرواحا بكيات
فيا لسعدهم لو أنهم جنبوا
ما يجنب السعد من حرص المباراة
عزيز عاداتهم للشر رائدهم
كم قدسوا العاد تقديس الديانات
تبغي المحال فتبغي الخير أجمعه
هيهات لو عزيت نفس بهيهات
كشفت عيب نفوس أنت ناصحها
فاحمل عن الخلق آلام الشقاوات
ثارت به الناس كالأغوال يقدمهم
إليه كل عريق في الجهالات
وحملوا خلقه من سوء خلقهم
وكم رموه بأدناس الرمايات
ومزقوه بأظفار كما خضبت
فواتك الوحش من دامي الفريسات
وعلقوه على جزع وقيل له
اصعد كما رمت في مرقى السجيات
ما راعه أن رأى الأشرار ترجمه
وإن توجع من وقع النكايات
حتى إذا ما رأى الأبرار تظلمه
غرارة وانصياعا للسعايات
بكى لبغض ذوي خير وما منيت
نفس بأوجع منه في العداوات
من كل لحظ بضوء الخير منبعث
يدجو عليه بتقطيب السخيمات
تلك النفوس التي عاف السماء لها
وثار يغضب جبار السماوات
يكفر الناس بالآلام قاطبة
عن الخطايا وعن شر الدنيات
وعن رضاء بعيش جله نقم
وعن ولوع بنعماء ولذات
هم يعذرون بمدح الخير شرهم
تكفير من لم يطق هجر الخطيئات
لسان بر بئلب الشر منطلق
مثل الأفاعي وما قلب بعزهاة
ما أنكر الناس شرا غير ضائرهم
أينكرون شهيات الغريزات؟
صوت من الجحيم: إبليس يتكلم
ناداه في النار إبليس فقال له
هون عليك ولا تولع بإعنات
قد شاء ربك إن الشر عدته
في صيغة الخير في قدر وميقات
أنا الشقي بما لم أجنه أبدا
من خلق نفسي ومن آثام زلاتي
قول الثائر الساخط
فقال ذو شقوة بالجزع منتصب
يكلم الله في نجوى السريرات
أنزل علي شقاء الخلق قاطبة
وطهر الناس من ضير الجريرات
إن يظلموني فمن بالشر يجبلهم
أو يصلبوني فمن باري الجنايات؟
هل يعذر الشر أن الخير غايته
أم هل تهون آثام بغايات؟
مصير الثائر
فخلفت روحه كالطير سابحة
في الجو تنشد مخضر النباتات
طارت إلى الملأ الأعلى فما لقيت
لها قرارا ولم تظفر بمهواة
لا في الجحيم ولا الفردوس مسكنها
حيرى المسالك من فقد القرارات
ترى الملائك حول العرش آسية
تأسى الملائك من إثم وزلات
صوت من السماء
يا ناقم الشر هلا كنت مضطلعا
بالجزع والصلب قبل الكارث الآتي
عصيت ربك في كبر وفي جهل
لما برمت بإيلام الملمات
الخلق للخلق ربح لو فطنت له
كمغنم الحي من أسلاب أموات
والشر والخير لا يرجى افتراقهما
فارفض إذا اسطعت نعمائي ولذاتي
حتى العقول وحتى الفضل أجمعه
ولذة النفس في بذل المروءات
ومرتضي الخير لو يسعى إلى دنس
لباء منه بإخلاف العلالات
ومرتضي الزهد مسعود بعفته
ولذة المنع إنماء الخيالات
برحمة قد نماها الشر تنقمه
ورحمة المرء من وخز المصيبات
إن كان سخطك خيرا في مراحمه
أجزت خلقى بأرواح رحيمات
فالشر للخير مردود وإن أسيت
منه النفوس بأنات وآهات
وباحث سر عيش غير مدركه
كالطفل ينشد أفلاك السماوات
الموت
أيا معبدا قرباننا فيه عيشنا
نضحي به لذاتنا والأمانيا
ويا منصف المظلوم من كل ظالم
ويا مهرب الملهوف يخشى الأعاديا
ويا مبرئا كلم الحياة بطبه
جلالك أن قد راق ما كنت شافيا
ويا ستر لم يصدعك هم ولوعة
ويا حصن عطلت الدروع الأواقيا
فيا موت يا أما أطالت تصامما
أما لك قلب يرأم الولد حانيا؟
ألا أرضيعني منك يا أم درة
لأذكر ما قد كنت في العيش ناسيا
فيا موت أقبل باسط الوجه طلقه
فإن حميم الصحب ما كنت لاقيا
تقارب من أمسى لطيفك قاليا
وتبعد من يرجوك في النحس راضيا
أتجمع بين الصحب أم أنت فرقة
تقول لها الآباد أن لا تلاقيا؟
وكل لهيف يبتغي فيك نجوة
وكل لديغ يبتغي منك راقيا
فما التاح من ألفى من الموت موردا
ولا اعتل من لاقى من الموت شافيا
أتسمع صوت الرعد كي أستعيره
لأوقظ طرفا منك وسنان ساجيا
أحبك حب الصب وجه عشيقه
لينقع ثغرا منك صديان ظاميا
وكم طربت أذني للحن أجدته
أعد منك لحنا يترك السمع واعيا
وأنت شبيه الله في خير نعته
فإنك رحمن وإن كنت قاسيا
لأعززت من قد كان في الناس صاغرا
وأرخصت من قد كان في العيش عاتيا
وليس بعز المرء مثل افتقاده
وإن كان معشوقا لدى النفس غاليا
جوارك مأمون وملكك رحمة
لمن كان قد أعيا الطبيب المداويا
لخلفت قلب الخوف يخشى حمامه
فجارك لا يخشى من الخوف ساريا
وأين دموع النحس من عهد آدم
محاها من الأحيان ما كان ماحيا
وكم حرس الموت الودائع بعد ما
أحالت صروف العيش إلفا معاديا
إذا لم يكن للميت شجو وحسرة
ولم يك للفقد الذي ناب واعيا
فأين وعيد منك يا موت نتقي
ونزوي إذا ما لحت منه النواصيا؟
وللخفض أيام وللنحس مثلها
ودهرك مثل الخلد أروع ناميا
توالت فصول الحول عن قدر موعد
فهل منذر ينبي عن الموت آتيا؟
وليست حياة المرء إلا كنفحة
سل الموت عنها والسنين السوافيا
وما بي خوف الموت بل حر حسرة
لفقد حياة فيه لم أدر ما هيا
رزقنا فلم لا يرزق الدود بعدنا
أليست فضول العيش خلقا دواليا؟
نسر على قبر العصور التي خلت
كما يضحك المجنون أخطا الملاهيا
هو الحي عبد الموت يسعى لطعمه
فيغذى دماه والمنى والمساعيا
وما العيش إلا طائرا في دجنة
توهمه برقا على الأفق نائيا
كفى شرفا بالموت أن كان عائش
يصول لنيل الرزق باللؤم شاكيا
حمدنا مهود النوم أن شابه الردى
وإن لم يرع بالحلم من كان كاريا
فكيف نعاف النوم لا نوم مثله؟
سل القبر عنه والعظام البواليا
وما العيش إلا عادة غال قيدها
وأي امرئ يلفي لدى العاد عاصيا؟
ولو فهم الحي الحمام وطهره
لما أوجر الحقد الكمين الأعاديا
غدا يستوي الجاني ومن ذاق شره
كأن لم يكونا مستكينا وجانيا
حبتك صروف الدهر بالحسن والهوى
سل الموت أن يحبوك ما كان حابيا
ألم تر أن المرء في عظم سعده
كما في أساه، يرتجي منه آتيا؟
سواحر لذات يرى العيش بعدها
خلاء، فيرجو لو رأى الموت باديا
يخاف عليها من عقيب يمرها
فيكره من سوء العقيب اللياليا
كما ائتلف الإلفان في صفو طرفة
يخالان أن لم يبق في العيش باقيا
فودا لو ان الموت نسمة عاطر
تطير بروح منهما كان هافيا
وهل يعدل الأحياء خير الألى مضوا
تنادوا لحين واستجابوا المناديا؟
فأهون بهذا العيش قد جاز داره
ذوو اللب شتى يدلفون تواليا
سل الملك الجبار ينقع غله
من الموت لو ألفى على الموت عاديا
وما العيش إلا ميتة بعد ميتة
وما الخير واللذات إلا عواريا
وما العيش إلا الظئر تؤذي وليدها
إذا لم يكن في النحس جذلان لاهيا
فأهون بأحلام الحياة وطيبها
فإن عناء سؤر كأس رجائيا
فيا ليتني كالزهر صيف حياته
فأفنى ولم يعنف علي شتائيا
على العيش واللذات مني تحية
وألف على موت يريح جنانيا
أرى ظلمة في العيش أخشى غيوبها
ورب وليد خاف ما كان خافيا
أنخشى ظلام الموت والعيش مثله؟
إذا ضاء سر العيش فاعدده داجيا
وما يضحك المسرور إلا لخوفه
وكم ضحكة في ثغر من كان خاشيا
تقطع أوتار المودات والهوى
تقطع خيط العود أشجى الأواليا
أيعجب ذاك الميت من حزن واله
أم الميت لم يسمع من الناس داعيا
تدرع بالصمت الذي ليس مثله
مقال، أليس اللب للصمت واعيا؟
وصمت على الأموات يدنى كأنما
يسقي الندى زهرا على الترب ناديا
سواء مقال الإلف أو جرس سبة
فقد أمنوا منه الأذى والمخازيا
فمن مبلغ الأموات عني تحية
سلام عليهم، بل علي سلاميا!
فما أعوزتهم رحمة في قبورهم
كما أعوزتني رحمة في حياتيا
لعادوا وفي الأوراح منهم بقية
وفي الماء مورودا وفي الزهر زاهيا
وقد أصبحوا رزق الحياة وطعمها
أيدعى قوام الحي ميتا وفانيا؟
سواء لديهم صبحنا ومساؤنا
وسيان ما يسمي الأذى والأمانيا
وسيان لمح الطرف مرا وحقبة
ويبطي لنا النحس السنين البواقيا
خليلي خطا لي من الأرض حفرة
أريح بها قلبا عن الناس ساليا
ولا تسمعاني الطير تشدو بنغمة
فآسى على العيش الذي كنت قاليا
ولا تمهدا للغيد فوقي موطئا
فأحنو لحسن لم أزل منه صاديا!
عزائي أن الزهر تسقيه حفرتي
دمي ويروح الحسن بالزهر حاليا
حبيبي، أرح منك الجنان فإنني
تبدلت منك الموت حبا مؤاخيا
وهيهات لا يسلو عن العيش جارع
من العيش حتى يصبح العيش ماضيا
وحتى يموت الحب والذكر والمنى
وتتلو نواعي الشائقات المناعيا
وحتى يموت الموت لولاه ما بكى
حريص على دنياه يخشى المرازيا
فيا ليت أن العيش يخلف ميتة
دراكا كما يطوي النهار اللياليا
ذعر المحب
تعزل قلبي كل شجو وفرحة
فقر كما قرت رفات المقابر
وما كنت أدري أن للحب عودة
إلى القلب حتى خفت صرف المقادر
أخاف عليك الضر حتى كأنني
أخاف على قلبي وسمعي وناظري
كتمت الهوى في القلب حتى أذاعه
وجيب وإشفاق لأنباء ذاعر
فوا حسرتا ما لي وللحب بعد ما
وهى منه قلبي بين جان ونافر!
أحييك في رغد السلامة لم يخف
عليك شفيق من صروف الدوائر
ولم أدر ما ذعر المحب ولم أبت
أباعد عن قلبي مخوف الخواطر
ويسعدني من شدة النحس أنها
نذير بإقبال الحمام المغامر
أعالج آلام الدهور التي خلت
كأني مناكيد الدهور الغوابر
فليتك تدري ما لقيت ولو درى
جنانك ما ألقاه ما كنت هاجري
ويا عجبا لو كنت تجهل أنني
لأجلك أقضي الليل رطب المحاجر
ويا عجبا لو كنت تجهل أنني
أبيت وقلبي في مخالب كاسر
أما خبرت عيناي عينيك أنني
أحبك حب النحس خصب المصادر
فقد خبرت عيناك عيني أنما
تراءت لتشفي عاشقا جد عاثر
شهيدي ليل سامرتني نجومه
كم التحت من برح الهيام المخامر
وكم بت أبكي أسأل الله راحة
من الموت لو ألفى لدى الموت ناصرى
أبن لي ألفاظا من النار علها
تؤديك ما يلقاه قلبي وناظري
وكل بيان عاجز اللفظ كاذب
فليتك تلقي خاطرا طي خاطري
وليتك روح طي روحي خابر
وليتك رب عالم بالسرائر
وما إن كتمت الحب إلا مخافة
لفقدك من مسعاة لاح وغادر
فيا ويح قلبي لا صديق مصادق
ولا حب إلا عاد عون المقادر
أمن أرب أحيا لآسى كأنني
غذاء لأفواه الشجون الجوائر
فيا نائيا أغدق على القلب رحمة
بعينين نجلاوين من صنع ساحر
وعطفك عندي نهزة ليس بعدها
إلى أبد الآباد إسعاد خاسر
فيا دهر كفر عن همومي كلها
بمرأى حنان الحسن من طرف هاجرى
أليس قليلا نهزة لو ينالها
أخو الموت من خلد اللهى والذخائر
فيا لبلائي لا عزاء أصيبه
عن الحب والخل الحبيب المؤازر
وإن كنت أدري أن عيشي خدعة
وحلم تقضى أو أكاذيب سامر
أرى الزهر غضا يانعا طله الندى
مليا بأن يشجو ظماء النواظر
فأحسبه دمعا لذكرى غرامنا
وأنفاس أيام اللقاء الغوابر
أتذكر وعدا باللقاء بذلته
بمجتمع الأطيار بين الأزاهر
وليلا طرقناه سميرين في الدجى
كما جال سر الوحي بين السرائر
طرقتك يا ليل اللقاء فرقتني
بلذات حب كالنجوم الزواهر
فهل من معيد لي لقاء مضى لنا
وعهدا تقضى بين إلف وناصر؟
ولا تتركني ذاكرا عهد ما مضى
كعاد يرجي الذخر بين المقابر
طيرة الفرخ
جناحك واهن فإلام تبغي
بذاك الوهن مطلب النسور
أقم في وكر غصنك مستريحا
من الأحداث والقدر المغير
ألا طر حيث شئت فغير بدع
إذا غالتك عادية الصقور
لطيرة من يؤم الشمس أجدى
على الزلات والجد العثور
لقد جعل الطموح لكل ندب
كما جعل القوادم للطيور
وقد يبكي الجبان على جريء
كما يبكي الجزوع على الصبور
أرى الآلام محملها خفيف
على الضعفاء والبطل القدير
أنفرق من ديون هن حتم
على النفساء والطفل الصغير
ووقع النحس في الأجسام وخز
كوخز اللذ من وقع السرور
فسل قلب الشهيد عن البلايا
يخبرك الشهيد عن الحبور
وما من مهجة هانت وذلت
بغير مخافة الألم الذعور
حب العزوف
ليس الوجود وأنت بعض كيانه
أسرا لقلب العاشق الغطريف
والندب يحمل بين جنبيه الدنى
روع الغريب وراحة المألوف
إن الذي درس الزمان وفعله
لأجل من حدث الزمان الموفي
ويشيم أسرار الحياة بحكمة
تعدي على المجهول والمعروف
هب حسنك الأقدار تطرق بالأسى
ما إن يعاب أخو الأسى بصروف
أوما نما الأمر الصغير فأصبحت
تتلى قروف قراعه بقروف
هبه الخطوب حقيرها وجليلها
عبث صيال جمالك الموصوف
عبث ومن عبث مقالي إنه
عبث ملامة ذي قلى وصدوف
عبث عداء الحاسدين ومثله
نعتي لخلة جارم وعزوف
عبث نعيمي والشقاء ولوعة
تفضي إلي بعلة وحتوف
عبث جمالك في الصدود وفي الرضى
عبث هيام فؤادي المقروف
أوبعد ذا حال أخاف صيالها
ولقد برمت برائق ومخوف
لن تعرف الغيد الحسان إذا قضت
أن الهيام أشده لعفيف
ومن العجائب أن جهلت وطالما
ذخر العزوف هيامه لحصيف
كم مدع خبلا لتحسب أنه
خبل الهوى واعج الملهوف
يلقاك بالدمع الغزير ولم يكن
دمعي بخدعة ماذق مطروف
إني أجلك عن سوافح عبرة
عبئت لمغرور الحصاة سخيف
يخشى على الباكين وقع جماله
فيبيت نهزة خادع ومروف
ولأنت أعظم في الفؤاد محلة
من أن تغر بمدمع مرصوف
يا رب مضطغن يحبك إن لي
شوقا إليك ألح غير طفيف
الآن لما خلت صفوك بالغي
يسعى إليك بمدمع المشغوف
كيما أبيت علي جفائك حيث لا
يخشى الحسود على الصفاء وقوفي
كيما يقال حبوته بمودة
وتركتني للعذل والتعنيف
أسفا له لم يلق حيلة سابق
بالمجد يسبقني بغير طريف
حتام أبلو كل يوم خلة
للناس تغري عنهم بوجيف
أوكلما قلت الحضيض بلغته
من ذي النفوس عدوته لألوف
حسبي اغترارك بالمناقب ملهما
صبرا فتثلج حرقة الملهوف
العدل والكسب
إذ كان رزق المرء كيدا يكيده
فأي يقين في النفوس الكواذب؟
فما ينتحي حي سوى نفع نفسه
وإن خاض منه في خبيث المكاسب
يذود قلوب الناس عن كل سابق
كما ذيد طير في الرياض بحاصب
أبيت على الأسقام نضوا محسدا
وأحسب أني ناعم بالمآرب
وهل ذاق لؤم الناس إلا أخو ضنى
تكنفه الأعداء من كل جانب؟
أناسيهم أحقادهم غير جاهل
وأسألهم من صفوهم غير عاتب
وما الناس إلا ظاهرا غير باطن
حماة الأفاعي في جلود الأرانب
يخالون خير الناس من رام نفعهم
وإن كان ذا نقص خسيس المعائب
وإن أخس الناس من عاف شرهم
وإن كان ذا فضل نبيل المواهب
تجارب قد زهدنني في إخائهم
وروعن لبي بالأمور العجائب
وخلفني في العيش لا عيش رائقي
وإن قيل إن الحزم حمد التجارب
فطوبى لمظلوم رأى العدل معوزا
قضى أن فوق العدل صبر المحارب
هل العدل إلا خوف سر تعافه
حذار العوادي من مهيب العواقب؟
سفر اللؤم
حاولت مني بغضة
لما نظرت إلي شزرا
إن الحياة أعم شرا
من لحاظ منك تترى
فكأنها باب الجحي
م تبين منه ما استسرا
الناس سفرى كيف أق
لى نعته لؤما وشرا
تبدي وتنكر بغضة
ولشد ما أنكرت نكرا
لو باخ حر البغض لان
طفأت حياة منك حرى
فكأنما نار الحيا
ة تشب من غل وتورى
فلئن بلغت به الحضي
ض فميزة لك ما استقرا
فافخر بأنك ألأم ال
ثقلين حسبك ذاك فخرا!
فضل خصصت به وكل
خصيصة عتد ذخرا
نفس بقيء المرء إن
جليت فضع للنفس سترا
فكأنما زخرفت إذ
ألبست نفسك منه قبرا
بير العقارب والأسا
ود بئست الأرواح بئرا
والمرء يغفر للظلو
م إذا تبغى منه خيرا
فلئن أهان خليله
لم يلف للمظلوم غفرا
إكرامه المظلوم إق
رار بجرم منه أسرى
جرم يحاول ستره
جعل الشكاة لديه عذرا!
ويل للشجي من الخلي
هل للجوى وقع بقلبك رائق
ترضاه لي ببعادك المملول؟
أم كنت معروفا بإفكي في الورى
فوضعت صدقي موضع التضليل!
