Diraasaad Falasafi ah
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
Noocyada
يحدث التقدم في الخارج في مظاهر الحياة المدنية من صناعة وزراعة وتجارة وعمران، ولكن على أساس من التخلف في الداخل. فيقام التصنيع بعقلية الزراعة وانتظار الفيضان وسقوط الأمطار، وبذر الحبوب وانتظار الحصاد، وكأن التصنيع سيحضر عقليته معه ويفرز قيمه في الزمان والتنظير والآلية. وتقام مزارع ومديريات الإصلاح الزراعي بعقلية الإقطاع أو بنظام بيروقراطي، ويدار القطاع العام في التجارة بعقلية القطاع الخاص. فسرعان ما ينهار التقدم بانتهاء دور النخبة التحديثية، وتظهر المحافظة في الأعماق، ويبدو التخلف كمرحلة تاريخية لا يمكن عبورها بمجرد تغيير المظاهر الخارجية. (3)
يحدث تغيير في الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية كما يحدث تغيير في الأبنية الاجتماعية دون أن يقع تغيير مواز في أنساق القيم. فسرعان ما تعود الأنظمة القديمة متطابقة مع نسق القيم القديم بمجرد اختفاء قوى الحراك الاجتماعي التي أحدثت هذا التغيير وهي في موقع السلطة السياسية. وكأن نسق القيمة هو الأساس الواقعي الوحيد للبنية الاجتماعية مهما اختلفت الأيديولوجيات وآراؤها حول أولوية الأبنية التحتية أو الأبنية الفوقية. فتحدث التنمية دون مفهوم التقدم، ويتم التحرير والتعمير دون مفهوم الأرض، وتتسع رقعة الخدمات دون مفهوم الإنسان. (4)
ونتيجة لذلك يحدث انفصام في الشخصية الوطنية، وتتجاور فيها طبقتان من الثقافة؛ الأولى تاريخية متصلة محافظة أصيلة، والثانية حديثة منقطعة تقدمية مستوردة. وتوضع الثانية فوق الأولى دون أن تنبع منها أو تكون تطويرا لها، ويحدث الاشتباه في الشخصية القومية كما هو الحال في تركيا وبولندا؛ طبقة راسخة من الإسلام وفوقها طبقة من التحديث الغربي في الأولى، وطبقة راسخة من الكاثوليكية وفوقها طبقة من الماركسية في الثانية. وتنقسم الأمة إلى فريقين وكما هو حادث في مجتمعاتنا العربية والإسلامية بين أنصار التعليم الديني وأنصار التعليم العلماني. (5)
ونظرا لهذا التجاور السطحي بين الطبقتين تحدث ردود الأفعال؛ ففي ساعة الهزائم وأوقات الشدة وعندما ترى الشعوب فشل مناهج تحديثها السطحية، تثور الأعماق، ويحدث رد فعل، ونظهر السلفية والحركات الدينية الرافضة لجميع مظاهر الحداثة كما هو حادث الآن في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. فالثقل التاريخي للأعماق أقوى بكثير من خفة السطح. والرصيد التاريخي لتراث الشعوب يرجح تقليدها المحدث للآخرين. وبدل أن يحدث التغير الاجتماعي يوقف مسار التغير، وتكتسب الشعوب مناعة ضده، وتحصن نفسها منه باعتباره آفة العصر. (6)
ونظرا لوجود هاتين الطبقتين المتجاورتين لم يحدث أن مرت مثل هذه المجتمعات بفترة انتقال من التراث إلى التجديد، يحدث فيها إعادة بناء التراث وإعادة الاختيار بين البدائل بحيث يقضى على معوقات التقدم، وتستمد منه بواعث التغير الاجتماعي. وتتميز هذه الفترة الانتقالية بظهور ما يسمى بالليبرالية أو التنوير اعتزازا بالعقل وبحرية الإنسان، وتأكيدا على استقلال الطبيعة وتقدم التاريخ، وهي الحلقة المتوسطة بين القديم والجديد، ووسيلة الانتقال من التراث إلى الثورة باعتبارها تغيرا اجتماعيا متراكما عبر عدة أجيال. ومن ثم ظهرت في بولندا الحاجة إلى الليبرالية كما انتقل الاتحاد السوفيتي من الإقطاع إلى الاشتراكية دون المرور بهذه المرحلة المتوسطة، فنشأت الحاجة إلى الحرية، وظهرت حركات المعارضة، وسمعت أصوات المنشقين. (7)
