Diraasaad ku Saabsan Mad-hababka Suugaaneed iyo Bulsho
دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية
Noocyada
ولقد كان إبراهيم باشا عبقريا حصيفا حين أحس أن هذه القومية الحية هي أقوى عماد له في محاولة الخروج من ربقة الأستانة، وسئل: إلى أين تمتد فتوحك؟ فقال: إلى حيث ينطق لسان باللغة العربية، وقد صحت فراسته في عصره بعشرات السنين، ورأينا بعد قيام الحكم الدستوري في الأستانة أن أمم العرب كانت أول المطالبين بتعميم اللامركزية في دولة آل عثمان.
من هذا العرض السريع لتاريخ القومية العربية نتبين قوة الوعي السياسي عند العرب بهذا المعنى، ونستبشر خيرا بما يكون له من الشأن في صيانة حوزتهم وغيرتهم على حقوقهم وسعيهم إلى تثبيت قواعد الحرية في أوطانهم، وهي حديثة عهد بالاستقلال.
أما الوعي السياسي، بمعنى الوعي الاجتماعي أو الوعي المدني، فهو درجات بين أرقى أمم الحضارة، ويتوقف الارتقاء في هذه الدرجات على نصيب الفرد من المشاركة الفعلية في حكم بلاده، حتى تتفق مصلحته ومصلحة القانون، وتصبح أمانة الحكم حاسة فيه ينساق بها إلى المصلحة العامة، بغير سائق من نصوص الشريعة أو رهبة الحاكمين.
ولسنا نعتقد أن شعبا من الشعوب قد بلغ في هذه «الحاسة» درجة أرفع من درجات الأمة الإنجليزية، وآية ذلك أنه لا قانون هناك ولا دستور إلا وهو مستمد من العرف والتضامن بين عناصر الرأي العام، قبل استمداده من النصوص والأوراق، ولم يكن الإنجليز كذلك؛ لأنهم جيل من البشر أرفع من سائر الأجيال، وإنما كانوا كذلك لظروف جغرافية وتاريخية هيأت لهم أسباب المشاركة الفعلية في الحكومة، ولم يتهيأ مثلها لغيرهم من أمم القارة الأوروبية، ومن هذه الظروف أن الملك في إنجلترا لم يكن بحاجة إلى جيش قائم كبير ينفق عليه ويستبقيه مستعدا للحرب على الدوام، فقد أغناه عن هذه الكلفة أن البحر يحمي جزيرته من مفاجأة أعدائها وأعدائه، فاكتفى بجيش قليل في العاصمة، يقابله جيش أصغر منه عند كل نبيل من نبلاء الأقاليم، ووجب عليه إشراك هؤلاء في الحكم والإدارة المحلية؛ لأن تسخيرهم بالقهر والتهديد غير مستطاع.
ومن هذه الظروف أن التجارة ضرورة من ضرورات الحياة في تلك الجزيرة فنشأت المدن التجارية إلى جانب المقاطعات الريفية، وعز على النبيل من أجل هذا أن يستبد بالتاجر، وعلى التاجر أن يستبد بالنبيل.
ومن هذه الظروف أن السياسة الخارجية في إنجلترا سياسة تضامن بين جميع الطبقات؛ لأن جميع الطبقات من أصحاب الأموال والعمال تعتمد على المعاملات الخارجية ولا تكتفي بمحصول الجزيرة من المزروعات أو المصنوعات.
فلهذه الظروف وأشباهها تم التوازن بين جوانب المجتمع، وتهيأت لكل طائفة من أسباب المشاركة الفعلية في سياسته العامة، وشعر كل فرد هنالك بأنه مسئول عن رأيه محاسب على عمله، فأصبح الوعي السياسي بمعناه المدني أو الاجتماعي عادة في النفس تجري مجرى الغريزة في الحيوان، وأعجب ما بدا من وحي هذه الغريزة أو هذه البداهة، أن الإنجليز خذلوا «تشرشل» زعيم المحافظين غداة نهاية الحرب التي أكسبهم فيها النصر والسلامة، ولو فعلوا غير ذلك لوقعت الطامة الكبرى في البلاد؛ لأن اصطدام السياسة الإنجليزية بالسياسة الروسية قد يفهم على أنه مكيدة من رأس المال في مقاومة حقوق العمال، فينقلب العمال إلى جانب الشمال، ولكنه لا يفهم على هذا الوجه إذا وقع الاصطدام والعمال هم المسئولون عن العلاقات الأجنبية، كما هم مسئولون الآن.
حدثني رجل من رجال الأعمال الأذكياء عاد من إنجلترا في الأشهر الأخيرة، فقال: إن الحصول على جراية تزيد على الجراية المقررة من أصعب الأمور في المطاعم العامة، وقد يوجد هنا وهناك مطعم معروف غير مجهول يباع فيه الطعام الزائد بثمن أغلى من ثمنه، ولكنك تذهب إليه فيندر أن ترى فيه أحدا من الإنجليز، ويغلب أن يكون رواده جميعا من الأجانب الطارئين.
وعندنا أن الحكومة ربما كانت تعلم بوجود تلك المطاعم وتبقيها عمدا لاستجابة حاجات الأجانب الطارئين، وهم لازمون للبلاد في بعض الأحوال، فتبقيها لهم ولا تلجأ إلى القانون لصد أبناء البلاد عنها؛ لأن الحاسة الاجتماعية تعمل هنا عمل القانون!
ويذكرني هذا بفكاهة من فكاهات السياسي التركي «رضا توفيق» الذي اشتهر بلقب الفيلسوف، قال: إنه زار صديقه المستشرق «براون» وأحب أن يخرج يوما للصيد، فنبهه صديقه إلى اجتناب بعض الطيور؛ لأن صيدها في موسم التناسل ممنوع، فلما ذهب يجول في الغابات والحقول ساء حظه في ذلك اليوم، وأشفق أن يرجع من رحلته فارغ اليدين، فأصاب طائرا من تلك الطيور الممنوعة، وأشار إلى الكلب ليلحق بالطائر المصاب ويعود به إليه ... قال: فأدهشني أن أرى الكلب واقفا مكانه لا يتحرك؛ لأنه لا يريد أن يخالف القانون!
Bog aan la aqoon