أم أنت تكذب في الحديث وفي الهوى
إما شكوت لوعاجا لخليل؟
فحسبت أن الخلق مثلك خادع
يحكي الهوى ببيانه المبذول
خلت الأنين ترنما، ولواعجي
إفك القريض ومشتكى لحمول
أني اتهمت فصاحة كذبتها
من ذا يعير فهاهة المفضول؟
فلعل في بعض الفهاهة شافعا
يأتي إليك بحجة ودليل
يا ليت أن الشعر ليس يجيده
غير الشقي بلوعة المتبول
كذب ولوعي بالفضائل والنهى
وبكل أمر في الحياة جليل
وارتب بصدقي في المقال ولا تدع
للشك مسرى في شكاة غليل
أشقى الأنام من استريب بصدقه
في نحسه من مشتكى وعويل
أفئن رأيت على الطريق مبضعا
ترجو له لو راح غير قتيل
ولئن رأيت أخا السقام رحمته
ووددت لو يلقاك غير عليل
أو ناحت الثكلى رثيت لرزئها
تبغي فداء وحيدها ببديل
وإذا اشتكى العافي الضريك بررته
وكشفت ضر المجتدى المخذول
وتود لو تنفي الأذى عن أنفس
راحت بجد في الحياة ذليل
رحمات نفسك قد وسعن منادحا
للكون غير فؤادي المعلول
ولأنت أبصر بالفؤاد ودائه
وألط منك بشاكل وقتيل
أفكل حي منك أقرب شقة
وأحق بالحرمات والتأميل
من عاشق قد خبرتك لحاظه
ما لم تخبر قبل عين خليل
فاقرن لحاظ العاشقيك بلحظتي
واظفر لها من لحظهم بمثيل
هيهات فات الناظرين لواعجي
ومضوا بسؤر صبابتي وغليلي
الحب كون لم تسعه برحمة
يا ويح حب ظل غير قليل
لو كان أمرا هينا لوسعته
ورحمت قلبا منه غير عليل
قد كنت أبغي منك سمعا واعيا
فظللت بين اليأس والتأميل
وبعثت شعري موقظا لك من كرى
عن لوعتي ولواعجي وغليلي
تالله لست بمسعد لي في الهوى
ولئن دعوت ببوق إسرافيل
لم يبق إلا أن أنيم خواطري
كالطفل راح بحسرة وعويل
تشدو له الظئر الرءوم فينثني
طلق المحيا قانعا بقليل
لهفي لو ان القلب مثل وليدها
نسي الأسى وأصاخ للتعليل
لا يخدعنك أن بدوت تجلدي
ما ذاك إلا حيرتي وذهولي
ولكم ذخرت للقية لك قولة
فإذا بدوت نسيت كل دليل
وأود لو أدعوك إما لحت لي
فأرد عنك بحيرة المخبول
لهفا لصاد خيل غير محوم
ولمقبل قد خيل جد ملول
وبوده لو كنت أنت جليسه
في ليلة وصبيحة ومقيل
ظفر الخلي بنهزة ما نالها
أحجى رعاة الحسن بالتنويل
إن الخلي هو الجريء على المنى
حيث الشجي لخيبة المخذول
حرم الشجي تصافيا وتدانيا
ومضى الخلي بغاية التأميل
والصب مسبوب ببادي حبه
حيث الخلي لعزة التبجيل
ولعل مسعودا أحق بخيبة
من عاشق عف الغرام نبيل
جور القضاء وهل يجيرك غافل
عن جوره بفطانة وكفيل؟
صحو ولا صحو
لقد أصبحت لا عتبا
ولا عذرا فيبتدر
وقدما كنت إن أذنب
ت مما جئت أعتذر
لأقرب منك بالغفرا
ن، ذنب الحسن مغتفر
وفي الأعتاب لي ورد
وكيف وهمي الصدر
ففي الأعتاب لي عود
وذاك الصاب والصبر
وحسبي منك أن الحب
مخذول ومعتكر
رعى الله البعاد لو ان
صبرا عنك يقتصر
أأحمده وهذا العي
ش قرب منك والذكر
وأخشى أن يكون المو
ت فيه منك لي خبر
فما في العيش لي منجى
وما في الموت لي وزر
وكيف أصيب لي منجى
وأنت النفس والقدر؟
نوازع نفسي اللاتي
تئوب بها لك الفكر
أغرك مقول المتبو
ل: أنت الشمس والقمر
إذا ما لج بي وله
فترب بقيعة درر
وما نفس بأفطن من
وليد شاقه المدر
ألا غفرا بنفسي لا
يماز الشهد والصبر
فليس الذنب ذنبي بل
هي الأرزاء والغير
فكن في ذروة الأكوا
ن حط بمهجتي قصر
وكن حيث الحضيض فلي
س قولي ساقه الصعر
وما أدرى سوى أن لس
ت من قد كنت أنتظر
حبيب وامق جاءت
به الآمال والذكر
بفتك غير من أبغي
وأنت السمع والبصر
ولو أني حسبتكم
جلاكم حلمي العطر
رضيت شقاء نفسي إذ
يهون العيش والقدر
شقائي أنني أهوى
حبيبا غيره الوطر
أتحسبني أغار إذا
أتتك بآية غرر؟
وكيف أغار من فضل
لغيري شامه النظر؟
أذلك سوء رأيك في
أم واش فينزجر؟
وهل ألفيتني غرا
بما أحسنت أفتخر؟
جفاء الحسن منجبر
أسوء الرأي ينجبر؟
بودي أن تشيم الفض
ل أجمعه فتبتدر
بودي أن تشيم النق
ص لا يخفى له أثر
لكيما تعرف الواشين
ما أبدوا وما ستروا
وأقبح ما يرى حسن
برأي الخب يأتمر
فهل عوذت حسنك بان
خداع كله عرر
لتدرأ حاسدا لكما
ل حسنك لحظه شرر
وكلا إنه الخور
فأين الحزم والحذر؟
العظيم
لمعات رأيك مقلة العرفان
فاحكم كحكم الحق في البرهان
لو كنت قد أعطيت في الدهر المنى
أو كان ما قد شئت للحدثان
لتعطلت سبل الشرور وبردت
وقدت قلب للضريك العاني
ومسحت بالرحمات آماق الورى
حتى تعود قريرة الأجفان
من غير أن يوبي الحياة ركودها
لفناء ما دفعت من الحدثان
نزعات نفسك رحمة مرجوة
رحمات مقتدر الأناة معان
وجلائل تذر الحياة كأنها
خلد يعب بزاخر الأزمان
وعلوت عن حسد الحسود وربما
حسد الحسود الشمس في الأعنان
هيهات ما أسر الحسود تكرم
إن التكرم وقد غل الشاني
وفضائل ليست لغير مجرب
إن التجارب حجة الرجحان
وأجل خير النفس بعد بلائها
فالعيش حرب فضيلة الغفلان
وترى الفرائض كالحقوق حبيبة
أو كالديون رهينة الإيمان
دين الحياة ورب فرض غالق
إلا لديك بمطلة الليان
وعزائم تمضي الحياة غلبة
وخواطر كملائك الرحمن
الشمطاء الفتية
قد بلوت الصروف في حالتيها
ورمتك السراء والضراء
ورأيت الأطماع كالطير صرعى
ثم عاد الرجاء وهو غشاء
واحتسيت الحياة فيضا وسؤرا
فإذا الذكر والرجاء سواء
وإذا المقبل المرجى كما فا
ت به الدهر والحثيث ضراء
وشهدت الأنام سلما وحربا
فإذا السلم والحروب عناء
وإذا العيش والسنون جهاد
ليس يدري أسبابه الأحياء
إيه يا مصر ما تقضى جمال
ترتضيه الآمال والأهواء
الليالي التي عهدت حسان
والسماء التي عهدت سماء
وذكاء التي أطلت على مج
دك دهرا على القصور سناء
وجرى النيل في أديمك قدما
يتهادى كأنه الحسناء
فانشرى أهلك الذين تقضوا
إن عيش الباقين منهم فناء
فكأن الأطماع والسعي فيهم
عبث غير نافع وعناء!
سحرتك الأيام يا مصر أم نو
مك قد طار عنه الرجاء!
الغليل الذي عهدت مقيم
في نفوس كما عهدت تشاء
أبغضيني أو أحسني أنت أم
برها لو تعق ولدا قضاء
لك مني الغدير في نومة من
بعد جهد قضى عليه العفاء
نصب خالد وأعظم منه
اعتقاد تزيده الأرزاء
ورجاء هو العبادة والإي
مان درع يرتد عنه الفناء
أبغضيني إذا هززت مناما
عطرته الأحلام وهي رخاء
مثلما يبغض النئوم المسجى
موقظا إذ يماط عنه الرداء
ملل قد عراك من عنت العي
ش بلاء أن الطماح بلاء
قد كرهت الرجاء والذكر طرا
إن بالذكر تأرق الشمطاء
قد سمعت الذي نقول قديما
وتقضى الدعاء أين الدعاء؟
دعوة بعد دعوة من صروف ال
دهر لبيتها وعاد النداء
إن يكن باء بالزمانة من أه
لك رهط كأنهم أشلاء
أو عناكيب عيشها ورداها
يتقاضاهما بليل قضاء
أبغضيني فليس ذاك ببدع
آه لو جر نفعك الشهداء!
غرك المرجفون مينا وحقدا
وحماني عن قلبك الجهلاء
لم أقصر في دعوة غير إني
خذلتني مسامع صماء!
ليس إلا الأحقاد يبعثها العج
ز وغل يعدو به السفهاء
بعد عشرة أعوام (إلى حبيب غاض جماله)
يا أليف الصبا عليك سلام
أين تلك اللوعات والآلام؟
أين ورد الخدود الجمر يذكي
حرقات يشقى بها المستهام؟
أين قد ينقد من دونه القل
ب ويطعى عليه منه الهيام؟
وثنايا مفلجات عذاب
هن رى للمستقي وسلام
أين مد الشفاه من عبث الدل
وثغر يبل منه الأوام؟
واختيال الطاووس يا فتنة الطا
ووس يوري الهواء منك ابتسام
أين غمز اللحاظ والكف واللف
ظ، وأين العهود أين الذمام؟
أين ذاك الضحك المرن الذي حر
ك قلبي كأنه الأنغام؟
أين سحر الحديث واللحظ والدل
وسحر تحوكه الأوهام؟
نثرت عنك كالثمار وقد هزت
ك ريح والغصن منك القوام
أين خصر يهتز كالغصن اللد
ن، وقد يهوي عليه الحمام؟
إذ ذراعي نطاقه ونطاق ال
جيد مني ما تضمر الأكمام
ولقاء كأنه رشفة الطي
ر وهجر كأنه الأعوام
واختيالي على الزمان بعطف
منك والحاسدون بله نيام
أين أين الوشاة والوصل والهج
ر وأين الآمال والأحلام؟
يا أليف الشباب هل تذكر العه
د وحولي وحولك اللوام؟
أسي القلب منك للغابر الفا
ئت من حسنك الذي لا يذام
أم نسيت الدلال والملك والدو
لة إذ أنت آمر وإمام؟
لنقيمن مأتما حول حسن
استوى الصمت دونه والكلام
ثم أكسوه من قريضي زهرا
مثلما حبب الزهور الرجام
مثلما جمل الأزاهر بيتا
هدمته الأحداث والأيام
ذائع حوله من الحب نفح
كالشذى والجمال زهر يشام
وكأن الهيام هالة بدر
فيه وجه الحبيب بدر تمام!
سم الخسة وسعار الغرور
لو أن كلبا عضه في جلدته
لمات كلب عضه من خسته
وثائر لطبعه الخسيس
من كل خلق رائق نفيس
وغافر لنفسه الجريره
ويأخذ الجليس بالصغيره
وقلبه جهنم الأحقاد
وإن بدا في الصمت كالجماد
إن رعته بجانب الهجاء
لقيت منه جانب الرجاء
فإن تلن ألفيت جد نابي
أو رمت منه صفوه فآبي
فعيشه ونفسه بضاعه
وخلقه ووده رقاعه
إذا شهدت أمره فمادح
أو غبت عنه طرفة فقادح
ولؤمه في طبعه ديانه
وعيشه لصحبه خيانه
طريد أهل الموت والقبور
مشردا من ثقل الغرور
مفاخرا بعبث الكلام
كأنما يهذي من الأسقام
ويدعي من سفه نجابه
وهو ضئيل الشأن كالذبابه
ووجهه من رقعة النعال
أو قطعة من أخمصي بلال
تخاله مزدردا ثعبانا
أو ماضغا في شدقه أتانا
وعقله كصرر الأطفال
تجمع بين الترب والنمال
يا صافعيه صفعه مبرور
وعمل في خيره مشكور
إذا اشتكى ممن شكاه أمرا
كالهر أو كالكلب إما هرا
إن قطع الغلمان من آذانه
يصم أهل الدار من جيرانه
يثأر من آذانهم لسمعه
إذ ذاق مر فقده بقطعه
جد به في أهله الدلال «والقرد عند أمه غزال»!
قربان القلب
لا تخجلن إذا علمت محبة
تحكي الصلاة وتشبه القربانا!
هل أنت تخجل أن ربك راحم
يهوى الجمال ويعشق الإحسانا؟
أم من أب يحنو عليك مدافعا
يهوى لنفسك في الزمان أمانا؟
أذناب الخسة
يا عائبا نفسه عندي بلا خجل
ذهبت تقدح في ناء بلا وزر
كي لا أصدق في قول تعاب به
وإن أتيت بمأثور من السور
ما زلت أرجو لهذا الناس منصلحا
على استفالك في لؤم وفي نكر
فربما فقد الإنسان خسته
مثل افتقادك للأذناب والوبر
يرى الحليم أخس النفس إذ رفعت
عنها الرياء ولم تقصده بالحذر
حقوق الفرائض
الحق مثل الشمس يشرق نورها
لتغاير الألوان طي شروقها
وبلوغ أفق الفرض يظهر غيره
أقصى سماء تطبي لسحيقها
فذر الحقوق إلى الفرائض إنها
لذات معبود الخصال عريقها
لن يبلغ المرء العلا بحقوقه
إلا إذا بلغ العلا بحقوقها!
درسى من الطبيعة (اللينوفر)
زهر يعبد الشموس فلا تخ
دعه لمعة تضيء سواها
يتبع الشمس لحظة أين دارت
ويرى الضوء حلية وإلها
غير أنا نرى الرياء كمالا
ونرى الطهر خدعة وسفاها
هل رأيت الرياض وهي ظماء
ضلة تحسب السراب مياها؟
نوح الحفيف
يا حفيف الغصون هل أنت تحكي ال
نوح أم أنت مشبه للغناء؟
أنت قلب الأديب يشدو ويبكي
كدموع الندى وقطر السماء!
محارب الخرافات
نقضت خرافة لتشيد أخرى
وخلت الحق أجمعه مشيدا
كهادم شامخ العرنين سام
ليرفع عنده جبلا جديدا
يهوذا
لست من عباد عيسى
لا ولا تعبد بوذا
أنت فيما جئت من عب
اد ذي الخب يهوذا!
البطل
ترمي الحوادث بالظلال أمامها
فيرى خطى الأمر الذي هو آتي
حتى كأن الدهر في آباده
يلقاه بين عشية وغداة
كشف الزمان لك الخفي وقلما
يعصي المذلل نافذ النظرات
سحر البصيرة رائض ومحكم
بلواحظ للرأي مقتدرات
وخواطر لك في الأنام تجيلها
تجلو الشكوك وتبلغ الغايات
يا حكمة فاه الزمان بسرها
من بعد طول تصمامم وصمات
فاه الزمان فكنت أصدق منطق
والناس أصداء بجوف فلاة
شتان بين صدى يردد ضلة
ومقاول مرضية الأصوات
نظر الأنام الدهر في أعقابه
ونظرتم الأيام في الجبهات
ورموا مساعي المجد في أقدامها
ورميتم المسعاة في الهامات
بعزائم للشر تنقض أمره
وعزائم للخير مبتدرات
أفعال من صحت سريرة صدره
لا يعقد التدبير بالخدعات
إن العظيم إلى الصراحة ينتمي
والغمر للتدليس في الغفلات
سير كما شاء الكمال وضيئة
مثل الهداة وآية الآيات
والدهر ليل المدلجين ومجدكم
وفعالكم في الدهر كالمشكاة
ومعاقل النعماء إن هي أعوزت
كنتم معاقل منعة ونجاة
لا يصلح التدبير إلا أروع
ينأى به عن ضيعة وشتات
أعبقت في الأيام أزكى نفحة
وخلعت من أردانها عطرات
والفضل مثل العرف يحيا نشره
بنسائم العبقات والنفحات
ترمي إلى الغرض البعيد بعزمة
تصميه بين تمهل وأناة
هيهات ما جاد الزمان بمثلها
عقم الزمان بتلكم الحسنات
فكأنها قد جمعت لموفق
من سالف الآباد والحقبات
لا تصلح التدبير إلا أنفس
الحق يغلبها على النزعات
إن المقادر تنتحيك لأنها
ريضت لديك بحكمة وحصاة
كالخيل تعرف رائضا ومذللا
عند اقتعاد السرج والصهوات
يا راكب الأيام تجري تحته
مأمونة الخطوات والعدوات
العقل أغلب والحزامة والنهى
بموفق في العدل والرحمات!
في فكه
ارفق بنفس لك مزاحة
لا تفلتن في مزحة شارده!
واطو مزاحا ليس ذا وقته
فصيفه أيامه عائده!
كانون أم قطب الثرى أم أعا
لي الشم أم أنفاسك الجامده؟
بردت حتى صرت ذا وقدة
يا ثلج تكوي نارك البارده!
والشيء إن أربى على حده
صفاته عن طبعه حائده!
في شاب يدعي الفكاهة والظرف
ثقلت على النفوس فكنت سدا
وفقت سوائل الأرواح بردا
فكل نارا ولا تطعم سواها
لعلك أن تحب وأن تودا
وكلا لا تذق جمرات نار
فتشعل منك أضغانا وحقدا
كذاك الغاز يخفى منه جرم
فإن أججت نيرانا تبدى
سيظفر منك إبليس بنفس
تقاطر من مخازيها وتندى
ويغسل بعدها يده بحمض
ويحرق حولها عودا وندا
وإن النار تمحو كل نتن
سوى نتن عمدت إليه عمدا
لكان القرد أكبر منك شأنا
لو ان بجلده صلأ وقردا
ولو قول وجيع الذم مر
أريق على قفاك لعاد جمدا!
وعقلك مثل قطب الأرض فيها
حكى أقطاره ظلما وبردا!
مر العمر
إن تباطأ ساعة طرقت
فبما قد أوقرت حزنا
كم عدوت العمر منتهبا
خلت أني أسبق الزمنا
عدو أحلام أقاربها
أججت من عودي الغصنا
أتبغى العمر من أمم
فكأني هارب جبنا
يا بطيء العمر من وسن
قد هنيت السعد والوسنا
لهب الأطماع في كبدي
آض وخط الشيب والشجنا
كم خليل قد وثقت به
عابئ في خفة إحنا
وحبيب كنت آمله
لم أصب في خلقه حسنا
نحن والأيام تنقلنا
ونعي الموت ينذرنا
كرهين السجن مرتقبا
قاتلا يغتال من سجنا
رقبتي للموت آن لذي
لهفة أن يدرك السكنا
لا جديد في الحياة ولا
أمل يجلو لي المننا
وأعد العمر إن دلفت
ساعة ألفيتها محنا
وهي بشرى الموت إن نفدت
قلت: ليت الدهر زايلنا
أغريم ذا الحمام فما
باله بالسعد يمطلنا؟
قصة هز الأنوف
لقد جاء في الأخبار أن مملكا
حمته العوالي والسيوف الشواجر
رأى في يسير الظلم خبرا لخابر
فكان قضاء أن تهز المناخر
صباحا إذا ما الشمس ذر شعاعها
وليلا وفي وكر الكرى منه طائر
ومن لم يرد في يومه هز أنفه
مطيعا تولته السيوف البواتر
فقال جبان القوم في الحزم عصمة
ومن ذم شرا أزعجته المقادر
وماذا على من هز يا قوم أنفه
مطيعا إذا لم يعص ما سن آمر
فلما رأى الطاغي هوادة صبرهم
أطل عليهم جارح منه كاسر
فقام إليه ناقم هز أنفه
وقال وقد مدت إليه النواظر
إذا نحن طامنا لكل صغيرة
فلا بد يوما أن تساغ الكبائر!
الفصل الثامن
قصائد أخرى
(ويتضمن القصائد التي نشرها الشاعر في الصحف والمجلات بعد عام 1919 ولم تجمع من قبل في ديوان خاص.)
الطفل
من عالم الروح وهو الخلد والقدم
وكان بالأمس يطوي جسمه العدم
سر الحياة وسر الموت ما برحت
تطويه عن فكر همت به الظلم
يطل من عينه معنى يزاوله
معنى التفهم لم ترصد له كلم
وحيرة هي بعض اللب يبرزها
صفو من العين لا خب فتنكتم
صفو الغرارة أبهى ما رأى بشر
ما رنق العين لا شر ولا ندم
ولم تشبه تجاريب الحياة بما
يدجو له اللحظ والأفكار والشيم
ضعف الوليد وهل في القلب مبتعث
نبع الحنان كضعف ليس يتهم
لأي أمر بدا يفتر مبسمه
وما حباه بزعم الأشيب الفهم
وكلما بدرت للشر بادرة
قلب المسن لها حيران يضطرم
يود كل رجيح العقل مكتهل
أن لو يعود وليدا أمره أمم
وليس يبصر أن الشر مقتبل
يعود منه إليه الهم والهرم
لكنها مهلة للقلب ينشدها
حيث الصفاء وعيش ماؤه شبم
فلا عداء ولا مكر ولا حيل
ولا حقود ولا غدر ولا جرم
حيث الحياة كبيت الله طاهرة
لدى الطفولة وهي المعبد الحرم
أو جنة الخلد لا إثم لساكنها
وما تجاوز ذو عجز ومجترم
إن الأزاهر والأطفال ما اجتمعا
صنوان والحسن فيها طهره عمم
مرأى يطهر ما بالنفس من دنس
حتى يعود بها والخير مغتنم
كم ناقم سل منه الطفل عادية
من الضغائن إذ يرنو ويبتسم
قد يحزن الزهر إذ يذوي أمن شبه
بمصرع الطفل رائيه له يجم
ما أعظم الفقد لو أن الورى خلقوا
خلق الرجال وكالأطفال ما وسموا
لما تملى أناس طهر ما فقدوا
ولا أحبوا ولا أحنوا ولا رحموا
شهداء الإنسانية
مقدمة
شهداء العلم والإصلاح يزدحمون على باب الحياة ويسألون كل هالك: هل تحقق الخير الذي بذلوا حياتهم من أجله؟ فتدركه الحيرة! أيكذب كي يدخل على قلوبهم الاطمئنان، أم يصدق فيفجعهم في آمالهم، أم يغريهم بالصبر الطويل كصبر الأحياء على الشر، أم يغريهم بالعودة إن استطاعوا إلى كفاح الحياة. وإذا استطاع أن يعزي الشهداء الموتى فماذا يقول للشهداء الأحياء؟
الناظم
على باب الحياة أرى زحاما
من الأشباح عج بهم وسالا
من العهد القديم إلى زمان
حديث قد مضوا زمرا توالى
هم ضحوا بهذا العيش كيما
يطيب العيش للأحياء حالا
إذا ما هالك ألفوه ظلوا
على شغف يعيدون السؤالا •••
بربك هل مضى قدر بشر
وخبث النفس هل أودى وزالا؟
وهل جفت دموع الناس طرا
وهل بلغوا من العيش الكمالا؟
وذل الجوع هل قد زال عنهم
وكان سوادهم هملا مذالا؟
وجهل يغتدي بالناس بهما
يصرفها يمينا أو شمالا
وهل غلبوا من الشهوات ما قد
عدا سلطانه فيهم وغالا؟
أصار العيش من مقة وأمن
وكان العيش لؤما واقتتالا؟
أعاد العيش عدلا واعتدالا
وكان العيش مكرا واغتيالا؟
بربك لا تقل إنا غبنا
وإن هزئ الحمام بنا وصالا؟ •••
أيفجعهم بآمال عزاز
وما نال الردى منها منالا؟
يقول لهم: لقد رمتم خيالا
وأسديتم وضحيتم ضلالا
أيسكت والسكوت له معان
أيخدعهم وما ألفوا احتيالا؟
أيغريهم بصبر مثل صبر
لدى الأحياء دام لهم وطالا؟
أيأسى أن موتى لم ينالوا
من العرفان ما يرعى نوالا؟
أيغريهم ببخع النفس يأسا
إذا اسطاعوا عن الأخرى انتقالا؟
أيسخر أنهم - وهم رفات -
أبوا للعيش سقما واعتلالا؟
فيا عيش الورى ماذا تراه
يقول لهم إذا ألفى مقالا؟ •••
يقول لهم: إذا اسطعتم فعودوا
دفاعا للنوائب أو صيالا
إذا الأحياء لم يرعوا عهودا
لأحياء فلا تشكوا انخذالا •••
يقول لمعشر الأحياء منهم
ليقضوا العيش صبرا أو نزالا
أيفدح أن تقاسوا العيش نحسا
ليسعد بعدكم صحبا وآلا
وكم من نعمة لولا شقاء
قديما لم تكن إلا وبالا
فكم خبر الأوائل من شقاء
فنلنا من شقائهم نوالا؟
العصر الذهبي
مقدمة
أولع الناس من قديم الزمن بالتفكير في عصر الإنسانية السعيد؛ عصر الخير العميم الشامل، فبعضهم كان ينشده في الزمن القديم ويبكي انقضاءه، وبعضهم ينشده في المقبل من العصور يدنيه رقي الإنسان. وكثيرا ما استخدم شعاره أهل الحرص لنيل أطماعهم واقتياد الناس لاستثمارهم واستذلالهم. وكثيرا ما علق الأذلاء بكماله حتى إذا تحكموا ساروا على نهج الطغاة، وهو مثل عال، ولا تحلو حياة الإنسان إلا به. ولئن صدق ما يقوله بعض المفكرين الذين يزعمون تحققه نذير الفناء، فمرحبا بالفناء يكون نذيره الخير والسعادة الشاملة والمثل العالي، وقد لا يصدق تشاؤمهم.
