Diraasaad ka ku Saabsan Muqaddimah Ibn Khaldun
دراسات عن مقدمة ابن خلدون
Noocyada
في ذلك التاريخ كان قد بلغ ابن خلدون السنة الخامسة والأربعين من عمره، وكان قد اعتزل الحياة السياسية قبل ثلاث سنوات، بعد أن خاض غمارها أكثر من عشرين عاما.
ومن المعلوم أن الحياة السياسية التي خاض غمارها ابن خلدون خلال هذه المدة الطويلة، كانت حياة عنيفة مليئة بالمغامرات؛ إنه كان قد تقلب في عدة مناصب سياسية - من كتابة العلامة إلى كتابة السر، فالحجابة أو الوزارة - واشترك في معظم وقائع الدول المغربية، ولعب دورا هاما في عدة انقلابات سياسية، كل ذلك متنقلا بين تونس، وتلمسان، وفاس، وبيسكرة، وغرناطة، في إفريقية والمغرب الأقصى والأندلس. وقد ذاق خلال هذه الحياة السياسية العنيفة الشيء الكثير من لذة الحكم ومرارة التغرب، ومن حلاوة الفوز وخيبة الفشل، حتى إنه لم يبق غريبا عن عذاب السجن أيضا.
ويظهر أن نظره الفاحص الناقد كان يشتغل بشدة خلال هذه الحياة الفعالة، وذهنه الباحث الوقاد كان لا ينفك عن اختزان الملاحظات تلو الملاحظات ولو بصورة لا شعورية. فعندما تهيأ له شيء من هدوء البال واستقرار الحياة في قلعة ابن سلامة بين أحياء بني عريف، وعندما بدأ يكتب «التاريخ»، وتقدم إلى درجة ما في طريق هذا التأليف؛ تفاعلت تلك الملاحظات المخزونة تفاعلا شديدا، انبثقت منه أبحاث المقدمة انبثاقا، وتدفقت منه الآراء والأفكار تدفقا.
فإنني عندما أتأمل فيما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد أجزم بأن توصله إلى مجموعة الآراء المبتكرة الكثيرة المسطورة في المقدمة، إنما كان حدث من جراء «تدفق فجائي»، بعد «حدس باطني» و«اختمار لا شعوري»، كما لاحظ ذلك بعض علماء النفس في حياة عدد غير قليل من المفكرين والفنانين، في تاريخ عدد غير يسير من الابتكارات والاكتشافات، ذلك النوع من «التدفق الفجائي» الذي يحمل المفكر على التعجب من نتائج تفكيره»، ويوصله أحيانا إلى النظر إليها على أنها «آراء إلهامية» تصدر عن «قدرة خارجة عن نفسه» كأنها تلقى إليه إلقاء. فأنا أميل إلى الاعتقاد بأن ابن خلدون عندما قال: «أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو ولا إفادة موبذان.» وعندما كتب: «ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهاما.» ولا سيما عندما قال: «سالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر.» عندما قال وكتب ذلك وأمثال ذلك لم يكن مسترسلا في طريق التشبيه والمجاز، ولا مستسلما لتداعي الكلمات والتراكيب، بل كان معبرا تعبيرا صحيحا عما كان يشعر به في قرارة نفسه فعلا من جراء طرافة الآراء التي قد توصل إليها بصورة تكاد تكون فجائية.
أقول تكاد تكون فجائية؛ لأنني أعتقد أن تكون وتولد تلك المجموعة الكبيرة من الآراء والملاحظات التي تزدحم بها المقدمة في مدة قصيرة لا تتجاوز الخمسة أشهر، مما يجب أن يعتبر أقرب إلى «الاندفاعات الفجائية» من «التأملات التدريجية».
وقد يتساءل بعضهم: وهل يجوز لنا أن نعتمد على ما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد؟ أما أنا فأقول - ردا على هذا السؤال: إنني لا أرى في هذه المسألة ما يبرر الشك في صدق ابن خلدون، فيستوجب عدم الاعتماد على تصريحاته؛ فأولا أنا لا أجد فيما يقصه علينا المؤلف في هذا الصدد أمرا خارقا للعادة وشاذا على وتيرة «اختمار الأفكار بصورة لا شعورية»، كما ألاحظ أن ابن خلدون قد سجل على نفسه - في ترجمة حياته - تقلباته السياسية العديدة بكل تفاصيلها، فلا يحق لنا - والحالة هذه - أن نزعم بأنه كتب ما كتبه عن كيفية تأليف المقدمة بصورة مخالفة لما وقع بقصد التمدح والتفاخر.
هذا وأزيد على ذلك فأقول: إنني ألمح في العبارات التي ذكرتها آنفا آثار التحير والتعجب أكثر مما أجد فيها أداء التمدح والتفاخر.
2
ومما تجب ملاحظته في هذا الصدد أن ابن خلدون يقيد أمر «إتمام المقدمة في خمسة أشهر»، بتعبير «قبل التنقيح والتهذيب»، ويعلمنا بذلك أنه قد اشتغل بتنقيحها وتهذيبها مؤخرا.
وذلك يضع أمامنا مسائل عديدة تحتاج إلى درس وحل بكل اهتمام؛ ماذا كان مدى التهذيب والتنقيح الذي أشار إليه ابن خلدون في عبارته المذكورة؟ وهل كان حدث ذلك مرة واحدة فقط، أم تكرر عدة مرات خلال سنين مختلفة؟ وهل انحصر هذا التهذيب والتنقيح في نطاق بعض الفصول، أم تناول جميع أقسام الكتاب؟ وهل اقتصر على تعديل الفصول الموجودة قبلا، أم تعدى ذلك إلى إضافة فصول جديدة تماما؟
Bog aan la aqoon