ولما كان التحديث منوطا بالتنمية وطبقة التكنوقراط المؤهلة للتحديث سيطرت الأقلية الحديثة على الأغلبية القديمة، وأخذت هذه الأقلية في تنظيم نفسها في حزب طليعي أو في ضباط أحرار أو في طبقة المديرين وجهاز الدولة، وأصبح التحديث في عقول الصفوة وليس وجدانا شعبيا لدى الجماهير. فتصدر القرارات التحديثية ثم تفرغ من مضمونها حتى تنتهي إلى فراغ، ويتحول التحديث إلى مجموعة من الشعارات يتهكم عليها الناس، أو تبقى إعلاما في التاريخ. (8)
وتنتهي الطلائع الثورية بالعزلة عن قواعدها الشعبية؛ نظرا لاختلاف لغة التفاهم والتخاطب، ونظرا لاختلاف البواعث والأهداف الموجهة، ونظرا لاختلاف درجة الوعي السياسي والاجتماعي. وغالبا ما تفشل في إقامة نظام جماهيري شعبي يقضي على عزلتها، وسرعان ما تنتهي إلى دوائر مغلقة في الثقافة والفن، وتتحول إلى أحاديث الصالونات، ولا تبقى إلا في تاريخ الحركة الثقافية وبوادرها الأولى. فعندما يتوقف الإبداع السياسي يستمر الإبداع الفني، ويصبح الفن عزاء للنفس، والشعر تطهيرا لها. (9)
وكسرا لحدة العزلة، وإيجاد المخرج منها خارج الطوق؛ يتحول أحيانا الولاء الوطني إلى الولاء للأجنبي حتى يجد قادة التغير الاجتماعي حليفا لهم ومؤيدا لجهودهم ومعينا لمشروعاتهم. فإن كانت تحديثية ليبرالية ظهر الولاء للنظم الغربية. وإن كانت تحديثية اشتراكية ظهر الولاء للنظم الشرقية. وتخمد الروح الوطنية، وتضيع الأصالة، وتمحي الخصوصية، ويعم التقليد، وينتهي الاستقلال ، وتسود التبعية. فإذا ما شكت الجماهير في ولاء قادة التغير الاجتماعي ازدادت العزلة، وظهرت طلائع أخرى تحاصرها. وغالبا ما تكون هذه الطلائع الجديدة ضد حركات التغير الاجتماعي، فتحدث الردة، وتتوقف حركات التغير. (10)
وكما تمثلت القوى المحافظة للنموذج التراثي، وأخذت درعا يحميها ضد قوى التغير الاجتماعي، فإن قوى التقدم تتمثل النموذج اللاتراثي، ولكنها تأخذه كرمح تخرق به القوى المحافظة وكحاجز بينها وبينها فيحدث التصادم، وتنفصم عرى الوحدة، وتسيل الدماء. ترهق قوى التقدم نفسها، وتحيد عن معركتها الأساسية، وتنهك قواها حتى تنهار. وتقوم القوى المحافظة بالتصدي لأهدافها البعيدة، وتفقد وظيفتها في احتواء قوى التقدم وفي المحافظة على الوحدة الوطنية كما حدث في الثورة الإيرانية عندما كانت الحركة الثورية الإسلامية وعاء لكل الاتجاهات الوطنية. فإذا ما خسرت الجولة فإنها تتحول إلى قوى رفض ومعارضة ترمي إلى الأخذ بالثأر، ويملأ نفوسها الحقد والضغينة، وتنسى أهدافها. وتضيع فرصة خلق قيادات جديدة لمحركات التغير الاجتماعي؛ نظرا لغياب الممارسة الطبيعية لها. تقف قوى التقدم وهي في موقع السلطة عاجزة عن البناء، وتتصدى القوى المحافظة لحركة التغير الاجتماعي وهي خارج السلطة وفي مواجهتها. ويكون الحسم في النهاية لقوى الأغلبية الصامتة وقيادتها المحافظة.
رابعا: نموذج إعادة بناء التراث
Bog aan la aqoon