الناظم
عصر السلام تحية وسلام
خلعت عليك رجاءها الأقوام
من كل عصر في نسيجك لحمة
الأجل صنعك تدلف الأعوام؟
إما دنوت وما عهدتك دانيا
عفى على نقص الأنام تمام
نستقبل الأيام وهي كوالح
مستبشرين إذ التمام إمام
خالوك في الماضي - ولم تك ماضيا -
إذ زان منه البعد والأوهام
ويرون في غدهم سرابا نائيا
فيطول نحس العيش والإجرام
تتغير المثل التي شاقتهم
تتبدل الآمال والأحلام
حسب الورى من حسن عهدك قدوة
علياء ما إن شانها استبهام
ما فاتهم طب الطبيب وإنما
تتباين الأرواح والأفهام
ولأنت في سير النفوس إذا صفت
يدنى إليك البر والإكرام
عطف النفوس على النفوس ولن ترى
أبدا، ونفس في الأنام تضام
هيهات يكرم فاضلا ذو خسة
أو يغفر الجاني شآه كرام
استبطأوك وأنت بين جنوبهم
وتنظروك ودأبك الإلمام
ورأوك في الدهر البعيد ولو دروا
أن لو أرادوا كان منك لمام
لرأوا مشيئتهم تشاء ولا تشا
هاموا وتحسب أنهم ما هاموا
ومن المشيئة ما يجيء فجاءة
ليست تجزئ أمره الأيام
ونأى بهم عن ورد خيرك أنهم
للحرص حاد بينهم وزمام
أمباغتا بالخير بعد تمنع
حب الأنام لعهدك استقدام
ولقد ينوب أخو المجانة بغتة
من بعد عيش كله آثام
ويتوب هذا الخلق من شر ومن
إثم فتحمد خيرك الأيام
كم فتنة أججت نار جحيمها
شوقا لعهدك والأنام حطام
وشعار حق كم غدا أحبولة
أثرى بحقك في الأنام لئام
وإذا العبيد تحكموا في فتنة
ساروا على نهج الظلوم وضاموا
أترى العبيد ببابل وبطيبة
أغرتهم بكمالك الآلام
لو أنهم ملكوا لعافوا مسلكا
يدنى إليك وطاشت الأحلام
ولطالما حن اليهود لشرعه
ودعا المسيح له وريم سلام
وتنظر المهدي قوم أملوا
ركبا له يحدو به الإسلام
ثار الفرنس وخيرهم يبغي له
عهدا تدين لشرعه الأحكام
يبكي ويعتنق الغريب مبشرا
بالشر زال وبالكمال يشام
ما زال شر لا ولم يمهد به
نهج السلام الحكم والحكام
أنى تكون وفي الأنام تفاوت
أسد لها في الصاغرين سوام
غر وذو مكر فلست بكائن
حتى تساوى في الأنام الهام
فمتى يدين لسنة لك جمعهم
ويراك خيرا شرهم فترام
لا يصدق الكهان إن هم أنبئوا
بدوام ما لم يلف فيه دوام
كم من عهود كان يحسب أهلها
أن زل عنها النقض والإبرام
نسي الأنام عهودهم فعهوده
أقصى وأدنى منهم الأوهام
فقد الأنام صفات أجداد لهم
وتحولت وتبدلت أجسام
والطبع في غدد الجسوم فعلها
يوما تصح فلا يكون أثام
وتعود من فرط الصفاء حياتهم
ذهبية أيامها والعام
خير مرى الحرص الخسيس أقل من
خير لديك تروده الأحلام
والنحس عدوى ليس يقصي شرها
إلا التضافر شاده الأقوام
كذبوا فما أبقى التقاتل بينهم
إلا الضعيف وقد قضى المقدام
خلفت في سير النفوس مباهجا
وتجملت بجمالك الأيام
كغناء حادي الركب رفه عنهم
نعم النشيد ونعمت الأنغام
حلم هو المثل الأجل، وإنهم
لولا مثال كمالك، الأنعام
ولعل عمر الشر ليس بدائم
ينمو سناك فينمحي الإظلام
قالوا: إذا ما جاء خيرا كله
لم يبق خير في الحياة يشام
لولا جهاد في الشرور تعطلت
سبل المكارم واستنام أنام
إن لم يكن نقص ففيم رجاحة
وبضدها تتميز الأقوام
لا يطعم السعد الشهي وشهده
من لا ترود فؤاده الآلام
والوهن يسعى للفناء دبيبه
إن لم يكن حذر وعم سلام
لغز الحياة وليس يفهم لغزها
بين الأنام مفهم علام
والشر أهون بعضه من بعضه
فاطلب كمالا كي يقل الذام
أهلا بغائلة الفناء نذيرها
عهد يشوق سلامه وتمام
إن لم يصح العيش إلا أن ترى
شرع التنافس في الأنام يقام
فعسى التنافس في المحامد ينثني
طبعا وإن قيل الأنام لئام
يدنو إذا بطلت ضرورة كائد
يزجى بها رزق له وحطام
إن نال كل مطمئنا رزقه
فعلام لؤم للورى وخصام؟
دين التنافس في المكارم ربما
أنماه نصح فيهم وحسام
فترى الورى دين الورى وصلاحهم
فرض يدين لشرعه الأقوام
الشباب
مقدمة
مستقبل الإنسانية رهن بطموح الشباب إلى المثل العليا، وعزوفه عن حقيرات الأمور، وإبائه الضيم للناس ولنفسه، وبألا يقنع من الحياة بما يرى، وبأن يحاول أن يبلغ من جليلات أمورها البعيد الداني إلى قلبه ونفسه وبأن يحاول أن يقهر طاغوت الأمور وجبروتها، وأن يستنقذ الدهر من عبث العابثين الذين جعلوا الحياة مهزلة رخيصة ومأساة وضيعة.
الناظم
إن الشباب حديقة الأزمان
عطر الروائح ناصع الألوان
مثل الربيع إذا جلوت بسحره
نور الربى وأطايب البستان
روح من الفردوس يثمل نشره
تغدو الحياة به رياض جنان
ما راعه حكم الحمام وصوله
إن الشباب من الخلود لداني!
لا اليأس يضنيه ولا جزع إذا
كثر العثار وزلت القدمان
ينسى الذي يمضي لينشد مقبلا
مستأنفا للعيش بالنسيان
ولو ان رفضا للقضاء يذيقه
كأسا تذيب القلب من ذيفان
والشيب بالتسليم يكسر سمها
حيث الشباب لغرة الأسوان
وهو المغامر في الحياة بنفسه
نشوان لا من خمرة النشوان
نشوان من خمر الحياة وكأسها
تغنيه عن نشوات بنت الحان
فكأنما فك الزمان قيوده
عنه وما للدهر من سلطان
ويصوغ من أحزانه نغما له
فكأنه خلو من الأحزان
يسمو إلى الغرض البعيد طموحه
ويرد خطب الدهر بالإيمان
متحصن منه بأمنع معقل
متكفل إيمانه بأمان
ويكاد من فرط النهاءة والهوى
يدع الثرى ويهم بالطيران
والشيب يرسب في الحضيض تخلفا
وترى الشباب كذروة الأكوان
ما أرقته ذكرة من أشيب
جم التردد خطوه متداني
وله على إدبار دهر عزة
تنأى به عن ذلة وهوان
كبر الشباب ولا اعتداد مسود
بالجاه والأجناد والأعوان
إن كان صعلوكا فليس بخانع
فكأنه ذو التاج والإيوان
إن العزيز هو العزيز على الصبا
والشيب مهما عز ذل جنان
ذل الجنان لوهن جثمان ولا
ذل كذل الوهن في الأبدان
ورث المراح ذخيرة لمبذر
خال الحياة رخيصة الأثمان
لذاته دين يؤديه إذا
حل المشيب وهد من جثمان
تتعادل اللذات في ريعانه
ولواعج للشيب في ميزان
عهد الصراحة والمروءة والندى
وتألف الخلان بالخلان
عهد المحبة والإخاء وربما
تلفيهما في القلب يمتزجان
عهد إذا طلب الكرى لم يعيه
وكرى المشيب مؤرق الأحزان
عهد الصبا عهد المنى فإذا مضى
لم يبق إلا مر سؤر دنان
وتكاد ذكراه إذا فات الصبا
تحيي الصبا وترد غرب زمان
أطماعه علوية أحلامه
ذهبية الآمال كالعقيان
عهد الصيال ولا صيال لأشيب
هاب الحياة وصولة العدوان
والخطب أن يهوي المشيب بصائل
ما كان يخشى جولة الحدثان
حتى تراه بالحياة مروعا
قلق الضلوع مؤرق الأجفان
والخوف طبع في المشيب وقلما
تلقى الشباب على غرار جبان
ولربما جمح الشباب بسادر
عبد الحياة عبادة الشيطان
ولربما عبد الحياة أخو النهى
كعبادة لله والأوطان
قال المشيب ورب قولة صامت
تعظ المصيخ له بغير لسان
ما سرني أني فطنت وإنني
والحلم والتبيان في أكفان
ونسيت ما نشر الجنان وخلدها
وذكرت أن العيش مهلة فاني
ولقد علمت الآن ما عهد الصبا
من بعد جهلي فيه والنسيان
والآن عالجت الحياة كما أرى
لا ما أريد من البعيد الداني
وعددت من سنن الحياة وحكمها
ما يفعل الإنسان بالإنسان
في حرصه أو قسوه أو رقه
من فتكه بالروح والأبدان
وفزعت من ظلم الحياة وطالما
ذللت منها أيما طغيان
وتلوت في التاريخ آيات الأسى
مسطورة بمدامع الأحزان
فعسى الشباب بمقبل من دهره
يبلو الحياة بعزمة وأماني
ويسن للدنيا الوسيعة سنة
لا سنة للحرص والحرمان
يستنقذ الأزمان من عبث الورى
ويطهر الأحشاء من أضغان
ويذل طاغوت الأمور فيحتذي
شرع الحياة شريعة الرحمن
ويحيل ظلم العيش عدلا سائغا
ينسى به ما كان من عدوان
نحو الفجر
مقدمة
إن الذي يأمل للإنسان فجرا تنجاب فيه ظلمة الضيم والشر، يرى في فجر كل نهار رمزا له ووعدا به، فيتعلل بهذا الرمز، وينتظر إنجاز الوعد، آملا أن النومة التي يحدث فيها للإنسانية كابوس من الأضغان والأذى، والتنابذ والكيد، والاستهتار في العبث بالحق، يكون فيها أيضا نسيان لخصالها الوضيعة يدركها من طريق سنة النوم، فتستيقظ في خلق الحق والخير.
الناظم
أرقت فطال الليل أم طال بي عمري
كأن انجياب الليل في موعد الحشر
كأني في لج من الليل غارق
سوى هدأة لم تلف في لجج البحر
كأني غريب من حراك لواعجي
بعالم صمت غاله الصمت من سحر
كأن غصون الدوح في حندس الدجى
رءوس ثكالى أرسلت أسود الشعر
كأن النجوم الغانيات ترهبت
تبيت طوال الليل تعبد في دير
أو الفل مزروعا بحقل بنفسج
وكاللازورد الأفق رصع بالدر
أو ان ثقوبا في جدار زبرجد
تطلع منها الغيد يشرفن من خدر
أقلب طرفي بينها متفهما
تفهم معنى اللفظ في صفحة السفر
كأن الدجى دير به البدر راهب
جميل المحيا حوله هالة الحبر
كأن صقيعا قد كسا الأرض نوره
أو ان عليها أبيض الطهر ما يمري
كأن فراشا أبيضا قد نوره
مهادا لروح أو شباكا من السحر
أما يذهل الراءون من سحر ضوئه
وقد تحسب الأحلام تسري وما تسري؟
وإن تك أحلام فأوهام خاشع
عراه جلال الحسن في الليل والبدر
أيحلم هذا الدوح في سحر ضوئه؟
فقد خلته من هدأة النوم في أسر
كأن حفيف الدوح أضغاث حالم
أو ان حديثا بينه خافت السر
أدور بعيني لا أرى غير ساكن
فأين احتيال الناس بالغدر والمكر؟
وأين نشاط القوم للهو والهوى
وأين مساعي الناس في الخير والشر؟
ألا ليت نسيانا كذا النوم ساقيا
يدير لهم كأسا ألذ من الخمر
لتذهلهم عن كل شر وفتنة
فيستيقظ النوام في خلق الطهر
خواطر آمال أسلي بها الدجى
وتمضي مضي الليل أو طيرة الطير
فلما تقضى الليل وانجاب جنحه
رأيت صباحا يصبغ النبت بالتبر
تشوب اخضرار الروض صفرة ساطع
من الضوء مثل الغيد في حلل خضر
كما تينع الأثمار شاب اخضرارها
لدى النضج لون في غلائلها الصفر
كأن نبات الروض من نبت جنة
رمى ملك من أفقها الأرض بالبذر
أظل وطرفي في مدى الأفق ذاهل
أحاك عليه الفجر وشيا من السحر؟
ويرنو إلي الفجر من خلف ظلمة
بنور كما شف الرماد عن الجمر
كأن مماتا في الدجى أهلك الدنا
فتبعث فيها الروح في وضح الفجر
كأن كيان الكون يخلق ثانيا
فإن انفجار الفجر كالخلق والنشر
تخال تباشير الصباح أزاهرا
إذا ما بدت فوق الشجيرات كالنور
فيختلط الزهران حسنا ومنظرا
ويزداد نظر الحسن من مشهد النظر
تحدث أنباء السماء بمشرق
من الضوء مثل الرسل تبعث بالخير
تبادهنا منها محاسن جمة
كما باداه الأذهان من حسن الفكر
تفض ختام النفس عن كل ذكرة
وكم ذكر في الضوء والزهر والعطر
تذكرنا الآمال والحب والصبا
كأن رواء الصبح ضرب من الشعر
كذلك يغدو منظر الحسن ذكرة
وخاطرة في النفس تسعد في الضر
وتستيقظ الأرض النئوم إذا حنا الص
باح عليها، يلمس الثغر بالثغر
كما استيقظ الطرف المغمض بعد ما
أريق عليه ساطع من سنا البدر
تحن إليه النفس من بعد ظلمة
فتحكي حنين الطير تهفو إلى الوكر
ترى الصبح يجلو النهر كالقين سيفه
ويذكي الندى فوق الشجيرات كالدر
أطل بأفكاري على النهر مثلما
لدن هدأة يحنو النبات على النهر
تصب عليه الشمس رقراق مسجد
فيعلو لجين النهر نهر من التبر
ترى تارة في متنه الماء راجفا
كما ارتعدت أبشار غيد من القر
وتحسب أن النهر يشعر بالذي
يعالج من حاليه في القر والحر
ترى النهر مثل العين سحرا وبهجة
ويملأ مثل العين بالصور الكثر
يبوح بسر الحسن لون مجدد
ولولاه ما ألفيت في الكون ما يغري
وأورعه ما كان منه فجاءة
فجاءة صبغ النهر من سحب حمر
وليس رواء الكون في الصيف وحده
فرب شتاء ناثر أيما ذخر
جلال يريح النفس من بعد رونق
نصيبك من سحرين في الحر والقر
على أن ذكرى الصيف فيه جلية
ففي النهر من ذكر وفي الروض من ذكر
وقد يحلم المحروم باليسر واللهى
كذلك حلم الأرض بالصيف واليسر
فلما تقضى الليل يحدو لواعجي
وذكرى طيور الصيف تهزج في صدرى
أخذت نصيبا من جدى الفجر وافرا
فنهنهت آلامي وأرخيت من صبري
وأملت للدنيا صباحا مؤجلا
سيكشف عنها ظلمة الضيم والشر
فكل صباح رمزه ومثاله
ووعد به يحدو إلى الزمن النضر
نسر بنعماه وإن لم تكن لنا
وننشده فيما يكون من الدهر
مناجاة الأمل
ألا عد وأخلف أنت بالوعد مانح
فمطلك مغفور وخيرك راجح
ولم تك مثل الآل فالآل مهلك
ووحيك أسخى ما تضم الجوانح
وكم ناقم من خلف وعدك لا غنى
له عنك أو تغني المنايا اللوافح؟
وأعشق من يهواك من هو ناقم
وأمدح من يرجوك من هو قادح
نشاوى هموم قد تدير عليهم
كئوسا فتفتر الثغور الكوالح
سلام على الدنيا ورضوان راحم
إذا ضاء نجم منك في الأفق لائح
عفاء على الدنيا وهلك ونقمة
إذا لم تكن والمرء بالعيش رازح
وكم في ثنايا اليأس منك كوامن
إذا فنيت فالعيش فان وطائح
أيا بهجة العمران لولاك لم يكن
فلا شيد الباني ولا كد كادح
إذا اشتدت اللأواء زدت تألقا
كذاك سواد الليل للنجم قادح
وليس بعيب أن تراد لمحنة
فمن ذا يريد النجم والصبح واضح؟!
أيا بلسم الأحزان لولاك لم يعش
على عنت الدنيا لهيف ونائح
معين على البلوى، معين على الضنى
إذا لم يكن فيه معين وناصح
ويا حادي الركبان في العيش مثلما
حدا الركب في الصحراء حاد وصادح
ويا رحمة الله التي عمت الورى
ولم يخل منها جارم النفس جامح
على صاحب الكوخ المهدم مشرق
ببشرى ورب القصر راج وطامح
وأسعد ما تلفى إذا كنت ماطلا
فكل طليب شائق وهو نازح
رست بك في لج الحياة نفوسنا
فلم تتقاذفها الهموم السوارح
لشيدت للإيمان في قلب آمل
معابد قد ضمت عليها الجوانح
ثبات وصبر، واعتزام وهمة
فضائل نفس كلها أنت مانح
ولولا مساع أنت عاقد أمرها
لآثر عقر الدار غاد ورائح
تكاد تنير الليل إما توقدت
أماني تذكو حين تخبو المصابح
تأرج من ذكراك نفحة خاطر
أأنت أريج من شذا الزهر فائح؟
وإن غني الناس من أنت ذخره
وأي غنى تغنى وضوءك نازح
وسائل من جدواك أنت استثرتها
وتفتق إن لحت النهى والقرائح
وكم لك دون النفس وحي وهمة
إذا نطقت تعيا اللغات الفصائح
وكم من غريق أسقط الجهد كفه
فما لحت إلا وهو في اليم سابح
منحت حياة مرة بعد مرة
وتبخل بالعيش النفوس الشحائح
ورب حبيس أنزل السجن ظلمة
عليه ونور منك في السجن لائح
أيا طائرا يشدو وفي النفس أيكه
فيخفت فيها يأسها المتناوح
ويا آسي الأحزان والظلم والضنى
ولولاك أعيا الطب مود وطائح
تخلل أنات الشقاء ونوحه
فتعذب في الأسماع حتى المنائح
خلعت على الأيام أحسن خلعة
فيخفى بعيش شره والمقابح
سقيت فأنسيت المؤجل من ضنى
ومن وخط شيب في غد وهو اضح
وأنسيت أن الشر حتم مقدر
وأن المنايا غاديات روائح
تضاحك في يأس ونحس وكربة
كأن الرزايا عابثات موازح
بها مؤنس من طيب عهدك عامر
بشائر في لأوائها ومفارح
وتخلق منك النفس دنيا سنية
وفي أفق منها النجوم اللوائح
مباديك شتى كالأزاهر جمة
ففي كل حال موطن منك صالح
أيا سحر إن لم تغن فالسحر كاذب
مغاليقه فيما تريد مفاتح
تعللنا بالسعد من بعد ميتة
فتحسن في مرآك حتى الضرائح
فن الحياة
مقدمة
إن للإنسان في الحياة نشوة كنشوة الفنان عند الصنع، أو كنشوة المطلع على الفن عند الاطلاع عليه، فإذا عدم هذه النشوة صعب عليه أن يسوغ الحياة، وأن يلتذها. ولا يمنع عدة الحياة فنا جميلا من نقدها أو الرغبة في إصلاحها، كما ينقد المطلع على الفن ما يشاهده من الفن وكذلك لا تمنع الرغبة في إصلاح الحياة من النظر إليها كأنها ممثلة حسناء تمثل الخير والشر، فلا يكرهها من أجل تمثيلها الشر، وهذا خير من أن يظل يبكي ويندب؛ لأن نمر الشر الذي في كل نفس لم يتحول إلى هرة وديعة كالتي نراها في المنازل، وهو لو تحول ما تجاوز أصله ولا فصيلته، إذ النمر والهرة من فصيلة واحدة!
