Diraasaad Falasafi ah
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
Noocyada
ثانيا: النموذج التراثي
والنموذج التراثي لا يوجد فقط في المجتمعات «البدائية» بل قد يوجد أيضا في جماعات محلية تحتية
Sub-groups
داخل المجتمعات المدنية. لذلك يصفها علماء الاجتماع باسم «البدائية»
. وبالنسبة لنا في المجتمعات النامية يكون لهذا النموذج عدة عيوب رئيسية، وأهمها: (1)
يؤخذ التراث على أنه غاية في ذاته وليس مجرد وسيلة لتحقيق غاية أخرى هو تقدم الشعوب ونهضة المجتمعات. فالتراث قيمة في حد ذاتها يحرص عليها، ولا يمكن تناولها بالنقد أو التغيير. التراث مصدر القيم، وهو في حد ذاته قيمة روحية. هو مضمون الإيمان أو «المطلق في التاريخ». هو «المقدس» الذي لا يمكن تدنيسه بالبحث الإنساني أو بإعمال العقل، أو بتحويله إلى «الدنيوي» أو «العلماني». وفي هذه الحالة يكون التراث والدين شيئا واحدا، وتنفى عنه صفة الإبداع الإنساني، وكأنه من صنع الروح الإلهي والنفح النبوي. يفعل في الناس، ويوجه المجتمعات، ويحدد المصائر، يجب الخضوع له، والثورة عليه كفر وإلحاد. ويشمل الكتب المقدسة والمؤلفات الصوفية والفقهية والعقائدية، ويضم الضريح والولي وكل صاحب عمامة وبائع عطور! (2)
يكون التراث مستقلا عن الواقع وليس جزءا منه أو موجها له، فهو فكر وواقع، عقيدة وشريعة، تصور ونظام، دين ودنيا، مصحف وسيف ... إلخ. ويكون بديلا عن الواقع، يطرد الواقع الحالي، ويحل محله الواقع التراثي، ويتم الخلط بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن، بين المبدأ والواقع، أو بلغة الأصوليين بين الأصل والفرع. أو على الأقل ينبغي على الواقع الحالي أن يطوع نفسه طبقا للواقع التراثي، فالتراث لا يقبل واقعا من خارجه يند عنه أو يهرب منه أو يثور عليه. التراث ملزم ومشرع وقادر على احتواء كل شيء خارجه. التراث هو الذات والموضوع، الأنا والغير، الروح والمادة، مغلق على نفسه، لا يمكن النفاذ إليه. (3)
التراث كل لا يتجزأ يؤخذ كله أو يرفض كله، لا يقبل الترقيع أو التوفيق مع تراث آخر مغاير. التراث وحدة واحدة لا بداية له ولا نهاية، يبدأ من ذاته ويعود إلى ذاته، منه البداية وإليه المنتهى. الناس صنفان: مؤمن أو كافر، ولا وسط بينهما، فلا وسط بين الحق والباطل أو بين الصواب والخطأ. لذلك تحولت الجماعات التراثية إلى جماعات مستغلقة على نفسها تتزاوج فيما بينها ولا تسمع أو تطيع إلا لمن هو فيها، بل وتهاجر وتكون جماعات كلية متطهرة في ربوع الصحراء أو على أطراف المدن لا تتعامل مع غيرها إلا بعد التحول من النقيض إلى النقيض، ومن الضد إلى الضد. (4)
يكون التراث خارج التاريخ والزمان والمكان، حقيقة أبدية لا تتطور أو تتغير ولا يخضع لتأويل أو تفسير أو وجهة نظر. يشمل الزمان والمكان ويطويهما فيه، فلا فرق بين ماض وحاضر ومستقبل، ولا وجود لمراحل التاريخ أو نوعية المجتمعات أو خصوصيات الشعوب. وبالتالي، تم التنكر للحاضر كلية، وتمت التضحية بأصول الفقه في سبيل أصول الدين، وغلبت العقيدة على الشريعة، وأصبح أصحاب التراث معبرين عن مبدأ أكثر منهم عاملين في الواقع ومغيرين له. يقف التاريخ لديهم في عصر ذهبي في الماضي، يكون هو التقاء الخلود والزمان. ومن ثم لا تتقدم الشعوب إلا بالرجوع إلى الماضي واختزال التطور، فلا يصلح حال هذه الأمة إلا ما صلح به أولها. يعيشون الماضي في الحاضر ويعيشون الحاضر في الماضي، والمستقبل غائب باستثناء المعاد، وخلود الأرواح. (5)
الواقع كله مدان، ولا يمكن تطويره أو إصلاحه بل هدمه من الأساس حتى يبدأ البناء الجديد على أسس راسخة، أصله ثابت وفرعه في السماء. فالهدم يسبق البناء، والموت شرط الحياة، والبداية من الصفر خير من البداية على ما هو موجود بالطبيعة. ولما كان الواقع باقيا، والحياة قائمة فإن الهدم لا ينتهي حتى يبدأ البناء، ومن ثم يبدو التراث عدائيا للواقع، رافضا له، خارجا عليه، سرعان ما ينتهي أصحابه بتدمير أنفسهم والواقع باق لم يتغير، والمجتمعات تندم وتتحسر على هذه الطهارة الضائعة الخاسرة. ولما استعصى الواقع طال الهدم ولم يأت البناء، فظهر السلب دون الإيجاب، والرفعة دون القبول. (6)
Bog aan la aqoon