الناظم
أيا حسن هذا العيش لو كان قصة
يسر بها ساري الورى وهو يسمر
على ما بها من ضجة بين شقوة
وكم عاشق للنقص يهوى وينكر
فليت الفتى يبدو له صرف عيشه
كعيش غريب قصة تتدبر
ويا رب مأساة إذا ما بدت له
تمثل إن يحزن لها فهو يصبر
وفي فنها ملهى وحسن وسلوة
ولولا فنون العيش ما كان يعذر
وإن كان رب الناس يقضي اقتتالهم
فما شأن مثلي، وهو أعلى وأقدر؟
وما قصرت بي رغبة عن محاسن
أريد لها عيشا سوى العيش يقدر
حياة كحسناء المسارح شرها
إذا ما حكته عاد بالفن يبهر
ممثلة حسناء كم مثلت أذى
وغدرا أجادت فنها وهي تغدر
فما زادها إلا بهاء وحظوة
لدى عاشقيها وهي بالفن تأسر
تمليتها لما ولعت بفنها
ولولاه تزري بالحياة فتكدر
حنانيك إن العيش فن فلا ترع
وإن ناب خطب فهو محكى ومخبر
تعان بهذا الرأي إن كنت قادرا
وإن أمكن الإصلاح لم تك تقصر
يمثل كل دوره في حياته
فإن راق فن فهو شأو ومظهر
أإن نمر في النفس لم يمس هرة
تظل على الأسقام تبكي وتسخر
وما نمر عن هرة بمباعد
ويطغى وديع حين يبغي ويقدر
سر الحياة
عبء لغز الحياة يا قلب ما أف
دح عبئا يحثى عليك وثقلا
لعز عيش ولغز عقل وما أع
جب لغزا يروم للغز حلا
كلما رمت بالمجاهل خبرا
زادك العيش بالمعالم جهلا
عبث العيش كلما قال لا سرا
أعدت السؤال جدا وهزلا
قد خبرت الأنام يا قلب هل تن
شد سرا من بعد ذاك وسؤلا؟
وحياة بالسر أحجى حياة
هي أحلى مما تراه وأعلى
خدعة العيش أن يلوح بالسر
إذا عاف عائشوه وملا
فتزيد الحياة حسنا ومأمو
لا وتغوي الحياة نشأ وكهلا
مثلما حجبت فتاة ليرجى
سر حسن لها استسر وقلا
لو بدت عاطلا لما خلبت لبا
ولا استعبدت عشيقا وخلا
كم سعيد يلهو ويعمل لا ين
قض فعلا وليس ينكر قولا
وعلى غدرها أحب حياة
وحباها في الحب أهلا ونسلا
عاشقا للحياة بعضا وكلا
راضيا بالحياة فرعا وأصلا
فإذا شاكه من العيش هم
قال قولا ورام للغز حلا
عبء لغز الحياة يا قلب ما أف
دح عبئا يحثى عليك وثقلا
سرها أنك السعيد إذا لم
تدر أن لا سرا لديها فتجلى
ضلة ما أقول كم لاح من كش
ف وقد كان خافي السر قبلا
ولعل الحياة أكبر لولا
معظم للحياة غالى وأغلى
فهي من فرط رفعة في انخفاض
تلك عليا إن يعلها فهي سفلى
باء باليأس من علاها وقد غا
لى فقال الحياة بالحط أولى
ويعيد الحياة فرضا وحسنا
ومتاعا من يأخذ العيش سهلا
بعد الإخاء والعداء
حنوت على الود الذي كان بيننا
وإن صد عنه ما جنينا على الود
حنوت ولو أني حنوت وما حنا
ولو أنه يبغي هلاكي من الحقد
ولا أكذبن الناس قلبي كقلبه
له آنة ميل عن النصف والقصد
كلانا جنى شرا فعاد إخاؤنا
محالا حكى ذكرى الشباب على بعد
فيا طيب ذكراه ويا بعد عهده
وأين قديم الود من حاضر الصد
مضى حيث يمضي عابر بعد عابر
من الأهل والأصحاب والذخر والولد
مضى حيث يمضي كل رأي ومذهب
له أجل كالناس ظعن بلا عود
إذا أنا أنسيت الإساءة من أخ
ذكرت له مني إساءة ذي عمد
وأيقنت لا ينسى عدائي وما جنى
عدائي عليه من عناء ومن جهد
أيلتئم الصخران في اليم بعد ما
تردد موج اليم بالصدع والهد؟
ويتفق الخلان من بعد ما بدت
به بغضة من مين قول ومن نقد؟
وكنا على ما كان من قرب أنفس
كنهرين في وادي الغضارة والورد
قد اقتربا مجرى وماء وعسجدا
من الشمس لألاء كلألأة الود
حياة شباب عسجد أي عسجد
وعهد إخاء لا يغيض ولا يكدي
إلى أن دعا داعي الحياة وإفنها
فمال بنا قصد السبيل عن القصد
وغير منا القلب والنفس والمنى
وزاد طماح النفس بعدا على بعد
هو البغض مثل الحب لحظ فمنطق
فنار لها بين الأضالع كالوقد
وإن كنت تدري الحب كيف طروقه
ولم تدره أيقنت ما جاء بالحقد
فيا ليت أني قد غفرت جفاءه
ونبوته حتى يصد عن الصد
ويذكر لي صبري على الضيم والأذى
فيأسى على ما كان منه من الكيد
وتكسبني منه الندامة ألفة
وإن كان لي من قبل كالحجر الصلد
أعيش بصفو منه يوما فإن جنى
على إثره غدرا ذخرت له ودي
وأذكر نفسي منه عند انصرافها
شمائل تستدعي المغيظ إلى الحمد
أبعد بلائي العيش أبغي مبرأ
وكيف ونفسي لي كما الضد للضد
يروقك حسن الفجر والنجم في الدجى
ومرأى رياض من عرار ومن ورد
وأحسن منها البشر في وجه صاحب
حليفك منه ما استسر ولم يبد
فيا ليت لي دنيا أبيع حطامها
بود أخ لو يشترى الود بالنقد
إذا الحب لم يخلص من البغض والأذى
فكيف خلاص الود من عنت الحقد؟
وخلاننا مثل الجوارح أيهم
فقدنا، فبعض النفس في ذلك الفقد
أحق طلاب الود من نقص طالب
إذن قمن نشدانك الود بالحمد
لتكمل بالخل الذي أنت ناشد
كما كمل النصفان تجمع في العد
ويا طيب قلب غره الود حقبة
كما عظم المخدوع بالفضل والمجد
وإنك لا تدري أقلب مراوغ
أسر أم القلب المغرر بالود
وإن وداد المرء من بعض غنمه
ولو أن مخلوف الوفا غاض لم يجد
تعيش بمخلوف الرجاء وكذبه
فطامن فإن الود يا قلب لم يرد
رحيق الحياة الود، لو دام صفوه
وكالخمر أصفاه المعتق ذو العهد
وأحسنه ما كان من عصره الصبا
ولم يحل بعد الشيب مستحدث الود
فمن لي بعود الدهر للود والصبا
أليفين ما كانا كما الند للند
يخال الصبا ودا وود الصبا صبا
كيانهما الممزوج كالجوهر الفرد
وإن فقير الناس من خان خله
وإن نال حظا من طريف ومن تلد
أأبغي إخاء لم تشبه عداوة
وأنقم عفو الغدر أو غدرة العمد؟
كأني لم أدر الأنام وخلقه
ولم أدر أن الضد يولع بالضد
أبعد فراغي من جنازة ودنا
أروم خلود الود من عادم الخلد؟
متى أرتضي الخلان صحوا وغيمة
فأمنحهم غيثي وأمنعهم رعدي
أغالط نفسي فيهم وأغرها
وإن لاح منهم غدر أعدائي اللد
وأكتم من آلام نفسي عزة
إذا لم يتح لي ما أزيل به وجدي
فيا ساقي النسيان عاط صحابتي
وهات لي النسيان رفدا على رفد
وهيهات ما أمر إذا جد جده
لينسى ولو واروه في مشبه اللحد
إذا انفلت السهم الطليق فما له
ولو أنه سهم النميري من رد
ويعجز هذا الدهر عن نقض فعله
ألا وهو الدهر المصرف ذو الأيد
وفي وصف الطباع
ما ازدريت الأنام إلا وهان ال
كيد منهم وهان منهم عداء
وتفردت لا أصول بكيد
وتزهدت واستقام العزاء
ومن الناس من إذا ما ازدراهم
كان منه الإجرام والإعتداء
ولو اني أكبرتهم لم يروني
غافرا واحتوتني البغضاء
ولو اني أكبرتهم لم تر الرح
مة ديني وما بهم رحماء
ودهم مثل بغضهم فيه عدوى
مثل عدوى تسعى بها الثؤباء
ويرى المرء أنه كل شيء
هو تبر وما عداه هباء
مركز الكون حوله دارة الأف
ق وبهو من فوقه وسماء
ولقد تحمد الخليل طويلا
ثم يبدو ما كان منه انطواء
فإذا الغدر شيمة وطباع
وإذا الود والوفاء رياء
وإذا النفس جانب مدلهم
بالدنايا وجانب وضاء
وإذا المرء يحمد الصحب منه
جانبا والكريه منه خفاء
ومع الخبر بالأنام فقد يع
رو الفتى عند غدرهم إعياء
كل يوم يخال منه جديدا
وهو رث وما طواه العفاء
قلبه الآمل المضلل بالود
يقود الأسى إليه الرجاء
ومع اليأس منهم كرم الصف
ح إذ الحتم ما جنوا والقضاء
كلهم يشتكي ويشمت بالشا
كي وكل كما يسيء يساء
كلهم يندب الوفاء وكل
يتأذى وطبعه الإيذاء
كلهم قانص يرى في وفاء ال
خل صيدا وليس منه وفاء
كلهم لا يود للناس ما ير
غب فيه لنفسه ويشاء
ويسر الفتى ويبدي اكتئابا
إن ألمت بصاحب بأساء
صادق العطف كان أو كاذب العط
ف ففي نحس خله سراء
وارتياح أن لم يصب مثل خل
نزل الحزن داره والشقاء
وسواء خب وغر ولا غر
و فللغر صولة وعداء
كلهم إن يرقك منه ذكاء
بعد حين يرعك منه غباء
فكأن الذكاء منه وميض ال
برق، والعقل كله ظلماء
كلهم يبغض النقيصة حقا
حذر الناس بغضه إخفاء
واكتسابا للحمد والربح يقلا
ها ولولاهما لعيف الرياء
كلهم يلبس النقيصة منه
حلة الخير وهو منه براء
يغضب المرء للفضيلة كيما
يحسب الناس أن ذاك نقاء
وسواء نقص وفضل لديه
إن تدانت من كسبه النعماء
ومن الناس من يبوح بنقص
وكثير من قوله إطراء
كالذي قال إنما أفقدته ال
حلم منه صراحة وإباء
يمدح الحلم مغريا وهو يسطو
مغنم الخب في الورى الحلماء
حذرا للشرور يمدح خيرا
ذاك جبن في طبعه واتقاء
قسم النقص والمحامد بين ال
ناس منه الأحقاد والأهواء
فلئيم من كان منه جفاء
وكريم من كان منه إخاء
ذاك ميزانه وما الحق إلا
ما رأى الحق يأسه والرجاء
ويرى الأخرق الذي يرحم النا
س وإن ود أنهم رحماء
كي يمدوه بالذي ضن عنهم
بجداه وهكذا الأحياء
كل حي يصون منه حياة
ولئن غال ما عداه العفاء
حاطها بالصيال والمكر والقس
و ولو عم ما سواه الشقاء
وبإنكار كيده وأذاه
وبدعوى الكمال وهو طلاء
يتدنى يبغي العلاء ولا يث
نيه عما يحط منه إباء
غير من آثروا على أنفس من
هم نفوس الورى وقد قيل داء
وعجيب أن كان أطهر ما في ال
نفس داء والحرص منه الشفاء
وأشد القساة ينكر لؤم ال
ناس كيما يكون منه مضاء
وهو يطري الحياة بقيا على الكي
د وذعرا يكون منه الثناء
بين أمرين يدرج الناس طرا
جوع بطن أو أن يكون امتلاء
ومن الجوع أو حذارا له أو
خشية الموت كم قسا الأحياء
وامتلاء يصير شهوة جسم
يهتك الطهر حفزها والمضاء
هين بعدها إذا ما الضحايا
نال منها نحس ونال شقاء
خمص بطن، ونهمة وحذار
واحتيال، وقسوة ورياء
ذلك العيش ثم ما كان من خي
ر بكي لولاه عيف البقاء
وقتال على الحياة دعاه ال
حي فضلا يبغي به ما يشاء
ذاك فضل إذا أساء ولكن
وهو نقص في الناس حين يساء
ولو ان السبيل للموت سهل
لم تكن عنه نجوة أو عزاء
فاحمد العيش إن حبك للعي
ش ملح مهما تمادى العناء
إن أقوى الرجاء ما تعرف النف
س وإن قبح الحياة الذكاء
لم يعفها وإنما شاء أن يب
صر قدما من حسنها ما يشاء
دائب بصر الأنام بما جم
ل عيشا ووصفه إغراء
والذي يكلأ الحياة على العل
م بها لا تروعه الأشياء
يمدح المرء مثل ما حاز من فض
ل فإن زاد كان منه هجاء
فقليل ما نصدق النفس قولا
وكثير من أجل ذاك المراء
مهجة الحاسدين من سورة الأح
قاد والبغض مهجة هوجاء
ساء فعل منهم فساءت ظنون
والورى في طباعهم شركاء
سوء ظن الأنام طبع ولكن
مقلة الظن مقلة حولاء
كل حي أمامه ما جنى الخص
م يراه وما جناه وراء
وعجيب أن يحسد المرء حتى
بعد أن لم تدم له النعماء
أي نفس من أنفس الناس عافت
حسدا للقلوب منه اكتواء
لا بل الفضل إن تضاءل ما في ال
نفس منه ولم يكن إيذاء
كلهم ذلك الحسود ولكن
هين ما بدت به الفضلاء
لو ينال الأنام ما حسدوه
حسدوا ضده وليم القضاء
حسبوا اللؤم من ذكاء وعقل
فادعاه الطغام والأعلياء
وتباهوا بقدرة اللؤم فيهم
واستشاطوا إن قيل هم لؤماء
وقليل ما يندم المرء إن لم
يك جرم من بعده الازدراء
فإذا الناس زينوا منه جرما
شملته من مدحهم خيلاء
ومضى سادرا يرود من الآ
ثام مرعى ودأبه الكبرياء
يبتغي المرء أن يرى الناس طرا
حيث يرضى، وخلقهم ما يشاء
وهو لا يستطيع تغيير ما في
نفسه كي يكون منهم رضاء
وحقيق بالشك من رأيه يت
بع ما خولجت به الحوباء
رأيه مثل خلقه وهواه
حاكم فيه جوه والغذاء
في قنوط ومطمع، وانقباض
وارتياح، تناكرت آراء
لو بدا الشر في النفوس تعادت
رحم الله فاحتواه كساء
وإذا الشر أعوز المرء عجزا
ادعى أن عجزه استعلاء
ومقر بالشر كي يغفر الشر
وكيما يعود منه اعتداء
واعتداء بالجود حرص وكسب
وهو منه استزادة لا وفاء
ولقد يحقد العشير إذا خلا
ك رزء وكان منه رثاء
يجرؤ الفرد بالجميع على الشر
ولولاه غاله استخذاء
شد من أزر سافل أن شرا
جمعت في مناله الجبناء
فجبان يشد أزر جبان
وعداء يكون منه عداء
ولقد يفعلون خيرا ليخف الش
ر منهم وذاك منهم رياء
والشقي الجزوع من شر قوم
جر نفعم منه إليهم رجاء
مستنيم إلى الولاء ويكوي
قلبه أن يفيض منهم ولاء
جاهل بالأنام يخدعه المط
ري نفوسا لهم وحق الهجاء
لقنوه أن المروءة أن يغ
تر بالناس وهو منه غباء
لا بل الفضل خيره وهو يدري
إن بلاهم أن قد يعز الجزاء
مطمئنا بعد اصطناع جميل
عندهم إن دهاه منهم بلاء
كلهم ظالم وإن كان مظلو
ما رأى أن قسوه استشفاء
يشتفي من لواعج الغيظ والذل
بظلم الأذل، بئس الدواء
يظلم الصاغر الضعيف كما يظ
لمه من له عليه اعتلاء
طبقات مقدرات من الطغ
يان ما إن يخال فيها انتهاء
ومع الشر والأباطيل في نف
س فللخير آنة سيماء
الصحراء
أرحبك أم صمت على الأرض غالب
غدا مصحر من روعه وهو هائب؟
كصمت الخشوع المطرقين نزوعهم
مقابر صرعى للردى وخرائب
وصمت لذي المحراب في بيت ربه
يقاربه في صمته ويخاطب
توقع من قد غاله الصمت هاتفا
يكلمه من فرط ما الصمت راعب
كمخترق الظلماء لاح لعينه
إذا جال فيها اللحظ ما هو غائب
حد أن يناجي النفس فيك أخو الحجى
ويخشع صمتا راكب فيك ذاهب
ويخشع من رحب كأن لا مدى له
حكى أبدا ما حده الدهر حاسب
ويخشع أن لا شيء إلا مجانس
فلم يلف إلا مشبه أو مناسب
وكم راع رأي العين إن كان لا يرى
سوى الشبه يتلوه الشبيه المصاقب
حكى خدعة الآمال آلك رافعا
على الأفق بشرى كذبتها العواقب
سراب الأماني في الحياة خديعة
وقد تهلك المرء المنى والرغائب
ومن ضل في خرق من العيش لبه
كمن خذلته في الفيافي المذاهب
تفتح أبواب الجحيم عن اللظى
كأن شواظ القيظ يسفيه دائب
سموم كدفاع البراكين أو لظى ال
حرائق يصلاه الحصا والنجائب
ويصلاه ركب خال دنيا تقلصت
عن النار لو يسعى جحيم مقارب
ويسود وجه الأفق حتى كأنما
ذكاء دجت أو يكسف الشمس حاجب
وكم حار ركب من فجاءة صحوة
كما راع مرأى الحسن والعري سالب
إذ الجو كالبلور أخلص لونه
وصب عليه من سنا الشمس ساكب
كذلك غب الغيث ريعان بهجة
كأن طلاء قطره وهو صائب
كأن ضياء في سواد سحابة
تكاثر حتى ثقب الدجن ثاقب
تفجر ينبوع من النور غامر
كما غمر الأرض المياه السوارب
ضياء ترى المألوف من كل منظر
به فإذا المألوف منه الغرائب
وما فرحة الولهان عاد حبيبه
بأصدق منها فرحة وهو آيب
نهارك أم ليل الدراري نائل
من اللب نيلا لم تنله الكواعب
أديم سماء يبرز الشهب صفوه
فأحسبها تدنو به وتقارب
أما يخشع السمار من كثرة الدنى
ويذهل من رحب الفضاء المراقب؟
يبيت يناجي النجم والنجم سامر
فتفضي إليه بالحوار الكواكب
كأن لحاظ النجم من لحظ عاقل
وأن رقيبا في السماء يراقب
يسائله عن عيشه أين سره
كأن وراء النجم ما هو طالب
إذا خط فيك الدهر سطرا محوته
كذا اليم لا يقوى على اليم كاتب
وترقل فيك اليعملات وإنما
سفائن لج البيد تلك الركائب
وللبحر أمواج؛ وللبيد مثلها
إذا هب إعصار على الركب كارب
فيغرق في لج من الترب حائن
كما احتشدت فوق السفين السوارب
ورحبك رحب البحر يطويك هائب
ويركبه ذو مطلب وهو هائب
بأفقكما للشهب رهب وروعة
جلا لكما شبه وشبه مقارب
وذي دولة في اليم قد دال أمره
وآخر أردته لديك المطالب
ويصغر عيش المرء في اليم مثلما
تضاءل فيك عيشه والرغائب
لمحلك يلقى مكرم الضيف ضيفه
بخير وأما خصمه فهو سالب
وتشحذه الأخطار حتى كأنما
بنوك سيوف ينتضيها المحارب
لقد صقلتها نار قين وصيقل
كما صقلتهم في الحياة النوائب
تنسكت في برد التقشف لم يكن
معاش ولا ترجى لديك الأطايب
الشاعر البابلي المجهول
يا غريب الدار عن وطني
ناظرا في غابر الزمن
هل سمعت اسمي وما نقل ال
ركب عن شعري وعن فطني؟
انكت الأطلال عل بها
أثرا قد خط في الدمن
قد وصفت الحسن أجمعه
لم أدع في الكون من حسن
وبحثت النفس قاطبة
لم يفتني أيما شجن
ولكم ألجمت مضطغنا
عائبا قولي من الإحن
سهر الأقوام واختصموا
في من راض ومضطغن
كل ما قد صاغه عرب
أو من الإفرنج ذو لسن
صغته من قبلهم فعفا
وكأن الأمر لم يكن
لم يعش بالصيت شاعرهم
عمر صيت كان لي وفني
دول أودت بها غير
وردى اسمي بعد لم يحن
لم أدع معنى لذي أدب
عالق بالشعر مرتهن
فاستباح الدهر من أدبي
ما استباح الدهر من وطني
بابل الأملاك ما عمرت
مثلها في سائر المدن
درست من بعد ما لبثت
حقبا مشهورة السنن
بعد ما كانت خمائلها
فتنة تربو على الفتن
بعد ما دان الزمان لها
فكأن الدهر لم يدن
واستوى في الترب ذو لسن
وذوو الإعياء واللكن
نم طويلا يا أخا الزمن
وادعا في اللحد والكفن
بعد آلاف من الحقب
قم وسل عن صولة المحن
لا ترى اسما كنت تكبره
سل عن الأوطان والسكن
سل عن المشهور من قدم
وعن المعبود كالوثن
عن عظيم كنت تحسبه
خالدا كالدهر والزمن
فإذا أنتم وشأنكم
حلم قد كان في الوسن
يا غريب الدار عن وطن
باحثا في دارس المدن
هل سمعت اسمي وما نقل ال
ركب عن شعري وعن فطني؟
النشوء والارتقاء
أراك فريسة الجوعي
ن سغبانا وشهوانا
بربك أيها الإنسا
ن لم أصبحت إنسانا؟
بعقل يبلغ الشمس
وأقصى الكون عرفانا
وجدت لكل ما كان
من الأكوان ميزانا
كأنك خالق الخلقي
ن أكوانا وأزمانا
وسخرت الرياح مطي
ة والبرق فرسانا
وقد أعليت عمرانا
وقد قدست أديانا
وردت العيش عريانا
وترجع عنه عريانا
وملء حياتك الأحزا
ن والآلام ألوانا
وتبليك الحياة كما
يفت الجو صوانا
وتصرعك الجراثيم
كما لو كنت ديدانا
وقد تهلك غرثانا
وقد تهلك مبطانا
وقد تغدو إلى اللذا
ت فتاكا وخزيانا
فبين الجوع والشهو
ة قد أجريت ميدانا
وللتحليل والتحري
م قد أعددت تبيانا
فما أصلحت حاليك
ولا طهرت أدرانا
وفقت الطير والحيوا
ن آثاما وأشجانا
وزنت الذرة الصغرى
وما أعددت ميزانا
لعيشك كي يكون العي
ش إسعادا وإحسانا
بربك أيها الإنسا
ن لم أصبحت إنسانا؟!
النجاح
أنت رب الأوشاب والأعلياء
وجماع الجهود والأهواء
تلبس المرء منك حلة فضل
يلهج الناس حولها بالثناء
أي فضل للمرء إن لم تحكه
وذكاء إن لم تكن في الذكاء
فرص العيش كلها لك جند
والعطايا موائل كالإماء
وصروف الأقدار طرا عبيد
للذي تصطفيه للآلاء
لا يضير الذي اصطفيت عداء
لا ولا يزدرى لفرط الغباء
ويود الذكي لو كان غرا
ثم تكسوه حلة الأذكياء
أنت سحر يكسو القبيح جمالا
وينيل الوضيع أفق العلاء
وينيل القميء أجنحة النس
ر فيغدو لقومه كسماء
يرتجي الناس غيثها وعلاها
بخشوع وذلة ورياء
إيه يا مالك القلوب قلوب ال
ناس طرا طوع اللها والعطاء
رب قلب مماكس لك في البي
ع وذاك المكاس غير الإباء
تنثر التبر مثلما تبعث الشم
س بأضوائها على الأرجاء
فوق وغد أو فوق غر حظي
أو على ظافر من الفضلاء
لك ثوب يخفي العيوب ويحبو ال
فضل فضلا من روقة الآلاء
قدر حاكه وليس صناع
كصناع يدعونه بالقضاء
معدن الخير والفضيلة والحك
مة من يرتدي بذاك الرداء
أي فضل تعطى القوي قواه
إن عداه النجاح في الأحياء؟
أي صيت يجدي الذكي بيان
لم يصب نهزة من الإصغاء
أي فضل تحبو الحكيم نهاه
وهو لولا الأنصار كالأغبياء؟
سرف أن أضاعه الدهر لا يف
قر دهرا أضاعه من ثراء
أترى التبر لو يظل دفينا
كان يجبي أطايب الأشياء؟
أترى الحسن كان يعتد حسنا
وهو في خفية عن البصراء؟
يغنم الظافر السعيد وإن كذ
ب منه النقاد بطل الطلاء
وهو في أعين الأنام نضار
وسواه في الخلق كالدقعاء
يغفر الناس شره وأذاه
ويمدونه بمحض الولاء
إنما الحق ما رأى الناس حقا
ثابتا في عقيدة الأهواء
والشريف الذي يرون شريفا
نال أو لم ينل مدى الشرفاء
والكريم الذي يرون كريما
حاز أو لمن يحز هوى الخبراء
صاح لو ينبذ المزيف طرا
حرب الناس كل هذا الإباء
ثم باءوا بحيرة وضلال
في دعاوى العقول والآراء
وإذا النجح لم يكن منه ميزا
ن فكل مزيف الأنباء
كن جديرا به وإن لم تنله
إنما الحقد آلة الأدنياء
ويضير الأنام كيد حقود
صد عن خير مطمح وعلاء
فدع الناس يكلفون بما شا
ءوا وعش في حقيقة الأشياء
إن تجدها أو لم تجدها فللعي
وللجد نشوة الصهباء
نشوة النجح نشوة السعي والخا
سر من لم يفز له بطلاء
ولعل الأحقاد ما صفر النج
ح وانحنى عليه بالأزراء
ورجاء للنجح خير من النج
ح فعش من طلابه في رخاء
إن بعد الرجاء أن تبلغ القص
د ولا قصد بعد نيل الرجاء
ولقد ينكب النجاح أناسا
بالذي فاق نكبة للشقاء
والسعيد المحروم من أسلم الأط
ماع طرا لصرف حكم القضاء
ويود الذي تود له الأق
دار يبغي فيها رخاء الرضاء
ذاك خبر يغري الحكيم وإن شق
فيلفي رخاءه في العزاء
ولقد يحبط الطموح إذا زح
زحه الهم عنه بالإعياء
وفروض الحياة أخلق بالسع
ي وأحجى من اقتعاد السماء
إن أعلى من العلاء خليقا
بعلاء لا حائزا للعلاء
والسعيد الحظي من رزق الجد
وفي الجد مصرع الثؤباء
هو طب الملال إن أعنت العي
ش وغالت غوائل البأساء
وسواء نجح وفوت إذا أح
مدت ما في مسعاته من دواء
والشقي المحروم من لا يرى في ال
عيش فرضا ينأى به عن شقاء
ذاك من مات قلبه وهو حي
وغدت نفسه كقفر خلاء
خاصمته النعماء في كل أمر
وبدت فيه وحشة البيداء
خيبة المرء أن يمل مناه
لا تمادي الحرمان والإبطاء
ولعل الإبطاء في النجح أهنا
وقصارى المبذول للأزراء
ويمل العطاء بعد أوان
كعزوف من بعد طول الغذاء
والذي لا يمل فرضا معادا
كل يوم موفق السعداء
لا ينال البعيد من لا يرى الأد
نى سبيلا يدني إلى البعداء
خطوة إثر خطوة هكذا سن
ة عيش وسنة في الجراء
وامتناع الطليب أهون من أن
يندب المرء خيبة الأهواء
هو خطب أدهى من الفوت وقعا
وهو داء أشد من ذا الداء
كالذي يستطب بالخطب من خط
ب ويقصي الأدواء بالأدواء
ليس يدعى الرضاء يأسا فكم را
ض وفي سعيه دبيب الرجاء
والذي يستدر نجحا من الخي
بة أحجى برفعة وعلاء
فإذا ما نكصت في العيش فاعلم
ليس في العيش موطن للنجاء
يدخل المرء نفسه في الرزايا
كي يداوى من رعدة الجبناء
مثلما أسمعوا الجياد صليلا
كي يهون الصليل في الهيجاء
صاح، ما العيش بالمخلد في الده
ر فترتد ناكصا للوراء
وإذا ما ارتخصت ما هو مبذو
ل ويا رب مرخص من سخاء
فالهواء الحياة وهو مذال
لو نأى كان منية الأحياء
لا تقل خيبة الرجاء سموم
فالشقي الشقي بالأسماء
إن بعض السموم منه دواء
كدواء الرمداء بالظلماء
وإذا ما هممت بالخير لا تو
لع بكسب الإجلال والإطراء
ليس بين الإطراء والذم إلا
كانطباق الجفون في الإغفاء
واللبيب العليم بالناس لا يغ
تر بالمدح منهم والهجاء
غايظوا الراجح السعيد بمن خا
ب ولو فاز كان في البغضاء
يزعمون الخياب أحجى بفوز
قد لواه القضاء ذو الأخطاء
زعموا الدهر يظلم الندب إذ يس
مو بشأو اللئام والأدنياء
فإذا الندب نال شأوا أعدوا
ما أعدوا له من الإيذاء
ولعمري لو بين النقص والفض
ل لكانوا في النقص كالشركاء
باتفاق أو باقتدار نجاح
كان أو لم يكن لدى الفضلاء
ولو ان المفضول لم يلف نجحا
ضاعف الفوت غبن صرف القضاء
نابه النقص من قضاء فإن خا
ب فغبن مضاعف في الجزاء
ليس فوز الأباة قدر شقاء
هزم الذل نخوة الأحياء
لا بل الفوز صحة واقتدار
وببذل للذخر أو للحياء
وبأن تطبي رضاء ذوي الجا
ه وأهل الجدود والأقوياء
وبإحباط من يكيد بكيد
رب فوز مستجلب بالدهاء
وبإطراء من ترى منه نفعا
وبإرضاء كل دان ونائي
واحتذاء الحياة ترضى الذي تر
ضاه من شيمة ومن سيماء
وبأن لا تعاف كسبا ولا خل
قا يداني من مطلب ورجاء
فإذا عفت كان سعدك في الخي
بة والنجح من صنوف الشقاء
رب قوت للمرء منه سقام
وهو في جسم آخر كالدواء
وكذا النجح منه عز ونعما
ء ونجح يلم بالبرحاء
الجبل
ذكرى
جلالك أهدى من ضياء المنائر
ومنبرك الأعلى أجل المنابر
لقد كنت عرش المجد في الأرض عزة
ومسكن أرباب الدهور الغوابر
فيا معبدا سقف السماء غطاؤه
وعمدانه الدوحات ملء النواظر
جلالك يلهي المرء عن كل زائل
فيخشع مسحور النهي الضمائر
توحدت كالرهبان يا رب راهب
رأى عصمة الأطوار طهر السرائر
تطل على السهل الفسيح كأنما
تفكر في عيش القرى والعمائر
ألا إن للأهرام مجدا وروعة
ولكنها إن لحت لهو الأصاغر
فأنت بناء الله لم يبن مثله
قدير ولم تعبث به يد جائر
ومعتصم في معقل منك مانع
كما اعتصم الملاح بين الجزائر
علوت برأس في السماء مباعد
أكيما تناجي السحب أم كبر قادر؟
وينساب فيك الماء جذلان لاهيا
وآنا له روع كروعة هادر
عليك اعتراك للعواصف رائع
وبرق ورعد طي سحب مواطر
وأنت وقور لم ترع من رعودها
ولم تتهيب دورة للدوائر
يغير مر الدهر حيا وهامدا
سواك فهل أوقفت خطو المقادر
فيا ملكا برد الجليد كساؤه
ومن فوقه تاج النجوم الزواهر
تشاهد جيلا بعد جيل كأنما
تمر بك الأجيال مر العساكر
ترى مولد الدولات ثم مماتها
وتبصر مجد اليوم بعد الغوابر
خلطت بك النفس الطموح إلى العلا
ومرأى جلال منك ملء الخواطر
المستقبل
كهانة
خطرات الأحلام
سترى في الأيام
أقوال وفعال
هي رهن الأوهام
الآن
ويكون الممنوع
هو حق مسموع
ويكون المنبوذ
هو عرف متبوع
الآن
وجهود مشكوره
ستغادي منكوره
آراء ومعان
حبات مبذوره
الآن
وترى في الأجيال
من حال ومآل
وسبيلا مطروقا
كخيال ومحال
الآن
وأمور مجهوله
ستغادي مملوله
من فرط العرفان
وتراها مأموله
الآن
خطرات الأذهان
وضروب العرفان
تهدي إن لم تصم
فتكات الإنسان
الآن
وولوع ببقاء
ككفيل بنجاء
مهما صال الموت
في حرب وعداء
حالتان للنفس
طلب السكينة
يا ليت قلبي غدا خلاء
كعالم كله بحار
على انتفاء الحياة منها
في خضرم ما له قرار
فلا مهود ولا قبور
ولا سفين ولا منار
ولا حبيب ولا عدو
ولا نمو ولا احتضار
ولا رخاء ولا شقاء
ولا رجاء ولا ادكار
أو كان كالنجم في سراه
الوادع السائر المدار
أو كان كالليل في هدوء
يخال في صمته حوار
طلب القوة
يا ليت قلبي على أساه
أقوى من الشر والشقاء
وليت نفسي على هواها
أقوى من الحب والرجاء
وليت لبي على حجاه
أجلد من غفلة الغباء
لا يضطنيه عداء عاد
وليس يغتر بالإخاء
يأخذ صفو الزمان عفوا
ولا يعنى من القضاء
وليت صبري على بلاء
أشد من أروع البلاء
فداو داء الحياة فينا
لو تسعد النفس بالدواء
بالصبر والسعي والأماني
والحلم والعزم والوفاء
عجز التجارب
ما زاد مر حياتي غير أشجاني
فزودتني رجحانا كنقصان
يا دهر لا تنسني في ضيق عادية
محاسن العين من صبر وغفران
وقوني بتجاريب أزاولها
فإنها لم تزدني غير عرفان
وكيف يلهم خبر صبر مصطبر
يمري له الخبر عرفانا بإيهان
يزيده العمر من وهي ومن كبر
ما زاده العمر من خبر بحدثان
فكيف ينفع تجريب ومانحه
يوهي جلادة أعصاب وجثمان
بعض التجارب ينسى ليذكر زمنا
إذا تعاور لب المرء ضدان
فإن تيقظ في تجريب طارقة
فإنما هو يقظان كوسنان
ضرورة العيش أن ينسى ليذكر ما
يغدو يعالج من أمر له ثان
فالمرء ما عاش من حال لثانية
منقل بين نسيان ونسيان
فإن تذكر أمرا واحدا أبدا
قضى الحياة غريرا جد غفلان
وإن تناس فلا نفع لخبرته
وكيف يجديه منسي بغنيان
فإن تذكر منسيا تبادهه
منه فجاءة ما يقضي الجديدان
كأنه مستجد لم يلم به
ولم يحول إلى طبع وديدان
ورب طبع بلا خبر وتجربة
أسخى على المرء من خبر وعرفان
ذخر التجارب ذخر لا رواج له
ولم يخص بأرباح وأثمان
ذخر الأقاصيص مسحورا ومختزنا
فليس للعين منه غير ريعان
إلا تجارب علم يستجد بها
ما يملأ العيش من حسن وإحسان
لولا انتفاعك من عاد مفضلة
قد تجتبيها مع التجريب في آن
لما خدعت بأشباه إذا اختلطت
فعادة المرء والتجريب أمران
والخبر ليس بناف عادة شنأت
ولا يداوى به من وهي أبدان
يزيدك الخبر علما بالحياة وما
تغرى به الناس من شر وطغيان
حتى تسير على مجرى سجيتهم
فلا يزيدك فيها غير إمعان
فإن أبيت سجايا الناس من شمم
قضيت عيشك في هم وأحزان
إلا إذا ما لبست الدهر عافية
فهيأت لك من صبر وغفران
ليلة حوراء
رق الظلام بليلة
حوراء كالطرف الكحيل
سحر العيون كسحرها
بين الشواهد والشكول
هي فتنة الحدق الملا
ح ونعمة الطرف العليل
رق الظلام كأنه
متفيأ الظل الظليل
في روضة فينانة
هجر الهجير بها المقيل
وصفا الدجا فكأنما
مزج النهار به الأصيل
فتمازجا كتمازج ال
ماء المصفى والشمول
في جنحها وصفائها
قرن الجليل إلى الجميل
وتصالحا من بعد ما اف
ترق السبيل عن السبيل
تحنو علينا مثلما
يحنو الخليل على الخليل
وتخالها حلما بسع
د جل عن قيد العقول
ولرب ليل فاحم
فيكاد يقطع أو يسيل
لا مثل ليلتي التي
تندى على الوجد الدخيل
في سحرها وصفائها
ونجومها برء الغليل
عم السكون كأنه
ملك على الدنيا نزيل
فكأنها رسم بدا
وكأنها حلم مخيل
في مثلها من هدأة
سكن القضاء فلا يصول
وكهدأة في معبد
للخاشعين به مثول
وكأنما أغفى الهوا
ء كغضة الطرف الكليل
والبدر طيف في المنا
م يطيف كالحب الوصول
في مثلها من ليلة
عبد الدنا أهل الحلول
ورأوا تجلي الله في
كون عراه له ذهول
والزهر كالمسحور وس
نان المحاسن في ذبول
والنهر غاف راكد
نسي الترقرق والمسيل
وسنان يحلم بالريا
ض وظلها فيه الظليل
في مثلها من ليلة
يقف الزمان فلا يحول
يصغي إلى نجوى القلو
ب وذكرها العهد المحيل
كوقوف نجم سمائها
يثنيه من سحر ذهول
كذهول مسحور بما
تجلو من الحلم الجميل
يا ليل بل يا سحر بل
يا حلم ليتك لا تزول
الشتاء في إنجلترا
مقدمة
يسقط الثلج في إنجلترا شتاء على شكل حبات الدقيق. فيعلو الأرض والمنازل والأشجار، فيخيل للرائي كأنما قد كسيت الدنيا كساء من القطن. وكأن النهار ليلة مقمرة، وكأنما بياض الثلج من أثر بياض أشعة القمر. وتذكى النار في المواقد في البيوت، فكأن ألوان النار ألوان الأزهار الزاهية في جنة الربيع، وتذكي نار المواقد وجنات الوجوه فكأن في المواقد جمرا وفي الوجوه جمرا! وتبحث في القلوب فترى نار الحياة وشرتها، وترى الحب والآمال لم يغض منها برد الشتاء وثلجه!
الناظم
نشر الضريب على البسيطة حلة
بيضاء تمحو غبرة الغبراء
يسعى على وضح النهار كأنما
يسري الفتى في ليلة قمراء
فكأن نور البدر ما حلى الثرى
برواء تلك الحلة البيضاء
غلب البياض على اصفرار أشعة
تهب النهار من اصفرار ذكاء
وعلى المساكن كسوة منه كما
تعلو المفارق شيبة الشمطاء
فإذا مشابهة المشيب كدعوة
للنفس أن تنأى عن الأهواء
وإذا استراح لمقمر في لونه
راء ترى الأحلام عين الرائي
وكأنما في عالم الأرواح يس
عى من سعى لا عالم الدقعاء
وكأن زهرا أبيضا غطى الثرى
برواء ثوب الروضة الغناء
ولكل لون حسنه كالليلة ال
ليلاء أو كالقبة الزرقاء
ولربما اختلف الجمال، وفعله
متشابه في أخذة الصهباء
وإذا المواقد في البيوت تضاحكت
من شدة الإيقاد والإذكاء
خلت الربيع سعى إليك بحفله
والنار زهر الجنة الفيحاء
يذكي الوجوه لهيبها فتراهما
جمرين يشتعلان في الظلماء
ما غض من دفء الحياة ونارها
ثلج الشتاء على ثرى الغبراء
الحب والآمال فوق متونه
كالحب والآمال في الصحراء
والقلب قلب حيث كان إذا ذكت
نار الشباب وشرة الأحياء
بحر الحسد
مقدمة
الحياة هي بحر الحسد. ويسعى الناس في الحياة لأرزاقهم وجاههم بالكيد والمكر، كأنما يسبحون في بحر من الحسد. وقد يدفع بعضهم بعضا كي يظهر الدافع على متون أمواجه. وقد يعين بعضهم بعضا في الأحايين. أما المجاملة في الحياة والتحيات، فقد تكون أشبه بلألاء الشمس على سطح الماء يخفي بجماله ما في البحر من قبح وبلاء!
الناظم
يسبح الأحياء في بحر الحسد
فاعتصم بالصبر فيه والجلد
واقتعد صهوته مستبشرا
سابحا في الموج منه والزبد
ضاحكا من عنت الأمواج، لا
يدفع الغائل منها بالكمد
انظر الأمواج في الشط، تجد
لجها منهزم الأمر بدد
إن علت موجة حقد فاصطبر
أي موج في ذرى اليم خلد؟
وإذا ما رمة لاحت فلا
تحسب الرمة فيه كالسند
وإذا لألأت الشمس على ال
يم أخفت قبح ما دون الزبد
كمقال الخب يخفي كيده
إن سطا في العيش في لؤم وحقد
وإذا غار بك الماء فقل
كم حسام في قراب قد غمد!
رب در فيه لا تأمله
إن من غاص على الدر وجد
درة مخبوءة أنت إذا
ما طفا باللؤم إن أغرقت وغد
أنجد السابح إن حار وكن
للذي أشفى على الهلك عضد
ليس مجد الغدر أحجى بالفتى
أي مجد ناله الأوغاد مجد؟
أحمق الناس جهول خائف
كلما لاح له برق رعد
ليس في العيش ولا الموت أذى
إن من سار على الدرب ورد
لا يلذ الموت إلا متعب
سهر العيش وفي الموت رقد
رقدة يا طيبها من رقدة
بعد أن عانى وأبلى وسهد!
الصدى
أمازح أم ساخر يا صدى
تردد الصوت ولفظ المقال؟
الصدى: مقال! مقال! مقال!
أم قائل ذو خبل لا يعي
أغراه بالترديد مس الخبال؟
الصدى: خبال! خبال! خبال!
أم أنت طفل عابث لا يني
يلهو ويحكي ما يرى من فعال؟
الصدى: فعال! فعال! فعال!
أم ببغاء ما لها فطنة
كم رددت من حكمة أو مثال؟
الصدى: مثال! مثال! مثال!
أم أنت روح لا ترى تبتغي
أمرا لدى الأحياء صعب المنال؟
الصدى: منال ! منال! منال!
أم أنت بعض الجن في خدعة
تسكن في الأطلال أو في الجبال
الصدى: جبال! جبال! جبال!
أم أنت شيخ أفن إن سها
ردد ما قيل له من مقال؟
الصدى: مقال! مقال! مقال!
أم كأصم رام إخفاء ما
به فلا يطلب رجع السؤال؟
الصدى: سؤال! سؤال! سؤال!
أم أنت مثل الناس في غيهم
كم ردد الجهال قولا يقال؟
الصدى: يقال! يقال! يقال!
يخشون إن شذوا بإنكار ما
قد ألفوا من ترهات الضلال!
الصدى: ضلال! ضلال! ضلال!
فرددوا بغيا على ألفة
بينهم، أو رددوا من كلال!
الصدى: كلال! كلال! كلال!
فقولهم مثل الصدى رجعة
وعيشهم ما بين قيل وقال!
الصدى: وقال! وقال! وقال!
حكيتهم في عيشهم ساخرا
أذلك العيش وعقبى المآل!
الصدى: مآل! مآل! مآل!
صمت الشك (علم أم ضعف؟)
ألا لا أبيح العيش مدحا ولا ذما
سكت فلا عذرا نطقت ولا لوما
ولا يستقيم القول إلا لمنتش
من العيش والآمال لا من صحا غما
مللت أساطير الحياة فإن أفق
فمن لي بحلم قد حلمت به قدما؟
حلمت بحسن العيش والصدق والنهى
أماني لا صما تبدت ولا بكما
وإن لم يكن عيش الفتى حلم حالم
فما عذر قولي إن حسبت الدنى حلما
فإن شئت كان الشك ضعفا وخيبة
وإن شئت كان الشك منطقه علما
وإن كان أصل الوحش والناس واحدا
فلم فقدوا ظلفا وقد كسبوا لؤما
وكيف أرى مستقبل الدهر للورى
علاء ومحيا يجمع الخلق والفهما؟
إذا كان صدق الناس كذبا وفضلهم
رياء، وود منهم الغدر والسما
صحوت كصحو الموت من نوم عيشه
أترجعني للعيش ألعقه رغما؟
كما يلعق الآسي العليل دواءه
وإن مج منه علقما قد نبا طعما
وهل ثقة بالعيش والناس تشترى
لأنثرها نثرا وأنظمها نظما؟
وإن كان مدح المرء للعيش خشية
من اليأس كان المدح من وجل ذما
يسوغ بيان السخط إن كان من هوى ال
حياة وإن أغرى بك الأمل الجما
وإلا فإن الصمت أولى بقائل
إذا قال قولا جدد اليأس والهما
على تافه لا ينقع الدهر غلة
ولم يك بين الناس ربحا ولا غنما
رأيت زوال الكائنات فلا أسى
إذا لم أخلد لي مقالا ولا نظما
سيحدث بعد القول قول يديله
وإن زال أقوام تجد بعدهم قوما
وما الخلد إلا عزة وطماعة
وأنبل كذب يخدع اللب والفهما
يكون الفتى في اليأس دهرا وفي المنى
كأرجوحة بين الشقاوة والنعمى
وقد حل بي دهر إذا ما مدحته
أظل كحاسي المر يفتعل البسما
وإن لم ينلك القول إلا مذمة
فمن بر نفسي أن ترى تركه حزما
فمن شاء فلينطق ومن شاء فليكن
صموتا فحسبي أن أرى الحمق والحلما
مللت نضال الناس في غير طائل
وإن كان شرا يصقل الذهن والفهما
وكم شبهوا فهما بسهم ومورد
ويا طالما أشوى الصواب وكم أظما
فيا ليت هذا العيش يبدو كصورة
لعيني أو خطا على الطرس أو رسما
كما تهدأ الهيجاء في رسم راسم
تراها فلا قتلا تراها ولا كلما
ترى حسن إحسان وتجويد صانع
وقدرة فنان وجهدا له تما
سحر الطبيعة
كئوس من النور هذي الزهو
ر أم هي أخيلة الشاعر؟
وليست بحلم ولكنها
أجل من الحلم الباهر
وما خلفت لفنون الخيا
ل فتنة حسن لدى الخابر
وماء الحياة ونبع الخلو
د في مائها السلسل المائر
وعشب قشيب وظل ظليل
أدنيا أرى أم منى الساحر؟
ومما يزيد رواء الزهور
أذى العيش والقدر الجائر
لقد خفت أن تنطوي مثلما
يزول الخيال عن الناظر
فأسلمت نفسي لسحر الخيال
لأخلد في حسنها الزاهر
وغبت عن الحسن حسن الوجود
كأني روح لدى العابر
كأني نقلت إلى عالم
سينشأ في الدهر أو غابر
كأني نقلت إلى جنة
نأت عن سطا القدر الدائر
ومما يزيد رواء الزهور
أذى العيش والقدر الحائر
الغابة
قد حيكت الآباد كالبحر والصح
راء من طول أرضك الشجراء
وحجبت الأفق البعيد عن الطر
ف فأنسيت منتهى الأشياء
فكأن لا مدى لدوحك يرجى
حين تدحى مطارح الغبراء
ورياح تشدو على ورق الدو
ح بألحان شدة أو رخاء
منطق لم يدع لنفس شجونا
لا يحاكي صفاتها في الغناء
ثم تبدو الغصون في هدأة الري
ح كناي معلق بالهواء
وكأني أصغي إلى غابر الده
ر وما كان فيك من أزراء
وكأن المساء ظلل دوحا
يتسامى ولات حين مساء
وكأن الظلام دس كمينا
رابضا في آجامك الدكناء
خطرت في ظلام دوحك أروا
ح وناجت مسامع القدماء
لبث القوم فيك دهرا فناجا
هم سرار الفنون بالإيحاء
عمدا شيدوا وسقفا لبهو
واستمدوا من غابة وسماء
حين شادوا للدين بيعة إيما
ن تبدت كالغابة اللفاء
صرت ملهى وكنت غيلا مخوفا
وملاذ اللصوص والطرداء
وارتضيت الأمان من بعد ذعر
لم يزل في المدينة الشماء
غابة شادها ابن آدم نزلا
دوحها من قصورها الزهراء
ربما عرشت وضاقت فلا شم
س لديها ولا مراح الهواء
ومخوف من الفجاءة فيها
كمخوف في الغابة القتماء
واحتيال ليقنص الرزق والصي
د سواء في مكرة كسواء
كم وحيد لا يعرف الأنس فيها
أصبحت نفسه كقفر خلاء
ضاق ذرعا بنفسه فغدا ين
شد طيا في معرض الأحياء
عذبته لواحظ الشمس حتى
أخذته لواعج الظلماء
وأفاع في دورها وقرود
ووحوش من ناسها بالعراء
وغريب ومعدم وطريد
قد عداه حتى خداع الرجاء
فكأن الأقوام لم يخرجوا من
ك ولا زال عهدك المتنائي
سنة قد سننتها في نفوس
إن دعتها كانت جواب النداء
الحق والحسن
عصيت الحسن من هم ونحس
ينيخ على الورى في الطارقات
وقلت الحق خير منه عقبى
وأولى بالنفوس الساميات
وقلت أيا رواء الزهو بعدا
ويا سحر العيون الساحرات
ويا ملح الخمائل لا تكوني
حبائل قانصات آخذات
ويا شمس اخبئي ضوءا صبيحا
يغازل حسنه حسن النبات
أليس الناس في عنت وشر
سلي الأيتام والمترملات
سلي أهل الشقاء وما دهاهم
وهل طابت لهم خدع الحياة
رمى بالنسل للآفات طرا
نشاوى لذة لا الواجبات
وقالوا النسل فرض أي فرض
جدير بالنفوس المؤمنات؟
ديار النحس كالجنات حسنا
لدى العشاق فيها والهواة
ورنق من مناقع آسنات
ألذ مع الغرام من الفرات
وحيث ترى نعيم الحسن داء
ترى فقد النفوس الآبيات
وهل ترجوه لاستصلاح أمر
صريع عقار حسن الفاتنات
فإن الحسن يلهي المرء عما
يحاول من صلاح الحادثات
ولولا سلوة للحسن عيفت
حياة في حضيض الهاويات
فقال الحسن هل أنا غير سلوى
تعين على كفاح النائبات
أنا الأمل الذي لولاه كانت
حياة المرء شرا من ممات
أنا الحق الذي تبغي جداه
وتنشد كونه في الكائنات
أنا المثل الأجل، إلي مرقى
خطا الراقين من ماض وآت
أنا الحادي الذي يحدو نفوسا
فتطرب طربة المستوقرات
أنا الصبر الذي يودي بنحس
ويسعد في الهموم المضنيات
أنا الحب الذي لولاه كانت
وجوه الكون أشبه بالرفات
فلما أن تبدى منه سحر
أضاء بنوره وجه الحياة
ولما أن تبدى منه سحر
أعاد النفس في مثل السبات
خشعت وما ملكت قياد نفسي
وقلت: الحق حسن لو يؤاتي
وإن لم يزو نفس المرء عما
يحاول من صلاح الحادثات
ما وراء الأمن
ولكن ما وراءك يا عصام؟ (شاعر قديم)
أما فكر هذا النا
س كم من قاتل عاتي
لو ان لكل ذي حقد
مناه في الرمايات
لو ان الأمر فوضى لا
حسيب على الجريرات
لكان الأمر ما كان
قديما في البداوات
إذ الأشره في الأرح
م مقضي المشيئات
ودامي الناب من لحم
أخيه أو السخيمات
وغر الناس ما يخد
ع من بذل المروءات
وغر الأمن والسلم
وآيات السماوات
ومن يصغي لآيات
وأرواح رحيمات
وخلف الأمن والسلم
كحرب الذئب والشاة
قتال بالنكايات
وآخر بالسعايات
وبالكذب وباللؤم
وأرجاس الغريزات
سلاح كل ما أسع
ف في حرب المباراة
ولو تقتل ألحاظ
نمت قتلى العداوات
أسهم ما بدا في اللح
ظ أم سهم الحزازات
وقوم الزمن الماضي
كقوم الزمن الآتي •••
سألت الله أن يخل
ف ظني عند ميقات
بأن يخلف أقواما
كراما في السجيات
فمن فجار مهواة
إلى أطهار مرقاة
ومن رجس المباراة
إلى طهر المؤاخاة
نذالة التعاسة
كدت أنسى دواعي الرفق مما
قد أرتني نذالة التعساء
يقضمون اليد التي تنتحيهم
بسخاء ونجدة وإخاء
ويكيدون في الخفاء أو الجه
رة ألئم بجهرهم والخفاء
عشش اللؤم حيثما عشش البؤ
س سوى في القليل من كرماء
ليس بدعا، أليس ما نغص العي
ش من البؤس باعث الشحناء
كل قلب تبيت من حسك البؤ
س مليئا بخسة الأدنياء
يتلظى شرا ويرشح غدرا
ويداجي خوفا بثوب رياء
يلؤم المرء وهو غير شقي
كيف ينأى عن لؤمه في الشقاء
ليزيدنه اغتيالا وحقدا
وافتراسا على حطام الرخاء
وسعارا لو انه نال من أر
ض لجنت زلازل الغبراء
وهو غل لو حاق بالشمس أمسى
مثل ذر الرماد وجه ذكاء
ليس شر البأساء قصرا على النح
س ولكن كم أشعلت من عداء
وحقود وخسة وسعار
واغتيال ومكرة ورياء
تفسد الأنفس الكرائم حتى
تغتدي مثل أنفس اللؤماء
ضاع عطف الرحيم إذ ضاع حسن ال
خلق في خيم أنفس التعساء
وعظيم ما أفسد النحس من خل
ق هضيم ورحمة الرحماء
كم شقاء يمضي وفي النفس منه
أثر واضح لغير فناء
من عوادي سخائم لست تدري
هي بالمرء علة الأدواء
أم هي النفس سقمها مثل سقم ال
جسم من إحنة ومن شحناء
مثل ذل الشعوب خلف لؤما
بعد فوت من عهده وانتهاء
وصفات الشعب الضعيف لتلفى
في جسوم صحيحة أقوياء
من رياء وإحنة واحتيال
وتعادي تخاذل وافتراء
شيم يدرأ الذليل بها من
عجزه سطوة من الأعداء
أصبحت شيمة النفوس وإن لم
يك ذل ولم يكن من عداء
فمتى يلبس الخلائق طرا
طيب نفس في شملة النعماء؟
ليس إلا بها نجاء نفوس ال
ناس طرا من خسة الغبراء
فاطلبنه فيها وإلا فدع نش
دان أمر بغير داعي الرجاء
بين الثريا والثرى
الحمل الجدى والسرطان؛ هي الأبراج المعروفة بهذه الأسماء، والمعنى هو أن الشباب لا يهتم بما يخبئ له القدر؛ كما يهتم من يرصد الأفلاك والأبراج ليعرف منها ما يخبئه له القدر.
الناظم
الشباب
تذكرني الشباب وقد علونا
به فوق المجرة والنجوم
ونحن الخالدون وكان حقا
خلو الخالدين من الهموم
سوى الحزن الذي عقباه ضحك
يرن صداه في ضحك الهزيم
وطئنا فوق أطلال الدراري
وأشرفنا على بيد السديم
فلا حمل ولا جدي رقينا
ولا السرطان ذو البرج العظيم
وما من صولة الأقدار خفنا
ولا لاحت لنا مثل الغيوم
بأرواح لها في الأفق مسعى
وتحليق على العيش البهيم
ركضنا في السماء لكل نجم
حنو الطير للزهر العميم
وحولنا وجوه الكون كأسا
حسوناها ولم تك من كروم
ولم نعبأ بما تخفي الليالي
ولم نخش المنية في الهجوم
وأسلفنا الزمان نعيم عيش
ولم نحذر مقاضاة الغريم
وكنا في ائتلاف الشمل نحكي
نظام الشهب والدر النظيم
المشيب
سكنا الأرض بعد الأفق دارا
وأنزلنا إلى بطن الأديم
وأفهمنا القضاء وما فهمنا
وقل ما شئت في لغو العليم
وكسرت القوادم والخوافي
وهيض العظم في الجسم الكليم
صحونا للحياة وما تراه
من الخلق المقبح والذميم
فمن حذر إلى بخل وذل
وسوء الظن بالخل الحميم
أطل الموت من كثب علينا
وظل الموت أصبح كالنديم
تروعنا الصروف بكل خطب
وخطب الموت أهون للفهيم
وضاعت جدة الدنيا وصارت
كأطمار على جسم العديم
يحاربنا التذكر والتمني
كلا الأمرين يفضي للهموم
وقدما قد نعمنا بالتمني
وأملنا الخلود على النعيم
وليت الذكر، وهو نذير شجو
يدوم برقة العهد القديم
سننسى أننا كنا قديما
على هام الثريا والنجوم
بيان ماض وحاضر (أنشودة)
عهدي بالعيش على رغد
عذبا كالماء حساه صدي
نغم والدهر يوقعة
يسري كالنشوة في الجسد
يا ليت الدهر كمن يشدو
بأغان إن يطرب يزد
إن قلت أعد نعمى عادت
كترنم ذي النغم الفرد
حسنات كنت بها ثملا
ذهبت في الدهر فلم تعد
آمال كنت بها شغفا
نظر الولهان إلى الخرد
أحلام كنت بها جذلا
قد شح النوم ولم تجد
وشباب ذقت به خلدا
في طرفة عين من أبد
لو دام دوام الخلد لما
نقع الظمآن من الصفد
لو عاد بذلت له ذخري
من مطرفي أو متلدي
بشعاع منه أعيش مدى
دفء للشمس على بعد
آب التذكار له شبحا
أو قبرا شيد لمفتقد
ما خلف لي دهر ثقة
بمآل فيه أو أحد
يا نبع الماضي لو عاد ال
وراد إليك على جدد
لرجعت إليك رجوع صد
لم ينهل قبل ولم يرد
وغدا ماذا يا دهر ترى
قد قدر لي بضمير غد؟
صور الصداقة والعداوة
وفي غادر سمح حقود
أرى الأضداد فيك إلى لقاء
أمدحك لي انتقام من عدو
أساء إليك أم محض الثناء
وفاؤك كي أبادلك التحايا
أذا سبب التقرب والتنائي؟
وكيما أصطلي وأشن حربا
على من مدحه لك كالهجاء
أتخدعني ولم تلحق بسني
ولم تظفر بخبري أو بلائي؟
وتمذق لي إخاءك مذق حقد
علي وما أصبتك بالعداء
تحاربني وتحسب أن ستخفى،
عداؤك ليس يظفر بالخفاء
كشأن نعامة للرأس تخفي
وتحسب ما لها في الناس رائي
ولست بأول المخفين بغضا
نما بين المحبة والإخاء
عرفت الناس قبلك يا خليلي
وذقت الغدر من حلو الوفاء
فإن كان الولاء كما أراه
فويلي من وفائك والولاء
وبعدا للمديح وإن تغالى
وسحقا للمروءة والصفاء
سل الخلان ما فعلوا بقلبي
وهل أبقوا لشدقك من غذاء
وهل أبقوا لبطنك منه شلوا
مريرا لا يساغ على عداء؟
أعيذك أن أراك شبيه قوم
رجولة بعضهم فقد الحياء
وهم فقدوه من ذل وعار
وهم فقدوه من فقد الإباء
وكم أخفوا رخاوتهم بهجر
كمن فقد الحياء من النساء
وهم مثل الهلوك رمت رجالا
بما قد صح فيها من هجاء
على الأواب واقفة تنزى
وترمي القوم من دان ونائي
وتحسب أنها نفضت خناها
كجلد الكلب هز لنفض ماء
فلا يعديك خلقهم فإني
رأيت الخلق يعدي كالوباء
صفحت ولو أردت بلغت ثأري
وقد عرف اقتداري في الرماء
فإن يأبوا وإن تأبى سكوتي
فما صمتي بعي الأدعياء
ولا يعليك بين الناس خفضي
ولم تبعد بأفقك عن مسائي
لتنزلني إلى حيث استقرت
بك الدنيا تفنن في العداء
تخبرني اللحاظ بغل قوم
على ما نلت من فرص الرخاء
وكنت أظنه حسدا لقولي
فخلت الصمت أقرب للنجاء
ولو سمعوا بموتي ما استراحوا
ولا يشفي حقودهم فنائي!
أرادوا لي الممات ولو دهاني
لفرط الحقد أحسد للفناء!
فلا يرضيهم عيشي رخيا
ولا يرضيهم مني عفائي
وفي الدنيا الدنيئة هان سمح
تعالى عن سلاح الأدنياء
إذا ما أحرجوا سمحا كريما
تدرع بالقواذع في الرماء
دعوني صامتا فالصمت أوقى
لكم إن لم تصولوا بالغباء
أداجي الناس ما داجوا وإني
لأزهد في الدهان وفي الرياء
ولكن الحياة لها قضاء
فمن يأباه يزهد في البقاء
وما أدري لدن ألفى عدوا
أأبله أم تباله بالعداء؟
أخوفه أذاي أخو دهاء
أخوفه ذكائي واعتلائي؟
أنمق وعده بالخير إما
تمادى من تمادى في الجفاء؟
أسعي سعاية أم قول واش
يحكمه المحكم في الخفاء؟
أرجاه مرجي الخوف مني
ضلالا نيل عوني أو ثنائي؟
أعدوى في التثاؤب من كسول
كعدوى في العداوة والإخاء؟
أرشح اللؤم في رهط وضيع
يفيض بما يشاء من الأداء؟
ومن عرف الأنام رأى أمورا
مرعبلة كرعبلة الكساء
أراها كلها صورا تنزى
تنزي الآل في الخرق الخواء
سراب لست أتبعه فأخشى
هلاكا لا، ولا هو من رجائي
أنا المرء الذي عرف البرايا
فلا يردى لعاد أو لشائي
ومن خبر الأنام لصنع فن
فكل الخلق من صور الأداء
تراموا بالهجاء فإن أصابوا
فرهطهم الملطخ بالهجاء
أليس الرهط فردا ثم فردا
وأوصافا لها عدوى الوباء؟
نعتم رهطكم لما نعتم
نفوسكم بأوضار الرماء
نفوسكم معرة كل رهط
ومدرجة الشعوب إلى الفناء
ومهزلة المكارم والمعالي
وهل لؤم يئول إلى علاء؟
لعلكم حسبتم كل شر
إلى عود بخير وانتحاء
الهاربون من القضاء
أتظل موهون الجنان مروعا
قلقا من الآفات والأقدار
تخشى الحياة ولست تخشى ميتة
هبها نصيب الموت في الإصغار
قلقا تطل على الحياة كأنما
منها وقفت على الشفير الهاري
تخشى الحياة وكذبها وسفالها
وصيالها في قسوة الغدار
والحي يأكل من حياة مثيله
لحس الضواري للدم المدرار
وتطاول المغمور ينحو نابها
كتطاول الغرقان في التيار
متشبثا منه بعطفي سابح
ليجره لمهالك وبوار
كل يخال الدهر إن هو عاقه
خطب الجميع بقاصم الأعمار
والموت يعصف بالدهور وأهلها
فكأنها صور الخيال الساري
فعلام تخضع للتناكص والأسى
وتخاف حكم الله في المقدار
والقلب يلمسه الأسى فيهزه
وكأنه وتر من الأوتار
وعلام ترتقب الزمان وصرفه
والغيب وهو محجب متواري
عمري لو ان الغيب عاجل وانقضى
لقرأته خبرا من الأخبار
فمتى ترى صور الحياة صحائفا
وكأنها سفر من الأسفار
لا إنها أمر تزاول صرفه
وتظل تعدو منه في مضمار
أو تغتدي بين الأنام مغامرا
تسعى على سنن لهم وشعار
فإذا أسيت أسيت طرفة ناظر
وإذا نسيت نسيت كل عثار
وكذبت ما كذب الأنام ولم تجد
في قسوة من خسة وشنار
ونسيت ما جلب الزمان لأهله
من محنة أو مهلك ودمار
فتقول للقلب المروع إذا نزا
حذر الحياة وصولة الأشرار
يا هاربا من صولة المقدار
أتراك تفلت من يد الأقدار!
اهرب إذا ما اسطعت في أزل الدنى
أو في مدى الآباد والأدهار
أو في الممات وما تلاقي خلفه
بين الفناء ومعقل الأسرار
تعدو ويدركك الذي خلفته
كالليل ليس يفر منه الساري
كل من العيش المروع هارب
لو فاز خلق في الدنى بفرار
بالفن أو بالعلم أو بمجانة
أو بالسطا والجند والأنصار
فإذا القضاء مآلهم ونفاذه
كحصاد كل وسائل المختار
سل صفحة التاريخ كم قوم به
أجراه مجرى الدهر في مضمار
أقوام أدهار مضت بعض لها
ذكرى وبعض ما لها من داري
قد أبدلوا طبع السفال بأنفس
من طبعها المتصاعد السوار
صاروا إذا غضبوا وإن سروا وإن
درجوا لأمر ثالث بمدار
يتمرغون مجانة فنفوسهم
وجسومهم كمزابل الأقذار
وصموا الشباب ولم يكن من طبعه
خلق اللئيم العاجز الغدار
إن الشباب مروءة وسذاجة
وترفع ينبو عن الأوضار
تخذوا السفال مجنهم ليصونهم
من صولة الغلاب والمغوار
فغدا السفال سعادة ومسرة
عبث الخنا ومجانة الفجار
نبذوا الحياء وكيف ترجو أمة
للنائبات مجانة العهار
قد خيل في فقد الحياة رجولة
فقد الحياء رجولة الدعار
طبع المجانة عم حتى خلته
كيدا يحاك عليهم بسرار
أم ورثوه عن الجدود غنيمة
يطفو الذليل بها على الأقدار
ويذل من عنت الحياة وضيمها
بسعادة المجان والفجار
وتكايدوا كيد العبيد ولم يكن
كتنابذ بطبائع الأحرار
واستمرءوا مرعى الغباوة والخنا
إلف السجون لطول عهد إسار
هزموا الدهور الغازيات بهزلهم
فمضت وظلوا رهن عقر الدار
فإذا الدهور جديدة قهارة
وإذا اللئام فريسة الأدهار
درجوا على درج الحياة إلى الردى
من بعد جهل راقهم وصغار
صديق البلاء
يغدر الناس في الشقاء ولكن
عذره في الرخاء لا في الشقاء
إن تفد نعمة علي تلظى
حسدا لي وكان من أعدائي
فإذا الدهر مال بي كان بكا
ء على محنتي وطول بلائي
المواسي في الحزن حتى إذا ما
كنت في غبطة سطا بالعداء
في سقامي حلو الحديث شهي
وهو يرجو أن لو يخلد دائي
فإذا ما صححت عاود بغضي
ويله لو أعد في الأقوياء
لدهاه الأسى وطال عليه ال
هم حتى يموت بالبرحاء
إن هجاني العدو أحسن قولا
دافعا فرية العدا بالثناء
فإذا ما مدحت هم بقتلي
ورماني بقذعه والهجاء
يا صديق البلاء عطفك في النح
س رياء أبغض به من رياء
إيه يا قلب ما دهاك من الخلا
ن أدهى من صولة الأعداء
خلت أن الصديق مثل نسيم
نافع لازم قليل العناء
لا تنال الحياة إن لم تنله
بره كالإخاء خير غذاء
إن تقدمت لا يعوقك منه
عائق في منادح الأرجاء
ويعي ما تقوله ثم لا يل
بث حتى يذيع في الأنحاء
من مديح تطري به مجدك الأم
جد أو لبك السني الذكاء
إن ترده تجده أو لم ترده
لم تخف منه زورة الثقلاء
ما اختفى في دخيلة منه إلا
ما بدا ظافرا به كل رائي
ويك إن النسيم قد يرمد الطر
ف بسافي التراب والأقذاء
وهو مثل الصديق حرا وبردا
في اختلاف الحالات والأجواء
وله عذره إذا اعتكر الجو
وأنحى بالصرصر الهوجاء
وعلى غرة يبلك بالمط
رة من بعد رونق وصفاء
وهو خدن الممات واسطة العد
وى رسول الوباء والأدواء
عجائب مألوفة
أليس عجيبا أن أحد بميتة
ورأيي أتي للخلود نظير؟
وإني أقضي العمر في جد آمل
وأعلم أني للفناء أسير
وإن دهورا بعدنا، ثم بعدها
دهور، توالى بعدهن دهور
وإن على هذا الثرى عاش قبلنا
شقي بما نسعى له وأسير
ولست ترى من لا يرى أن نفسه
لباب لهذا الكون وهو قشور
فلم يجده إعزازه النفس إن دنا
رداه فلم ينجد عليه نصير
ويعلم كل الناس هذا ولم يكن
ليردع عن بغي الحياة مغير
وأن أرتضي للطرس ما أنا قائل
وإن راعني أن الحياة غرور
وأغضب إما سبني فم هالك
وأعلم ما يؤذي الغداة هرير
وأرهب صرف الدهر في كل طارق
وأعلم أن الدائرات تدور
وأعلم لا يبقى سرور ولا أسى
وأحل حبور أم أناخ ثبور
أليس عجيبا أنني اليوم عاجب
وعل حياة ما حكاه سمير؟
وأن لا أرى الشر الذي لا يمسني
وأحسب أني عالم وخبير
وإن كان علم فهو أني أخاله
دهاني وإلا فالبعيد يسير
وأنكر ما قد كنت في السعد مادحا
به الناس إلا أن يعود حبور
أليس عجيبا أن نناط بمعجب
من الرأي والمزجي الفعال شعور؟
وإن وجوه الكون فكرة ناظر
سيفنى، وكنه الكائنات ستير
وأبغي صلاح الكون والناس مثلما
مضى في بناء مالك وأجير
كأني خلقت الكائنات وأنني
على الناس قاض حاكم وأمير!
عند بحر مويس شتاء
كم خشع العابر من قبلنا
على ضفاف النهر وقت الأصيل
أو في مساء إذ ترى ظلمة
قد عششت في الدوح دوحا كفيل
وربما كنا الألى قد مضوا
وإن نأى الظن وعز الدليل
وما الذي ينأى بنا عنهم
من منظر أو خاطر أو ميول؟
كم منظر تحسب إما بدا
من أخذه الفكر ووهم الذهول
أنك - والقلب خبير به -
أجلت قدما فيه لحظ المجيل
الدوح كالمفكر في هدأة
إذ سكن الجو سكون الكهول
أو ثاكلات طال ثكل بها
فسكنت من شجوها والعويل
أو صمتت من طول ما عمرت
كصمتة الشيخ الوقور الجليل
والنهر كالزئبق في لمعة
وركدة ما إن بها من مسيل
عهدته في صيفه لؤلؤا
لو أن للؤلؤ سيلا يسيل
والسحب كالأشجار قد عرشت
في الأفق تبدو مثل ظل ظليل
أو قطع من حلم غامض
أو كمثار النقع أو كالطلول
والجو قد روع من قره
كأنه قر ممات يصول
أنفاس ثغر الموت في قره
تخرج من ثغر لجسم محيل
والأرض غبراء سوى ما بدا
من عشها منتشرا كالفلول
كأنما الدجن غدا تربها
وتربها الجهم كدجن سديل
تشابهت في اللون عهدي بها
في صيفها، واللون غير القليل
عهدي بها كالخود في غرسها
زاهية الأصباغ شتى الذيول
خيل حدادا إذ دجا لونها
وهو كعقب العرس حتم البديل
خلاعة للصيف خلابة
وفي الشتاء الحسن جم الفصول
تباين الحسنان في روقة
لكنه زاد جلال الجميل
كم متعة جاءت بها رهبة
كرهبة البرق وعادي السيول
قرب الموتى
يا روح إلف أليف الموت والحفر
قومي اسألي عن أليف الهم والسهر
أو فابعثي هاتفا بالليل يؤنسني
لو كان للميت من شوق ومن ذكر
وحلقي فوق قوم كنت زينتهم
كالطير تهبط فوق الوكر في الشجر
فإن نورك نور النجم يرشدنا
ورحلة العيش تحكي رحلة السفر
أو كالملائك تهدي وهي خافية
وتشعر النفس طهرا ليس في السير
عجز عن الشر لم أبصره في نفر
يا شر ما خلف الأحباب من نفر
غرارة ربما لو عشت ما بقيت
إذا عداك الردى عن مهبط البشر
هل تلك طبع الصبا تودي الحياة به
لا بل غرار فؤاد غير ذي نكر
فصانك الله في أمن وفي كنف
وقدس طهر كصون المرء للذخر
كأنما أنت ذخر لا يجود به
على الدنى وهي من ضير ومن أشر
ما أقرب الميت من حي وإن بعدت
مكانة بين هذا الورد والصدر
إن الألى خلفونا بعدهم ومضوا
ما خلفونا وإن غابوا عن النظر
هم في الأماني والأوراح والذكر
منا وفي القلب والأشجان والفكر
فكيف تجزع من فقد وما انتقلوا
إلا إلى النفس حرزا ريم من غير
يا قرب دارهم من واصل لهم
بالنفس إن لم يكن بالعين والأثر
ووحشة النفس من حي يغايرها
أشد من وحشة في السمع والبصر
من حاضرين وإن ماتوا وإن بعدوا
وإن غدوا كحديث الركب والسمر
ورب ذكرى تعيد الميت في شبح
يكاد يلمس لولا رادع الحذر
ماض من الدهر والأقوام يخبرنا
أن لا مسافة بين المهد والحفر
نحن والزمن
مقدمة
الزمن كما يفهمه الإنسان فكرة من أفكاره، ونسبة ومقياس من صنعه، فهو يقيسه بإحساسه بأمور نفسه، وبالمرئيات والمحسوسات وما يعتريها من تحول، وفكرة الزمن هذه أمر نسبي، شأنها شأن الإحساس بالحرارة والبرودة، أو بالأبعاد والحجوم والألوان والأشكال، ومن المستطاع أن يتصور العقل مخلوقا آخر غير الإنسان يختلف في حواسه، فتختلف كل هذه الأمور في نظره عنها في نظر الإنسان، وهي أيضا قد تختلف في حواسه، فتختلف في حواسه، فتختلف كل هذه الأمور في نظره عنها في نظر الإنسان، وهي أيضا قد تختلف في نظر الإنسان في حالاته المختلفة من شقاء أو سعادة، أو مرض أو صحة، والعجيب أن الإنسان في خياله ينسب إلى الدهر مثل هرمه لقدمه، فيصوره كأنه شيخ مفن في يده منجل، يحصد به الناس والخليقة، جيلا بعد جيل، والدهر خليق أن يمثل بفتى في ريعان الشباب!
فالإنسان يهرم، والدول تشيخ وتفنى، والأجيال تنقرض، والدهر هو الدهر. ومن أجل ذلك تصور بعض المفكرين الدهر كأنه زمن حاضر لا ماضي فيه ولا مستقبل، وأما الماضي والمستقبل ففي الناس، والحقيقة أن هذه الفكرة في كنه الزمن لا تختلف عن الأولى ما دام الزمن نسبة يقيسها الإنسان بإحساسه.
وإذا كان الزمن كذلك فمعاداة الناس للزمن معاداة لأنفسهم، ونسبتهم الحيف والظلم إليه هي نسبة الظلم إلى أنفسهم!
الناظم
ينشد البحر خرير الحقب
أم خفوق القلب نبض الزمن
أم ترى الأفلاك في دوراتها
رتلت منه خفي اللحن؟
فرش الناس له منهم وجوها
خدد الدهر بها ما خددا
أثر في سيره من قدم
جعدت ما كان بضا أمردا
زعم الناس إذا أمضاهم ال
دهر أن أمضوا من الدهر سنين
يستطيع البذل من يقوى على
خزنه، هيهات ذا من هالكين
كم ملوك ودهم لو تشترى
منه عند الموت بالذخر التليد
سنة أو ساعة أو طرفة
فإذا الدهر قضاء لا يحيد
إيه يا دهر لقد شاطرك ال
حكم في الناس قضاء لا يحول
أرده يا دهر واعقد غيره
إنما القرن على القرن يصول
كم شقي أبطأ الموت له
وده أن لو يكون الأسرعا
سلم الدهر عليه مثقلا
ثم ما أبطأ حتى هرعا
وسعيد يجتني من عيشه
زهرا يرجو لو الدهر تأنى
فسواء متعس أو مسعد
أين من يحمد خطو الدهر أينا؟
نحن نبغي من زمان فسحة
هل ربحنا من زمان قد قضى؟
لو يعود الدهر مردود الخطى
لفعلنا فعلنا فيما مضى
وصفوا الدهر بشيخ حاصد
أشيب في يده كالمنجل
وهموا في شيب دهر يافع
ذي فتاء خالد لم ينصل
يسرق الدهر بهاء رائعا
ويعير النؤي حسنا أروعا
فهو كالرسام يمحو صورة
ثم يستنبط رسما أبدعا
وترى الدهر مغيرا آسيا
يده تأسو وأخرى تجرح
والذي في القوم بالرزء يصول
يمنح السلوان فيما يمنح
ولعل المضمر المخبوء من
مصرع الدهر يرى بالأعين
مصرع الدهر ممات للدنى
كيف يبغيه الورى بالإحن؟
موته موت لمن قد قاسه
باتصال الفكر أو خفق القلوب
عجبا نحن خلقناه فما
نسبة الظلم إليه والعيوب
أقوام بادوا
مفتاح القصيدة
جعلوا لطبع اللؤم كل قداسة
وتحرزوا من سنة المختار
المختار هو النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكل من نبذ الله ورسوله، لا بد أن يصير إلى ما هو موصوف في هذه القصيدة من الصفات؛ ونعني بالنبذ نبذ القلب وإن لم ينبذ اللسان، ولا نعني أحدا بالذات، وإنما هي صفات يعرف كل متصف منها أنها شائعة حيث الاضمحلال والبوار.
الناظم
تركوا اللباب وشاقهم ما شانهم
من بهرج في مطلب غرار
عاشوا عبيد كلامهم لم يدلفوا
من خلفه لحقائق الأفكار
جعلوا حطام اللؤم أعلى مكسبا
وأعز محمدة ليوم فخار
يخفون أوزار النفوس بمنطق
فينم فاضح خافي الأوزار
حسبوا اغتياب الغائبين مطهرا
لنفوسهم من خزية أو عار
كل يغار من الإجادة جهده
مثل النساء تغار كل مغار
يحكي عظيمهم الحقير سفالة
متكثرا بدناءة الأنصار
يخشى البريء قضاءهم من خطة
لم تعف ناسا من هوى الأصهار
العدل فيهم أجر كل مملق
جعل النفاق عصابة الأبصار
كل يعاقب من يريد أليفه
ضرا له لا الكره للأشرار
الكذب عجز فيهم وخساسة
والصدق عبد مزدرى متواري
ندم المجيد على إجادة قوله
أو فعله من ضيعة وضرار
الضيم ما يجزى اللئام مجودا
فيصون كل عجزه لفخار
سبق بمضمار الحياة يحوزه
متخلف بالغش في المضمار
وتفرقوا إلا لدى التهويش وال
تضليل فهو مؤلف الدعار
وتخالهم حشرات روث ما لهم
إلا به حظ من الإكثار
وكأن كل إجادة قد دهورت
من عقلهم في بؤرة الأوضار
فكأنما أذهانهم بالوعة
أخفت نفيس الدر في الأغوار
كل يلوذ بإثرة ويخالها ال
إيثار بئس مزيف الإيثار
ففعاله ومقاله وسكوته
للؤم لا فضلا وحسن جوار
دأبوا على إفخاء حق، ما لهم
في حجبه من مكسب ونضار
لؤم لعمرك لا مدى لصياله
وضئولة تحدو لسفل قرار
الطيش أغلب للتأمل فيهم
حتى لدى العظماء والأخيار
سبق اللسان حصاتهم فكأنما
سكر العقار لهم بغير عقار
رانت على مهجاتهم وقلوبهم
وعلى الحجا والسمع والأبصار
شيم تورث حقبة عن حقبة
كتخلف الأرجاس في الأنهار
أو ما دهى أوصال جسم من ضنى
يمضي ويترك باقي الآثار
جعلوا لطبع اللؤم كل قداسة
وتحرزوا من سنة المختار
هات المربي للكبار ولا تقل
يا أين معوز رشده لصغار
هيهات يصلح نشء قوم لم يجد
خلق الكبار يضيء مثل منار
عدوى الضئولة والخساسة فيهم
عدوى الوباء تسير كل مسار
قوم إذا ابتدروا السباب رأيتهم
يطلون موضع عرهم بالقار
متعاظمين على نجاسة أنفس
نتجت نتاج الدود في الأقذار
ستر الخسيس خساسة بخساسة
في أنفس الأعوان والأنصار
متعظما يبدو كريما ساميا
متحليا بفضائل الأطهار
وترى الوقار ولا وقار وإنما
أخفوا دعارة أنفس بوقار
ودعوا إلى الإصلاح دعوة مائق
يسعى إلى الأرباح سعي تجار
هم يبتغون الجاه إن لم يبتغوا
مالا بدعوة مصلح ثرثار
لم تدر وحي المصلحين حصاتهم
فتشبثوا بزوائف الأفكار
صارت وسائل عيشهم ما غاله
من طبع لؤم سائق لبوار
فقد الحياء صغارهم من ضيعة
فغدوا كبار الفخر غير كبار
صنعوا الأذى من غير ما سبب ولا
يؤذي لغير القوت وحش ضاري
ضلت غرائز شرهم عن أصلها
في صون عيش أو لدفع ضرار
فغدت دناءة أنفس وخساسة
كيدا بلا كسب ولا أوطار
وحديثهم كالحك يهتك عرهم
فأخو السفاهة منه كأس عاري
العدل ما وهب السمير سميره
والرأي للأوشاب والأغمار
جرؤت صعاليك على ما لم يكن
في فهمهم، فقضوا بغير تماري
فوضى لعمرك لا صلاح لشأنها
كيف الصلاح لأمر هاو هاري؟
عادوا الذكاء خساسة فكأنما
نبذ الذبالة في الظلام الساري
إلا الدعاوى الباطلات فإنها
عادت كعود مزيف الدينار
يتمرغون مجانة، فنفوسهم
وجسومهم كمزابل الأوزار
كتمرغ المفلوك دغدغ جلده
عض من البرغوث في الأقذار
العداء والفناء
عفا الجاني وقد بلغ التشفي
وبعض العفو من فرح الشمات
للناظم
قد يعزيك شامت يتشفى
باجتلاء الآلام لا بالعزاء
للناظم
مقدمة
إن العفو لا يكون من المظلوم المجني عليه وحده، بل قد يكون أيضا من الجاني الظالم إذا أقنع نفسه أنه المظلوم، أو إذا أقنع الناس كي ينال عطفهم ومساعدتهم له في ظلمه وشره. وكثيرا ما يساعد الناس الشرير في شره، اعتقادا منهم أنه هو المظلوم. أو لأن مساعدته في الشر ضد المظلوم فرصة لإراحة ميل كثير من الناس لالتذاذ القسوة؛ كما هي الحال في مرض «السادزم» عند إطلاق هذا المصطلح عليه في المعنى الأعم. وهذا النوع من العفو الذي يجود به الظالم إنما هو من فرح الشماتة، وهذا الشعور يشبه شعور الشامت الذي يعزي المصاب، ويخفي فرح الشامت ويظهر الأسف. وهو إنما يعزي كي يرى آلام المصاب أثناء التعزية. وهذه القصيدة تصف النفس الإنسانية بين عواطف الخير والشر. وقد تجتمع الأضداد منها في نفس واحدة من غفران وشمات، ومن حقد الحياة وصفح الممات، كا تصف عبث شقاء الحروب بين الأمم التي يتحالف بعدها الخصوم ويتعادى الأصدقاء.
الناظم
إذا ما دنا الموت من هالك
وأيقن ألا يطول البقاء
وقد زال ما كان من نشوة
ومن شرة نال عنها العزاء
ولاح له عيشه مائلا
وقد بز عما جناه الرياء
وأفهم ما كان من حرصه
وأبصر ما قد طواه الخفاء
يرى أسفا أن عدا أو جنى
وإن كان منه الأذى والعداء
وليس يرى آسفا لاغتفار
دعاه قديما فلبى الدعاء
فليس على صفحه آسفا
ولكن على النيل ممن أساء
أيأسف أن ضاع ثأر سدى
ومتع خصم له بالبقاء؟
عدوان عاشا على إحنة
وباعا السماحة بيع الإماء
أباحا النفاق وكيد اللئام
لنيل الحطام وكسب الهباء
إذا ما دنا الموت من واحد
أيشمت خصم له بالفناء؟
أيفرح مثل الجبان استراح
وبشر بالأمن بعد العداء؟
أيطعنه طعن نذل خصيما
صريع التراب مراق الدماء؟
ومرأى الحمام كمرأى السقام
يذل العتل ويخزي الجفاء
هو الموت يشفي قلوب العدا
ويختم بالصلح حرب البقاء
وقد يطلب الصلح من فرحة
تعير الشماتة ثوب السخاء
وكم من عداء غدا ألفة
فيا عبثا إذ تراق الدماء
كم احتربت أمم ثم عادت
كأن لم تذق في الحروب الشقاء
ألم تسمع الأرض نوح الجريح
يودع حتى جنون الرجاء؟
أما اختلطت بالصديد الدماء
أما أفعم الموت نتن الهواء؟
وكم عنق لقتيل، به
عضاض عدو صريع العداء
عضاض يحاول خلد الضغائ
ن في جسد خلقه للفناء
فيا عبثا لجهود الأنام
سيمضي الرخاء ويمضي العناء
ويصبح من كان خصما لدودا
عزيزا ويبغض إلف المساء
مرأى الجمال وذكرى الجلال
مقدمة
لمناظر الطبيعة الرائعة الجليلة لذة في النفوس مثل مناظر الجبال الشاهقة، والهاويات العميقة، والأعاصير وأثرها، والبحار وأمواجها، وهي تبعث اللذة في النفس حتى في مخاوفها إذا لم تتملك مخاوف مناظرها النفس بالذعر والرعب، وقد ينقلب الحنين المقهور في النفس إلى الجمال فيصير ولوعا بمناظر الجلال والروعة، كما أن مناظر الجلال والروعة قد تشحذ الحنين إلى الجمال وتذكر المرء به، وقد تطغى كل من العاطفتين على الأخرى، ولهما أيضا صلات أخرى غير ما ذكرنا. ومن مسرات التفكير والفنون أن يتتبع الإنسان صلات العاطفتين في نفسه. وهذه القصيدة من قبيل هذا التتبع.
الناظم
ذكرتك في البحار الزاخرات
وفي مجرى السفين الجاريات
كأن البحر حي ذو جنان
وموج اليم نبض النابضات
وفي ذالك الجلال بلاغ راء
وروع للنفوس الواعيات
ولكني ذكرتك يا حبيبي
كما حن المريض إلى الحياة
كما حن الهزار إلى ربيع
وأفنان الرياض على الأضاة
وكم غلب الجمال على جلال
كما غلب الرقاد على التفات
ذكرتك والقبور ترد طرفي
وتسخر من هيام بالشيات
وتخبرني بأن الحب فان
وأن العيش صنو للمات
ولكني ذكرتك يا حبيبي
وذاك الذكر خير الذكريات
ذكرتك والسقام يبيد لبي
ويسلي النفس عن ماض وآت
ويلهي النفس عن حب وشعر
وعن سحر العيون الساحرات
ولكني ذكرتك يا حبيبي
كذكري للسنين المقبلات
ذكرتك في الطلول الدارسات
وآثار العصور الغابرات
أرى الأهرام كالأعلام تزهو
على عبث الصروف المهلكات
فأبصر من مضوا وأرى اعتزازا
لهم بالمصبيات الفانيات
فيضؤل عيش هذا الناس حتى
لينسى المرء ذكر المصبيات
ولكني ذكرتك يا حبيبي
كذكري للأمور الخالدات
حواء الخالدة (من شعر الصبا)
أنت يا من ألفت بين الفنون
وهي لولا ما جنت منك ظنون
دوحة الفن التي تحبو الورى
بجناها من قطوف القاطفين
كل لحن أو قريض أو دمى
نحتت أو صورة، منك تكون
كل من قد خلبت لب الرصين
من حسان جمعت سحر الفتون
كنتها للناس حالا بعد حال
تحفة فاتنة للناظرين
فلبست الحسن شكلا بعد شكل
وخبرت الحب حينا بعد حين
ورأيت الكون في ضحوته
وفهمت الناس في ضيق ولين
كنت أما، كنت أختا، كنت زوجا،
كنت في البؤس عزاء البائسين
فعلى صدرك يبكي همه
وأساه موجع القلب حزين
كم نفوس وقلوب بسطت
لك ما تضمر في ماضي السنين
فعرفت القلب ما ينشده
وعرفت النفس والسر الكمين
وقرأت الروح دهرا بعد دهر
وبلوت الخلق في مر القرون
أي قلب مغلق لم تفتحي
أي سر للورى لا تعرفين؟
كنت حواء التي من أجلها
يندب الفردوس كل العالمين
وقليل لك يا حواء أن
يفقد الخلق جنان الخالدين
آدم كان بجهل قانعا
ناعما بالجهل في خفض ولين
ليس يستطلع أمرا غامضا
في ثمار العيش والسر المصون
بك شام الكون غضا زاهيا
أكذا الغبن، فيا نعم الغبين
جذوة الفطنة في اللب وفي
نفسه من حسنك الغض شئون
كفري في النسل عن إثم مضى
وثقي في الله خير الغافرين
لم يكن إثمك إلا قدرا
كي يلذ الناس سعد الهالكين
لا يحس السعد إلا هالك
قد أحس الهم في القلب الحزين
كنت هيلين التي من أجلها
خربت طروادة ذات الحصون
وقليل لك يا هيلين أن
يهلك الأبطال في الحرب الزبون
كنت شيرين التي قد ذللت
عنق كسرى وهو ذو الملك المكين
كنت تاييس إذا ما خطرت
خفق القلب كطير في وكون
كنت سيفو إذ رمت بالشعر كال
جمر تذكي لفطه للسامعين
كنت إسبزيا التي قد فتنت
باقتران الحسن والفهم الفطين
كنت ليلى، كنت بثنا، كنت عزا،
باعثات الوجد والشعر المبين
كنت ما كنت ولكن أنت أنت
لك سحر الضوء والليل الدجين!
وغدا كيف تكونين وما اس
مك بين الناس في الآتي الشطون؟
جنون الأقوياء
ملكوا الأرض واستباحوا حماها
واستطالوا بجنة الأقوياء
وسعوا ينشرون في الأرض سرا
منكرا في شريعة الأتقياء
تارة في الخفاء بالمكر يعدو
ن وطورا في جهرة العظماء
أهون الوزر ما أتوه جهارا
من صيال وقسوة وبلاء
والذي في الخفاء أقتل للنف
س وأقسى لصوله في الخفاء
إن رأوا نقص أنفس في خصوم
استزادوه بالأذى والدهاء
أفسدوا أمرهم ودسوا دعاة
كي يهيجوا تشاحن الأشقياء
واستمالوا سمع اللئيم بلؤم
زاده خسة على الأدنياء
كصيال الشعوب بالمكر والكي
د وإن أحرزت صفات العلاء
حللوا للوشاة أن تشتفي من
لاعج الحق بالأذى والعداء
خدعتهم أرصادهم أم رأوا أن
سماحا بشرهم كالجزاء؟
مكنوهم مما أرادوا من الشر
جزاء كخونهم والرياء
ذاك أن العدو أرخص شأنا
من تحامي الإجحاف في الإيذاء
قرظوا العلم والحضارة جهرا
وتقاة لله أو للقضاء
ثم ساسوا بالختل في السر ما شا
ءوا وشاءت جوامح الأهواء
لا رقيب على الخفاء ولا الصو
لة فيه ولا عديم الحياء
عدموه للكفر بالله والنا
س سوى ما رجوا من الآلاء
علم العلم صائلا إنما النا
س كنمل سواؤهم كسواء
زعموا زعمهم وسموه علما
واستطالوا بلؤم ذاك الذكاء
وأباحوا لحقد كل ولي
مثلجا نار إحنة الأحشاء
ثم قالوا وسطروا في ضمير
إنه من ضرورة الأشياء
قس على ما بدا من الشر جهرا
في حروب ونزوة وعداء
ما أجنوه وهو أبلغ في الكذ
ب وفي كل قسوة واعتداء
وقديما جن القوي بما طا
ع له من تزلف الضعفاء
وضعوه في منزل الله كفرا
فطغى واستباح سفك الدماء
ورأى الخير والفضيلة ما شا
ء وإن كان من أذى الأدنياء
ورأى الشر والكبائر ما عا
ف وإن كان سيرة الأبرياء
وكذا المرء وهو ليس ولي ال
حكم يطغى بنصرة اللؤماء
وسواء شعب وفرد وذو السل
طان أو سادر من الدهماء
صنعوا الشر حسبة ولوجه الله
شاهت وجوههم من رياء!
أو لحقد قد موهوه بخير
وتباهوا بحسن ذاك الطلاء
أو برأي الأحرار صاغوا قيودا
واستباحوا في الناس سفك الدماء
وجنون القوي أقبح من قس
وة حسن يقسو بغير ذكاء
إيه لغز الحياة هل دورة لل
شر والخير غير ذات انتهاء؟
لعبة ما أراه أم خبل الأن
فس أم نزوة من الحمقاء
إحن في الحياة مثل خطوط
نسجوها في البردة السيراء
فغدت نهزة الفنون، هو الفن
كنحل يشتار أري الشقاء
هل لسحر الفنون أن دلف الده
ر وساغ الأنام لؤم البقاء
سحرها يترك اليباب عمارا
حافلا بالنعيم والآلاء
ويحيل الخسيس من معدن العي
ش شريفا بصنعة الكيمياء
خطرات في الحياة والموت (عند رؤية جمجمة)
رحيقك يا كأس النهى والمشاعر
ومهبط سر الله بين السرائر
أكأس الحجا أين الرحيق ترشفت
علالاته نشوى النهى والبصائر
أجرعه ثغر من الموت ظامئ
طوى ما طوى من فطنة وخواطر
حوتها عوادي الدهر إلا أقلها
إذا خط لفظ في بطون الدفاتر
بدا الناس جيلا بعد جيل كأنهم
تهاويل سحر أو سمادير ناظر
وما تدرك الألباب منهم عديدهم
إذا استجمعتهم بين ماش وحاضر
كأن لم يلح منهم إذا الموت غالهم
وميض الثنايا أو بكاء المحاجر
ولم يعرفوا الآلام تحسب أنها
ستخلد في جسم إلى الموت صائر
فأين مضت أحقاد قوم كأنها
لهيب جحيم خالد في السرائر ؟
وأين ولوع بالجمال كأنه
زعيم بتخليد الوجوه النواضر؟
وأين فعال يحسب الناس أنها
على جبهة الأيام من وشم قادر؟
وأين جيوش دكت الأرض خيلها
مضت حيث لا تمضي خواطر شاعر؟
وأين الغزاة الفاتحون وقد بدوا
كما تبعث الأشباح نفثة ساحر؟
فهل أنت ممن قد جنته سيوفهم
وداسته خيل تحتها بالحوافر؟
أم ازدان تاج قد لبست بحكمة
بها اسطعت تصريف الصروف الدوائر
وهل أنت ممن دبر الشر لبه
وأحكم زهر النفس جر الجرائر؟
أم الخير ما حنت إليه نوازع
لديك وإن لم تحتقب خير غادر
لقد كنت وكر اللب لو أن عاديا
من الموت لم يهبط عليه بكاسر
بك ارتاع مسعود إذا ارتاح يائس
بذكرى الردى يرجو علالة صابر
قد اختلف الأقوام في العيش والردى
فمن ظافر يهوى الحياة وخاسر
هنيئا لكل ما يرى من علالة
بحسن حياة أو بنجوى المقابر
وما عللت نفس الفتى بمنية
ستطوي هموم العيش طي الدساكر
سوى رغبة في العيش يرهب صرفه
فيعدو على البؤسى بذكرى الغوابر
بذكرى الحتوف الجاليات على الورى
من الراحة الكبرى أجل البشائر
يوم مطير
نهار تدانى الدجن في علو أفقه
مبللة أرجاؤه ومناكبه
خبت شمسه كالجمر يخبو لهيبه
وعاد رمادا حسنه وعجائبه
دجا مثل وجه الهم إلا جلاله
فللدجن سحر يحزن النفس خالبه
ثقيل على القلب البهيج عبوسه
ولكنه قد يسحر القلب كاربه
كما كان بعض الحزن للنفس شائقا
تعاقره في نشوة وتقاربه
ترى قطرات الغيث كالخيل أطلقت
لكسب رهان أحرز السبق كاسبه
وتحسبها كالطير تهفو تنزيا
تنزي الدبى إن أهرق الغيث ساكبه
كأن الصلال الزاحفات على الثرى
تجوس إذا ما الغيث جاست سواربه
كما عاج حيران يمينا ويسرة
من الذعر، شر الذعر ما عاج صاحبه
على الأرض والجدران والدوح قطره
ويدفع في وجه المشرد حاصبه
أيسطو عليه الغيث يغسل نحسه
أم الغيث من لهو تراه يداعبه؟
كلهو غلام ملك القسو قلبه
إذا حيوان هابه فهو ضاربه
سجية كل الناس من هاب شرهم
رموه ببأس اللؤم والخوف شائبه
ويعزو خيال المرء للكون روحه
مناقبه تجلى به ومثالبه
إذا رنق الترب الهواء انبرى له
من الودق طهر يغسل الجو صائبه
ترى البرق فيه مصلتا سيف نقمة
لها الرعد صوت يذهل اللب راعبه
إذا خف كان الغيث لهوا ونعمة
وإن لج لاحت للعيون خرائبه
ويطغى على الوادي بجيش عرمرم
مسالكه مذمومة وعواقبه
يخف على لوح الزجاج فصوته
طنين فراش مر باللوح حاصبه
وطورا يلح الودق منه فصوته
خرير كما يستحلب الدر حالبه
ويرنو إليه المرء من ثقب بيته
كأن غريبا يتقي منه هائبه
وطورا ترى الغلمان تلقط طله
يداعب صنو صنوه ويلاعبه
ترى كل لون بعده قد زها به
كأن طلاء فوقه لج خاضبه
يعلق قرطا في ذرى الدوح قطره
فتحسبه قد نظم الدر ثاقبه
السكون بعد النغم
أفحم الشجو مقول النغم العذ
ب فأمسى هذا السكون المهيبا
مثلما تفحم الشجون خطيبا
صار في صمته قئولا خطيبا
كسكوت العشاق في نشوة ال
حب تناجي فيه القلوب القلوبا
أو سكوت اللهيف فوجئ بالبش
رى ويخشى من حسنها أن تخيبا
أو سكوت الشباب في حلم الآ
مال من قبل أن تعاني المشيبا
أو سكوت الخشوع في صلوات ال
قلب صار البعيد منه قريبا
أو سكوت الأم الرءوم حنانا
وابنها نائم حمته الخطوبا
حلمت حلمها بما سوف يسعى
في مساعيه جيئة وذهوبا
من ثمار الحياة تختار أحلا
ها له نعمة وسعدا وطيبا •••
نغم خلفت بوارا للحن
دق عن أن تصيب سمعا طروبا
وكأن لم تزل بمسمع مسحو
ر من اللحن آمل أن تئوبا
فهو يصغي لعودة الصوت منها
وهي في نفسه تدب دبيبا
سحر القلب شدوها أم سكون
خلفته فكان سحرا حبيبا
عجب يسحر السكوت أم اللح
ن يناجي في ذا السكون الغيوبا
وكأن الأصداء من بعدها في ال
نفس تشدو وتستثير الوجيبا
هامسات في النفس همس مسر
بائح بالهوى ويخشى الرقيبا
في سكون كأنما هدأ الكو
ن خشوعا لها وسحرا عجيبا
هدأة الكون في المساء وقد يخ
شع راء والشمس تحدي غروبا
فكأن الحياة عادت سكونا
كسكون الردى رهيبا مهيبا
تحسب الدهر ساعة دقها قد
منع الصمت صوته أن يجوبا
ساعة توهم الورى أن هذا ال
كون قلب ما إن يحس وجيبا
تحسب الدهر مسقط الماء غال ال
ماء فيه جموده أن يصوبا
فدوي بالذكر في النفس منه
وسكوت في الأذن يسبي القلوبا
قيد الماضي
أخذنا عن الماضي قليلا من النهى
وأكثر ما نلنا الهواجس في النفس
فمن غامض لا يدرك الفهم فهمه
ومن واضح كالخط في صفحة الطرس
فمن قسو ذي خوف من الموت والأذى
ومن ضغن مهموم من الفكر والحدس
ومن حقد ذي حقد يرى العيش كله
ظلامة مغلوب على الغد والأمس
ومن كيد لاه أشرب العيش قلبه
لذاذة صنع الشر في الجهر والهمس
ونلنا، وما زال الذي كان كائنا
يدافع عنه المرء بالسيف والفلس
يدافع عنه المرء بالحق والهوى
ويسعى له الأضداد ندبا إلى نكس •••
ويغرى به حتى الذين شقاؤهم
بأن يخذل الإصلاح ضغن ذوي النحس
حقود قلوب لا يداوى فسادها
فتدعو ذوي الآمال فيهم إلى اليأس •••
يريدون منع الحرب والحرب سنة
إلى أن تفيق النفس من إثرة النفس
فهل يدركون الطهر من قبل عمرة
وطينتهم معجونة الدم بالرجس؟
ويا ويلهم شبت عن الطوق حربهم
وأزرت بفعل السيف والروح والترس
وظلوا حيارى خشية من دمارها
وكل يرجي نفع أحداثها الحمس
وكل يعاف العدل إلا لنفسه
سجية لؤم هل تزول من الجنس
وتأبى سجايا الشر طهرة عادل
تغير فيهم مأتم العيش بالعرس
سواء لعمري طبع فرد وأمة
هم الأنس ما أبدوا سوى نجس الغرس
وكيف تزول الحرب، والسلم بينهم
كحرب طغت بالقهر والمكر والخلس؟
وكم قدسوا قدسا لتطهر أنفس
فأزرى جوار النفس بالدين والقدس
خميرة عيش شرهم وحقودهم
فكيف يراد العيش للأمن والأنس؟
بناء المعالي كان بالشر قائما
وما طربوا إلا إلى نغم النحس
وما شربوا من لذة العيش شربة
صفا ماؤها من كدرة الهم في الكأس
غفلنا ونام الهامدون، وفوقنا
نجوم الدجى زهر على قبة الرمس
فإن كان خلق الناس للعجز والأسى
ولم يستطيعوا البرء من خطل المس
وأعجز أوصاف الأطباء داؤهم
ولم يشفهم من شرهم عمل النطس
وإن قبسوا من شعلة القدس قبسة
فما صانها العادي ولا فاز بالقبس
فإن ارتهان المرء في سجن شره
إذا جدت الأحداث شر من الحبس
وإن انغماس المرء في لج أمسه
كما يغرق الغواص من نهكة القمس
وإن رسيف النفس في قيد شرها
كما يخلد المحموم في خطأ الحس
يقولون إن الحق في الناس قوة
وأقوى من الحق الجهالة في النفس
صوتك
صوتك صوت السلام تألفه الأن
فس بعد الكفاح والظفر
أو مثل صوت الطيور في وضح الصب
ح نشاوى من غير ما سكر
صوتك صوت الربيع يبعث في ال
روض حياة الطيور والزهر
أو مثل صوت الحياة ظافرة
عابثة للجمال والصور
يطرب مثل الصدى الخلوب إذا
ردده الريف في سنا القمر
أو مثل شدو الشجي يسمعه السا
هر في هدأة من السحر
من عالم الخلد خيل منبعثا
لعالم الفانيات والغير
تنال منه الأسماع فتنته
وتقتضي مثلها من الأشر
فهو كمعنى يضفي لسامعه
مواردا ثرة من الفكر
أو عين دعجاء، في محاسنها
عمق كعمق البحار والدرر
تأخذ منها العيون أقربها
وأبعد الحسن أطيب الأثر
صوتك صوت الشباب والعمر
ما دام فان فات بالعمر
أو مثل صوت المنى السحيقة
والحب وصوت الداعي من القدر
كلاهما نافذ يلبى على
ما كان من قسمة لمؤتمر
شفق الغروب
شفق الغروب وإنه
سحر تراح له القلوب
وكأنه الأنماط أع
لى صنعها فن عجيب
خدرت ذكاء كأنها ال
حسناء يرقبها الرقيب
وكأنها الملك المحج
ب في تحجبه رهيب
بستار ملك حاك رو
نق حسنه الحذق الأريب
عبأت مفاتن لونها
والحسن معشوق مهيب
والحسن أبهى حين رو
ق الحسن روع لا يريب
روع لمهلك كل يو
م لا يقيم ولا يئوب
كم مر في يوم مضى
أمل يحقق أو يخيب
وأسى يخال مخلدا
فإذا به ذكرى تنوب
والعيش ألوان وبع
ض العيش من بعض قريب •••
شفق على أفق البحا
ر به سفائنه تغيب
سود تشابه عنبرا
في يمه ذهب صبيب
وكأن صفحة مائه
نور على نور يذوب
من منبع الذهب استقى
أم أنه ورد يصوب
أسفائنا قد حملت
ما يحمل الرائي الطروب
شوقا إلى وهج على
أفق كما حن الغريب
والنفس تنشد مرتقى
كل على وطن يلوب •••
وعوالم للسحر تع
رفها وتنشدها القلوب
لاحت على شفق الغرو
ب كأنها الحلم الحبيب
نار تؤجج في الغدي
ر وحلية المرج العشيب
والشمس تبدو في المنا
قع ماسة مثل اللهيب
ماء ونار جمعا
في المنظر العجب العجيب
وتوهج كدم يلو
ح بلا قتيل أو حريب
كدم الرحيق بنشوة
رد الكهول عن المشيب •••
وعلى المزارع هابط
بجناح ذي الريش الخضيب
وهدوء ذي السمع المصي
خ وراحة القلب المجيب
وعناق أرض والسما
ء به وبالدغش العقيب
وعلى البهائم وحشة
من غير مكروب كثيب
مفتاح القلوب
هل عندك الخبر والخبر
عن معلن السر يا قدر؟
فهبه لي أتق الأعادي
وأعرف الصادق الأبر
من قبل أن أنقم العوادي
وألعق الصاب والصبر
فأعرف الحافزات طرا
إلى المودات والسير
يا طالما غرني ابتسام
كم باسم قلبه كشر
قد حرت دهرا وحار مني
قوم تهاب الذي استسر
هل عندك الخبر والخبر
عن معلن السر يا قدر؟
ليقرأ العاذلون غيبي
ويأمن الحب إن نفر
وا حر قلبي إذا تناءت
وخالني الغادر المكر
فيعرف الخل أن قلبي
أصفى من العذب في الغدر
قد أخفق الحب في بيان
وأخفق اللحظ والبصر
وأخفق العيش وهو سفر
تبلى على الحازم الحذر
هل عندك الخبر والخبر
عن معلن السر يا قدر؟
الأندلس العربية
جنة لم يظفر الدهر لها
بمثيل، جنة الأندلس
إذ دجت أقطار أوروبا بدت
في ظلام الدهر مثل القبس
أو كنجم يهتدي الساري به
في ضلال المسلك الملتبس
أو كناد يأنس الضيف به
موحشا في البيد وسط الحندس
أهلها الغر الألى قد ملكوا
بالنهى منهم عنان الشمس
عمروا الأرض وأجروا ماءها
وزها كالسحر نبت اليبس
لم يهابوا بهجة العيش ولا
جعلوا الطهر قرين الدنس
أفسحوا للفكر فيهم موطنا
موطن الفضل الشهي الأنس
كللوا بالمجد هاماتهم
في نعيم العز أو في الأبؤس
في خلال البحر أو في المصنع
في لظى الحرب وطيب المغرس
لم يكونوا مثل قوم أنفوا
أن ينالوا منه أعلى منفس
نجدة الفارس فيهم شيمة
علمت قوما صفاء الأنفس
ووفاء بعهود وثقت
في ظلال السعد أو في التعس
أخذ الإفرنج عنهم فكرهم
وابتكارا لم يكن بالأوكس
نهضة الأحياء لولا صحف
صنعوا، عزت على الملتمس
لم يكن مصرعهم من وهن
لا ولا من لذة لم تحبس
شجعوا في ضحوة المجد كما
شجعوا في أخريات الغلس
دبت الفرقة فيهم كاللظى
تتلظى في الهشيم اليبس
صيرت بهجة أيام لهم
مأتما من بعد حسن العرس
وإذا شمل أناس لم يكن
معقلا هانوا على المفترس
قاتلوا قوما بقوم منهم
عن قلوب نفرت لم تسلس
بربر من تحتهم والقوط من
فوقهم مثل رحى المندرس
تأنس النفس إلى عهدك يا
حلم الأحلام بالأندلس!
كنت أوحى من خيال طارق
في الكرى أو قبلة المختلس
فعلى القوم سلام إنهم
حملوا شعلة نار القدس
وهي أعباء حياة ونهى
وكفاح ثم نوم المرمس!
بهاء الحياة
كم أسينا على زوال بهاء
كان أنسا وكان للنفس أهلا
ووددناه خالدا ليس يفنى
فنرى الزهر في الحدائق حولا
ونرى بهجة الربيع دواما
ليس يفنى الربيع ضوءا وظلا
ونرى عارم الشباب جديدا
أبدا سادرا إذا الشيخ غلا
ونرى كل ما نود ونهوى
خالدا لا يزول رسما وشكلا
فأسينا إذ الفناء طريق ال
حسن والعيش يتبع اليوم ليلا
كل آن يجدد الكون وجها
من حلاه يحلو إذا الرث ملا
لذة العيش في التقلب في العي
ش ونيل الجديد حلوا محلى
أبدا يبسط الزمان ويطوي
ملحا لا تدوم إلا لتسلى
جدة الحسن رونق تأخذ الطر
ف طريفا وما استجد ليقلى
ورأينا مفاتنا ربما مر
ت سراعا كالطيف حين اضمحلا
غفل الطرف عن سناها فلما
غربت ضاء حسنها وتجلى
أعجمت في حياتها ثم عادت
في ضمير الآباد أشهى وأحلى
ثم عادت يحبو البيان حلاها
حجة توضح البهاء وقولا
حسرة للبيان بعد فوات ال
حسن لو قد غدا أليفا وخلا
وإذا بالفناء فينا ينادي
لو يدوم الجمال هان وقلا
بهجة العيش في زوال بهاء
ملأ النفس طرفة ثم ولى
وإذا خافت النفوس على فا
ن تحلى وكان أشهى وأغلى
فوددنا الزمان حبا عليه
لا جديدا يرجى ورثا أملا
أبدا واردين وردا زلالا
نهلا جارعين منه وعلا
غير ما قانعين أن حياة
وقفت في الزمان تعتد بطلا
وقفة الكون ميتة وفناء
لا حياة به ولا حسن يقلى
فرضينا وما رضينا ولكنا
عرفنا الأمور فهما وعقلا
ثم عدنا إلى الأسى والتمني
أبدا غالبين فرعا وأصلا
وودنا خلود كل مراد
ودوام الجمال شكلا وشكلا
واستطبنا المحال من بعد ما لا
ح بنور اليقين بطلا وجهلا
وأسيناعلى زوال بهاء
كان أنسا وكان للنفس أهلا!
مقطوعات شعرية
صلاح الحياة أم غايتها
قل كيف نحيا ولا تقل لي
ما حكمة العيش والبقاء
فمطلب للعلاء يحدو
وآخر كله عناء
كم سأل السائلون قدما
ما الكون، ما العيش، ما الفناء؟
مسألة ما لها جواب
وليس يلفى لها غناء
كساخط من طروق داء
وتارك خلفه الدواء
ود الأسى
يا رفاقا طالما أنستهم
لذة العيش حزينا يا رفاق
قد وجدت الصدق في ود الأسى
مقة اللذات كسب ونفاق
غبي ذكي
يا غبيا رأى الذكاء شقاء
ورأى النحس أن يكونا أريبا
أنت أذكى من الذكي الذي يح
يا شقيا لكي يكون أديبا
وإذا كانت الغباوة نعمى
فمن الحمق أن تكون لبيبا
البصير الأعمى
يا قلب صبرا ولا تعتب على قسم
قد استوى الناس في عتب على القسم
الحظ أعمى لدى من لم ينل أربا
وهو البصير لدى من فاز بالنعم
خطة الضعة
في كل نفس من نفوس الورى
شيء من الحقد وسوء الظنون
إن كذب المثني على نفسه
صدق من يزري بفضل القرين
لذاك يعلي الخب من نفسه
إن هد من فضل بمدح قمين
أكثر من إعلائه نفسه
بأن يزكي النفس عند الفطين
ناجح
كل بشر منه فخ
كل لفظ منه غدر
بلغ النجح بلؤم
إن بعض النجح وزر
الكذب
للكذب في الناس أوساط مجنحة
والصدق يسعى لديهم كالسلحفاة
يهوون ما لا يسيغ العقل من كذب
وينبذ الحق من حرص المجاراة
كأنما الكذب ملح يستلذ به
طهي الحديث وإشباع السخيمات
إخفاء السريرة بالنطق
أتحسب أن الله أعطاك منطقا
لتبسط من لغو الكلام على الصدق
وأن لسانا بين فكيك ناطقا
لإخفاء ما دون السريرة بالنطق
وتكتم ما قد يظهر الوجه أمره
بقولك قولا باطلا شبه الحق
عجائب الحقد
عجبت للمرء في بغض وفي مقة
هما العجيبان إن آخى وحين عدا
يرمي النفاية لا يبغي لها ثمنا
حتى إذا ما حداها راغب حسدا
ويغفر الذنب من إحسان فاعله
حتى إذا نفدت آلاؤه حقدا
فخر الناجح
قبيح نجاح المرء إن هو شانه
بفخر فلا يقبح نجاحك بالفخر
كأن لم يكن أهلا له حين ناله
هو الصمت قد يطري إذ الفخر لا يطري
جلا منه عيب النفس من بعد ستره
كذاك حديث العهد بالمال واليسر
ويا رب نجح يسلب المرء رشده
ويبدي خصالا منه تقتل أو تزري
نذالة الحسد
عدوك مرجو فإن كان حاسدا
فلا رحمة ترجى لديه ولا عدل
وليس بنذل كل من صال أو عدا
وتاب ولكن الحسود هو النذل
مغفل لمغفل
قالوا الأنام إذا اختبرت أمورهم
وبلوت من أحوالهم ما يبتلي
غر يخادعه لئيم عاقل
ولبئس حظ المرء إن لم يعقل
كذبوا، فما عيش الأنام وهزله
إلا خداع مغفل لمغفل!
يتهارشون على الحياة ورجسها
فعل الكلاب على خبيث المأكل!
باقة غزل من شعر الصبا
يا أيها الخاذل النائي بجفوته
خلفت في العيش سحر المنظر البهج
خلعت حسنا على عيش كما خلعت
شمس الغروب على الآفاق من وهج •••
فرص الحياة قليلة
فإلام صدك يا حبيبي
بينا جمالك يانع
فينان كالغصن الرطيب
إذ لا جمال ولا صبا
يصبي القلوب إلى الوجيب
والعيش خلد في الشبا
ب فإن دنوت من المشيب
أحسست إقبال الردى
كخشوع قلبك في المغيب
فترى الحياة قصيرة
كتلألؤ البرق الخلوب
وإذا الحياة كنغبة ال
عصفور روع بالرقيب
متلفتا يحسو ويخ
شى أن يفاجأ من قريب
بينا تراه على الغدي
ر تراه في الأفق الرحيب •••
خلفت في القلب يا معذبه
ما خلفت نغمة من الجرس
ذكراك في نفس منصت يقظ
ذكرى غناء في الأذن كالهمس
كأنما القلب نحوكم أبدا
لينوفر دائر مع الشمس •••
كنت روضي والعيش صيف وفي
حافل بالنعيم والآلاء
فلئن عادت الحياة شتاء
أنت فيها كزهرة في الشتاء
فهي محبوبة وأندادها كث
ر ومحبوبة بقفر عراء
وهي أشهى إلى النفوس وأحلى
لافتقاد الأنداد والأكفاء •••
أعر البدر طلعتك
علم النجم نظرتك
وامنح الصيف من روا
ئك والزهر نضرتك
وهب الطير شدو صو
تك والفجر غرتك
وإذا ما هفا النسي
م فعلمه خطرتك
امنح الكون نشوتك
علم السحر قدرتك
Bog aan la aqoon